اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2020/09/28 الحوار الغائب (ج3) -7- اكتمال الدين لقد ذكرنا فيما سبق من هذا الكتاب أن الدين عند الله واحد، بعكس ما يقول الجاهلون. ونعني بالدين الطريق الموصل إليه سبحانه بالأصالة، والموصل إلى الجنة بالتّبع. ولقد بدأ الدين مع آدم عليه السلام، بوصفه أول عابد لله على أرضه. ثم تبعه في ذلك، كل من كان على الطريق من ذريّته؛ جيلا بعد جيل، وقرنا بعد قرن؛ إلى أن بلغ الأمر إلى الزمان التشريعي المحمدي، الذي يبدأ مع البعثة الشريفة. ولقد بيّن الله حكمه في مسألة الدين، في مواضع من القرآن، منها قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]؛ ومعنى هذا، أن الدين المـُعتبر عند الله، هو الذي يكون العباد به مسلمين (منقادين) له، موافقين لشريعته. وكل معنى مخالف لهذا الأصل فليس دينا، كما نفهم من باقي الكلام: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 19]؛ وهذا يعني أن اعتبار أهل الكتاب أنفسهم على دين، لا يصح؛ لأنهم اختلفوا. ومعنى اختلفوا هنا، هو بقاء بعضهم على أصل، وخروج بعضهم عنه. وهذا حدث بعد أن أوتوا العلم؛ الذي هو آخر ما نزل من الوحي. وقد وقع هذا مع النصارى، بعد اهتدائهم بعيسى عليه السلام، وبقاء اليهود على ما كانوا عليه. وهو ما سيتكرر عند البعثة المحمدية، وإمامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدين؛ عندما سيتشبث اليهود والنصارى بما لديهم، معتقدين أنهم باقون على الدين. يقول الله تعالى في الآية التي تأتي بعد الفارطة: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20]. وهذا يدحض كل مزاعم أهل الكتاب، الذين لا يتبعون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويبيِّن لهم أن الإسلام لله، لا يتحقق لهم أو للأميين (من غير الكتابيّين)، إلا بالخضوع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. فإن أسلموا لله، بالتسليم له في مظهره، فقد اهتدوا إلى الدين؛ وإن عاندوا فإنهم سيكونون من الكافرين، وإن حافظوا على بعض الصور من الشرائع السابقة. وذلك لأن الأعمال، لا ينظر إليها الله، إلا بعد تحقق الإسلام؛ وتحقق الإسلام لا يكون في الزمن التشريعي المحمدي، إلا بالإيمان به واتباعه. ثم يقول الله في موضع آخر متأخر عن الموضع السابق، ومن السورة نفسها: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]. وهذا يعني أنه بعد بيان معنى الإسلام، فإن من يخالفه بتأويل من نفسه، أو من أئمته في الضلال؛ فلن يُقبل منه. وسيكون في الآخرة من الخاسرين، أصحاب الشمال، الذين يكون مآلهم إلى جهنم. وحتى يُدرك الناس حقيقة الدين، التي يجهلونها كثيرا، عندما يُقلّد لاحقُهم السابق، من غير فقه؛ فإننا نؤكد على أن الدين لا يكون بعيدا عن المظهر الإلهي الذي يواجه منه الله تعالى عباده. والمظهر الإلهي الأصلي -كما أخبرنا مرارا- هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الذي كان في الأزمنة السابقة، يُعامَل من وراء المظاهر النيابية التي لسائر الأنبياء؛ وصار يُعامل بعد بعثته الشريفة مباشرة كما كان الشأن مع الصحابة المرضيين. وأما بعد انتقاله صلى الله عليه وآله وسلم فإنه صار يُعامل من وراء مظاهر خلفائه وورثته؛ سواء أعلم الناس بمظاهر الخلفاء والورثة، أم لم يعلموا. غير أن الحكم مع الخلفاء والورثة، ليس كالحكم مع الأنبياء؛ لأن الأمر مع من هم من أتباعه صلى الله عليه وآله وسلم، مندرج في زمانه التشريعي. لذلك فإن الناس، إن لم يعلموا مظاهر الخلفاء والورثة، فإنهم سيبقون على الإسلام الذي عليه الأمة في عمومها، إن بقوا على أصل الإيمان. لكن هذه المرتبة من الإسلام، والتي هي المرتبة العامة، تختلف بين السلف والخلف؛ لأن الخلف تغلُب عليهم التاريخية، فتضعِف تديّنهم، وإن أبقوا على بعض الصور التشريعية... ولنعد الآن إلى حقيقة الدين، بحسب مراتبه؛ ولنعتبر أهل الكتاب من أتباع موسى ومن أتباع عيسى أولا. ولقد شاء الله أن يجعل الدعوة الموسوية سابقة على الدعوة العيسوية في الزمان، لتكون الثانيةُ متممة للأولى في الدين ذاته. وإن أدل ما يدل على ما نقول: اشتراك الدعوتيْن في التوراة وعهد التجديد التوراتي، السابق على البعثة العيسوية؛ لأن هذا يدل حتما على أن أتباع عيسى سيزيدون في التديُّن، على ما كان عليه الموسويّون. وإن اعتبار الإنجيل فوق اعتبار التوراة، يدل أيضا، على الزيادة من غير شك. فقد قيل: الزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى. فإن أقررنا بالاختلاف (التفاوت) بين المرتبتيْن، فلنعلم أن الأولى كانت مرتبة الإسلام، وأن الثانية كانت مرتبة الإيمان. وكون الثانية مرتبة الإيمان، هو ما جعل بعض المنحرفين من النصارى يُبقون على معناه اللغوي العام وحده، ويُسقطون الأعمال. ونعني من هذا، لو لم يكن لهم خبر عن مرتبة الإيمان، لبقوا على تديُّن يُشبه تديُّن اليهود، من غير شك؛ ولكن اطلاعهم الأول على مرتبة الإيمان، حرف إدراكهم. وهذا يُشبه ما يقع من الانحراف عند بعض المتصوفة من المسلمين، بسبب إدخال مرتبة الإحسان في اعتبارهم، فيخالفون بذلك عوام المسلمين الذين لا خبر لهم عن أحوال الخواص وعلومهم. وهذا يعني في النهاية، أن انحراف اليهود مخالف لانحراف النصارى، من حيث متعلَّقه، ومن حيث التصور للمرتبة، الذي سيؤثر على تصور الدين كله لديهم. فإن علمنا المرتبتيْن الأولييْن من الدين، فلنبيّن الآن، أن الدين له مرتبة ثالثة هي مرتبة الإحسان؛ وهي التي جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُكمل بها الدين. فقال الله تعالى بعد هذا الإكمال النبوي: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. واللفظ واضح، يدل على أن الدين المسمى إسلاما، هو مجموع المراتب الثلاث كلها: الإسلام والإيمان والإحسان. وقد غلط كثيرون، عندما اتبعوا اللفظ وحده، مع جهلهم بالمعاني؛ فظنوا أن الإسلام لدى الرسل أجمعين (من حيث هو دعوة) واحد. وتوهموا أن قول الله المذكور سابقا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} -بسبب الاشتراك في اللفظ- لا بد من أن يجعل الإسلام على مرتبة واحدة مشتركة؛ بحيث لا يُقبل فرق في الدعوات الرسولية، إلا من جهة التفاصيل التشريعية. والأمر بخلاف هذا، يقتضي أيضا اختلافا في مراتب الدين نفسها، كما ذكرنا. ولهذا، فإننا نقول: إن أتباع موسى كانوا على أولى المراتب، والتي هي مرتبة الإسلام؛ وإن أتباع عيسى كانوا على مرتبة الإسلام بالنظر إلى عوامهم، أو على مرتبة الإيمان بالنظر إلى خواصهم؛ وأما أتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: فشطر منهم مسلمون، وشطر مؤمنون، وشطر محسنون. وهنا لا بد من أن نذكر أمرا هاما، يعود إلى مرتبة الأنبياء عليهم السلام في أنفسهم: فلقد سألني مرة أحد أساتذة التربية الإسلامية في التعليم الثانوي عندنا: "هل مرتبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هي الإحسان؟"، فأجبته في الوقت: "هو صلى الله عليه وآله وسلم فوق ذلك!". ولكن الأمر مبهم، ومجهول لدى الدارسين؛ فلذلك أوردناه هنا تكميلا للفائدة. والخلاصة في المسألة، هي أن الدين بمراتبه الثلاث، متعلق بالرسل عليهم السلام، من جهة الإمامة فيه؛ ومتعلق بالأتباع، من كونهم مأمومين. وهذه هي صورة الصلاة (الشعيرة)، التي شرعها الله لعباده في الدين. وأما مرتبة الرسل في أنفسهم من جهة كونهم مظاهر ربانية، فهي الربانية، التي يكونون بها وجها لله، يواجهون به وجوه المتوجهين إلى الله من أتباعهم. ولهذا، فإن معنى الوجه في مثل قول الله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]، هو ذات النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومن هنا استخلص أهل الطريق معنى التوجه في الدين، عند علمهم بأن القبلة القلبية فيه، هي ذات النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومن دون هذا التوجه، تبقى صلاة العبد المعنوية ناقصة، بل ربما باطلة. ومن هنا أيضا جعل أئمة الطريق، توجُّه المريد إلى شيخه الرباني، الخليفة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدلالة، توجُّها إلى النبي نفسه؛ ما دام الشيخ الرباني قد فنيت نفسه فيه، من كون هذا الذي نقول، شرطا في الأهلية لإمامة الدين. وعلى قدر جهل الناس -وإن كانوا من علماء الرسوم- بهذه المعاني، يكون جهلهم بالدين نفسه؛ وبالتالي فإن تديُّنهم سيكون ناقصا، وقد يكون على مرتبة أهل الكتاب، لكن من دون كفر، فضلا من الله واختصاصا لهذه الأمة. وبقي لنا جانب آخر من معنى كمال الدين، وهو ما يتعلّق بالتشريع. وهنا ينبغي أن نُبرز ما يلي: 1. إن الشرائع السابقة على الشريعة المحمدية، كانت محصورة في الزمان؛ بخلاف الشريعة المحمدية المستغرقة للزمان، من وقت البعثة، إلى قيام الساعة. 2. إن الشرائع السابقة، كانت مخصوصة بأقوام الرسل؛ وأما الشريعة المحمدية، فهي للناس كافة؛ سواء أكانوا من الأقوام والأمم الأخرى، أم جاءوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا، لأن الزمن التشريعي المحمدي، يمتد إلى قيام الساعة. 3. وحتى تكون الشريعة المحمدية شاملة للناس كافة، ومغطية للزمان كله؛ فلا بد لها من خصيصتيْن رئيستيْن هما: ا. قابلية الشريعة للتجدُّد: وهذا هو ما دل عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بقوله: «إنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا.»[1]. وهذا يعني أن الدين بالنظر إلى شقِّه الإيماني، وإلى شقّه التشريعي، ينبغي أن يُجدد كل قرن من الزمان؛ ليبقى الدين بمعناه الشامل في جِدته، ولا يصيبه ما أصاب الشرائع السابقة من التجاوز. وهذا المعنى قد ضعف أحيانا في أذهان الأمة، فاكتفوا بالتقليد لأئمة القرون الأولى، بخلاف ما كان ينبغي عليهم. ب. امتياز الشريعة المحمدية بأصل، سيمكنها من الاستمرار؛ وهو التيسير. وهذا يعني أن التشريع ينبغي أن يراعي حال الأقوام الذين دخلوا في الإسلام، وأن يُستحدث لهم من التشريعات (من قِبل المجددين) ما لا يكون مستثقلا لديهم، أو مخالفا لبيئتهم، إن كانت بعيدة عن بيئة الصحراء التي عرفت أولى صور الشريعة. ج. وحتى يكون التجديد بالمعنى الشرعي، فلا يُسمى كل انحراف تجديدا؛ ينبغي التفريق بين أصول الشريعة الثابتة، وبين فروعها المتغيرة؛ لأن التجديد يشمل المتغيّرات وحدها، لا الثوابت. وهذا علم مستقل بذاته (ضمن الفقه العام)، نرى أن الفقهاء قد قصّروا فيه، مع مرور الزمان. فإن اتضح ما سبق، فلنخض الآن في التفريق بين المراتب الثلاث، وكيف يكون، ولمَ يكون؛ فنقول: 1. إن مرتبة الإسلام، هي مناسبة لأضعف العقول بالمعنى الديني لا بالمعنى الفلسفي؛ لأن الضعف والقوة في العقل لدى الفلاسفة، هما غير ما نعنيه نحن. وكون هذه المرتبة أولى مراتب الدين، يجعل الخروج عنها (النزول) لا يكون بعد التدرج في الضعف الإيماني منتهيا إلا إلى الكفر. ولهذا السبب، أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أزمنة الضعف بقوله: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ: يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا؛ أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا، وَيُصْبِحُ كَافِرًا؛ يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا.»[2]. فالمناوبة بين الإيمان والكفر، تدل على المجاورة؛ والمجاورة لا تعني إلا أن المعنيّين بالكلام، هم من أهل مرتبة الإسلام فحسب. وحتى يرتفع اللبس هنا، لا بد من التفريق بين الإيمان بمعنييْن: بالمعنى العام والمجمل، والذي يكون عليه أهل مرتبة الإسلام أيضا؛ والإيمان بالمعنى الخاص، وهو الذي يكون عليه أهل مرتبة الإيمان. فمن فرّق بين المعنييْن، فلا شك أنه سيعلم أن أهل مرتبة الإيمان، لا يكفرون وإن ضعُفوا؛ لأن مرتبتهم غير مجاورة لمرتبة الكفر. وأما أهل مرتبة الإسلام، الذين يكونون على إيمان مجمل، فقد يكفرون، للسبب المذكور. وبما أن الإيمان مـُجمل في مرتبة الإسلام، فلذلك تكون الأعمال في معظمها هنا متعلقة بالأبدان: كالصلاة والصوم والحج؛ أو متعلقة بما هو من توابع النفس: كالزكاة. ولا يكون متعلقا بالقلب في هذه المرتبة إلا أصل الشهادة، الذي يُترجم عنه باللسان، عند الدخول إلى الإسلام؛ وما يتعلق بالنية في الأعمال. وذلك لأن الأعمال كلها، لا تُعتبر عند الله، حتى ينوي بها العبد التقرب إليه سبحانه؛ وإلا بقيت جوفاء لا قيمة لها، وإن كانت في الصورة شهادة أو صلاة أو صياما أو زكاة أو حجا. 2. إن مرتبة الإيمان، هي المرتبة المناسبة للقلب؛ لذلك فإن أعمالها كلها قلبية. ويدور علمها حول أحوال القلب ومقامات المرتبة. وهي مخالفة على التمام لما صار يُعرف عند الناس بعلم العقائد؛ لأن هذا العلم عقلي، بينما هي في الأصل مرتبة قلبية ذوقية. ومع أن الفرق بيّن بين المعنييْن، فإن ضعاف العقل وضعاف الإيمان، من أئمة الدين المبتدعين، قد انحرفوا بإدراك الناس لدينهم عما كان في البداية، وانقطعوا بهم في مرتبة الإسلام، على ما يعتريها من نقص. وهكذا ستدخل الأمة في مرحلة الضعف في مجملها، وستستمر على ذلك قرونا طويلة؛ إلى أن بلغت ما نراه في زماننا. وإن أفضل ما يُجمل الكلام حول مآل الأمة في هذه المرحلة، قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا! فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ! وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ! فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ.»[3]. وهذه الحال لا تكون حتى يقِلّ أهل مرتبة الإيمان في الأمة، ويعود الدين أعمالا صورية جوفاء. وجَمْع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الآفاتِ كلها التي ستظهر في الأمة، في حب الدنيا وكراهية الموت؛ هو للدلالة على انعكاس الطريق (الدين). فإن الأصل في الدين أن يسير فيه العبد في اتجاه الآخرة، وهذا يحبب إليه ما يقرب إليها من حال وعمل، ومن ذلك الموت؛ وأما عند انعكاس الأمر، فإن العبد سيُبتلى بحب الدنيا الذي سيجعله يسعى إلى إطالة الإقامة فيها. ومن هنا تدخل عليه المهانة والذل، عند حرصه على ما يوافق الدنيا، وما يباعده من الموت، بحسب الزعم. ولا ينفع عند غياب الإيمان التفصيلي، أن تكثر مظاهر التدين الخارجي، أو أن يكثر دارسو العلوم الدينية؛ لأن كل ذلك خارج عن الطريق السنيّ المشروع. وإصرار الناس على ما هم فيه من مخالفة، مع طلب ثمار الدين التي ظفر بها الأولون، هو من العبث الذي ابتُلي به المتأخرون. 3. إن مرتبة الإحسان، هي ذروة الدين وكماله؛ لأنها تبلغ بالإيمان مرتبة العيان؛ وليس فوق العيان مرتبة تُطلب. غير أن الترقي في هذه المرتبة يكون باتساع دائرة الشهود دائما، لتتسع دائرة الإيمان حولها أيضا؛ وذلك لأن الإيمان حقيقة ثابتة لا تنقطع. وكيف تنقطع، وجهل العبد بالله، دائما أكبر من علمه به سبحانه. ولو لم يكن الأمر كذلك، لقيل بإمكان الإحاطة بالله علما؛ وهو محال!... فلم يبق إلا الإيمان طريقا، إلى ما هو خارج الشهود. ولقد ذكرنا أن هذه المرتبة، هي مما اختص الله به هذه الأمة؛ لكن لا على وجه العموم. وبهذا تكون الأمة المحمدية جامعة لحقائق الأمم: فأصحاب مرتبة الإسلام فيها، يُشبهون ما كان عليه الموسويّون في زمانهم، مع فضلهم لهم؛ وأصحاب مرتبة الإيمان، يُشبهون ما كان عليه العيسويون في زمانهم، مع فضلهم لهم؛ وأما أهل الإحسان فيها، فلا بد أن يكونوا محمديين على بصيرة. وأما قولنا سابقا عن أهل المرتبتيْن الأولييْن "مع فضلهم لهم"، فليس هو من باب التعصب؛ ولا ينبغي لنا؛ ولكن لأن الأتباع من هذه الأمة يفضلون الأتباع من الأمم السابقة، بسبب اتباعهم للمتبوع الأصلي العام، الذي هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم. بخلاف الأمم السابقة فهي تابعة للرسل السابقين، الذين هم بدورهم أتباع من جهة غيبهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا الأصل، هو السبب في كل الأحكام الخاصة بما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، كعموم دعوته الناس كلهم، وكاتساع شريعته لجميع الأزمنة ومختلف الأمكنة. وهذا الأصل أيضا، هو سبب أخذ الله الميثاق على الأنبياء ليكونوا أتباعا، إن ظهر فيهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وقد ذكرنا هذا بالتفصيل، في فصول سابقة، فلا داعي إلى إعادة ذلك هنا؛ وإنما مرادنا الربط والتذكير فحسب. وإن الترتيب الذي ذكرناه، يجعل الكلمة في الأمة للمحسنين، ويجعل العمل على إنفاذ الأوامر لأهل الإيمان، وتبقى الطاعة في كل الأعمال من نصيب أهل الإسلام. فما دامت الأمة مراعية لهذا التراتب، فإن أمرها سيكون إلى خيارها، وبالتالي إلى خير؛ في الدنيا والآخرة. وأما إذا انعكس الترتيب، لسبب من الأسباب -وعلى رأسها الجهل بالمراتب- فإن بنيانها سيختل، وقد يصل إلى القمة (الإمامة في الدين) فيها، من هو من أهل القاعدة؛ كما هو الشأن اليوم. وهكذا، فإنها ستُصبح عاملة بعكس المطلوب، ومتجهة إلى ما يدعوها إليه الشيطان بعكس المرغوب. وإنا لله وإنا إليه راجعون!... ومن سلك الدين بحسب ترتيبه الرباني، فإنه يُرجى له أن يصل به إلى الله؛ ما دام هو في أصله ليس إلا طريقا إليه. وقد بيّن الله هذا المعنى من سورة الفاتحة، فقال سبحانه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]؛ والصراط هو الطريق. ووصْفُ الله له بالاستقامة، هو للدلالة على قرب الغاية منه؛ ونعني من هذا أن كل دين لا يقرب العبد إلى ربه مرحلة بعد أخرى، فإنه لا يكون مستقيما؛ بل منحرفا. ولا يختلف في ذلك، ما إذا بقي أصحابه على تديُّن صوري، كالذي نراه في زماننا للمتسلّفة، أو للحركات السياسية. كل ذلك، لا يزيد العبد من الله إلا بعدا!... ولقد كررنا هذا الكلام في الأمة كثيرا، لكنها في شطرها، مـُصرّة على اتباع وحي الشيطان، الذي له دعوته في مقابلنا؛ والتي ينوب عنه فيها أئمة للضلال، يستثمرون في مجال الهوى الجمعي والهوى الفردي معا. غير أنه لا بد للضباب يوما من أن ينقشع، وتظهر شمس الهداية على هذه الأمة، كما ظهرت على سلفها الأولين، فتعود إلى صحيح الدين، على بيّنة؛ فتنال من ثماره، ما غاب عن كثيرين في الأزمنة الماضية. ومن الناحية التاريخية، فإن الموسويّين قد قطعوا مرحلة من الطريق إلى الله، وكان ينبغي أن يواصلوا مع عيسى قطع المرحلة الثانية؛ وإن المسيحيين قد قطعوا المرحلة الأولى والثانية مع عيسى عليه السلام، وكان ينبغي أن يُكملوا الطريق مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وأما المسلمون، فينبغي لهم قطع الطريق كله مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ أو هكذا يُفترض. لكن حالهم في الاتباع، سيجعل منهم: مَن لا يتجاوزون مرتبة الإسلام، ومنهم مَن لا يبلغ الإحسان من أهل الإيمان؛ وسيبقى المحسنون قلة فيهم من كل زمان، على ما بين الأزمنة من تفاوت في ذلك. وهذا الذي نقوله، يخص أهل الموافقة والطاعة؛ وأما غيرهم فحكمهم هو حكم الخارج عن الدين، كحكم اليهود بالنظر إلى الموسويين، وحكم النصارى بالنظر إلى المسيحيين. وهذا هو ما ذكَرنا سابقا عنه، أنه سيكون سببا في وجود الطوائف الأساس في هذه الأمة، من الـمُنعم عليهم، ومن المغضوب عليهم، ومن الضالين. وسنعرض في الفصل المـُقبل -إن شاء الله- إلى الصفات المميزة لهذه الطوائف في الأمم الأولى وفي أمتنا، لتظهر المضاهاة وتَبين الحكمة منها. أما الطريق إلى الله، فيأتي بعد نزول الإنسان إلى أسفل سافلين، الذي هو عالم الطبيعة. وهذا العالم، عالم ابتلاء، تُحيط فيه الظلمة بالعبد، من جهة الباطن ومن جهة الظاهر. فمن جهة الباطن، حصل البعد بالإنزال من مرتبة الكمال؛ ومن جهة الظاهر، وقع الانحجاب بسجن الطبيعة عن النور. وزاد من الابتلاء كون البدن، الذي هو بمثابة مركوب الروح في هذا العالم، من هذا العالم السفلي؛ فلا يدعو صاحبه، إلا إلى ما يرسّخه في السفالة. وقد عبرت النبوءات عن هذه الحال بتعابير مختلفة من العهد القديم؛ منها: "لِتَفْتَح عيون العُمْيِ، لِتُخرِجَ من الحَبْسِ الْمَأْسورينَ، مِنْ بَيْتِ السِّجْنِ الجالِسِينَ فِـي الظُّلْمَةِ."[4]؛ ومنها: "رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ، لِأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي لِأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لِأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ، لِأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْـِق، وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالْإِطْلاقِ."[5]؛ ومنها: "مِنْ يَدِ الْهَاوِيَةِ أَفْدِيهِمْ. مِنَ الْمَوْتِ أُخَلِّصُهُمْ. أَيْنَ أَوْبَاؤُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ شَوْكَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟"[6]. ولا شك أن القارئ سيلاحظ أن الموسويين، لم يكونوا ليدركوا من هذه التعابير، إلا ما يعطيه ظاهرها، بسبب انحصارهم في المرتبة الأولى من الدين. ونعني أنهم لم يكونوا يعلمون من الموت إلا الموت الطبيعي؛ ولم يكونوا يعلمون من الأسر، إلا ما يقع لهم على أيدي أعدائهم؛ ولا من الظلمة إلا ما هو من حال العمى. وهذا، هو السبب في الأصل، لعدم تصوُّرهم للمسيح الذي بُشِّروا به، إلا ملكا قويا، يُخرجهم من أسر الأقوام المتغلبين عليهم. والحقيقة هي أن كل هذه الأحوال، من أسر وسبي وظلمة، تنشأ لهم في قلوبهم، من نزولهم إلى عالم الطبيعة، ومن نسيانهم لعالمهم الأصلي. وأما من العهد الجديد، ففيه: "لِكَيْ يتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ.. الشَّعْبُ الْجَالِسُ فِي ظُلْمَةٍ أَبْصَرَ نُوراً عَظِيماً، وَالْجَالِسُونَ فِي كُورَةِ الْمَوْتِ وَظِلَالِهِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ."[7]. ولقد قال المسيحيون بنزول المسيح إلى الهاوية (هكذا)، لكنهم لم يعلموا حقيقة النزول؛ لكون جلِّهم من أهل المرتبة الأولى من الدين. فنزّلوا هم أيضا معنى النزول على الموت الطبيعي، ومن هنا دخلت عليهم عقيدة القول بموت المسيح، مع أنه لم يمت. وأما المسيح عليه السلام، فإنه دعاهم إلى الترقي في الدين، من أجل الخروج عن أحوال السُّفل المذكورة آنفا؛ ولكن أين من يعقل عنه؟!... وأما هذه المعاني كلها، المتعلقة بنزول الإنسان إلى عالم الطبيعة الضيق المظلم، وبإمكان صعوده منه؛ فقد ذكرها الله، في سورة التين، التي سنتناولها بقليل من التفصيل، بإذن الله: - يقول الله تعالى بعد [بسم الله الرحمن الرحيم]: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1]: وهي إشارة إلى فلسطين، بلد عيسى، الذي أُنزل به الإنجيل. والمراد من ذكر هذا، هو الدلالة على المرتبة الثانية من الدين، التي كان يدعو إليها المسيح عليه السلام، إلى جانب دعوته إلى المرتبة الأولى. وذلك لأن العليا من المراتب، لا تُدرك إلا بعد تحقُّق الدنيا. ومن هنا كان عليه السلام يُثبت أحكام التوراة، ويدعو إلى العمل بها. - ويقول سبحانه: {وَطُورِ سِينِينَ} [التين: 2]: والمقصود منه جبل الطور بصحراء سيناء، حيث أنزل الله التوراة على موسى. والإشارة هنا إلى المرتبة الأولى من الدين، والتي كان يدعو إليها موسى عليه السلام. - ثم يقول تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 3]: والمقصود به مكة، محل بيت الله العتيق. والعتاقة القِدَم، وهي صفة ذاتية. ويُشار بهذا إلى كمال الدين بمراتبه الثلاث، اللائي يدعو إليهن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. ففلسطين مع جبل الطور قد اندرجا في مكة بالمعنى المكاني؛ وموسى وعيسى قد اندرجا في محمد صلى الله عليه وآله وسلم، من جهة النبوة. كل هذه الآيات الثلاث، وردت بمعنى المـُقسَم به؛ والآن سنتعرف على المـُقسَم عليه: - يقول الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]: والإنسان هنا بمعنى الحقيقة المحمدية؛ وأحسن تقويم هو الصورة الإلهية التي خُلقت عليها تلك الحقيقة، لأنه لا أحسن ولا أكمل من الصورة الإلهية. - ثم يقول الله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 5]: والرد أسفل سافلين، هو الإنزال إلى أقصى ما يمكن النزول إليه؛ وهو متعلق بالإنسان بمعنييْن: الثاني: وهو الإنسان بالمعنى الجزئي، الذي يشمل كل من كان من ذرية آدم عليه السلام. وهؤلاء، منهم من اتبع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، إما مباشرة كما هو شأن أفراد أمته الخاصة، وإما بصفة غير مباشرة، كما هو شأن أتباع الرسل السابقين، من أمته العامة. والناس بهذا المعنى، منهم من آمن وتحقق بالمرتبة الأولى؛ ومنهم من ترقى إلى المرتبة الثانية؛ ومنهم من ترقى إلى الثالثة. وهذا الكمال الديني، المتحقق بالمرتبة الثالثة، لا يكون إلا للأتباع من هذه الأمة خاصة. وأما من لم يتبعوا رسولا، فهم منسلخون عن مرتبة الآدمية الأصلية، ومحسوبون من جملة الحيوانات في الحقيقة. وهؤلاء هم أهل السفل الذين يُنسبون إليه حقيقة. وهم يعيشون في عالم الطبيعة عيشة الدواب، ولا يُدركون من المـُتع إلا ما يُدركه الدواب والبهائم، حقيقة لا مجازا. وفي هذا الصنف من الناس، يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد: 12]؛ ويقول سبحانه: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]. وهذا، لأن كثيرا من الناس يغترون بالصورة الآدمية الترابية، ويتوهمون أن كل من هم عليها، لا بد أن يشتركوا في صفات الباطن (العقل)، كما هم مشتركون في صفات الظاهر. وهذا جهل محض، يمحوه الله سبحانه بدلالته على أن مِن بني آدم من هم آدميون، ومنهم من هم بهائم وحيوانات، رغم الصورة. ومن ينظر إلى الفلاسفة الماديين، وإلى عبدة الغرائز، من أهل زماننا، والذين قد يغتر بضلالاتهم، من يسمع كلاما لهم يسوقونه في تراكيب وعبارات خادعة؛ فإنه سيعرف صنف الحيوانات الآدميين بسهولة. ومما تنبغي الإشارة إليه، هو أن هذه الطبقة، لم تبلغ في العدد ما بلغته في هذه الأزمنة؛ ولا وصلت من المكانة الاجتماعية والسياسية (السلطة والنفوذ)، إلى مثل ما بلغته فيها؛ وبالتالي فإن أتباعهم سيكثرون، وإن دعوتهم إلى المكوث في الحضيض والرسوخ فيه ستبلغ من الانتشار ومن التمكين في وسائل الإعلام، ما يجعلها تُغطي على الدعوة النبوية كثيرا. بل إن الأمر قد بلغ بالأمة الإسلامية -بله غيرها- أن صارت في عمومها خاضعة للدعوة الدجالية، التي هي خلاصة دعوة الشيطان؛ وصار من كان منها على إسلام أو بعض إسلام، يخجل من إظهار إيمانه بين الناس؛ ويتخفى بالطاعة، إن كان يجد نفسه مع من يُخالفه المـُنطلق والرأي. ولا نرى حال الناس اليوم، إلا كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَسْتَخْفِي الْمُؤْمِنُ فِيهِمْ، كَمَا يَسْتَخْفِي الْمُنَافِقُ فِيكُمُ الْيَوْمَ!»[8]. ثم يقول الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين: 6]: واستثناء الذين آمنوا من التثبيت في مقام أسفل سافلين، هو دلالة على طريق الصعود منه. ولا يكون الصعود -بحسب التوجيه الإلهي- إلا بالإيمان والعمل الصالح. وهذا الطريق، هو الذي دل عليه الرسل عليهم السلام، بالتتابع عبر الأزمنة. ولا يكون إيمان المؤمن معتبرا، حتى يكون فيه متّبعا لرسول من الرسل المأذونين من قِبل الله، ويكون ذلك داخل الزمان التشريعي للرسول المخصوص. وهذا حتى نُخرج معنى الإيمان، عن مـُطلق التصديق الذي تُعطيه اللغة؛ وحتى نستثني منه من يزعمون أنهم متبعون لرسول خارج زمانه التشريعي؛ كما هو حال اليهود والنصارى في زماننا. وأما الزمان التشريعي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيبتدئ من البعثة الشريفة، ولا ينتهي إلا مع قيام الساعة. ولهذا، لم يوجد نبيٌّ بينه صلى الله عليه وآله وسلم، وبين الساعة؛ ولهذا أيضا، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ! قَالَ: وَضَمَّ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى.»[9]؛ والمعنى أنه ليس بيني وبينها أحد. لهذا، فإن كل من لا يكون متبعا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم في أزمنتنا، فإنه لا يكون مؤمنا بالمعنى الشرعي المعتبر. ثم إن طريق الإيمان، لا يكون منفصلا عن العمل الصالح، الذي هو الموافقة للشريعة أبدا. وأما ما تُحسّنه العقول لأصحابها، ويظنون معه أنه معتبر؛ فإنه لا يدخل ضمن ما نقول. هذا مع ملاحظتنا لطغيان الفكر الدجالي على أمتنا؛ حتى عادت تنساق وراء التعريفات العالمية للإيمان وللعمل الصالح معا. وهذا ما يخرج بها من طريق الهدى إلى الضلال، بحسب ما تعتقده من ذلك، وبحسب ما تعمل به. والمؤسف حقا، هو أن نجد المؤسسات الفقهية المرموقة، تخضع هي ذاتها، للتوجيه الدجالي؛ ونجد الفقهاء المترسمين والمتحكَّم فيهم عن طريق الرواتب، سائرين على نهج الضلال؛ سواء علموا أم لم يعلموا. وهذا هو ما يُصعّب على العامة من الناس تبيُّن الطريق... وأما معنى قوله سبحانه: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}، الذي هو الأجر غير المنقوص؛ فهو جزاء المؤمنين في ترقيهم داخل الدين، بحسب كل مرتبة: فالمسلمون إن ماتوا على ذلك، ورجحت حسناتهم بسيئاتهم، فلهم ربض الجنة (أسفلها)؛ والمؤمنون لهم الغرفات فيها بحسب مقاماتهم الإيمانية؛ وأما الواصلون من المحسنين، فهم أهل الفردوس الأعلى، وهم حقيقة أصحاب الأجر غير الممنون بالمعنى التام. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَهُوَ بَاطِلٌ، بُنِيَ لَهُ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ؛ وَمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَهُوَ مُحِقٌّ، بُنِيَ لَهُ فِي وَسَطِهَا؛ وَمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ بُنِيَ لَهُ فِي أَعْلَاهَا.»[10]. وليلاحظ القارئ، أن ترك الكذب هو من أبرز أعمال مرتبة الإسلام؛ وأن ترك الجدال هو من أبرز أعمال مرتبة الإيمان، وأن حسن الخلق (بالمعنى الخاص) هو من أبرز أعمال مرتبة الإحسان. ولسنا هنا في معرض التفصيل، وإلا كنا دللنا على حكم جليلة مضمّنة في الحديث. - ثم يقول تعالى: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} [التين: 7]: ليدل سبحانه على أن الدين هو ما قرّب إليه سبحانه، وبالتالي فهو ما يوصل إليه؛ يقول سبحانه في موضع آخر: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى . وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى . ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى . وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 39 - 42]؛ أي أن منتهى صعود العبد، في طريق الدين، يكون إلى الله؛ ولقد سبق أن قلنا في مواضع من هذا الكتاب، إن عبارة "ربك" عندما يكون مخاطبا بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنها تعني الاسم "الله"، لا غيره. وهكذا تكون للدين غاية، هي الله؛ من لم يصل إليها، فما أنهى سلوكه (سيره) الديني. ومِن هنا ينبغي للناس أن يتنبهوا إلى معنى الدين، الذي هو الطريق؛ وأن يعودوا عن تصوراتهم الخاطئة، التي تجعل الدين محل إقامة، على أعمال مخصوصة وعلى أحوال غير متطورة؛ لأن هذا المعنى المحرّف، يجعل من الدين مانعا عن الوصول، بل عن السلوك من الأصل. وهكذا، يصير الدين، بعكس ما جُعل له، مرسخا للناس في السّفل؛ وهذا مما يأباه الفقه الصحيح، وتمجه العقول السليمة. ولا بأس هنا من أن نذكّر بأن الدين الحق، غير متعدد؛ بعكس ما صار يروّج له، ضمن الخطاب الدجاليّ العالميّ. ونعني من هذا، أن اليهودية ليست دينا، ولا النصرانية أيضا دين؛ لأنهما يندرجان ضمن دين الكفر المقابل لدين الإسلام الممتد في الزمان، من آدم عليه السلام، وإلى قيام الساعة. وهكذا يكون في العالم كله دينان، لا ثالث لهما، وهما: الإسلام، والكفر. وهذا المعنى هو الذي يشير الله تعالى إليه بقوله سبحانه: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ . لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ . وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ . وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 1 - 6]؛ ولهذا أجمع علماء الإسلام على أن الكفر ملة واحدة، لا نرثهم ولا يرثوننا. ثم يختم الله سورة التين بقوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8]، ليؤكد سبحانه، بأن الدين مِن وضع الله نفسه، وبإذن خاص منه لرسله، ليفتح لعباده طريقا يعرجون منه إليه؛ رغم أن العقول قد تُحيل ذلك، إما جهلا بالله كالفلاسفة، وإما تنزيها مفرطا (وهو من الجهل أيضا)، كحال أهل العقائد التنزيهية من معتزلة أو غيرهم... وبدل أن ينحجب الناس ببحث حقيقة الدين، وكيف يكون طريقا، فعليهم أن يؤمنوا بما أخبرهم به ربهم، ليبدأوا السير بالتقرب نحوه سبحانه؛ ليجدوا الإجابات في أثناء ترقيهم، فيحمدوا الله على نعمته وتوفيقه. وخلاصة قولنا، هي أن الدين لا يُعرف من وصفه، وإنما بسلوكه!... وبما أن الدين عروج، فلا بأس من أن نتناول هنا مسألة عروج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، الذي ذكره سبحانه في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1]، وبيّن تفاصيله في قوله تعالى: {فَاسْتَوَى . وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى . ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى . فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى . فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى . مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى . أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى . وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى . عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى . عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى . إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى . مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى . لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 6 - 18]. وقبل أن نواصل الكلام عن العروج النبوي، لا بد من أن نذكر حُكمه الشرعي بالنظر إلى كل عبد مسلم، فنقول: إن العروج من جهةٍ هو واجب، لأنه متعلّق بالدين وبالحكمة من جعْله. وذلك لأن الدين فرض عام تندرج ضمنه جميع الفرائض التفصيلية، وجميع السنن والمستحبّات؛ وهو سير صعودي إلى الله، به يتحقق معنى العروج. وأما من الجهة الثانية، فهو سنة نبوية؛ ينبغي على العبد الاقتداء فيها بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم خطوة خطوة، لئلا يزعم أهل دين الكفر أنهم على دين (عروج). ونعني من هذا، أن السالك على طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يجد في سلوكه براهين اقتدائه؛ ولا يكتفي بما يعلمه من كلام غيره. ومن لم يجد ذلك، فلْيعد إلى نفسه من أجل مراجعة نهجه؛ لأنه يكون حتما على طريق مخالف. ونحن بحمد الله، قد وجدنا براهين الاقتداء، بمجرد ذكرنا لورد شيخنا، ومن أول مرة. ونعني من هذا، أننا ميّزنا -بحمد الله- من أول قدم، بين ما كنا عليه من إسلام أجوف، والإسلام الصحيح الذي يكون للعباد فيه من الله برهان. كل هذا، لا بالكلام والإقناع الديماغوجي، الذي وجدنا عليه جُل الجماعات الإسلامية، الحركية منها وغير الحركية، والذي يعمل عليه أيضا كثير من المتصوفة؛ ولكن بالذوق. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ، مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا!»[11]. والمعنى هو أنه لا ذوق للإيمان بالمعنى الاصطلاحي الذي عليه الصوفية، إلا باتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم... (يُتبع...) [1] . أخرجه أبو داود، والحاكم في المستدرك، عن أبي هريرة رضي الله عنه. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.