اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2020/10/02 الحوار الغائب (ج3) -8- اكتمال الدين (2) (تابع) 1. الإسراء: (وهو المرحلة المناسبة لمرتبة الإسلام): وقد ذكر الله في آية الإسراء بداية الرحلة ونهايتها، فقال سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1]. فالبداية كانت من المسجد الحرام بمكة، والنهاية كانت إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس. وهذه الرحلة أرضية، كما هو واضح؛ وزمنها الليل، وهو شأن البطون. وهذا يناسب ما ذكرناه سابقا عن مرتبة الإسلام، التي هي متعلقة بأعمال البدن (الأرض)؛ وكونها في الليل، يعني أن صاحبها يسير فيها على إيمان مجمل غير مفصل، من وراء حجاب؛ لذلك فلا قدم له في الغيوب (القلب). وأما انطلاقها من مكة، فلأنها البيت العتيق، الذي هو قبلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من كونه عبدا ذاتيا. وأما غايتها التي هي بيت المقدس، فمن أجل ربط دعوته صلى الله عليه وآله وسلم، بدعوات الأنبياء السابقين؛ ما دامت مؤسسة عليها ومكملة لها. وأما مناسبة دعوات الأنبياء للمسجد الأقصى، فلأنهم كانوا يدعون إلى مدخل مرتبة الإيمان التي هي مرتبة القلب حقيقة. والقلب سماوي، لكن المدخل إليه من الأرض، هو المسجد الأقصى. وقد سماه الله أقصى، لبُعده عن الحقيقة من جهة الظاهر؛ لكونه من عالم الحس، الذي لا تُعلم حقيقته إلا بعد الوصول صعودا إلى الحقيقة الأولى. قال ابن إسحاق: [فكان عبدالله بن مسعود -فيما بلغني عنه- يقول : أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق -وهي الدابة التي كانت تحُمل عليها الأنبياء قبله، تضع حافرها في منتهى طرفها- فحُمل عليها، ثم خرج به صاحبه، يرى الآيات فيما بين السماء والأرض، حتى انتهى إلى بيت المقدس؛ فوجد فيه إبراهيم الخليل وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء قد جمُعوا له، فصلى بهم . ثم أُتي بثلاثة آنية، إناء فيه لبن، وإناء فيه خمر، وإناء فيه ماء. قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فسمعت قائلا يقول حين عُرضت علي: إن أخذ الماء غرق وغرقت أمته، وإن أخذ الخمر غوى وغوت أمته، وإن أخذ اللبن هُدي وهديت أمته . قال : فأخذتُ إناء اللبن، فشربت منه، فقال لي جبريل عليه السلام: هُديتَ وهديتْ أمتك يا محمد.]. ولنلاحظ ما يلي: ا. إن جبريل (الشيخ)، ما زال مرافقا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ليسهل عليه إدراك ما يجده في طريقه من أحداث. وكل ما سيجده النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في رحلته الأرضية ثم السماوية، هو ذوقه الخاص للدين، من جهة شخصه الشريف، لا من جهة حقيقته؛ لأن حقيقته مطلقة، وجامعة لجميع الأذواق التي لجميع المتديّنين. ب. إن ركوب البراق الذي هو دابة لها جناحان، يعني أنه صلى الله عليه وآله وسلم "محمول" في رحلته. والمحمول تُرفع عنه مشقة الطريق، ويُسرع به في السير؛ وهذا يكون للمُعتنَى بهم وحدهم، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أجلّ من اعتُنيَ به. يقول ابن إسحاق: [وحُدِّثت عن قتادة أنه قال: حُدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لما دنوت منه لأركبه شَـمَس، فوضع جبريل يده على مَعرفته، ثم قال: ألا تستحي يا براق مما تصنع؟ فوالله ما ركبك عبد لله قبل محمد أكرم عليه منه. قال: فاستحيا حتى ارفضّ عرقا، ثم قرّ حتى ركبته.]. وهذا يعني أن البراق لا يعلم حقيقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلا بتعريف جبريل؛ وذلك، لأن السلوك الأول (السلوك إلى الله)، يفقد فيه السالك حقائقه الجزئية، عند مروره بمراتبها، فلذلك لا تُعرف منه حقيقته الكلية، إلا عند نزوله في السلوك الثاني، ومروره بالحقائق الجزئية وعلى رأسه تاج الخلافة. ومسألة "الحمل" معروفة لدى أئمة الطريق، لأنهم ذاقوها، كل على حسب مقدار ميراثه لحال النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومعنى الحمل، هو أن يُبارك الله في أعمال العبد التي تكون من مرتبة الإسلام، فيجعل لها واردات نورانية لا يجدها في العادة كبار العُبّاد. وهذا النور المحصَّل من هذه الأعمال، هو ما يحمل العبد السالك، على براق الهمة، إلى قدس القلب، الذي هو المدخل إلى السماء، المقصود منها مرتبة الإيمان، التي يتحقق فيها صاحبها بمقامات الإيمان التي سنعرض لها في حينها. ج. وأما معنى عرض الأشربة، فهو لتعيين صنف السلوك؛ لأن السالكين ليسوا على ضرب واحد، بسبب اختلاف استعداداتهم، واختلاف قواهم. والمقصود من الماء، هو العلم المجرد؛ وهو يكون لأصحاب العقول، الذين يستعيضون عن الذوق بالسلوك الفكري العقلي. ومن أبرز هذا الصنف، المتكلمون من المسلمين وأصحاب علم اللاهوت من المسيحيين. وعلى رأس كل هؤلاء، الفلاسفة الذين لا شريعة لهم. ومعنى غرق هذا الصنف، هو انهداد بنائهم عليهم؛ حتى يعودوا إلى أقل مما بدأوا منه؛ ويحدث هذا للعقلاء، عند دخول الشك عليهم في المسلمات. ومن لم يعلم ذوقا، حقيقة الغرق، فإنه لن يعلم ما نقول؛ ولكن في تصور ذلك عن بعد، ما قد ينفعه في تمييز الأمور. وأما الخمر، فهي لمن غلب عليه الذوق الباطني، حتى طغى على ظاهره؛ وهؤلاء هم أرباب الأحوال، الذين تسميهم العامة "مجاذيب". وأما اللبن، فهو الغذاء المددي، الذي تأخذ منه كل حقيقة من حقائق العبد ما ينفعها؛ فيأخذ العقل نصيبه من دون إفراط، ويأخذ القلب نصيبه من الغيب من دون غلبة، ويُعطَى العبد في ذلك كله، القوة على اقتحام المقامات والمنازل، من دون تردد أو توان. وبما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد تناول اللبن، فهذا يعني أن الأمة في مجملها، ستكون على هداية من ربها؛ من غير أن تضل بعقولها، أو يذهب مناط الحكمة لديها عند توارد الغيوب عليها. ولكن هذا لا يعني أن هذه الأصناف لن توجد في الأمة، وإنما يعني أنها لن تكون الأكثر عددا فحسب. وأما الطائفة الظاهرة على الحق، التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ!»[1]. فهي وحدها المعدودة على السّنّة الكاملة، الشاملة للظاهر وللباطن. ومنها يكون أئمة الدين الجامعين، بين علم الشريعة وعلم القلوب وعلم الحقيقة، كجعفر الصادق عليه السلام والجنيْد عليه السلام، وغيرهما... د. إن الغاية من مرتبة الإسلام، هي الوقوف بباب مرتبة الإيمان؛ لا أن يبقى فيها العبد وكأنها هي الدين. وكل من يبقى على الإسلام وحده، فليعلم أنه على أول الدين فحسب، وأن الدين لن يكمل له بجمع أركان الإسلام الخمسة المعلومة وحدها، كما تظن العامة؛ ولكن بالترقّي في المراتب، بشروطه. ولنورد هنا رواية البخاري، جمعا للفائدة: فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ، حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ قال: «بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ، وَرُبَّمَا قال: فِي الْحِجْرِ، مُضْطَجِعًا؛ إِذْ أَتَانِي آتٍ فَقَدَّ، قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ، فَقُلْتُ لِلْجَارُودِ وَهُوَ إِلَى جَنْبِي: مَا يَعْنِي بِهِ، قَالَ: مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى شِعْرَتِهِ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مِنْ قَصِّهِ إِلَى شِعْرَتِهِ فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي، ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ إِيمَانًا فَغُسِلَ قَلْبِي، ثُمَّ حُشِيَ، ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ أَبْيَضَ، فَقَالَ لَهُ الْجَارُودُ: هُوَ الْبُرَاقُ يَا أَبَا حَمْزَةَ، قَالَ أَنَسٌ: نَعَمْ يَضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ، فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ ...». والواضح من هذه الرواية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قد شُقَّ صدره إعدادا له لما ينتظره، للمرة الثالثة. وهذا يعني أن السالك، لا بد له عند كل مرحلة من سلوكه، من عملية غيبية يُجريها الشيخ لقلبه، من أجل تخليصه من الموانع التي تحول بينه وبين الترقي، والتي هي كثيرة. منها ما يكون عقديا ومنها ما يكون عمليا؛ ولا يُسمح للعبد بالسلوك، إلا بعد انتفاء الموانع كلها. وعِلم الموانع، يتعلق بعلم التوبة في كل مقام بحسبه. ومَن لا توبة له في كل مقام، فلا ترقي له، إلى المقام الذي يليه. والسر في هذا، هو أن كل مقام حاجب عن الذي فوقه، ويُعدّ علمه نقصا في علم ما فوقه؛ مع كونه ضروريا عند تحصيل المقام وقت دخوله. وهذا التدرج في العلم، هو ما أشار إليه قول الله تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]. وكل من يرى العلم على صورة واحدة، ولا يظن التفاوت فيه متعلِّقا إلا بمِقدار المعلومات، فليس من أهل العلم في الاصطلاح. ه. وأما إمامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في بيت المقدس، فهي من تصديق آية الميثاق التي يقول الله فيها: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81]. وقد منّ الله على الأنبياء بأن يعملوا من جهة روحانياتهم المتجسدة على الأرض، بهذه الآية، لتنالهم بركة الدعوة المحمدية، وليتحقق لهم الاتباع، فيكونون من جملة أمته الخاصة، كما كانوا نوابا له -صلى الله عليه وآله وسلم- في أمته العامة. ولقد قلنا بتجسد الروحانيات، لأن المواطن تحكم على الحقائق؛ والأرض لا تسمح بظهور الأرواح، إلا إن تجسدت في صور أرضية لطيفة، كما كان يظهر جبريل نفسه مرة في صورة الرجل الغريب، ومرة في صورة دحية الكلبي رضي الله عنه... 2. العروج: وهو المرحلة السماوية من الرحلة النبوية، وهو أيضا ما يُناسب تطور القلب في مقامات الإيمان. ولنعد إلى حديث البخاري السابق، لنواصل معه: «فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ، قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ! فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ! فَفَتَحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا فِيهَا آدَمُ، فَقَالَ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلَامَ؛ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ! ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ، فَاسْتَفْتَحَ؛ قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ! قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ! قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ! قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ! فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ! فَفَتَحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يَحْيَى وَعِيسَى، وَهُمَا ابْنَا الْخَالَةِ. قَالَ: هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى، فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا؛ فَسَلَّمْتُ، فَرَدَّا؛ ثُمَّ قَالَا: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ؛ قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ! قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ! قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ! قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ! فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ! فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يُوسُفُ؛ قَالَ: هَذَا يُوسُفُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ؛ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ؛ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ، فَاسْتَفْتَحَ؛ قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ! قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ! قِيلَ: أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ! قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ! فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ! فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ إِلَى إِدْرِيسَ، قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ؛ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ؛ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ؛ قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ! قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ! قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ! قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ! فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ! فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا هَارُونُ؛ قَالَ: هَذَا هَارُونُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ؛ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ؛ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ؛ قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ! قِيلَ: مَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ! قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالَ: مَرْحَبًا بِهِ! فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ! فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا مُوسَى. قَالَ: هَذَا مُوسَى، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ؛ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ؛ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. فَلَمَّا تَجَاوَزْتُ بَكَى، قِيلَ: لَهُ مَا يُبْكِيكَ، قَالَ: أَبْكِي لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي، يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي. ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ؛ قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ! قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ! قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالَ: مَرْحَبًا بِهِ! فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ! فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ. قَالَ: هَذَا أَبُوكَ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ؛ قَالَ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلَامَ؛ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ رُفِعَتْ إِلَيَّ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ، وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ؛ قَالَ: هَذِهِ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ، وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَانِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ، وَالْفُرَاتُ. ثُمَّ رُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ؛ فَقَالَ: هِيَ الْفِطْرَةُ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ ...»؛ ونستنتج من هذا الجزء من الحديث ما يلي: ا. أن كل سماء من السماوات السبع، تسكنها روحانية من روحانيات أنبياء مخصوصين، عليهم السلام؛ بالإضافة إلى روح الكوكب الأصلية، وإلى الملائكة المخصوصين بها. ب. أن العروج في السماوات (المقامات القلبية)، لا يكون إلا بإمامة شيخ؛ يكون مأذونا من قِبل الله تعالى، وتعرف ذلك الأرواح الساكنة هناك، حتى تفتح له؛ وإلا فإنه سيبقى دون الباب، من أي سماء بلغها. وهذا يدحض الترقي الذي يزعمه لأنفسهم، من لا اقتداء لهم بشيخ. وهذا باب من علم التربية واسع، لن نخوض فيه هنا. ج. أن سدرة المنتهى، هي فلك البروج، الذي هو الفلك الثامن؛ وقد سميت سدرة المنتهى، لأنها البرزخ بين ما هو حقي، ينزل إليها من فلكيْ العرش والكرسي، وما يصعد إليها من أسفل، مما هو خلقيّ (متعلق بالمخلوقين) منسوب إلى الأرض أو إلى السماء. وقد جلّى الله هذه السدرة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في صورة محسوسة، ليعلمها من جهة حسه، كما من جِهة عقله الشريف. ولا يكون الجمع بين هذيْن العلمين، إلا للأنبياء وللورثة؛ وهو جمع جليل، فوق ما تطيقه العقول. د. أن ما يُروى عن توقف جبريل عن مرافقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عند سدرة المنتهى، صحيح؛ وإن لم تصح في ذلك الأخبار. والمعنى هو أن جبريل حقيقة من حقائق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لها مرتبتها التي لا تتجاوزها. وكما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يفقد في عروجه، كل ما يُناسب المقامات التي مرّ بها (وهذا معنى الفناء حقيقة)، فإنه عندما بلغ نهاية مرتبة جبريل، سيتركه هناك؛ ليبدأ رحلة جديدة إلى ربه بربه. ه. أن عرض الأشربة عليه -صلى الله عليه وآله وسلم- فوق السماوات، ليس هو كما كان الأمر عليه في الأرض؛ وإنما هو أمر معنوي لطيف، وافق فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الفطرة مرة أخرى. وهو أمر ذوقي، تبقى معه القوة للعبد، على الصعود إلى أعلى. وأما من يشرب الخمر هناك، فإنه يبقى في عالم المعاني، لا يخرج منه؛ كما أن من يشرب العسل، فإنه يبقى مع أذواقه لا يفارقها. والمطلوب، هو الصعود، بعد تحقق النفع، لا البقاء مع ما يُنتفع به؛ لأن البقاء مع غير الله، هو شرك، في كل مقام بحسبه. و. وأما الأنهار الأربعة، فهي أمداد الأسماء الإلهية: الأول، والآخر، والظاهر، والباطن. وأما تخصيص اثنيْن منها بالجنة واثنيْن بالدنيا، فبسبب المناسبة؛ لأن الأول والباطن، مناسبان للدنيا؛ والآخر والظاهر، مناسبان للآخرة. ونعني بالمناسبة أن مدد الدار الغالب عليها، يكون منهما. ورؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عند سدرة المنتهى ما هو من الدنيا وما هو من الآخرة كالجنة والنار (بحسب التفاصيل الواردة في بعض الأخبار)، فلأن سدرة المنتهى برزخية، جامعة في حقيقتها بين العالم الدنيوي والعالم الأخروي. غير أن ما رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عالم الآخرة، رآه من عالم المثال؛ لأن الآخرة لم تظهر بعدُ في عالم الخلق. ولن تظهر إلا بعد فناء الدنيا، وتبديل السماوات والأرض؛ كما يُبدّل الديكور في المشاهد المسرحية. واختصاص هذه الأسماء الإلهية بالذكر في هذا المستوى، هو لأنه لا يخرج عن إحاطتهما شيء، مما هو مخلوق أو مما سيخلقه الله فيما بعد. وليس فوقهما في الذكر، إلا الضمير "هو"، الذي يُشير إلى الحق المحض. والعروج عندما يحدث للمؤمن، فإنه يصير سماويا من جهة المقام. وعلامة هذا، هو تجافيه عن دار الغرور، وغربته بين العامة من الناس. وقد حدث هذا للصحابي الجليل الذي يُسمى "حارثة"، فيما رواه أنس بن مالك بقوله رضي الله عنه: "إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ رَجُلا يُقَالُ لَهُ حَارِثَةُ فِي بَعْضِ سِكَكِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: «كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ؟» قَالَ: "أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا!" قَالَ: «إِنَّ لِكُلِّ إِيمَانٍ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟» قَالَ: عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، فَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَأَسْهَرْتُ لَيْلِي، وَكَأَنِّي بِعَرْشِ رَبِّي بَادِيًا، وَكَأَنِّي بِأَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ يَتَنَعَّمُونَ، وَأَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ يُعَذَّبُونَ!" فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصَبْتَ فَالْزَمْ! مُؤْمِنٌ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ!»[2] (وفي رواية: عرفت فالزم!). ولنستخرج بعض ما يتضمنّه الحديث من الفوائد: - إن العبد المؤمن، يعلم من نفسه بالذوق، أنه لم يعد من أهل مرتبة الإسلام. - إن العزوف عن الدنيا (الزهد)، شرط في نيل مرتبة الإيمان؛ وكل من يزعم غير ذلك، فهو واهم. - إن التعبير من حارثة، عن الغيوب التي شاهدها بقلبه، بلفظ "كأني"، هو من فقهه رضي الله عنه؛ لأن ما يُشاهد بالمثال، لا يُقال عنه رأيت أو شاهدت. ونقصد هنا بالمثال مشاهدة المعنى في عالمه، بما يليق به؛ لا مشاهدة المعاني في صور حسّيّة أو خياليّة. - إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من كونه مربيا (شيخا)، يعلم ما يطرأ على تلميذه. - إن سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصحابي، ثم إقراره على ما أجاب، هو لطمأنته بمقامه؛ وحتى يستعدّ لما بعده. - إن أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، للصحابي بلزوم ما عرف، هو تحذير له من النزول إلى مرتبة العوام؛ لأن كثيرين ممن ترقَّوا، عادوا بعد أن التبس الأمر عليهم وداخلهم الشك فيما عرض لهم؛ خصوصا إن هم استشاروا في ذلك فقهاء الرسوم المحجوبين. - إن قول الصحابي: "أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا"، يدل على أنه قد أصبح يُفرِّق بين الإيمان المـُجمل الذي يكون عليه المسلمون، والإيمان المـُفصَّل الذي يُختص به أهل المرتبة الثانية. فلا سبيل إلى الخلط بين المعنييْن، ما دام القائل، لا يقصد تكفير غيره من عوام الصحابة!... 3. الوصول: وهو لا يكون إلا إلى الله؛ يقول الله تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42]؛ أي المنتهى في السير، لأن سيرا لا غاية له، هو عبث؛ والله يتعالى عن العبث. وهذه المرحلة من السلوك، هي مرحلة الإحسان؛ وغاية الإحسان أن يصل العبد إلى ربه، وتتبدل أحكامه، فيصير حقا بعد أن كان خلقا. وهذا المعنى هو الذي يُشير إليه حديث الولاية، الذي جاء فيه: «... وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ ...»[3]؛ وهذا الحديث يدل على أن حكم الرباني من العباد، حكم ربه، لا حكم نفسه. وهو ما عبّر عنه الجُنيد عندما سئل عن العارف، بقوله: "لون الماء لون إنائه.". ومن خلال ما مرّ، نفهم أن الواصل إلى الله من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هو الله لا غيره؛ من الوجه الذي كان قيّومه. وهذا لأنه من المحال أن تقبل حضرة الله الثاني معه. وهذا مما لا يُعلم إلا ذوقا، ولا ينفع فيه الكلام والتصور عن بعد. ومن هذه الحقيقة، كنا ننكر على النصارى قولهم بأن عيسى يوجد إلى جانب الله وعن يمينه، في السماء؛ لأن حضرة الله، إن لم تكن تقبل محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف تقبل غيره!... وعندما ننفي وجود محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإننا لا ننفي منه شيئا في الحقيقة؛ إلا اعتباره غيرا لله. وهذا المعنى هو ما أشار الله إليه بقوله مرة: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء: 1]، عند اعتبار الحقائق الجزئية المجموعة في الحقيقة الإنسانية؛ ومرة بقوله سبحانه: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18]، والتي ليست إلا حقيقته. والمعنى هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ما رأى عند وصوله إلا نفسه، من كونه آية ربه الكبرى. وأما الغيرية، فلا محل لها هنا البتة!... ومن هذا الباب قيل: "من عرف نفسه، عرف ربه!". ومعرفة النفس المقصودة هنا، هي معرفتها بالحق؛ لا معرفة النفس بالنفس، كما هو شأن المحجوبين. نقول هذا، حتى لا يبقى المرء مع الألفاظ، تذهب به وتجيء. ولنعد إلى تمام حديث البخاري الذي أوردنا بدايته ووسطه آنفا؛ يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَوَاتُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟ قَالَ: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ؛ فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ؛ فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ؛ فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ مِثْلَهُ؛ فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ فَقَالَ مِثْلَهُ؛ فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ؛ فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ؛ قَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ وَلَكِنِّي أَرْضَى وَأُسَلِّمُ. قَالَ: فَلَمَّا جَاوَزْتُ نَادَى مُنَادٍ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي.». والمعنى هو: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان ينزل من حقيقة حقه، إلى حقيقة موسى منه؛ وكان التردد بين المرتبتيْن من مرتبة العرش إلى مرتبة السماء السادسة. والحكمة في ذلك، هو اختصاص موسى في قومه بالدعوة إلى المرتبة الأولى، التي هي مشتركة؛ والمـُشترك يعم جميع أهل المراتب، فوجب أن يكون مراعيا لطاقة الأدنى من الاستعدادات. ولقد نفعت نصيحة موسى، في التخفيف على هذه الأمة، من خمسين صلاة إلى خمس؛ من دون نقص في الأجر. والتوقف عند عدد الخمس، كان بوحي من الله؛ لأن الهاتف المتكلم في آخر الحديث، متكلم بلسان الحق، في إخباره أنه أمضى فريضته كما أوجب سبحانه، وخفف عن عباده في الآن ذاته. فكان فرض الصلاة خمسا، فيه رضى الله ورضى رسوله، من كونه نائبا في العبودية عن غيره من أتباعه؛ صلى الله عليه وآله وسلم. وأما لمَ فُرضت الصلاة في حضرة الحق، فلتشريع الوصول إلى الحق بالدين؛ ولكي لا يبقى العباد عابدين لربّهم من وراء حجاب؛ كما كان شأن الموسويين والعيسويين. وهذا يعني أنه لا يتخلف من المسلمين عن الوصول إلى الله، إلا من قصُر به الاستعداد، أو من انحرف به الطريق؛ كما سنبيّن -بإذن الله- في الفصل التالي... وعلى هذا، فإن صورة الصلاة، في الشريعة المحمدية، هي صورة العروج ذاته مكثفة. وهكذا، ينبغي على العبد أن ينظر إلى الشعائر؛ لا على أنها طقوس فارغة من المعاني. وبعد كل ما مر، فإنه يتضح أن الإسراء والعروج، ليسا مخصوصيْن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وإنما هما سنتان من سننه العملية والعلمية. ونعني من ذلك، أن العبد المستنّ يترقى في الدين ويذوق مقاماته، وينال علوم كل المقامات التي ينزل فيها. وفي النهاية، وعند الوصول ينال علم القرآن، الذي هو علم الجمع بنوعيه: الجمع الإجمالي والجمع التفصيلي. وعندما يصل الواصلون من الأتباع إلى الله، فهذا لا يعني أنهم صاروا مساوين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإن هذا لا يكون للأنبياء، فكيف يكون للأولياء!... وإنما ينالون بذلك ذوقا يُناسب استعدادهم، من ذوق النبي صلى الله عليه وآله وسلم المـُطلق، فحسب. وعندما يُخبر الأولياء عن الحق مباشرة في أقوالهم، فهذا لا يعني أنهم قد تجاوزوا مرتبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما قد يخطر للجاهلين بالأمر؛ بل هم يُخبرون عن الحق، وبالحق، من حقيقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقد سبق لنا أن ذكرنا، أن الخلق ليس لهم من باب إلى الحق، إلا من الحقيقة المحمدية وحدها، من كونها البرزخ الأكبر الجامع بين الحق والخلق. ولنعد الآن إلى ما قيل في هذه الحادثة، حتى نفكك ما ينبغي تفكيكه من جوانبها: 1. رُوي عن عائشة عليها السلام، أنها قالت: "مَا فُقِدَ جَسَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَسْرَى بِرُوحِهِ."[4]؛ ورغم طعن أهل الحديث في هذه الرواية، لكون الإسراء والعروج من أحداث المرحلة المكيّة من عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لم يتزوج عائشة إلا في المدينة؛ فإن ذلك لا ينفي أن يكون لعائشة -عليها السلام- رأي في المسألة، وهي من ستسمع فيها من صاحبها عليه الصلاة والسلام، ما لا يسمعه غيرها. ونعني من هذا، أن رأي عائشة عليها السلام، ينبغي أن يُعتبر، وإن خالف الفهوم؛ ولعلنا سنعود إليه في موضع آخر، إن شاء الله. ونحن مذهبنا، ليس هو رد بعض الأقوال، حفاظا على البعض الآخر؛ ولكن هو الجمع بينها، من جميع وجوهها. ومع هذا كله، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أُسري به بجسده الشريف، كما سنرى. 2. رُوي عن معاوية بن أبي سفيان، أنه كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْرَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " كَانَتْ رُؤْيَا مِنَ اللَّهِ صَادِقَةٌ."[5]. ولقد ردّ علماء الحديث هذه الرواية، لأن معاوية وقت الإسراء، كان بعدُ مشركا. وهذا عندنا لا يطعن فيها، لأن اللفظ قد يكون من رأي معاوية بعد إسلامه؛ كما يقع لأهل العقائد من المتكلمين، أن يقولوا في المسائل، بما تقبله مراتبهم؛ وهذا هو الأقرب عندنا. والقوة في المسألة، ليست في كونها في عالم الحس، لا في عالم الرؤيا؛ لأن عالم الرؤيا كعالم الحس، يؤدي ما حُمِّله من حقائق، ولا يُعد أحط في المرتبة إلا عند العوام. غير أن رحلة الإسراء، قد ثبت أنها وقعت في الحس. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ، وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ، فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا؛ فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، قَالَ: فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ، إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ، ...»[6]. ويؤكد ما نذهب إليه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ أُسْرِيَ بِي، وَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ، فَظِعْتُ بِأَمْرِي، وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ.». فَقَعَدَ مُعْتَزِلًا حَزِينًا، قَالَ: فَمَرَّ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو جَهْلٍ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ: هَلْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ!» قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ «إِنَّهُ أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ!»، قَالَ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: «إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ!» قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟! قَالَ: «نَعَمْ.» قَالَ: فَلَمْ يُرِ أَنَّهُ يُكَذِّبُهُ، مَخَافَةَ أَنْ يَجْحَدَهُ الْحَدِيثَ إِذَا دَعَا قَوْمَهُ إِلَيْهِ؛ قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ قَوْمَكَ تُحَدِّثُهُمْ مَا حَدَّثْتَنِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ!». فَقَالَ: هَيَّا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، حَتّى قَالَ: فَانْتَفَضَتْ إِلَيْهِ الْمَجَالِسُ، وَجَاءُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا، قَالَ: حَدِّثْ قَوْمَكَ بِمَا حَدَّثْتَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ.»، قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ قال: «إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.» قَالُوا: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟! قَالَ: «نَعَمْ.» قَالَ: فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ، وَمِنْ بَيْنِ وَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، مُتَعَجِّبًا لِلْكَذِبِ زَعَمَ! قَالُوا: وَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ لَنَا الْمَسْجِدَ؟ وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ سَافَرَ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَرَأَى الْمَسْجِدَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَذَهَبْتُ أَنْعَتُ، فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ»، قَالَ: «فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ، حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عِقَالٍ أَوْ عُقَيْلٍ فَنَعَتُّهُ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ!»، قَالَ «وَكَانَ مَعَ هَذَا نَعْتٌ لَمْ أَحْفَظْهُ.» قَالَ: «فَقَالَ الْقَوْمُ: أَمَّا النَّعْتُ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَ!»[7]. وذكر ابن إسحاق فيما بلغه عن أم هانئ: [أنها قالت: ما أسري برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلا من بيتي: نام عندي تلك الليلة بعد ما صلى العشاء الآخرة، فلما كان قبيل الفجر أهبّنا، فلما صلى الصبح وصلينا معه، قال: «يا أم هانئ، لقد صليت معكم العشاء الآخرة في هذا الوادي، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه، ثم قد صليت الغداة معكم الآن كما ترين!». ثم قام ليخرج فأخذت بطرف ردائه فقلت: "يا نبي الله، لا تحدث بهذا الحديث الناس فيكذبونك ويؤذونك! قال: «والله لأحدثنَّهُموه!»؛ فأخبرهم فكذبوه. فقال: «وآية ذلك أني مررت بعير بني فلان، بوادي كذا وكذا؛ فأنفرهم حس الدابة (يعني البراق) فندَّ (أي نفر وشرد) لهم بعير فدللتهم عليه، وأنا متوجه إلى الشام. ثم أقبلت حتى إذا كنت بضجنان، مررت بعير بني فلان، فوجدت القوم نياما ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء، فكشفت غطاءه وشربت ما فيه؛ ثم غطيت عليه كما كان.» وآية ذلك أن عيرهم تصوب الآن من ثنية التنعيم البيضاء، يقدُمها جمل أورق عليه غرارتان، إحداهما سوداء والأخرى برقاء. قال: فابتدر القوم الثنية فلم يلقهم أول من الجمل الذي وصف لهم؛ وسألوهم عن الإناء وعن البعير، فأخبروهم كما ذكر صلوات الله وسلامه عليه.]. وهذا كله يدل على أن الإسراء وقع في الحس. 3. رُوي عن عائشة عليها السلام، أنها قالت: "لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى، أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَارْتَدَّ نَاسٌ؛ فَمَنْ كَانَ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَسَمِعُوا بِذَلِكَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ إِلَى صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ! قَالَ: أَوَ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ! قَالَ: لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ. قَالُوا: أَوَ تُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنِّي لأَصُدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ: أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غُدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ! فَلِذَلِكَ سُمَيَّ أَبُو بَكْرٍ "الصِّدِّيقَ"."[8]. وهذه الأقوال كلها، تحتاج منا تفصيلا، نردها -بإذن الله- إلى الحق به: 1. إن قول الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]؛ يقول فيه المفسرون: هي رؤيا عين، أراها الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة عرج به. ونحن نقول: هي مشاهدة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، بالاصطلاح الصوفي؛ ولم يكن المـُصطلح قد ظهر بعد. والأوْلى استعمال المصطلح القرآني هنا، لكن لا بمعنى الرؤيا المنامية، ما دامت اللغة تتسع لمعنى المشاهدة منه. 2. إن مسألة: هل أُسري وعُرج بجسد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، مع روحه؛ أم بالروح فقط؟... والجواب بإذن الله هو: ا. إن المسألة ملتبسة، لأن الإسراء يختلف عن العروج من المـُنطلق. ونعني من هذا، بما أن الإسراء أرضي، فهو قد وقع بالجسد والروح، كما هي العادة في ذلك. ومما يُؤكد هذا، قول الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1]، والعبد هو مجموع الروح والجسد؛ كما يؤكده، ركوب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في هذه الرحلة البُراق، وهو دابة؛ والدابة لا تحمل إلا الأجساد. ب. وأما العروج، فهو روحي؛ وهذا يقتضي أن يبقى الجسد الشريف في محله على الأرض، وأن ترتفع الروحانية الشريفة، في طبقات السماوات، رفقة جبريل من جهة كونه روحا، عليه السلام. وهذا هو ما ذكرناه قبلاً، من أن السالك إلى ربه، يترك في كل عالم ما يُناسبه من حقائقه. وهذا يعني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قد ترك طينيته على الأرض، لأنها منها. وسيقع الشيء نفسه، عندما يصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلى سدرة المنتهى، حيث سيترك روحانيته هناك مع جبريل، ويواصل الصعود بحقيقته الإلهية. وهكذا، فمن اعتبر الإسراء والعروج جملة، فإنه يُمكنه القول بأن ذلك قد وقع بالروح والجسد معا؛ ومن اعتبر مناسبة الحقائق الإنسانية للأكوان، فإنه سيقول بما قلنا نحن. وأما ظهور العبد المتحقق بربه، في العالم الأرضي بروحانيته غير المفارقة لبدنه، بعد عودته إلى الأرض؛ فهو أمر آخر، يشهد له ما يقع للورثة. وذلك لأن الورثة فرع، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أصل؛ وما يشهد به حال الفرع، فنسبته إلى الأصل أوْلى. ج. وأما التعصب للقول بأن الإسراء والعروج كانا بالروح والجسد، على معتاد الناس؛ فإنه جهل. ومن يظن أن هذا القول يندرج في باب تعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فليعلم أن التعظيم ينبغي أن يكون على علم، وبما يوافق الحق؛ لا بما هو من خوارق العادة دائما. وإن بعض أصحابنا يقع لهم الجولان في السماوات، ويقع لهم لقاء روحانيات الأنبياء عليهم السلام هناك، في بعض مشاهداتهم؛ وهذا أمر قد أصبح من العادة لدينا. وما نلناه نحن باتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ينبغي أن يدل على ما لا يدخل تحت إحاطة العقل والتصوُّر، فيما يخصه صلى الله عليه وآله وسلم. 3. إن تصديق أبي بكر رضي الله عنه، بإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من دون اشتراطِ فهْمٍ أو اشتراط موافقة العادة؛ دليل على أنه كان مؤهلا لأن يسلك الطريق خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذه الصفة، هي التي يشترطها الشيخ على المريد، ليصلح للتربية؛ لأن المرء بدونها لا يتزحزح عن مكانته السفلية قيد أنملة، وإن كان على عبادة الثقليْن!... وحتى لا تختلط المراتب، فعلى القارئ أن يعلم أن إسراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ليس من أجل نفسه بالأصالة؛ وإنما هو من أجل بلوغ الكمال في الدين، الذي لم يُبلغ إلا معه صلى الله عليه وآله وسلم؛ ومن أجل فتح باب الاقتداء به لجميع المؤمنين، كل بحسبه. وأما هو صلى الله عليه وآله وسلم، فمرتبته بالأصالة من جهة الحقيقة، هي فوق النبوة والرسالة ذاتيْهما. ونعني بهذا أنه عليه السلام من جهة باطن حقيقته، ليس إلا الحق المنزه عن صفات الحدوث؛ والذي من جوده على عباده، تجلى عليهم بنوره، فانفصل عن هذا النور القديم نور الشريعة الهادي، ليتم بلوغ مرتبة القِدم من مظاهر الحدوث بوسيلته. كل هذا والمـُبتدأ من الله، والمنتهى إليه؛ ولا فرق بين عربي (يفقه هذه المعاني) وعجمي (محجوب عنها)، إلا بالتقوى، التي هي صيانة الحق بالحق عن توهُّمات الخلق. وإذا عرفنا الدين على حقيقته، فإنه سيتبيّن أنه مخالف لإقامة صروح المعابد وزخرفتها، كما فعلت اليهود والنصارى، وكما يفعل المسلمون بعد الغفلة. وسيتبيّن أن معناه من وراء صور الشعائر، التي يعبدها الناس من دون الله؛ وأن غايته من وراء الجنة، التي لا يعقل غيرها المحجوبون (والجنة مشتقة من الجَنّ الذي هو الحجب). وحتى نؤكد ما نبهنا إليه من انحراف جل المسلمين عن فقه معنى الدين، كما هو في أصله، فإننا نورد الأخبار الدالة على ذلك صراحة؛ ومن ذلك: - قال أبو ذر رضي الله عنه: "إِذَا زَوَّقْتُمْ مَسَاجِدَكُمْ، وَحَلَّيْتُمْ مَصَاحِفَكُمْ، فَالدَّبَارُ عَلَيْكُمْ."[9]. والدبار: الهلاك. - قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا سَاءَ عَمَلُ قَوْمٍ قَطُّ، إِلَّا زَخْرَفُوا مَسَاجِدَهُمْ!»[10]. قلنا: ذلك من زيادة الظاهر عند نقص الباطن؛ لأن الخروج عن الاعتدال، يُعطي ذلك حتما. وهذا الذي نراه في زماننا من بناء المساجد الضخمة المزخرفة، التي تصير قبلة للسياح ونزهة للناظرين؛ لا يدل إلا على خراب القلوب لدى العامة من المسلمين. وهذه الأمور، هي من أدلة الواقع، على صدق الله ورسوله، فيما أخبر به؛ وهي من إقامة الحجة على المتأخرين، وإن كانوا لا يشعرون. - جاء في صحيح البخاري: [بَاب بُنْيَانِ الْمَسْجِدِ: وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: كَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ، وَأَمَرَ عُمَرُ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: "أَكِنَّ النَّاسَ مِنَ الْمَطَرِ وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ!" وَقَالَ أَنَسٌ: "يَتَبَاهَوْنَ بِهَا ثُمَّ لَا يَعْمُرُونَهَا إِلَّا قَلِيلًا!" وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى."]. قلنا: وهذا يعني أن أمتنا ليست استثناء من الأمم، كما تظن العامة؛ بل هي واقعة فيما وقعت فيه الأمم السابقة، كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِأَخْذِ الْقُرُونِ قَبْلَهَا، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ؛ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَفَارِسَ، وَالرُّومِ؟ فَقَالَ: وَمَنِ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِكَ!»[11]. - قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ بِلُحُونِ الْعَرَبِ وأَصْوَاتِها؛ وَإِيَّاكُمْ وَلُحُونَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، وَأَهْلِ الْفسقِ؛ فَإِنَّهُ سَيَجِيءُ بَعْدِي قَوْمٌ يُرَجِّعُونَ بِالْقُرْآنِ تَرْجِيعَ الْغِنَاءِ وَالرَّهْبَانِيَّةِ وَالنَّوْحِ؛ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، مفتونةٌ قُلُوبُهُمْ، وقلوبُ مَنْ يُعْجِبُهُمْ شَأْنُهُمْ.»[12]. قلنا: ومسابقات التجويد التي تقع في زماننا، وتجويد التطريب والنوْح، الذي يجتمع عليه العامة من الناس، هي من هذا المنهيّ عنه. ولا يقع التغني بالقرآن، على غير طريقه المشروع، إلا بعد أن يُحال بين القلوب وبين معانيه، عند اشتداد الغفلة؛ فيظن الجاهلون أنهم بتغنيهم البدعي، إنما يوفون القرآن حقه، ويبرهنون على أنهم من أهله؛ وهيهات!... ونحن نذكر في زمان جاهليتنا، وقبل سلوكنا، كنا رفقة قوم من الجماعات الحركيّة، فصلى بنا "أمير الأسرة" صلاة المغرب أو العشاء، ثم التفت وصار يعظنا، وقد كنت حينها جاهلا بالدين، جهلا شبه تام. فجاء في أثناء وعظه، حضُّه لنا على إتقان قواعد التجويد (وأنا الموسيقي صاحب الصوت الغنائي)، واستدل بقول الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: 121]؛ فلم أشعر بنفسي إلا وأنا أقاطعه، وأرد المعنى الذي ذهب إليه، وأقول: معنى تلاوة القرآن حق تلاوته، هو العمل به. فتحرَّج الرجل، ومد يده إلى كتاب من كتب التفسير، كان على رف بجانبه؛ لعله يجد فيه ما يعيدني إلى مرتبة التلميذ، وما كنت لأمانع. ولكن العجيب، هو أن التفسير، جاء موافقا للمعنى الذي ذكرته أنا. فكان هذا من التوفيقات الإلهية لعبده، والتي لم يسبق لي أن علمت بها من جهة الكسب. فالحمد لله، أولا وآخرا، والشكر له على ما أنعم. وإننا بذكر هذه الأعراض المـَرَضية، من أعراض أمراض القلوب لدى الأمة، إنما نريد أن ننبه إلى ذهاب الدين، مع بقاء بعضٍ من رسومه. ولا يغتر أحد بما تقوم عليه وزارات الشؤون الإسلامية في البلدان الإسلامية؛ لأن ذلك في مـُجمله هو من علامات الوقوع فيما وقعت فيه الأمم السابقة، لا من حراسة الدين أو إقامة شعائره، كما قد يُظن. ولسنا هنا، ممن ينطلق -بحمد الله- من مواقف سياسية؛ ولكننا نحكم بما هو الأمر عليه عند الله. وإن أصل كل انحراف وقع في الدين، هو جهل الناس بمراتبه؛ وبالتالي تقديم من ليس أهلا للإمامة على الناس. فهذه هي أسّ الآفات، وأم الطامات. وقد نبه إليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْتَزِعُ الْعِلْمَ مِنَ النَّاسِ انْتِزَاعًا؛ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعُلَمَاءَ، فَيَرْفَعُ الْعِلْمَ مَعَهُمْ؛ وَيُبْقِي فِي النَّاسِ رُؤُوسًا جُهَّالًا يُفْتُونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ.»[13]. وقد حدث هذا في الأمة منذ القرن الأول، لكنه صار يتزايد مع الزمان، إلى أن وصلنا إلى المهازل التي نراها اليوم؛ حتى أصبح الفاسق معلوم الفسق، لا يخجل أن يكون إماما للناس في العلم وفي العمل. وعندما نقول "العلم"، فإننا نقصد الترهات التي يحسبها هو وأمثاله علما؛ وعندما نقول "العمل"، فإنما نعني الطقوس الجوفاء التي ليس لها من الشعائر إلا الصورة الظاهرة وحدها، إن سلِمت. ولن يعود الدين إلى أصله، إلا بعد أن يعود ترتيب صفوف الناس إلى ما كان عليه؛ لتكون الإمامة في الدين للربانيين وحدهم، خلفاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وحتى يقنع أهل مرتبة الإيمان بالعمل تحت إمرتهم، ويقنع أهل مرتبة الإسلام بأن يكونوا جنودا للإسلام في آخر الصفوف. وهذا آت لا محالة، لكن بعد الخراب الذي سيلحق الأمة، من جراء اتباعها لفقهاء السوء... [1] . أخرجه مسلم عن ثوبان رضي الله عنه. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.