اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2020/09/21 الحوار الغائب (ج3) -6- حقيقة القرآن سبق لنا أن ذكرنا أن القرآن صورة للحقيقة المحمدية، وحتى نأتي على ذكر مختلف الصور، فإننا نقول: 1. لقد سبق أن بيّنّا في الجزءيْن السابقين من الكتاب، أن الحقيقة المحمدية نفسها هي صورة الله، التي جاء ذكرها في حديث: «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ.»[1]. وهذا يعني أن صورة آدم هي نسخة عن الصورة الإلهية، التي لم يتمكن علماء الدين من تبيّنها. وهذه المرتبة هي مرتبة "الإنسان"، التي يقول الله عنها: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1]؛ وهذا الإنسان يُسمّى في عرف العلماء بالله إنسانا كاملا، من أجل تمييزه عن النسخ الإنسانية الأخرى. 2. فإن كانت صورة آدم نسخة، فهي إحدى الصور المرادة لنا؛ لكنها لا تأتي في المرتبة الثانية، بل في المرتبة الثالثة، بعد الصورة المحمدية المعلومة للصحابة. لكن يُمكن أن نعتبر الصورة المحمدية والصورة الآدمية صورة واحدة، ما دامتا لنشأة واحدة. وهذا يجعل الصورة الآدمية المحمدية ثانية في المرتبة، بعد الصورة الإلهية. 3. وتبقى لنا صورة ثالثة هي صورة الكون وهو المشار إليه في القرآن بقوله تعالى: {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور: 3]؛ لأن الكون أيضا مخلوق على الصورة الإلهية؛ لكن لا تكتمل صورته إلا بوجود الآدمي فيه. وبسبب المضاهاة بين الكون والإنسان، قيل عن الكون إنسان أكبر، وقيل عن الإنسان عالم (كون) أصغر. وهذه الصور الثلاث، كلها عينية؛ فهي ذوات لمخلوقات لله. ومعنى الصورة بالنظر إلى هذه المخلوقات، هو الذات المخلوقة، لا الصورة كما هي في العرف. ونعني من هذا، أن الصورة ثلاثية الأبعاد، وليست ثنائية، كما قد يتوهم بعض الناس. 4. وتبقى صورة أخرى لها وجهان: وهي الصورة القرآنية، في شقيها: الملفوظ والمسطور. وإلى القرآن المسطور (المصحف)، الإشارة بقوله تعالى: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور: 2]. وأما وصف القرآن بالكتاب، فهو للدلالة على لفظه وعلى رقمه جميعا؛ لا كما قد يُتوهّم من مناسبة الكتابة للرقم وحده. وهذا، لأن كلام الله الملفوظ، والذي خرج به النَّفَسُ الرحماني من باطن الذات إلى ظاهرها، هو الكون كله من جهة الخلق. ومن هنا سُميت المخلوقات كلمات، فقال الله عن عيسى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [النساء: 171]؛ وأما في التعليم النبوي، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه، فقال: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَقِيتُ مِنْ عَقْرَبٍ لَدَغَتْنِي الْبَارِحَةَ!" قَالَ: «أَمَا لَوْ قُلْتَ حِينَ أَمْسَيْتَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ تَضُرَّكَ.»"[2]. وكلمات الله التامات مخلوقات لله، تحمي بإذن الله من شر ما خلق (وهي مخلوقات أيضا وكلمات). وهكذا يكون القرآن بتلاوة الرحمن مخلوقات في جميع المراتب. وتبقى التلاوة النبوية لفظية صوتية، على غرار التلاوة الجبريلية. وكل هذه نسخ قرآنية معتبرة. وإن نحن أتينا استهلال سورة الطور من جهة الباطن، فإننا سنجده هكذا: {وَالطُّورِ . وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ . فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ . وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ . وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ . وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 1 - 6]؛ ومعنى الطور: قلب الآدمي الذي ينزل عليه القرآن؛ وكتاب مسطور: وهو المصحف؛ في رق منشور: وهو الكون، والمصحف جزء منه؛ والبيت المعمور: وهو محل القرآن من السماء، وهو في مقابل الكعبة التي هي نسخة قرآنية أرضية؛ لكن هذيْن البيْتيْن منطويان في الرق المنشور؛ والسقف المرفوع: وهو الصورة القرآنية العليا، وهي الحقيقة المحمدية (صورة الله)؛ والبحر المسجور؛ وهي صفة للقرآن حيث كان؛ ومعنى المسجور المملوء. ومعنى امتلاء القرآن، هو عدم تناهي معانيه؛ لأنها لو كانت متناهية، ما كان يُخصّ من بين الكتب بالامتلاء. وهذه الصفة هي معنى الإعجاز القرآني، الذي لا يكاد يشعر به المفسرون. ونعني أن آيات القرآن متموجة بالمعاني، يعلم منها التالي لها في كل مرة وجها جديدا. هكذا إلى ما لا نهاية!... وقد أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا المعنى -وإن كانت الأفهام تُخطئه في الغالب- بقوله عليه السلام: «أَلَا إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ، فَقُلْتُ: مَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ (السؤال من علي عليه السلام) قَالَ: كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا كَانَ قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، وَهُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، هُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ حَتَّى قَالُوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبًا . يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ}، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هَدَى إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.». "خُذْهَا إِلَيْكَ يَا أَعْوَر! (كلام علي كان للحارث بن عبد الله، وهو تابعي وأعور.)"[3]. والشاهد عندنا: «وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ»؛ وهكذا تكون تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم له، وللورثة حظّ من ذلك؛ كلٌّ على قدره. ولو صدق الناس بهذه الخصيصة، لكفت أن تكون وحدها إعجازا، كما سبق أن ذكرنا؛ والسبب في عدم تصديقهم، هو أخذ آيات القرآن، على الوجه الذي يُؤخذ به سائر الكلام، أي أحديّ الوجه. ولهذا نجد المفسرين إن هم أدركوا معنى من معاني الآية، جعلوه تفسيرا لها؛ خصوصا إن ورد المعنى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرة، أو ورد عن أحد الصحابة، أو عن أحد العلماء المعتبرين. وقد يجعلون تفسير الآية بآية أخرى، إذا اتحد الوجهان من الآيتيْن. كل هذا، لا يبلغ ما أشرنا إليه من عدم تناهي معاني القرآن؛ وهذا الوجه من القرآن هو وجهه المطلق، رغم تموُّجه بالمعاني المقيّدة. وهو من أعجب صور القرآن!... وهكذا فإن القرآن المـُنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هو صورته لا غيرها؛ لأن مرآة القرآن هي التي سيعلم منها النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه (حقيقته)، كما نعلم نحن حقائقنا منه صلى الله عليه وآله وسلم؛ منذ التلاوة الجبريلية الأولى، وعند كل تلاوة نبوية؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان في كل تلاوة، يزداد علما بالآية المتلوة. وإلى هذا المعنى أشار صلى الله عليه وآله وسلم، في قوله: «إِذَا أَتَى عَلَيَّ يَوْمٌ لا أَزْدَادُ فِيهِ عِلْمًا، فَلا بُورِكَ لِي فِي طُلُوعِ الشَّمْسِ ذَلِكَ الْيَوْمِ.»[4]. ولقد عجبنا لتصنيف هذا الحديث في الموضوعات، مع كونه من أصحها معنى من جهة الكشف. وذلك لأن أسرار القرآن لا نهاية لها كما أسلفنا، ولأن حقيقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا يُحاط بها؛ فكان لا بد من أن يطابق القرآن القرآنَ في الكرم المعنوي، الذي ذكّرَنا الله بصفته من أولى آيات نزلت منه، بقوله تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق: 3]؛ وهذا يعني أن التلاوة الإلهية للقرآن، لا نهاية لها، وهي دهرية. وإن للكمّل من الورثة المحمديين من كل زمن، صورة قرآنية (أو أكثر)، تكون نسخة عن النسخة النبوية المحمدية الآدمية، يكون بها ذلك الولي قرآنا هو أيضا؛ وتكون معاملته من قِبل العالِمين معاملة القرآن. ومن علامات من تكون هذه صفته، أن يرى نفسه، أو يُرى من قبل غيره، تسري الآيات القرآنية في عروقه وأعضاء بدنه. ولقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه المرتبة من الوارثين، عندما قال عليه السلام: «إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ»، قَالُوا: "يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟" قَالَ: «هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ.»[5]. ولكن علماء الرسوم، نزّلوا معنى الحديث على حفظة القرآن والدارسين له؛ وبذلك انحجبوا عن المعنى الأصلي للحديث. وهذا يعيدنا مرة أخرى إلى الصورة المحمدية القرآنية، التي كان ينزل عليها القرآن بالمطابقة. ومن هذا النزول المطابق، كان يجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعراضا في بدنه الشريف: فمرة يجد في سمعه الشريف مثل صلصلة الجرس، ومرة يتعرق من الإجهاد وهو في اليوم شديد البرودة، ومرة يجد ثقلا... وقد أخبرت عائشة عليها السلام، عن بعض أحواله عند نزول الوحي، فقالت: "أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، سَأَل رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ؛ فَيُفْصَمُ عَنِّي، وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ. وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ.» قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ، وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا!"[6]. وأخبر زيد بن ثابت رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْلَى عَلَيْهِ {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95]، قَالَ: "فَجَاءَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهُوَ يُمِلُّهَا عَلَيَّ"، فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ لَجَاهَدْتُ"؛ وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى (رضي الله عنه)؛ "فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي، فَثَقُلَتْ عَلَيَّ حَتَّى خِفْتُ أَنَّ تَرُضَّ فَخِذِي؛ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "{غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}".[7]. وإن للورثة أيضا رشحات من حاله الشريف، عندما تتنزل عليهم معاني القرآن؛ وذلك لأن القرآن لم ينقطع نزوله من جهة المعاني، بل انقطع من جهة اللفظ فحسب. وهذا أمر يجهله جل علماء الإسلام، نسأل الله لهم الصلاح له. وإن جبريل عليه السلام، ما زال موكلا بمعاني القرآن، يلقيها على من طهر من الأدناس، كما أخبر سبحانه بقوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ . فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ . لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ . تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة: 77 - 80]. ومن كان قرآني المشهد، فلا شك أنه بأخذه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكون آخذا عن الله، والعكس. ومن هذا الباب، كان الورثة يخبرون عن أخذهم عن الحق، أو عن مخاطبتهم له، أو مخاطبته سبحانه لهم. وهذا المعنى من القرآن، لا تطيقه عقول العوام من المؤمنين، ويتوهمون أن الحق يضيع منهم بذلك؛ مع أنهم لم يعرفوه. ولو أنهم أقروا في أنفسهم أنهم لا يعرفون الحق (حق معرفته)، لبقوا على استعداد قبول العلم الصحيح إن هو ورد على أسماعهم. وبما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرآن، فإننا سنشير إلى المقابلة التي بينه وبين المصحف، حتى يستعين القارئ بذلك على ما ذكرناه قبلا: 5. فمن ذلك: كونه قرآنا بمعنى "الجامع"، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم يجمع في ذاته الشريفة جميع الحقائق الحقية والخَلقية. وهو من هذا الوجه الكتاب المكنون والكتاب المـُبين، بمعنييْن مختلفيْن؛ ونعني بمعنى مرتبة الأحدية ومعنى مرتبة الواحدية. 6. ومن ذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم مخصوص بأم الكتاب، من كون حقيقته العليا هي القرآن في مرتبته الأولى والعليا. والمناسب لها من المصحف سورة "الفاتحة". وسميت فاتحة لأنها أول تعيُّن للذات بالصورة، وأول تجلّ للصفات في الذات؛ وبها افتتح الله كتابه المخلوق، الذي أُمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقراءته، في قول الله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]. وذِكر فعل "خلقَ" عند الأمر بالقراءة، يعني أن الكتاب هنا الكون (الرق المنشور). وهذه القراءة للكون، هي القراءة المخصوصة بالأميين. ونعني أن الوارث منا، لا يعلمها من جهة كونه قارئا بحسب العادة، إن كان من أهل ذلك؛ ولكن ينالها من جهة أميته، ليستمد بها من أمية النبي صلى الله عليه وآله وسلم المـُقدرة له على قراءة الكون. وهذا مما ينبغي أن يؤمن العلماء به، إن لم يكونوا من أهله؛ لأنه صنف من القراءة اختُصَّ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مع إغناء الله له به عن القراءة المكتسبة. ونعني من هذا، أن قراءة الأميين أولى بالاعتبار، إن كان المرء على نور في علمه. وعلى أهل علم القراءات، أن يعلموا أن جميع القراءات مندرجة في قراءة الأمي الوارث، من جهة المعنى. ونعني من هذا، أن الاختلاف بين القراءات معنوي، قبل أن يكون لفظيا؛ وهذا الأصل، مما ينبغي أن يُثبت لدى علماء القراءات ... ولقد سميت الفاتحة أيضا "القرآن العظيم"؛ يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87]. وَعَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، قَالَ: "كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ، فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أُجِبْهُ؛ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي،" فَقَالَ: «أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}؟!» [الأنفال: 24]، ثُمَّ قَالَ لِي: «لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ.». "ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، قُلْتُ لَهُ: أَلَمْ تَقُلْ لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ؟" قَالَ: «{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ.».[8]. ومعنى صفة العظمة التي للفاتحة، هو كونها ذاتا؛ لأن العظمة وصف ذاتي. ومن هنا نفهم معنى "الفرقان" من المصحف، في مقابل القرآن الذي هو الفاتحة؛ وهو كل السور مما عاداها؛ لأنها كلها تفاصيل لها فحسب. ومن هنا كان أهل الله يقولون: كل القرآن مجموع في الفاتحة، والفاتحة مجموعة في البسملة، والبسملة مجموعة في النقطة من الباء. ومعنى الباء عند أهل الله، مرتبة الواحدية (الحقيقة المحمدية)؛ لأن الألف هو مرتبة الأحدية. ولهما في الأعداد الواحد والاثنان: فالأول هو الحق، والثاني هو الحقيقة المحمدية. وعن هاتيْن الحضرتيْن كان الكون (الولد)؛ بعد تعلق صفة الإرادة منهما. وهذا هو ما سماه الشيخ الأكبر بـ "النكاح الإلهي". وعن هذا النكاح، يظهر النكاح الروحاني، ثم النكاح الطبيعي. وهذا يعني أن كل الصور الطبيعية هي أبناء للآباء الروحانيين والأمهات السفليات. وهذا التوليد في عالم الطبيعة في الدنيا والآخرة، لا نهاية له؛ نعني في الآخرة خصوصا. ومن هذا الباب قيل: "من أشبه أباه فما ظلم."؛ ومنه أيضا دخل معنى نسبة الأبوة إلى الله، مع أنها لا تصح؛ ودخل معنى نسبة بعض الخلق إلى الله بالبنوة مع أنها لا تصح. وقولنا لا تصح؛ هو لأن الأبوة والبنوة في عالم الطبيعة لا تكونان إلا عن السماوات والأرض، وعن حركة الأفلاك!... أما ما سماه الشيخ الأكبر نكاحا إلهيا، فهو معان علوية، مجهولة للعلماء، بله غيرهم من الناس. فلا يخلطنّ أحد بين المعاني، لمجرد تشابه الألفاظ؛ فإننا قد نبهنا كثيرا، إلى سبق المعاني على الألفاظ، وعلى تنزه بعضها عنها. فليُعتبر هذا، فإنه نافع!... وأما لماذا سميت الفاتحة "السبع المثاني"، فذلك لمعنييْن: الأول: أن الصفات السبع التي هي أمهات الصفات، والتي ظهرت في مستوى الحقيقة المحمدية، نُسبت مرة إلى الحق، ومرة إلى الخلق؛ فكانت مثاني بهذا المعنى. 7. ومن أدلة اختصاصه صلى الله عليه وآله وسلم بأم الكتاب، التي هي القرآن في علوه، وقبل التنزيل: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ مِثْلَ أُمِّ الْقُرْآنِ؛ وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَهِيَ مَقْسُومَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ.»[9]. ويظهر من هذا الحديث جليّا، سبب تسميتها بالسبع المثاني، وهو قسمتها بين العبد والرب؛ فهي مثنّاة الحقيقة. وليُتأمل قول النبي من جهة حقه: «وَهِيَ مَقْسُومَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ.»، ليُعلم ما ندل عليه من جهة الحقائق. وأما لمَ لمْ يُنزِل الله مثلها في التوراة والإنجيل، فهو لأن موسى وعيسى لا يُطيقانها. وقد أخبرنا أنهما عليهما السلام، من حقائقها الجزئية فحسب. وعندما يُخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بذلك، فلا ينبغي لأحد أن يُسيء به الظن، أو يظن أن ذلك من باب التفاخر، وحاشاه؛ بل هو من أجْل هداية الناس إلى الحق، كما هو في نفسه. فمن صدقه صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه ينفتح له بتصديقه باب الرجاء في تحصيل علم ذلك؛ وإلا فقد أغلق العبد الباب دون نفسه بنفسه، من حيث لا يدري!... وهذا باب عظيم من العلم، من علمه، لا يحمد إلا نفسه ولا يذم إلا نفسه. ولننظر في معنى قسمة الصلاة (الفاتحة) بين الرب وعبده، من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ: فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَقَالَ: مَرَّةً فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ.}، قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ.»[10]. وعلينا أن نعلم أن العبد الذي قسم الله الصلاة بينه وبينه، هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بالأصالة؛ وأما العباد المقتدون في الصلاة، فلكل واحد نصيب منها بحسبه؛ فمنهم من هو على قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهة الباطن، فيكون له نصيب من معنى القسمة؛ ومنهم الغافلون الذين لا نصيب لهم من هذا الوجه. وتعود قسمة الصلاة هذه، إلى انقسام الحقيقة المحمدية إلى حق وإلى خلق: فالحق هو الذي يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 2 - 4]، والبرزخ بين الحق والخلق هو القائل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]؛ والخلق (العبد)، هو القائل: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7]؛ كل هذا من حقيقة جامعة واحدة. ومعنى هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل: هو أن السؤال يكون من حقيقة العبد، وأن الله مجيب لعبده من الأسماء المخصوصة، والتي على رأسها: الله، رب العالمين، الرحمن، الرحيم، ملك (مالك) يوم الدين؛ من حقيقة الحق. وبما أن كل العباد سائلون لربهم باستعداداتهم، فإن الله يُجيب الجميع بما يُناسبهم. فمن كان برزخا من البرازخ الجزئية (وهم الربانيون)، فإنه يكون على الجمع في صلاته، حيث تكون صلاته مقسومة بين حقه وبين خلقه. وأما من سأل الهداية على الصراط المستقيم، الذي يكون فيه العبد مقتديا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، على وجه الإيمان؛ فإن الله سيستجيب له، ويهديه إلى الجنة. وأما المغضوب عليهم والضالون من العباد، فإنهم يسألون باستعداداتهم الغضب والضلال، لا غير ذلك. وعلامة ذلك، أنهم لا يتبعون النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا بالحال كما هو شأن الأولياء، ولا بالإيمان، كما هي حال المؤمنين. ولقد وجدنا في واقعة لنا، معنى قسمة الصلاة بين الحق وبيني، وكنت أنا المخبر بها له، وكان هو ناظرا إليّ من غير أن يتكلم؛ بعكس الصورة التي وردت في الحديث، وكان استماعه لي كالمقرّ لما أقول. وهذا الانعكاس وقع لأن الكلام كان صادرا من صورة الحق لا منه (أي من الحقيقة المحمدية)؛ لأننا نحن الورثة لا نعلم الحق من الحق، ولكن من الحقيقة المحمدية. وعلم الحق من الحق، مخصوص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده. وهذا، هو ما يجعل الأنبياء ممن سواه عليه السلام، ويجعل الورثة، يعجزون لا عن معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحق، لأن هذا جلي؛ بل يجعلهم يعجزون عن تصور معرفته صلى الله عليه وآله وسلم بالحق. وكل من تحقق له هذا العلم، يجد نفسه، جاهلا مع كونه عالما بالله. وهذا مقام عجيب، لا يكون إلا للورثة وللأنبياء. وهذا هو المقام الذي عندما نزله موسى عليه السلام، قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143]؛ أي اجعلني أعرفك معرفة مباشرة مني إليك؛ وهذا طمع العبد في الاستزادة من الخير؛ فأجابه الحق: {قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]. والمعنى هو أن تلك الرؤية مخصوصة بالعبد المخصوص محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا يعني أن معرفة موسى بالحق، تأتيه من معرفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم به؛ فهو موسوط، مع كونه واسطة لقومه، عليه السلام. ودلالة الله لموسى على الجبل عند التجلي، هي دلالته على كونه موسوطا، كما هو الجبل موسوط. ونعني أن الجبل ثابت، ما دام النبي حائلا بينه وبين الحق بحقيقته؛ فإذا تجلى الحق للجبل من دون واسطة محمد صلى الله عليه وآله وسلم (وإن كان التجلي منه) صار دكا. ومعنى قول الله: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143]؛ أي أعدمه. وذلك لأن حقيقة المخلوق لا تقوم لنور الحق، كما أخبرنا. وبقاء أعيان الأكوان في الدنيا والبرزخ والآخرة، يدل على أنها محجوبة عن نور الحق؛ وبانحجابها يكون ثباتها. وأما العلماء بالله من الأنبياء والورثة، فثباتهم بعد العلم، يأتيهم من ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فضلا منه. ولولا هذا، لكان كل عالِم منهم، يعود إلى العدم عند علمه بالحق. ولما كانت هذه الحقيقة أصلا في العلم بالله، جعلها الله للأنبياء والورثة، حُكما لهم؛ مع ثبات أعيانهم. وهذا من أعجب الأمور!... ونعني أن العبد الكامل، يكون معدوما عند نفسه، كانعدام الجبل بعد التجلي؛ ومع ذلك فصورته باقية لكن بالحق لا بنفس العبد. ومن هنا كان الله يتصف بصفات العبد... والاختلاف في تعلق الكلام تارة بالحق وتارة بصورته، باب من علم التجلي، لا يعلمه إلا من كان من البرازخ، كما ذكرنا. وذلك لأن البرازخ تكون على أصل الحقيقة المحمدية، التي هي حق وخلق. ولو وجدنا فُسحة في الوقت، لدللنا من القرآن والسنة على ما يُبرز ما أشرنا إليه؛ فلعلنا نذكر ذلك مرة أخرى في موضع آخر. ووجدت لتلك الجمعية على الحق اتساعا، خارج المعلوم (بحسب ما دل عليه العلماء بالله)؛ بحيث لم يكن الكون كله فيها مقابلا إلا لموضع الكبد من ذاتنا. وبقي ما سوى ذلك من ذاتي، غير متعلق بالعالم، وخارجا عن إدراكه. وعندما نقول العالم هنا، فإنه لا يخرج عنه كل ما خلق الله من العوالم العلوية والسفلية. وعندها علمت أن علم الحق من الخلق، وإن كان حقا، فإنه لا يكون إلا بالمعنى الجزئي ولا بد. وهذا العلم لا يكون بالأصالة، إلا لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم. 8. قول ابن عباس رضي الله عنه: "بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ، سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ، فُتِحَ الْيَوْمَ، لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ؛ فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الأَرْضِ، لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ! فَسَلَّمَ، وَقَالَ: «أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ؛ لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ.»[11]. وبما أننا قد ذكرنا الحديث المبين لأسرار الفاتحة في الفقرة السابقة، فإنه يبقى علينا هنا، أن نتناول بقليل من التفصيل "خواتيم سورة البقرة". يقول الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ . لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 285، 286]: - أما قول الله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}: فهو يعرض لنيابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن العباد في عبوديتهم؛ ومن هذه النيابة، نيابته عن المؤمنين. وهذا يعني أن المؤمنين، يؤمنون بإيمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الذي يجدونه في أنفسهم، على قدرهم؛ لأنه وحده المتحقق بالإيمان بما أُنزل إليه من ربه الذي هو الحق. وهو متحقق به من حقيقته التي ظهر الحق بها لنفسه، قبل أن يخلق الخلق. ومن هنا يظهر أن من زعم أنه على الإيمان، ولم يكن على طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من دون أن يكون وارثا فإنه يكون كاذبا في دعواه. وأما إن قال قائل، فما حال الأمم السابقة، وهي لم تكن على الطريق المحمدي؟ فإننا نجيب: بل ما فتئنا نذكر نحن في كل مناسبة أن الرسل السابقين، ما كانوا إلا وجوها محمدية، نائبة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في زمانها. ولقد ذكرنا ذلك مفصلا عند كلامنا عن آية الميثاق. وبهذا، فإن المؤمنين الأولين كانوا مؤمنين بإيمان رسلهم، الذين كانوا مؤمنين بإيمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم. غير أن هذا الحكم، ينقطع بالبعثة المحمدية، وعند مقدم الأصل إلى العالم؛ ومن لا يؤمن بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ليكون مؤمنا بإيمانه، فإنه لن يجد مددا إيمانيا أبدا، وإن زعم ما زعم. وعطف المؤمنين على الرسول في الآية، هو للدلالة على ما ذكرنا؛ حتى لا يغتر أحد منهم، ويظن أن إيمانه من نفسه؛ وهيهات!... ولقد ذقنا هذا الأمر في أثناء سلوكنا، عندما قطع الله عنا الإيمان النبوي، ليعرفنا بالحقيقة؛ فصرت أبحث عن الإيمان في نفسي فلا أجد له أثرا؛ حتى صرت أغبط عوام المسلمين على ما هم عليه من إيمان مجمل ضعيف. ولقد بقيت على هذه الحال أياما، ثم منّ الله عليّ بعودة الإيمان؛ فعلمت ذوقا، أن إيماني ليس مني بل هو من الله "المؤمن". ويفصل الله تعالى من فضله على العباد، متعلق الإيمان من مـُجمل قوله: {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ}، بقوله سبحانه: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}. وهكذا نعلم أن ما أُنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ربه، وما هو مناط الإيمان، هو: بـ{اللهِ}: ومعنى إنزال الله على النبي من ربه الذي هو الله ذاته تعالى، هو إلباسه لباس الخلافة الإلهية الكبرى؛ التي لم تكن خلافة آدم فمن سواه إلا خلافة عنها؛ فهو إنزال للاسم. ومعنى تنصيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم خليفة عن الله، هو ظهوره بكل الأسماء الإلهية في كل المراتب الوجودية، بالأصالة. وبهذه الخلافة، يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم منتهى عبادة كل العابدين من هذا الوجه، كما كان العابدَ بعبادة كل العابدين من الوجه الآخر، الذي ذكرناه سابقا. ولا يرث هذه الخلافة عنه صلى الله عليه وآله وسلم في كل زمان إلا واحد؛ لأن هذه المرتبة لا تقبل التعدد. ونعني من هذا الكلام، أن الإيمان بغوث الزمان، هو من الإيمان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، الذي هو من الإيمان بالله. ومن لم يكن مؤمنا بمرتبة الغوث (الخلافة)، فإنه يكون ناقص الإيمان ولا بد. وقد نتجت عن هذا النقص، آفات؛ لدى الأمة ولدى الأفراد، سنذكرها في حينها بإذن الله. {وَمَلَائِكَتِهِ}: والملائكة هم وُسطاء الله، الخادمون للأسماء الإلهية، العاملون وفق معانيها في العالم. ومن لم يكن له إيمان بالملائكة، فإنه لا يكون مؤمنا بخلافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهة التفصيل؛ وهذا إن كان مؤمنا بها من جهة الإجمال. وأما إن لم يكن مؤمنا بها من جهة الإجمال أيضا، فإنه يكون على إيمان ضعيف جدا بالله سبحانه نفسه. ولم نر علماء الدين يفطنون إلى هذا التلازم الإيماني، وبالتالي فإنهم لم يدلوا عليه العامة من المسلمين؛ وهكذا بقيت الأمة على أضعف أحوالها؛ إلا من كان مقتديا بالربانيين منها، فإنه يُنتشل من هذا الحضيض بأيسر السبُل. {وَكُتُبِهِ}: وإيمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجميع الكتب المنزلة من عند الله، هو من إيمانه بذاته الشريفة، التي هي الكتاب (بالمعنى العهدي)، وهي القرآن الجامع لسائر الكتب المنزلة. وأما إيمان المؤمنين بها، فهو من إيمانهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا من خارجه. لذلك فنحن مؤمنون بصحف إبراهيم وبالزبور والتوراة والإنجيل، من إيماننا بالقرآن لا من خارجه. فنحن الأمة الوحيدة التي لها إيمان مجمل، يكون مفصلا، من الوجه الآخر. وذلك لأن الأمم الأخرى، لم تكن إلا على إيمان مفصل. وهذا المعنى مما لا يُدركه علماء الدين، وبالتالي فهم لا يبيّنونه للناس أيضا. ولا ينبغي للعبد هنا، أن يُحجب باللغات التي أنزلت بها الكتب، كالكلدانية والآرامية والعبرية والعربية؛ ويظن تبعا لذلك أن القرآن المنزل بالعربية لن يكون متضمنا لها؛ فهذا مما تحتج به العقول المحجوبة. وذلك لأن الكتاب معنى من وراء اللغة المنزل بها، وإن كان لا يكون هو هو إلا باللغة المـُنزل بها؛ خصوصا فيما يعود إلى القرآن؛ لأننا لو جعلنا معناه لغويا كسائر الكلام، لفرغ من النور الذي فيه، وصار كلاما غير رباني. لذلك فاللغة العربية مدخل إلى القرآن، لكنها ليست حاصرة له في معانيها المعهودة. ولو كانت اللغة حاصرة للكلام الإلهي من جهة المعاني، ما علم أحد الله منه. ونقول هذا، لأن القرآن تجل إلهي، تجلى الله به لعباده. ومن لم يعرف الله من كلامه، فمن أين له بمعرفته بعدُ؟!... وقد دل على هذا المعنى الإمام الصادق عليه السلام، ليكون خليفة نبويا في هذا التعليم الرباني. وإن ظهور الكلام الرباني بلغة الناس المعهودة، هو كظهور الحق بصور المخلوقات في حضرة الإمكان؛ فلا يستغربن أحد هذا. ومن هنا يظهر لنا أن ترجمة القرآن إلى اللغات لا تصح من الأصل؛ ولا نقول بأنها لا تُترجم معانيه كلها كما يقول غيرنا. ويتفرع عن هذا الأصل حكم فرعي، وهو عدم جواز قراءة العجمي في صلاته، بغير العربية؛ فإن قرأ بغيرها بطلت صلاته. ومن هنا أيضا، وبالتالي، نعلم مكانة تدريس اللغة العربية للعرب ولغيرهم؛ بعكس ما يدل عليه الدجاليون في زماننا، حتى صرنا نعرف عربا لا صلة لهم بالعربية إلا بأقل القليل. فليعمل علماء الدين وعموم المسلمين من بعدهم، على إعادة مكانة الصدارة للغة العربية في معيشهم اليومي، ليكون ذلك طريقا إلى معرفتهم بمعاني القرآن. فَإِنَّهُ شَمْسُ فَضْلٍ هُمْ كَوَاكِبهَا يُظْهِرنَ أَنْوَارهَا لِلنَّاسِ فِي الظُّلَمِ والمعنى أن الأصل هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والفروع هم كل الرسل. وأما من كان على إيمان برسول من الرسل السابقين عليهم السلام، من دون أن يكون له إيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه يكون كمن يقر بوجود القمر، وينفي نور الشمس، الذي عنه كانت إضاءة القمر ليلا. وقد ذكرنا كيف يكون الإيمان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأمم السابقة، وكيف يكون في هذه الأمة؛ وأما من أدرك زمن البعثة المحمدية، ولم يؤمن به صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه يكون خارج دائرة الإيمان، مـُكتنَفٌ بالظلمة من جميع جهاته. والمؤمنون من هذه الأمة، وإن كانوا على إجمال فيه، بمجرد إيمانهم بنبيهم صلى الله عليه وآله وسلم، يجدون الإيمان بسائر الأنبياء في قلوبهم بداهة، من غير عناء؛ وهذا وحده كاف للدلالة على كل ما ذكرنا، دلالة ذوقية واقعية. وذلك لأنه لو لم يكن الأمر كذلك، لتطلب إيماننا بالرسل السابقين، أن نؤمن بهم إيمانا مفصلا، واحدا واحدا، وعن قصد؛ وهذا قد يتأتى بعضه؛ ولكنه لا يتأتى كله. وذلك لأن كثيرا من الأنبياء والرسل لا نعلمهم ولم نسمع بهم؛ فلم يبق إلا أن ننال الإيمان بهم من إيماننا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده، من حيث كونهم أبعاضا من حقيقته الشاملة. - {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}: هذا يجده المؤمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بداهة، كما أسلفنا. فإن وقع ووجد المسلم عدم الإيمان برسول من الرُّسُل السابقين، مع زعمه الإيمان بخاتمهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فليعلم أنه غير مؤمن بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، إيمانا صحيحا؛ وليراجع ما هو عليه من عقائد، وليسأل الله العودة به إلى حال الإيمان. - {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}: هذا قول لسان حال المؤمنين، ولا يكفي فيه اللسان وحده. وسمع المؤمنين وطاعتهم، هما للمظهر المواجه لهم من جهة إيمانهم؛ وليس إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذاته الشريفة. وكل من يفرق بين طاعة الله ورسوله، من جهة معنى الخلافة التي ذكرناها آنفا، ويحصر السمع والطاعة بحسب زعمه في معنى طاعة قول الله وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كان هذا المعنى صحيحا من الناحية الجزئية؛ فإنه يكون خارجا عن الصراط المستقيم، وملتحقا بصراط المغضوب عليهم، أو بالضالين. وهذا الخروج هو ما وقع فيه ابن تيمية، ومن تابعه في ضلالاته، لذلك كنا نحذّر منه كثيرا!... - {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}: وقد ورد الغفران منصوبا، لأنه مفعول به؛ والتقدير: "نسألك غفرانك.". والغفران يكون بمعنييْن أحدهما أصلي، والآخر فرعي. فالأول تُعطيه الحقيقة، وهو أن يغفر الله إمكان العبد بوجوده؛ ليُصبح واجبا بغيره، على ما يصطلح عليه المتكلمون. وهذه المرتبة، ينالها العبد عندما تسطع عليه شمس النبي صلى الله عليه وآله وسلم سطوعا كاملا، فيذهب بذلك ظله الناشئ بين وجود الحق وصورة نفسه العدمية. وبهذا المعنى يكون المصير إلى الله ذاتيا، عند تحقق العبد بربه. وهذا الصنف هو من قال الله فيهم في الحديث القدسي: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ؛ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ؛ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ؛ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا؛ وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ؛ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ. وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ، تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ.»[12]. فهذا الغفران الأول، هو الغفران للأولياء؛ وأما الغفران الثاني، فهو الغفران للمؤمنين؛ وهو غفران السيئات، ليصلحوا لسكنى الجنان. وبهذا يكون معنى مصيرهم إلى الله، المناسب لمرتبتهم، هو المـَعاد إليه من أجل المـُحاسبة، وسكنى دار الكرامة. - {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}: هو مما يتعلق بالمعنى السابق، الذي انقسم إلى ما يتعلق بالخواص من المؤمنين، وما يتعلق بعامتهم. والمعنى الذي ذكرناه للأولياء، هو مما لا يُطاق بالنظر إلى غيرهم من المؤمنين؛ ولو بقي الأمر على الأصل، لنال العذاب كل من لم يتحقق بالولاية. ولكن الله، الذي يُريد أن يرحم أكبر عدد من الناس، جعل المعنى الولائي ينطبق على العوام من المؤمنين، بحسب ما يُطيقون؛ ثم عدّ سبحانه ذلك لهم من موافقتهم للحق، فآجرهم عليه وجعل مثوبتهم بفضله الجنة. ولولا هذا التنزل من الله في رحمته، لما دخل الجنة إلا الأولياء. فما أرحمه سبحانه بعباده!... - {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}: أي للنفس ما كسبت من الحسنات، وعليها ما اكتسبت من السيئات؛ وهذا مخصوص بعوام المؤمنين لا بالأولياء. وذلك لأن الأولياء كاملي الولاية، مغفور لهم ما تقدم من ذنبهم وما تأخر، وراثة نبوية؛ فلم تبق عليهم مطالبة بلسان الشرع. أما العامة من المؤمنين، فنفوسهم باقية، وعليها يتوجه الحساب في الآخرة؛ وأما الميزان هناك، فهو صورة الشريعة. ومن رجحت حسناته من المؤمنين دخل الجنة بفضل الله ابتداء، ومن رجحت سيئاته دخل النار من أجل التطهير، ثم خرج بعد ذلك إلى الجنة، ولحق بإخوانه من المؤمنين. وهذا الذي ذكرناه، مـُلحق بحكم التزكية (التطهير من النفس) المأمور بها في مثل قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى . وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14، 15]. وهذا يعني أنه من لم يتزكّ من المؤمنين في دنياه، وبقي عليه من سيئاته، ما لا يليق بصفات المؤمنين في الأصل، فإنه يدخل النار لتزكيه مما أغفله في دنياه؛ لأنه لا يدخل الجنة إلا من تزكى. وأما الوصول الذي يتحقق للأولياء، فإنه يكون بذكر "اسم ربك"، الذي هو في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، "الله"، كما أسلفنا. ونعني من هذا أن معنى الصلاة التي تتحقق للعبد المصطفى بذكره للاسم الجامع، هو الوصول نفسه الذي يتكلم عنه أهل الله. وعلى هذا، فإن الأولياء وحدهم هم المصلّون بالمعنى الخاص؛ وأما المصلون بالمعنى الشرعي التكليفي الصوري، فهم متشبهون فحسب. - {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}: لم يُنزل الله هذه الأدعية، ابتداء من الدعاء بالغفران السابق، وإلى نهاية السورة، إلا ليستجيب سبحانه لهذه الأمة، إكراما لنبيها صلى الله عليه وآله وسلم، وإرضاء له فيها. ومعنى قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا}، هو ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»[13]. ومعنى النسيان، هو ما غاب عن ذهن العبد في الوقت؛ والخطأ هو السيئة يقع فيها العبد قاصدا منها الخير؛ وهذا بشرط تحصيل العلم الضروري من الشريعة، لا مطلقا. وأما ما استُكرهوا عليه، فهو ما لا يجد العبد عنه محيدا؛ إلا أن يُقتل؛ وهذا من الرحمة بضعفاء الأمة وعوامها. وأما العلماء، فلا ينبغي لهم الأخذ بهذه الرخصة، وإلا ذهب الدين واندرست معالمه. وهذا الحكم، مما يغيب عن فقهاء زماننا؛ لذلك هم منغمسون في ملذات الدنيا كما ينغمس السلاطين، ويتوهمون مع ذلك أنهم على علم وعلى دين؛ وهيهات!... - {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}: الإصر هو الثقل؛ والمقارنة هنا مع الأمم السابقة، التي كُلِّفت شرائع صارمة، لا تطيقها هذه الأمة. وعلى سبيل المثال، نذكر كيف كان السارق يُؤخذ عبدا لدى صاحب المال، إذا ثبت عليه الجرم. ولولا ذلك ما كان ليوسف أن يأخذ أخاه بنيامين، بعد أن أمر بدس الآنية في متاعه. يقول الله تعالى: {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [يوسف: 75]؛ أي في حكم شريعتنا. ومن ذلك أيضا أمر الله بني إسرائيل بقتل بعضهم لبعضهم، جزاء معصيتهم ومخالفتهم لرسولهم؛ يقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 54]. وأمثال هذا كثير... فجاءت الشريعة المحمدية في غاية اليُسر، وكانت التوبة فيها في متناول كل واحد؛ وإن بلغت معاصيه ما بلغت!... وبما أننا لسنا في معرض تفصيل الأحكام، فسنتجاوز هذه المسألة هنا. - {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}: ومعنى تحميل ما فوق الطاقة، هو عدم مراعاة موافقة الاستعدادات الفردية من جهة الأحكام. وهذه صفة كانت عليها الشرائع السابقة في عمومها؛ فلما جاءت الشريعة المحمدية، عادت في الأحكام إلى الاستعدادات الفردية، بحسب ما يذكر الله تعالى في قوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]؛ ووُسع العبد، لا يعلمه إلا الله. ومن هنا كانت الفتوى في الفقه ينبغي أن تراعي الحال، ولا تُعمّم الحكم على كل الناس بالصورة الأصلية. ومن هنا أيضا كان التيسير مقصدا للشرع، يُنبذ بسبب مخالفته كل حكم فيه تعسير. - {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا}: وهذا دعاء عام من جهة المعنى، كما من جهة المناط؛ لأن العباد كلهم محتاجون إلى عفو الله ومغفرته ورحمته، وإن توهم الجاهلون أنهم قائمون بتكاليف التشريع كما ينبغي. وذلك لأن التكاليف علمها دقيق، لا يحيط به إلا كبار الربانيين؛ وملازمة الحكم الشرعي تقتضي دواما للتوفيق، قلَّ أنْ يوجد للناس. فلم يبق إلا أن يلوذ العبد -وإن كان من أشد الناس حرصا على الطاعة ومن أبعدهم عن المعصية- بعفو الله ومغفرته ورحمته. وهذا الأصل هو ما أسسه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «سَدِّدُوا، وَقَارِبُوا؛ وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ؛ وَأَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ.»[14]. - {أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}: ومعنى أنت مولانا هنا، هو: "أنت مولانا من مظهرك الأخص المحمدي"، وهذا أرجى لأن تُعاملنا معاملة خاصة تليق بإكرامك له؛ فلا تعاملنا معاملة غيرنا وأنت أحكم الحاكمين. ويتبعه أيضا: "فانصرنا على القوم الكافرين"، لأنه لا يليق بمن توليتَ أمرهم من مظهرك الأكمل، أن ينتصر عليهم الكافرون؛ فالنصرة هنا نُصرة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، قبل أن تكون للأمة. لهذا، كانت تُشترط لها موافقة السنة النبوية، ولا يُكتفى فيها بالنسبة العامة. نقول هذا، لأن الأمة ستنقسم أقساما عديدة، لكل قسم حكمه الخاص به. وسنرى ذلك إن شاء الله عندما نتناول الكلام عن الأمة قريبا. وكما سبق لنا الذكر، فهذه الأدعية ما أوردها الله في القرآن، إلا ليُجيب سؤال هذه الأمة بها؛ بشفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها، ثم بشفاعة الشافعين؛ وإن تخلف الاستحقاق. 9. قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ!»[15]. ومعنى الحديث من جهة باطنه (أي باطن الحكم)، هو أنه لا أحد يمكنه الوصول إلى الله، إلا من محمد صلى الله عليه وآله وسلم، من جهة حقيقته. وقد سبق لنا أن ذكرنا علة ذلك: وهي عدم المناسبة بين الحق والخلق؛ ونعني من هذا أن الحق وجود، وأن الخلق عدم؛ وأنه لا اتصال بين الوجود والعدم البتة!... والاتصال المدلول عليه في الحديث بلفظ الصلاة، لا يقع إلا في حضرة الإمكان؛ فهناك يُمكن أن يظهر الوجود بصور العدم، ويمكن أن يقوم العدم بالوجود. وحضرة الإمكان، ليست إلا الحقيقة المحمدية، وإن كان لا يظهر ذلك للجميع إلا من جهة فرقانها، وبعد الإيمان بجهة قرآنها. 10. قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ صَلَّى صَلَاةً، لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ، فَهِيَ خِدَاجٌ -ثَلَاثًا- غَيْرُ تَمَامٍ!»[16]. والحديث يدل من جهة باطنه، على أن طالب الوصول إلى الله (الحقيقة)، إن لم يتخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيلة، فهو مقطوع. ونعني بالقطع هنا، ما هو من جهة العلم؛ ولذلك عبّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بـ "الخداج" الذي هو النقص، ولم يأت بلفظ القطع. والسر في ذلك، هو أن المقطوع من جهة العلم كالكافر والغافل، لا يكون مقطوعا من جهة حقيقته أبدا. وهذا من كمال تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن حرصه على هداية الخلق؛ جزاه الله عنا، ما هو أهله!... وبما أن القرآن هو تجلّ ذاتي بالأسماء والصفات، فإنه جاء في مجمله منقسما في تجلياته إلى ثلاثة صنوف: - تجلي الذات القرآني: وهو صنفان، من حضرتيْن: حضرة الأحدية (وهي الذات اصطلاحا)، التي يُشار إليها بالضمير "هو"؛ والتي اختصت بذكرها سورة الإخلاص من دون سائر السور. وحضرة الواحدية، وهي التي تُشير إليها من مرتبة الحقيقة المحمدية آية الكرسي؛ ولذلك كانت سيدة آي القرآن. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بن كعب رضي الله عنه: «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ! قَالَ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ قَالَ: قُلْتُ: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}؛ قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: وَاللَّهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِر!»[17]. وهذه الحضرة هي حضرة مرتبة الألوهية، وحضرة الصفات الحقية، المتوجهة على العوالم من جهة الإجمال في مرتبة الحقيقة المحمدية؛ وهي المرتبة التي تدور عليها معاني كل الأسماء الإلهية. - تجلي الذات الفرقاني: وهذه حضرة أسماء الأفعال خصوصا؛ وهذا التجلي يشمل الدنيا والآخرة؛ ويتوجه على المخلوقين من وجه التفصيل؛ وهي حضرة المـُلك والربوبية. وبما أن الفاتحة هي القرآن العظيم، وأنها ورد فيها ذكر ثلاثة أصناف من المكلفين، وهم: أصحاب الصراط المستقيم المنعم عليهم، والمغضوب عليهم، والضالون؛ فإن هذه الأصناف لن تخلو منها أمة من الأمم، وخصوصا أمتنا المحمدية. وذلك لأن كل صنف من هذه الأصناف له مدد خاص من النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فالمنعم عليهم الذين ذكرهم الله في قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]. والنبيون والورثة، لهم الصدر من الحقيقة المحمدية؛ بينما يكون لعوام المؤمنين، اليمين. وأما المغضوب عليهم والضالون، فلهم الشمال من الحقيقة المحمدية. وهذه الأصناف الثلاثة هي المذكورة في قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً . فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ . وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ . وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ . أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 7 - 11]. والسابقون، كما هو واضح من التقسيم الإلهي، هم أهل الصدر الشريف. ولما كانت الأمة المحمدية الخاصة، شاملة لهذه الأصناف كلها، فإنه وجب تبيينها، حتى لا يغتر أحد بظاهر الإسلام وحده. وسنبين هذا بالتفصيل، عند كلامنا عن عقائد الفرق الإسلامية، إن شاء الله؛ وسنعمل على المطابقة في ذلك بين الأمة العامة والأمة الخاصة، قدر المستطاع. وعلم ذلك من أنفع العلوم!... ويتضح مما سبق، أن الخطاب القرآني ينقسم إلى قسميْن أساسيْن، هما: الأول: الخطاب الشرعي التكليفي، وهذا هو منتهى علم الفقهاء. الثاني: الخطاب التعريفي، وهو ما يتعرف الله به إلى عباده. وهذا مخصوص بمن فتح الله له في المعارف؛ وهم أهل القرآن بالمعنى الخاص. وهناك خطاب آخر، يندرج ضمن الخطاب التعريفي غير المباشر، وهو ما ذكره الله عن قصص الأنبياء مع أقوامهم. وهذا الخطاب من أذواق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من جهة حقيقته؛ لأن الله عندما يُخبرنا عن إبراهيم، فهو يُخبرنا عن محمد في ذلك المظهر؛ وعندما يُخبرنا عن هود وشعيب أو موسى وعيسى، فهو دائما يُخبرنا عن الذوق المحمدي لذلك من تلك المظاهر كلها. ومن عرف هذا، عرف لمَ كان القرآن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عينه. وأما من يخطر في باله، قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 52، 53]؛ فليعلم أن المقصود من عدم دراية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالكتاب والإيمان، هو الفترة السابقة على الفتح القرآني فحسب؛ ومن جهة ظاهره، لا مُطلقا. وهي تُشبه ما قال الله عنه: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3]؛ أي من الغافلين عن تفاصيله وأنك المعنيّ بها من جهة معناك القرآني، لأنك هنا أنت يوسف. ولهذا المعنى لم يكن يحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يُفضَّل على أحد من الأنبياء؛ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى وَلَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ؛ وَلَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى، وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ؛ وَلوْ لَبِثْتُ مَا لَبِثَ يُوسُفُ فِي السِّجْنِ، لأَجَبْتُ الدَّاعِيَ.» وَقَالَ لِلَّذِي، قَالَ لَهُ: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ: «ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ!»[18]. وهذا يعني أن تفضيله على أحد من الأنبياء كان تفضيلا له على نفسه، وهو ما لا يصح. ونحن هنا لا نعتبر مرتبة النبي والرسول، وإنما نعتبر الظاهر بمظاهرهم؛ لأن المظاهر فيما بينها، لا بد أن تكون على تفاوت، كما أخبر الله تعالى بقوله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 253]. ومن باب ظهور الحقيقة المحمدية بمظاهر الرسل، كان إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن بأنه لم يُصلب ولم يُقتل. فهو إخبار عن ذوق!... وهذا العلم، ما رأينا أحدا يدل عليه صراحة كما ندل عليه نحن!... وهو علم نافع جدا في باب التوحيد. وعلى كل حال فكما قال أحد السابقين: من أراد أن يعرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فليقرأ القرآن. وهو يعني أنه صلى الله عليه وآله وسلم القرآن ذاته، حرفا لحرف وسورة لسورة. ومن لم يعلم هذه المطابقة، فإنه لن يعلم القرآن، ولا النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومن هنا كان يحرم علينا معاملته كواحد من بيننا، أو مناداته باسمه كما ينادي بعضنا بعضا. يقول الله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]، ويقول أيضا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ . إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ . إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 1 - 4]. فلو كان من مرتبتنا، لصح أن نعامله كما يعامل بعضنا بعضا؛ فلما ورد الأمر بتمييزه، علمنا أن ذلك لخصيصة له ليست لنا. ونعني أنها ليست لنا إلا منه، لأننا لسنا إلا حقائق جزئية من حقيقته الجامعة؛ كما يقول أحدنا عن الآية الواحدة أنها قرآن؛ بل عن الكلمة من كلمات القرآن أنها قرآن. وكما كان الأنبياء السابقون وجوها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في أممهم، وهو من الشرف الذي نال الأمم السابقة منه؛ فكذلك لأمته شرف منه مخصوص، به كان الورثة فيها وجوها متتابعة في الزمان إلى يوم القيامة. وهكذا، فلن يخلو زمان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بسبب تدرج نوره في الكُمّل من الآدميين، سابقا ولاحقا. ومن علم هذا، علم أن النبوة والرسالة له، حيث كانتا؛ وعلم أن الدلالة على الله له حيث كانت؛ وأنها غير منقطعة بحمد الله. وما إخبار القرآن في كل مراتبه إلا إخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كل مراتبه. لكنَّ من تغيب عنه جمعية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قد يُحجب بعبوديته عن ربوبيته؛ كما يقع ذلك للعامة من المؤمنين. وأما أهل الكتاب، فإن النصارى منهم، أقرب إلى معرفة حقيقة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، إن هم علموا أنه الكلمة الكاملة، التي عنها كان عيسى، وعنها أخبر في دلالته على الرجوع الصعودي إليها. وهو بإذن الله، ما سنتناوله في الفصل التالي... [1] . متفق عليه، عن أبي هريرة رضي الله عنه. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.