اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2020/09/11 الحوار الغائب (ج3) -4- شباب النبي 1. ملازمة جبريل للنبي وتأديبه له: لقد ذكرنا آنفا، أن الله قد اعتنى عناية خاصة بعبده الخاص، منذ ولادته؛ بل وقبلها. ورأينا كيف أن جبريل عليه السلام، قد بدأ بصحبة الغلام المبارك، من دون أن يُعْلمه؛ بسبب صغر سنه. ومما يدخل في هذه العناية، ما قاله ابن إسحاق: [كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا ذُكِرَ لِي، يُحَدِّثُ عَمَّا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى يَحْفَظُهُ فِي صِغَرِهِ؛ قَالَ: "لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي غِلْمَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ نَنْقُلُ حِجَارَةً لِبَعْضِ مَا يَلْعَبُ الْغِلْمَانُ بِهِ، كُلُّنَا قَدْ تَعَرَّى وَجَعَلَ إِزَارَهُ عَلَى رَقَبَتِهِ يَحْمِلُ عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ، فَإِنِّي لَأُقْبِلُ مَعَهُمْ كَذَلِكَ وَأُدْبِرُ، إِذْ لَكَمَنِي لَاكِمٌ مَا أَرَاهَا، لَكْمَةً وَجِيعَةً، وَقَالَ: شُدَّ عَلَيْكَ إِزَارَكَ، فَأَخَذْتُهُ فَشَدَدْتُهُ، ثُمَّ جَعَلْتُ أَحْمِلُ الْحِجَارَةَ عَلَى رَقَبَتِي.]، فمن الواضح أن جبريل هو من لكمه، لكنه لم يظهر له؛ واكتفى بتكليمه، لئلا يقع فيما يُخالف مقامه، مما يقع فيه الصبيان عادة. وإن صحبة جبريل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، بحسب ما تعطيه الحكمة الإلهية، وإن كان لا يعدو أن يكون بعضا من نوره صلى الله عليه وآله وسلم؛ هي من أدل شيء على وجوب اتخاذ الشيخ في الدين. وقولنا في الدين، هو غير ما يفهمه الناس اليوم من معنى الشيخ؛ لأنهم قد أصبحوا يحصرونه في الأستاذية، مع أنها معنى جزئي وغير تام في أصل التشيُّخ. ولو كان أحد يستغني بذاته عن صحبة الشيخ، لكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ ومع ذلك فقد أبى الله -لتمام كماله- إلا أن يجعل له شيخا ينبهه إلى ما قد يغفل عنه، ويُحذره مما قد يقع فيه. وكما نبهنا، فإن ذلك ما وقع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلا ليجمع الكمالات كلها: فهو قبل أن يكون أكمل مربّ، كان أكمل مربّى؛ ومن لم يذق التلمذة، يكون ناقص التشيُّخ عند تشيُّخه؛ وهذا كله من باب مراعاة الحكمة، لا مطلقا. وإن علوم الذوق، لا تقبل أن يعلِّم المرء غيره، ولم يسبق له أن ذاق أحوالهم. ومن هنا يمكننا القول بأن من لم يعرف البعد، لا يعرف القرب؛ ومن لم يُعانِ الطريق، لا يصح أن يدل عليه. وقد أشار الله تعالى إلى هذا الأصل في قوله سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52]؛ أي لم تكن تدري الكتاب قبل الوحي. ووقت عدم الدراية، هو وقت التلمذة، لا بعده. ومعْنَيا التلمذة والتشيُّخ في شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هما من آثار القوس العلوي والسفلي من حقيقته الجامعة. ولقد كان جبريل عليه السلام مصطفى الله من بين الملائكة، لتربية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما كان النبي مصطفى الله ومراده من خلقه. يقول الله تعالى في وصف جبريل: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى . عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى . ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم: 4 - 6]؛ والمِرّة القوة والشدة، وقد يتعلقان بالعقل. وأما الاستواء، فهو الاعتدال الجِبِلِّي؛ في مقابل الاعتدال الذي يكون عن تكليف، والذي يوصف به النبي صلى الله عليه وآله وسلم على التمام. كل هذا، لأن التعيّن الطبيعي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، له أحكام مخصوصة. ووصف جبريل بالقوة ثم بعد ذلك بما ذكره الله عقب الآيات السابقة في قوله تعالى: {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى . ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى . فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 7 - 9]؛ هو تذكير بأصله من الحقيقة المحمدية، التي هي الأفق الأعلى. ولقد التبس الأمر على بعض المفسرين، فظنوا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما رأى في نهاية عروجه إلا حقيقة جبريل؛ وهذا القول لمن يُنكر رؤيته صلى الله عليه وآله وسلم لربه. ونحن نقول، ما وصف الله جبريل بما وصف، إلا ليُعلمنا بأن جبريل كان مظهر ربوبيته لعبده الخاص؛ وشرف المظهر من شرف الظاهر به. لكن العروج، قد تخلف فيه جبريل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأن الجمعية التي كان عليها النبي في صعوده، ليُقابل جمعية حقيقته ويأتلف بها؛ ما كان جبريل ليُطيقها، وما هو في النهاية، إلا حقيقة جزئية من حقائقه صلى الله عليه وآله وسلم. ونستنبط من هذا الكلام حكما، يسري على الشيوخ وتلاميذهم؛ وهو أن الشيخ لا يكون أكمل من تلميذه من كل وجه دائما، وإن ثبتت له الإمامة في الدين لكل تلاميذه. وهذا أصل تتفرع عنه أحكام جزئية تكاد لا تنحصر، وهو من أنفع الأبواب في العلم. 2. كفالة أبي طالب له: ولم يُمهل الله عبد المطلب بعد وفاة آمنة عليها السلام، غير سنتيْن، ثم التحق بربه؛ فكفل النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم عمه أبو طالب، وهو ابن ثمان سنين؛ وقد فضله على أولاده، وعامله بما يليق بمكانته قرابة الأربعة عقود. ومعنى وفاة الأولياء والكُفلاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم، هو من إنكار العالم له، من جهة الحقيقة. فهو عليه السلام، غريب الذات في العالم، بسبب معنى الذاتية نفسه؛ والذي كان غيبا في مرتبة الأحدية. وهذا المعنى هو المـُشار إليه بقول الله تعالى، عن القرآن الذي هو صفته (صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم): {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ . فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 77، 78]. والكنّ لن يزال صفة ملازمة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، في الدنيا والآخرة؛ لذلك سيبقى شطر منه مكنونا وإن عرَّف عن بعضه. وهو عليه السلام من جهة حقيقته، ومن باب الإشارة، أجدر المخلوقين بوصف الله: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم: 3]. لهذا، فلا يصح لأحد من العباد، أن يزعم الإحاطة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن ذلك شأن الله وحده. وإذا عرفنا معنى غربته عليه السلام في العالم، فمن هناك أيضا -ومن أحد الوجوه- يكون حال الفقر لديه. ونعني من هذا، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بسبب غناه الذاتي، لا يتم له الغنى العرضي أبدا؛ وبامتناع الغنى العرضي ثبت له الفقر التام من جهة الظاهر. فهو عليه السلام، لم يكن يملك طول عمره، فوق ضرورته. ومن هنا أيضا، كان يتصدق عليه السلام، بكل ما يفضل عنها؛ موافقة من ظاهره الشريف لباطنه المـُنيف. وهذا يعني أن فقره عليه السلام، ليس من جنس فقر الناس، ولا غناه من جنس غناهم؛ وإن اقتضت إمامته العامة للعالمين، ذوقه للأحوال الجزئية كذوقه للأحوال الكلية؛ واقتضت اتصافه بالصفات العبدية، كاتصافه بالصفات الرَّبيّة. ذكر الواقدي: [أن أبا طالب كان مقلًاّ من المال، وكانت له قطعة من الإبل تكون بوادي عرنة، فيبدو إليها فيكون فيها؛ ويؤتى بلبنها إذا كان حاضرًا (بـمكة). فكان عيال أبي طالب إذا أكلوا جميعاً وفرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شبعوا؛ فكان أبو طالب إذا أراد أن يغديهم أو يعشيهم يقول: كما أنتم حتى يأتي ابني، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهم، فيُفْضلون من طعامهم، وإن كان لبناً شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم، ثم تناول القعب فيشربون منه، فيروَوْن من عند آخرهم من القعب الواحد؛ وإن كان أحدهم ليشرب قعباً وحده. فيقول أبو طالب: إنك لمبارك. وكان الصبيان يصبحون شعثاً رُمْصًا (الرمَص: القذى في العين)، ويصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم دهيناً كحيلاً. وقالت أم أيمن وكانت تحضنه: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم شكا جوعاً قط ولا عطشًا، وكان يغدو إذا أصبح، فيشرب من ماء زمزم شربة، فربما عرضنا عليه الغداء فيقول: أنا شبعان.]. كل هذه البركة على ظاهره الشريف، وعلى مَن حوله من الناس، كانت من جهة الغنى الذاتي. وأحواله هذه -عليه السلام- التي هي بين صفات عبودية وصفات ربوبية، هي من جمعيته من جهة حقيقته بين الحق والخلق. ونعني من هذا، أن الحق يتعالى أن يتصف بصفات عباده من جهة حقيقته؛ لكنه قد ينسب ذلك إلى نفسه تعالى، كما في الحديث القدسي: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي ...»[1]؛ فيُعلم أن ذلك لا يكون إلا من الحضرة المحمدية، من جهة حقائقها الجزئية على الخصوص. وإن من لا يُميّز بين مراتب الحق، لا يحسُن له التكلم في دقائق العلوم، مخافة أن يهلك وهو لا يدري. قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، أن أباه حدثه: أن رجلا من لهب -قال ابن هشام: ولهب: من أزدشنوءة - كان عائفا (كاهنا)؛ فكان إذا قدم مكة أتاه رجال قريش بغلمانهم، ينظر إليهم ويعتاف لهم فيهم. قال: فأتى به أبو طالب وهو غلام، مع من يأتيه، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم شغله عنه شيء؛ فلما فرغ قال: الغلام علي به! فلما رأى أبو طالب حرصه عليه غيبه عنه؛ فجعل يقول: ويلكم، ردوا عليّ الغلام الذي رأيت آنفا!... فوالله ليكونن له شأن. قال: فانطلق أبو طالب.]. ونستخلص من هذه الواقعة أمورا: ا. أن الناس في غياب نور النبوة، لا يجدون إلا الوحي الشيطاني، من أجل مطالعة بعض الغيوب الكونية. ومعلوم أن العرافة قبل البعثة المحمدية كانت شائعة بين العرب، بخلاف ما بعد البعثة؛ لأن الشياطين صارت ممنوعة من استراق السمع على ملائكة السماء، إكراما للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. ويقول الله في هذا: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ . وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ . لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ . دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ . إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 6 - 10]. ب. أن الشيطان الذي كان يأتي العراف المذكور في القصة، لم يُطق البقاء في حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وذلك هو ما سبّب غفلة العراف وسهوه عنه. ج. أما طلبُ العراف للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، بعد ذلك، فهو من أثر إخبار الجني له عن نور النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بعد أن غاب عنه شخصه. وكأن العراف أراد أن يتدارك غفلته، بالنظر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتمعن فيه؛ لكن الله ألهم العمّ أن يُخفيه عنه. 3. عصمة النبي عن أفعال الجاهلية: وروى علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال: «سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: «ما هممتُ بشيء مما كان في الجاهلية يعملون به غير مرتين؛ كل ذلك يحول الله تعالى بيني وبين ما أريد: فإني قلتُ ليلةً لغلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكة: لو أبصرتَ إلى غنمي حتى أدخل مكة، فأسمر بها ما يسمر الشباب، فقال: أفعَلُ. فخرَجْتُ أريد ذلك، حتى إذا جئتُ أولَ دار من دور مكة، سمعت عزفًا بالدفوف والمزامير، فقلت: ما هذا؟ قالوا: فلان بن فلان تزوَّج فلانة ابنة فلان؛ فجلست أنظر إليهم، فضرب الله على أذني فنمتُ؛ فما أيقظني إلا مسُّ الشمس. قال: فجئت صاحبي فقال: ما فعلت؟ فقلت: ما صنعت شيئًا، وأخبرته الخبر.» قال: «ثم قلتُ له ليلة أخرى مثل ذلك، فقال: أفعلُ؛ فخرجتُ فسمعت حين جئتُ مكة مثل ما سمعت، ودخلت مكة تلك الليلة، فجلست أنظر، فضرب الله على أذني. فوالله ما أيقظني إلا مسُّ الشمس، فرجعت إلى صاحبي فأخبرته الخبر؛ ثم ما هممتُ بعدهما بسوء، حتى أكرمني الله برسالته.»[2]. وما سماه النبي صلى الله عليه وآله وسلم هنا سوءا، هو من مقتضيات النفس الناشئة بين الروح والبدن؛ والتي تقع تحت أحكام العدم الذي هو أصلها. يقول الله تعالى: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188]؛ أي أحكام عدمي. وأحكام العدم، هي بعكس أحكام الوجود: الجهل، والموت (الأصلي)، والعجز، إلى غير ذلك، مما هو مقابل للصفات الإلهية... ومن أحكام النفس لدى الآدميين، ميلها إلى ظلمة طبعها، والذي يكون من أثره تلبية شهواتها، التي منها سماع الغناء المقوي للغرائز. ولما همّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاستجابة إلى دواعي النفس، منعه الله من ذلك عناية منه سبحانه. وهذا دليل على أن حكم النفس عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هو اعتباري فحسب؛ ونعني أنه في أدنى درجاته، التي بها يثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مخلوق؛ وأما فوق هذا، فلا وجود لنفسه بسبب غلبة نور الحق على حقيقته. وهذه الحال، هي ثابتة للأنبياء كلهم عليهم السلام؛ وإن كانوا -كما نذكر دائما- لا يبلغون أصله صلى الله عليه وآله وسلم. ويكون من هذه الحقيقة نصيب للورثة من الأولياء عليهم السلام أيضا، كل بحسب قربه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذه الحقيقة، هي ما يجعل هؤلاء الكمّل، على سذاجة؛ وكلما علت مرتبة النبي أو الوارث، تزيد سذاجته. ومن هذا الباب وُصف الصوفية بأنهم أطفال في حجر الحق. ولقد رأينا من عرفناه منهم رضي الله عنهم، على هذه الصفة. 4. رعيه الغنم: وأما عن رعي الغنم، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ.»[3]. ورعي الغنم، فيه تدريب من الله على رعاية من هم دون الراعي في المرتبة. ومن هذا الوجه، كان السلطان يُسمى راعيا، وكان شعبه يُسمى رعية. وأما رعاية الأنبياء للخلق (الكون)، فهي رعاية إلهية من مرتبة الخلافة؛ لذلك هم أحق الناس بصفة الراعي. ومن مقتضيات الراعي أن لا يشغله شيء عن شيء، ولا أحد عن أحد. وقد قال في هذا المعنى عمرو بن العاص رضي الله عنه: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْبِلُ بِوَجْهِهِ وَحَدِيثِهِ عَلَى أَشَرِّ الْقَوْمِ، يَتَأَلَّفُهُمْ بِذَلِكَ. فَكَانَ يُقْبِلُ بِوَجْهِهِ وَحَدِيثِهِ عَلَيَّ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنِّي خَيْرُ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا خَيْرٌ أَوْ أَبُو بَكْرٍ؟ فَقَالَ: "أَبُو بَكْرٍ"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا خَيْرٌ أَوْ عُمَرُ؟ فَقَالَ: "عُمَرُ"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا خَيْرٌ أَوْ عُثْمَانُ؟ فَقَالَ: "عُثْمَانُ"، فَلَمَّا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَدَقَنِي، فَلَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ سَأَلْتُهُ."[4]وهذا الذي ذكره عمرو بن العاص، قد عمّ كل الصحابة؛ وهو ليس من أخلاق التكلف، أو من التأليف الشرعي كما أخبر الراوي نفسه؛ ولكن هو من الخلُق الإلهي الواسع لكل الخلق. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لم يكن ينظر إلى الناس إلا كما ينظر الوالد إلى أولاده؛ هذا ما تعطي حقيقته. ولو عدنا إلى ميله إلى الإحسان إلى العصاة والأشرار، نستقصي ذلك من سيرته، لاتسع علينا المـَطلب. ويكفي أن نعلم أنه كان صلى الله عليه وآله وسلم، يُعامل الناس بخير مما كانوا يرون أنفسهم أهلا له. وهذه الرعاية، لا تكون إلا له صلى الله عليه وسلم، من جهة النَّسب الإلهي العام؛ ولا يُمكن أن يبلغ أحد فيها مبلغه، مهما كانت مكانته في النبوة والولاية. وكيف يكون ذلك، وما الأنبياء والأولياء إلا بعض رحمته التي وسعت كل شيء. يقول الله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]. وقد ذكر الطبري في تفسيره آية الرحمة من الأعراف، فقال: [حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، فقال إبليس: أنا من ذلك "الشيء"! فأنـزل الله: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [معاصي الله] وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156]؛ فتمنتها اليهود والنصارى، فأنـزل الله شرطًا وَثيقًا بَيِّنًا، فقال: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [الأعراف: 157]، فهو نبيّكم؛ كان أميًّا، لا يكتُب صلى الله عليه وسلم.]. وإن المفسرين والعلماء، قد اختلط عليهم معنى رحمة الرحمن العامة، بمعنى رحمة الرحيم الخاصة؛ لأنهم لا ينظرون إلى كلام الله، إلا من وجهه التشريعي، فحجبهم عن الحقيقة والمراتب. ونحن نقول: إن قول إبليس عندما أثبت لنفسه الرحمة الواسعة لكل شيء، بما أنه شيء من جملة الأشياء؛ صحيح. ولولا هذه الرحمة ما كان إبليس ولا ظهر له أثر في الأكوان. وكان ينبغي على من يرد عليه، أن يُذكّره برحمة الاستحقاق، لا أن يُنكر عليه رحمة الإطلاق. وهذا يعني أن كل العصاة الذين يدخلون النار، لا ينفكون عن رحمة الرحمن. ولهذا يكون آخر شفعاء أهل النار "الرحمن". وقد جاء في حديث الشفاعة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: « إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ شَفَعَ النَّبِيُّ لأُمَّتِهِ، وَالشَّهِيدُ لأَهْلِ بَيْتِهِ، وَالْمُؤْمِنُ لأَهْلِ بَيْتِهِ، وَيَبْقَى شَفَاعَةُ الرَّحْمَنِ يُخْرِجُ اللَّهُ أَقْوَامًا مِنَ النَّارِ، قَدِ احْتَرَقُوا فِيهَا وَصَارُوا فَحْمًا، فَيُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى نَهْرٍ فِي الْجَنَّةِ، يُقَالُ لَهُ: الْحَيَاةُ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْغُثَاءُ فِي بَطْنِ السَّيْلِ، ثُمَّ يَقُومُونَ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ؛ فَهُمْ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولا وَأَدْنَاهُمْ مَنْزِلَةً.»[5]. وللرحمن شفاعات وراء هذه، مخصوصة بأهل النار في النار، ومن دون خروج؛ لأن رحمته واسعة. والواسع حقيقة، هو ما لا حد له يقف عنده؛ وإلا كانت سعته نسبية لا مطلقة. ومن هذا الوجه، كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يستغفر للمنافقين حتى ورد النهي الإلهي في قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ . فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ . فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ . فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ . وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 80 - 84]. ووجه النهي، هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أراد استعجال الشفاعة الرحمانية للأشقياء في الدنيا قبل الآخرة، بسبب غلبة حكم حقيقته عليه؛ فنبهه الله إلى أن لرحمته صلى الله عليه وآله وسلم مواطن وأقدارا، ينبغي أن يُراعيها. وفي هذا إثبات للحكمة الإلهية، لا ردّ لمراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإنه أكرم على الله من أن يردّ مراده. وهذا بحر طام، من خاض فيه غرق؛ سواء أكان من أهل سفينة الإيمان أم كان من أهل العُدْم والكفران. 5. اشتغاله بالتجارة: وقد اشتغل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرعي من سن الثامنة، إلى الخامسة عشر من عمره الشريف؛ ثم بعد ذلك بدأ يعمل بالتجارة، على عادة أهل مكة. وقد كان أول خروج للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، في التجارة إلى الشام، مع عمه أبي طالب، عندما كان عمره تسع سنوات، أو يزيد قليلا. وفي هذه الرحلة، مرت القافلة ببصرى، التي كان بها راهب يسمى "بحيرا"، قيل إنه كان إبيونيا نسطوريا، يقيم بصومعة هناك؛ ويقول المسعودي بأن بحيرا لقَبٌ للراهب، وأن اسمه كان "سيرجيس". نزل الراهب إلى القافلة وكلمها، على غير عادته؛ فإنهم كانوا يمرون عليه سابقا، ولا يلتفت إليهم. وقد دعا الراهب الجماعة إلى صومعته، ليُصيبوا من طعام أعده لهم، وقد زعموا أن ذلك كان لشيء رآه من صومعته؛ وهو أنه رأى غمامة تظل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من دون الركب، تسير أنى سار؛ فأراد أن يستطلع الخبر. [قال بحيرا للقوم: إنّي قد صنعت لكم طعامًا يا معشر قريش، فأنا أحب أن تحضروا كلكم؛ صغيركم وكبيركم، وعبدكم وحركم. فقال له رجل منهم: والله يا بحيرا، إن لك لشأنًا اليوم ما كنت تصنع هذا بنا، وقد كنّا نمر بك كثيرًا، فما شأنك اليوم؟ قال له بحيرا: صدقت، قد كان ما تقول؛ ولكنكم ضيف، وقد أحببت أن أكرمكم، وأصنع لكم طعامًا، فتأكلوا منه كلكم. فاجتمعوا إليه وتخلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بين القوم، لحداثة سنه، في رحال القوم تحت الشجرة. فلما نظر بحيرا في القوم، لم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده، فقال: يا معشر قريش، لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي. قالوا له: يا بحيرا، ما تخلف عنك أحد، ينبغي له أن يأتيك إلا غلام، وهو أحدث القوم سنّا، فتخلف في رحالهم. فقال: لا تفعلوا، ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم. قال: فقال رجل من قريش مع القوم: واللات والعزى، إن كان للؤم بنا أن يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا؛ ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم. فلما رآه بحيرا جعل يلحظه لحظًا شديدًا، وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته؛ حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا، قام إليه بحيرا فقال: يا غلام، أسألك بحق اللات والعزى، إلا أخبرتني عما أسألك عنه. وإنّما قال له بحيرا ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما، فزعموا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا تسلني باللات والعزى شيئا، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما". فقال له بحيرا: فبالله إلا أخبرتني عما أسألك عنه. فقال له: "سلني عما بدا لك". فجعل يسأله عن أشياء من حاله من نومه وهيئته وأموره، فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخبره، فيوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته. ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه، على موضعه من صفته التي عنده. فلما فرغ، أقبل على عمه أبي طالب فقال له: هل هذا الغلام منك؟ قال: ابني. قال له بحيرا: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيّا. قال: فإنه ابن أخي. قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات، وأمه حبلى به. قال: صدقت؛ فارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه يهود. فوالله! لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت، ليبغُنّه شرّاً؛ فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فأسرع به إلى بلاده.][6]. وهذه الحادثة، تدل على أن أهل الكتاب كان لهم علم بعلامات النبوة؛ ولولا ذلك ما عرف بحيرا ما عرف، ولا حذّر من اليهود. وتحذير الراهب النصراني من اليهود، هو من علمه بتعصّبهم لقوميتهم؛ بخلاف النصارى الذين كانوا منفتحين. وهذا الأصل هو العلة من جهة الظاهر، لقول الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82]. ثم لا ينبغي لنا أن ننسى، أن من المسيحيين من كان على دين الحق في ذلك الأوان؛ وهذا يعني أنهم كانوا على نور من الله، به يُفرقون بين الحق والباطل. ورغم أن كبريات الكنائس التي كانت في العواصم الإقليمية الرومانية بالخصوص، كانت قد دخلت -بسبب غلبة التنظيم- في العقائد الأيديولوجية النصرانية، فإنه لا ينبغي لنا أن نغفل حال بعض الأفراد الذين كانوا منقطعين في البوادي، أو أن ننسى الجماعات الصغيرة التي كانت تعاني الاضطهاد من السلطة الإمبراطورية ومن السلطة الكهنوتية كلتيهما. ولا شك أن بحيرا، كان من أهل الحق، لينظر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتجرد، وليُحذّر العم بإخلاص من خطر اليهود. وستكون لنا إن شاء الله عودة إلى حال المسيحيين المرتقبين لظهور نبي آخر الزمان، في مواضع قادمة من هذا الكتاب. 6. حرب الفِجار وحلف الفضول: وقد حضر النبي صلى الله عليه وآله وسلم "حرب الفجار"، وهو ابن تسع عشرة سنة؛ وكان مع أعمامه يُجهّز لهم النبال. وقعت هذه الحرب في سوق عُكاظ بين قريش ومعهم كنانة من جهة؛ وقيْس عَـيْلان من الجهة الأخرى. وسُميت حرب الفِجَار، لأن حدوثها كان في زمن الأشهر الحرم، التي كان العرب يحفظون حرمتها، ويمتنعون عن القتال فيها. وسبب هذه الحرب، هو أن النعمان بن المنذر أراد أن يعيّن قائداً لقافلة تجارية من الحيرة إلى سوق عكاظ؛ فعرض كل من البراض الكناني وعروة الهـوازني نفسـيهما؛ فاختار النعمان عروة، فقتله البراض؛ ووصل الخبر إلى عكاظ فثار الطرفان عصبيّة. وكان قائد قريش وكنانة كلها، حرب بن أمية؛ لمكانته فيهم سنّاً وشرفاً. ووقع القتال بين الفريقين، وكان الظفر في أول النهار لقيس على كنانة، فتراجعت قريش حتى دخلت الحرم؛ فوعدتهم هوازن الحرب في العام القادم، وظلـت هـذه الحرب تجدد طوال أربع سنوات في انعقاد سوق عكاظ، ثم انتهت بالصلح بين الفريقين على أن تدفع قريش دية من يزيد عن قتلاها لهـوازن؛ فكانوا عشرين رجلاً. ووضعوا الحرب، وهدموا ما كان بينهم من العداوة والشر. وقد اختلف المؤرخون في كيفية مشاركة الـنبي صلـى الله عليـه وآله وسلـم في هذه الحرب: هل بجمع النبل؟ أم بالـرمي؟ ويبدو أن ذلك كان جميعا؛ لأن الحرب استمرت أربعة أعوام. وقد كان الـنبي في بدايتهـا يافعا، وفي سن لا تمكنه من الرمي، فيُتوقَّع أنه ساهم بجمع النبل؛ وفي نهاية الحرب، كان صلى الله عليه وآله وسلم على أبواب العشرين ربيعاً، فلعله تمكن من أن يساهم برمي النبل. وبعد شهر من انتهاء الحرب، شهد عليه السلام "حلف الفضول"، في دار عبد الله بن جدعان التيمي، في سنة 590م؛ وقد توافق فيه بنو هاشم وبنو تيم وبنو زهرة على أن لا يُظلم أحد بمكة إلا ردوا ظُلامته. ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا الحلف فيما بعد: «لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا، مَا أُحِبُّ أَنَّ لِيَ بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ؛ وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الإِسْلامِ لأَجَبْتُ.»[7]. ويقال في سبـب هذا الحلف إن رجـلًا من زُبَـيْد قدم مكة ببضـاعة، واشتـراها منه العاص بن وائل السهمي، وحبس عنه حقه؛ فاستعدى عليه الأحلاف عبد الدار ومخـزوماً، وجُـمَحـاً وسَهْماً وعَدِيّاً، فلم يكترثوا له؛ فعلا جبل أبي قُبَيْـس، ونادى بأشعار يصف فيها ظلامته رافعا صوته. فمشى في ذلـك الـزبيـر بن عبد المـطلب، وقال: "ما لهذا مَترك!" حتى اجتمع الذيـن مضى ذكرهم في حلـف الفضول، فعقدوا الحلف ثم قاموا إلى العاص بن وائل فانتـزعوا منه حق الزبيدي. وأما سبب تسميته بحلف الفضول، فذلك لأنه كان إحياء لحلف آخر سابق في الجاهلية دعا إليه ثلاثةٌ اسمهم مشتق من الفضل، فسمَّوا الحلف بالفضول. ويظهر لنا من واقعة الحرب ومن الحلف معا، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان ملتزما مع قومه، يوالي بولائهم ويعادي بعدائهم. ومشاركته في الحرب وفي السلم معا، جعلته يخبر الأمريْن، ويعلم بالتجربة أوان كلّ منهما ووجه صوابه. وذكره صلى الله عليه وآله وسلم، أنه لو دُعي بحلف الفضول في الإسلام لأجاب، ولو بعد نزول التشريع الإلهي، هو لتبيين موافقة الأحكام الشرعية لما يُحسّنه العقل السليم طبعا وفطرة؛ ولأن الشرع لا يبني على غير أساس، كما يتصور ذلك بعض الجاهلين. بل إننا قد أوضحنا، ضمن عملية التجديد لدينا، لمن يتلقى عنا دروس العلم، أن الأحكام الشرعية الخمسة المعلومة، تنشأ عن الأحكام العقلية الثلاثة الأصلية؛ وأن الشارع خاطب العقل بما يعقل، لا بما يخرج عن منطقه. ونحن نخص الكلام هنا، بالجانب التشريعي (القانوني) وحده؛ ولا نعمم ذلك على الجوانب الأخرى من الخطاب الإلهي. وذلك لأن تعميم المنطق العقلي على كل وجوه الوحي، قد أدى إلى آفات كثيرة، على رأسها الخروج بالعقائد من مجالها الأصلي المعتبر في الدين، إلى مجال التنظير الأيديولوجي المخالف. والكلام عن اعتبار الشرع للمواثيق والمعاهدات، بين الأفراد والجماعات والدول، هو باب واسع من الفقه، لا ينبغي التساهل فيه، أو تناوله بمثل السطحية التي نرى أهل زماننا ينظرون -لا على سبيل الحصر- بها إلى ما يُسمى "حقوق الإنسان"؛ لأن المسألة مركّبة، وذات تفاصيل ينبغي أن تُبرز، قبل استنباط الأحكام اللازمة. 7. صدق النبي وأمانته: قد ورد في تفسير القرطبي، عند قوله تعالى: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} [الجاثية: 23]: [وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل: وذلك أنه طاف بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد بن المغيرة فتحدّثا في شأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل: والله إني لأعلم أنه لصادق! فقال له مَه! وما دلّك على ذلك؟ قال: يا أبا عبد شمس، كنا نسميه في صباه الصادق الأمين، فلما تمّ عقله وكَمُل رشده، نسمّيه الكذاب الخائن! والله إني لأعلم أنه لصادق! قال: فما يمنعك أن تصدّقه وتؤمن به؟ قال: تتحدّث عني بنات قريش أني قد اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة! واللات والعُزّى إن اتبعته أبداً!... فنزلت: {وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ}.]. ولقد كانت قريش تلقب النبي صلى الله عليه وآله وسلم "الصادق الأمين"، بعد خبرتها معاملتَه في تجارته وفي غيرها. وهذا من الصفات الأصلية في الأنبياء والأولياء، بسبب قوة الفطرة التي فطرهم الله عليها؛ لأن الكذب والخيانة، ليسا من صفات الفطرة، بل هما من صفات النفس التي هي تحت حكم السوء. وإن الأمانة في حقيقتها عائدة إلى الصدق، فهي صفة واحدة متفرعة. وذلك لأن الصدق غالبا يُطلق على الأقوال، بينما الأمانة فتُطلق عليه في جانب الأفعال. ومعنى الصدق، هو مطابقة القول للواقع؛ ولم يبلغ أحد في الصدق مبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكونه الحق نفسه ذاتا وصفات وأفعالا، من جهة حقيقته العليا. وشاء الله لقومه أن يُقرّوا بصدقه، حتى لا يأتي زمن ينسبونه إلى الكذب؛ إلا كان ذلك افتراء منهم ورِدة في القول، وقد كان. ولقد بلغ من صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأمانته، أن كان يُتخذ حكما ومؤتمنا على الودائع. وبقي مؤتمنا يحفظ أموال الناس إلى يوم الهجرة، حيث أوصى صلى الله عليه وآله وسلم عليا بن أبي طالب عليه السلام، بأن يتخلف بعده بمكة، ليؤدي عنه الأمانات التي كانت عنده لأصحابها. والصدق -بحسب ما عرفناه آنفا- صفة إلهية، يُخبر الله بها عن مكنون ذاته من معاني صفاته؛ فليس أصدق منه سبحانه وهو المخبر بذاته عن ذاته، في قوله تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 95]. وهذا يعني أن من اتبع ملة إبراهيم المنتهية إلى الدعوة المحمدية، فإنه يكون مُصدّقا لله؛ وأن المخالفين يكونون مكذبين. وهذا لأن الصدق له مجليان: صدق المخبر، وتصديق المـخبَر؛ وهذا من آثار انقسام الكلمة الإلهية في نفسها. ومن هذا الوجه كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الذي هو أتم ظهور للحق، صادقا ومصدوقا: فهو صادق من جهة كونه مـُخبِرا عن الحق، ومصدوقا من جهة كون الحق يُصدّقه في إخباره، ويصدقه المؤمنون. والأمر من جهة معاملة الحق للخلق، ومعاملة الخلق للحق، لا يخرج عن الحضرة المحمدية الواسعة، كما ذكرنا مرارا. ولقد أشار الله إلى مرتبته صلى الله عليه وآله وسلم، في سورة النجم حيث يقول سبحانه: {فَاسْتَوَى . وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى . ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى . فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 6 - 9]. والقوسان، هما قوس الحق وقوس الخلق؛ وقاب القوسيْن هو مرتبة الحقيقة المحمدية. أما "أدنى"، فهو الأحدية التي هي من وراء ذلك، بمعناها الذاتي الغيبي. ثم يقول الله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10]؛ أي فأوحى منه إليه ما أوحى، من مكنونات الذات. {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11]؛ أي ما خالف الفؤاد منه صلى الله عليه وآله وسلم، الشهود العيني، فيما تعقّله؛ لكون فؤاده على كمال الصفاء وكمال الاعتدال؛ فلا يدخل عليه تحريف لما يعقل من المعاني ومن الصور، بسبب عدوان فكر أو تحكم هوى. وإن عكْس الفؤاد النبوي للمشهود الحقّي، كما هو، هو مرتبة تصديقه صلى الله عليه وآله وسلم، التي لا يقاربه فيها أحد من المخلوقين. {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم: 12]؛ أي أبعد إخبارنا لكم عن مرتبته في الصدق والتصديق، التي لا يمكن أن يتطرق إليها احتمال شك، ترومون أنتم بشككم الناتج عن ظلمة أفئدتكم، أن تشككوه فيما أُنزل إليه!... فإنكم بهذا ترومون محالا!... وإن هذا الأصل بالنظر إلى نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يُشبه الأصل الذي ذكره الحق بالنظر إلى نفسه تعالى، في قوله على لسان رسله عليهم السلام: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10]. وذلك -وبخلاف ما تدرك العقول القاصرة- لأن الشك لا يصح تعلّقه بالحق من كونه وجودا؛ لأنه هو نفسه من حضرة الإمكان، لا من حضرة الوجود. وعلى هذا، فكما لا يصح الشك في الله، لا يصح تكذيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكل من يفعل ذلك، لا يفعله إلا من مقام الجهل؛ لا من مقام العلم، كما قد يتوهم!... نقول هذا بالخصوص، لأصحاب المذهب الشكي بحسبهم، والذين يظنون أن الشك لا بد أن يسبق العلم منهجيا؛ وهيهات!... فليُتأمّل هذا الأصل، فإنه على غرابته لدى ضعفاء العقول، نافع جدا!... ولعلنا نعود إلى أصل هذه المسألة بتفصيل أكبر، في موضع آخر؛ لأنها مما يحتاج إليه الدارسون للفلسفة خصوصا. 8. زواج النبي من خديجة وفي الخامسة والعشرين من عمره، خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الشام متاجرا فـي مال خديجـة بنت خويلد عليها السلام. وكانت امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجـال في مالهـا، وتضـاربهم إياه بشيء تجعله لهم؛ فلما بلغهـا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما بلغها، من صدق حديثه، وعظم أمانته، وكـرم أخلاقه، بعثت إليه؛ فعرضـت عليه أن يخرج في مال لهـا إلـى الشـام، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار؛ فقبل النبي صلـى الله عليـه وآله وسلم منها، وخرج معه غلام لها يقال له ميسرة في رحلته تلك. ولما رجـع إلـى مكة بالتجارة، ورأت خديجة في مالهـا ما يسرّها؛ وأخبرها غلامها ميسرة بما رأى في النبي صلـى الله عليـه وآله وسلم من خـلال حميدة، وشمائل كريمة، وعقل راجـح، ومنطـق صـادق، ومعاملة أمينة؛ ظنت أنها وجـدت ضالتها المنشودة، وهي التي كان السادات والـرؤسـاء يحـرصـون علـى زواجها، فتأبى عليهم ذلـك. فتحدثت بما في نفسها إلى صديقتها نفيـسة بنت منبه، التي ذهبت إلى النبي صلـى الله عليه وآله وسلـم، تفاتحه في الزواج بخديجـة؛ فرضي بذلـك، وكلم أعمامه، فذهبوا إلى عم خديجة وخطبوها؛ وعلـى إثـر ذلـك تم الزواج. وحضر العقد بنو هاشم ورؤساء مضر؛ وذلـك بعد رجـوعه -صلى الله عليه وآله وسلم- من الشام بشهرين؛ وكانت سنها إذ ذاك أربعين سنة على الأرجح. وهي أول امرأة يتزوجها النبي صلـى الله عليـه وآله وسلم، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت. وكل أولاده صلى الله عليـه وآله وسلم منها سوى إبراهيم؛ فولدت له أولًا القاسم وبه كان يكنى، ثم زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، وعبد الله. وقد مات الأبناء كلهم في صغرهم، أما البنات فكلهن أدركن الإسلام، فأسلمن وهاجرن؛ إلا أن الوفاة أدركتهن في حياته صلى الله عليه وآله وسلم؛ سوى فاطمة عليها السلام، فقد تأخرت بعده ستة أشهر ثم لحقت به راضية مرضية. ورغم أن المشهور عند المؤرخين بلوغ خديجة عليها السلام أربعين عاماً، عند زواجها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإن ابن عباس -رضي الله عنهما- يروي أنها كانت في الثامنة والعشرين، وأنها كانت أكبر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقليل. وهذه الرواية لها ما يؤيدها من تاريخ أم المؤمنين عليها السلام. وذلك لأن المعـروف أنها أنجـبت عبد الله بعد البعثة النبوية؛ ولما كانت البعثة النبوية بعد زواجها بخمسة عشر عاماً، فعلى رواية الأربعين ينبغي أن يكون عمرها عند إنجابه أكثر من خمس وخمسين سنة؛ وهذا مستبعد. لذلك كانـت رواية ابن عباس أقرب إلى الصحة، خلافـاً لما عليه الجمهور. وإذا صح ما جاء في تاريخ اليعقوبي من أن النبي تزوج وعنده ثلاثون سنة، واعتبرناه في روايـة ابن عباس، فإنه يتضح لنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان وقت زواجه أكبر من خديجة بعامين. وعلى كل حـال، فقد كان زواجهما مباركاً وموفقاً؛ وقد كانت خديجة سكناً وسنداً ورفيقاً، ووجـدت في النبي صلى الله عليه وآله وسلم زوجـاً بـاراً كريماً، فوقفت بجانبه تؤازره وتناصره. وهو ما جعله يثني عليها دائماً بالخير، وجعله لا يتـزوج عليها طوال حياتها. ويقفز المؤرخون قفزة زمنية واسعة، امتدت عشر سنوات من عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مـن الخـامسة والعشرين إلى الخامسة والثلاثين، لم يذكروا عنـه فيهـا شيـئاً؛ وإن كان من المسلَّم به أنه لم ينقطع عن مخالطة أهل مكة في شؤونهم العامة، من غير مقارفة لما تأباه طهارته صلى الله عليه وآله وسلم، من عبادةٍ لأوثان أو معاقرةٍ لخمر. ولقد عرفت خديجة عليها السلام برغبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الاختلاء والعزلة، بين الفينة والأخرى، فكانت تعينه على ذلك، وتوافقه عليه. وأما دلالة زواجه صلى الله عليه وآله وسلم، فهي على فقره الذاتي من جهة؛ وعلى مرتبة الواحدية التي هي أصل وجود الخلق. وبما أنه صلى الله عليه وآله وسلم أصل الخلق من جهة حقيقته، فإنه كان لا بد من جريان هذا الحكم عليه بالزواج والإنجاب؛ قياسا على ما كان في حضرة الحق من التثليث المنتج لحقائق الخلق. ونعني من هذا، أن الزواج، هو حلول في مرتبة التثليث من جهة الحقيقة؛ لأن الزوجيْن لهما بالضرورة حال من الجمع يكون المعتبر فيه المعنى الجامع ثالثا، بالإضافة إليهما. وقد عرفت وليّا لله، كان في مجمل عمره أعزب، لا يتمكن من الزواج، رغم طلبه لذلك؛ ورغم حرصه على السنة الظاهرة بالغ الحرص؛ فأخبرني يوما، أن ذلك من أثر المقام عليه، فعرفت مقامه بحمد الله. ومن فهم عنا، فإنه سيعلم لمَ لم يتزوج عيسى في حياته الدنيوية الأولى، ولمَ سيتزوج بعد نزوله ثانية، عليه السلام. وما الفرق بين مقامه الأول ومقامه الثاني، الذي سيترقّى ببركة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم إليه. 9. إعادة بناء الكعبة: ولخمس وثلاثين سنة من مولده صلى الله عليـه وآله وسلم قامت قريش ببناء الكعبة؛ وذلك لأن الكعبة كانت رَضْماً فوق القامة، ارتفاعها تسعة أذرع من عهد إسماعيل عليه السلام؛ ولم يكن لها سقف. فسرق نفر من اللصوص كنزها الذي كان في جوفها، وكـانت مع ذلك قد تعرضت باعتبارها أثرا قديماً، للعوادي التي هدت بنيانها، وصدعت جدرانها. وقبل بعثته صلى الله عليه وآله وسلم بخمس سنين جرف مكة سيل عرمرم، انحدر إلى البيت الحرام، فأوشكت الكعبة منه على الانهيار، فاضطرت قريش إلى تجديد بنائها حرصا على مكانتها؛ واتفقوا على ألا يُدخلوا في بنائها إلا طيبا: فلا يدخلون فيها مهر بغيّ ولا بيع ربـاً ولا مظـلمة أحد من الناس. وتـرددت قريش في هدم الكعبة، لأنها خشيت أن يصيبهم أذى من قِبل الله؛ فأقدم الوليد ابن المغيرة فأخذ المـعول وقـال: "اللّهم لا نريد إلا الخير"، ثم هدم ناحية الركنين، وانتظر القوم حتى الصباح لينظروا ما الله فاعل بالوليد؛ فلما أصبح على خير ولم يصبه شيء، تبعه النـاس في الهدم في اليوم الثاني. ولم يزالوا في الهدم، حتى وصلـوا إلى قواعد إبراهيم، ثم أرادوا الأخذ في البناء فجزأوا الكعبة، وخصصوا لكل قبيلة جزءا منها. فكان شق الباب لبني مناف وزهرة، وظهر الكعبة لبني جمح وبني سهم، وشـق الحِجـر لبني عبد الدار وبني أسد وبني عدي، وما بين الركن الأسود واليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم. وتولى البناء بَنّاء روميّ اسمه باقوم. ثم قامت القبائل بنقل الحجارة من جبال مكة، وشارك الـنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حمل هذه الحجارة. ثم بدأت كل جماعة في بناء ما أسند إليها، فلما ارتفع البـناء مقدار قامة رجل، وجاء وقت وضع الحجر الأسود في مكانه، تنازعت القبائل جمعيها شرف وضعه، واشتـد الخلاف بينهم، وتحالفت بنو الدار وبنـو عدي أن يحولوا بين أي قبيلة وهذا الشرف العظيم، وجاءوا بحفنة مملوءة دماً ووضعوا أيديهم فيهـا توكيداً لأيمانهم، ومِن ثم سموا بلعقة الدم. وباتت قريش على شفا حرب ضروس في أرض الحرم، وتوقف البناء خمسة أيام. ويـروي المـؤرخون أن أبا أمية بن المغيرة، وكـان من قريش، لما رأى ما وصلت إليه حال القبائل، خشي أن ينفرط عِقدها، فأشار عليهم بأن يحكّموا فيما شجر بينهم، أول داخـل عليهم من باب المسجد فارتضوه. وشاء الله أن يكون ذلـك الداخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رأوه هتفوا: "هـذا الأمـيـن! هذا محمد! رضينا بالأمين حكماً!"، فلما انتهى إليهم، وأخبروه الخبر، طلب رداء فوضع الحجر وسطه، وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعا بأطراف الرداء، وأمرهم أن يرفعوه؛ حتى إذا أوصلوه إلى موضعه، أخذه بيديه الشريفتيْن فوضعه في مكانه؛ وهذا حل حصيف رضي به القوم. ومما تجدر ملاحظته أن احتكام أهل مكة إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم يدل على أنه لم يكن شخصا عاديا في مجتمعهم، وإنما كان إنسانا عظيما يستعان برأيه وقت الشدة. واهتداؤه صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا الحل، يدل على أنه كان على وحي غير تشريعي، مما يكون للأولياء. وقد لفت إليه صلى الله عليه وآله وسلم، بهذا الفعل، أنظار العرب قاطبة؛ فبالرغم من كون الصراع داخليا بين قبائل مكة، إلا أن الحدث ارتبط بالكعبة التي يحج إليها جميع العرب. وقـصرت بقريش النفقة الطـيبة، فأخرجوا من الجهة الشمالية نحواً من ستة أذرع، وهي التي تسمى بالحجر والحطيم، ورفـعوا بابها من الأرض؛ لئلا يدخلها إلا من أرادوا، ولما بلغ البناء خمسة عشر ذراعا سقفوه على ستة أعمدة. وصارت الكعبة بعد انتهائها ذات شكل مربع تقريبا، يبلغ ارتفاعه 15 مترا، وطول ضلعه الذي فيه الحجر الأسود والمقابل له 10 أمتار؛ والحجر موضوع على ارتفاع متر ونصف من أرضية المطاف. والضلع الذي فيه الباب والمقابل له 12 مترا، وبابها على ارتفاع متـرين من الأرض، ويحيط بها من الخارج قصبة من البناء أسفلها، متوسطُ ارتفاعها ربع متر، ومتوسط عرضها نصف متر، وتسمى بالشـاذروان؛ وهي من أصل البيت، لكن قريشـا تركتها. ولحدث إعادة بناء الكعبة مدلول رمزي، وهو أنه صلى الله عليه وآله وسلم، كما أعاد بناء الكعبة التي هي بيت الله الذي جعله للناس مثابة وأمنا، والذي بناه إبراهيم عليه السلام مع ابنه إسماعيل عند زيارته لأهله بعد غياب؛ فإنه سيُعيد تشييد الدين على أساسه الرباني وملة إبراهيم التوحيدية. وينبغي أن نشير إلى أن الكعبة التي ستُصبح ثاني قبلة للمسلمين فيما بعد، تأتي من جهة المكانة في مقابل بيت المقدس، الذي كان قبلة الأنبياء السابقين، وكان أول قبلة للمسلمين أنفسهم. ولقد بقي بيت الله الحرام محجا للعرب، على سنّة إسماعيل عليه السلام، بالموازاة مع نبوة بني إسرائيل التي بقيت تدور على بيت المقدس. والفرق بين مرتبة بيت المقدس وبيت الله الحرام، هو أن الأول مرتبة قلبية إيمانية، تدور عليه دعوات مرتبة الإسلام والإيمان حصرا؛ وأما الثاني فمرتبته ذاتية، وهي التي بقيت في دعوة إبراهيم كامنة تنتظر أن يظهر مَن يدعو بها من نسله. وإن إبراهيم عليه السلام، عندما دعا ربه بقوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129]، فإنما كان يرجو تكميل الدين بالدعوة إلى كل مراتبه؛ لأن تعليم الكتاب، يقتضي علمه من مرتبة قرآنه قبل مرتبة فرقانه (بحسب الترتيب المعرفي لا السلوكي)؛ والمرتبة القرآنية ذاتية. وإن كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قد بدأ صلاته مصليا نحو بيت المقدس، ثم انتهى متوجها إلى الكعبة، يدل من جهة، على اتصال دعوته بدعوات الأنبياء السابقين كلهم؛ ويدل من جهة أخرى، على انفراده دونهم بالدعوة إلى الذات، بحسب ما يليق بها. وإن وضعه صلى الله عليه وآله وسلم للحجر الأسود بيديْه الشريفتيْن، يدل على حجابته الكبرى بين يدي الله؛ وهي التي ذكرها ابن بشيش رضي الله عنه في قوله في صلاته المشهورة: "اللهمَّ إنهُ سِرُّكَ الجامعُ الدالُّ عليكَ، وحجابُكَ الأعظمُ القائمُ لكَ بينَ يديكَ.". وهذه الحجابة عامة، تعم السابقين واللاحقين؛ من تقدموا في الزمان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن تأخروا عليه. ولهذا كنا نقول: لا يدخل داخل على الله، إلا من باب النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ كائنا ما كان. وهذه المرتبة من الدلالة، هي فوق نبوة الأنبياء؛ لأنها باطن النبوة وروحها... [1] . أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.