اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2021/12/09 الحوار الغائب (ج3) -27- المرحلة المدنية (13) (تابع...) ض. أشد ساعة على النبي: [وبعد سقوط ابن السكن بقي الرسول في القرشيين فقط، ففي الصحيحين عن أبي عثمان قال: لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي يقاتل فيهن، غير طلحة ابن عبيد الله وسعد (بن أبي وقاص)، وكانت أحرج ساعة بالنسبة إلى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرصة ذهبية بالنسبة إلى المشركين. ولم يتوان المشركون في انتهاز تلك الفرصة، فقد ركزوا حملتهم على النبي صلى الله عليه وسلم، وطمعوا في القضاء عليه: رماه عتبة بن أبي وقاص بالحجارة فوقع لشقه، وأصيبت رباعيته اليمنى السفلى، وكُلِمَتْ شفته السفلى، وتقدم إليه عبد الله بن شهاب الزهري فَشَجَّه في جبهته، وجاء فارس عنيد هو عبد الله بن قَمِئَة، فضرب على عاتقه بالسيف ضربة عنيفة شكا لأجلها أكثر من شهر إلا أنه لم يتمكن من هتك الدرعين؛ ثم ضرب على وجنته صلى الله عليه وسلم ضربة أخرى عنيفة كالأولى حتى دخلت حلقتان من حلق المِغْفَر في وجْنَتِه، وقال: خذها وأنا ابن قمئة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يمسح الدم عن وجهه: «أَقْمَأَكَ اللَّهُ!»[1]. وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كسرت رَبَاعِيَته، وشُجَّ في رأسه، فجعل يَسْلُتُ الدم عنه ويقول: «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا وَجْهَ نَبِيِّهِمْ، وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}.»[2]. وفي رواية الطبراني أنه قال يومئذ: «يَوْمَئِذٍ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ كَلَمُوا وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ!»، ثم مكث ساعة ثم قال: « اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ!»[3]، وفي صحيح مسلم أنه قال: «رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ!» ، وفي الشِّفا للقاضي عياض أنه قال: «اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ!». ولا شك أن المشركين كانوا يهدفون للقضاء على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن القرشيين سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله قاما ببطولة نادرة، وقاتلا ببسالة منقطعة النظير، حتى لم يتركا (وهما اثنان فحسب) سبيلا ً إلى نجاح المشركين في هدفهم. وكانا من أمهر رماة العرب، فتناضلا حتى أجهضا مفرزة المشركين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأما سعد بن أبي وقاص، فقد نثل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته وقال: «ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي!»[4]؛ ويدل على مدى كفاءته، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع أبويه لأحد غير سعد. وأما طلحة بن عبيد الله فقد روى النسائي عن جابر قصة تَجَمَّع المشركين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار، قال جابر: فأدرك المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «مَنْ لِلْقَوْمِ؟» فقال طلحة: أنا، ثم ذكر جابر تقدم الأنصار، وقتلهم واحداً بعد واحد، بنحو ما ذكرنا من رواية مسلم؛ فلما قتل الأنصار كلهم تقدم طلحة. قال جابر: ثم قاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى ضربت يده فقطعت أصابعه، فقال: حَسِّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « لَوْ قُلْتَ بِسْمِ اللَّهِ لَرَفَعَتْكَ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ!»، قال: ثم رد الله المشركين. ووقع عند الحاكم في الإكليل أنه جرح يوم أحد تسعاً وثلاثين أو خمساً وثلاثين، وشلت إصبعه، أي السبابة والتي تليها. وروى البخاري عن قيس بن أبي حازم قال: «رَأَيْتُ يَدَ طَلْحَةَ شَلَّاءَ، وَقَى بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُد.». وروى الطبراني في المعجم الكبير، وضياء الدين المقدسي في الأحاديث المختارة، عن موسى بن طلحة عن أبيه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآني قال: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَهِيدٍ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ!»". وروى ابن حجر في المطالب العالية، عن عائشة قالت: "كَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا ذَكَرَ يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ: "ذَلِكَ يَوْمٌ كَانَ كُلُّهُ يَوْمَ طَلْحَةَ!"". وقال فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه أيضاً: يا طلحة بن عبيد الله قد وَجَبَتْ *** لك الجنان وبُوِّئتَ المـَهَا العِينَا وفي ذلك الظرف الدقيق والساعة الحرجة أنزل الله نصره بالغيب: ففي الصحيحين عن سعد، قال: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَمَعَهُ رَجُلَانِ يُقَاتِلَانِ عَنْهُ، عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ، كَأَشَدِّ الْقِتَالِ؛ مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ. وفي رواية: يعني جبريل وميكائيل.][5]. لقد سبق أن رأينا عند كلامنا عن غزوة بدر، أن الله قد غضب من المسلمين عند قبولهم بالفداء للأسرى؛ فقال سبحانه: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 67، 68]. ورأينا ما أثبتناه هناك، وما سنعيده هنا من باب التذكير: [ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة استشار أصحابه في الأسارى، "فقال أبو بكر: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، هَؤُلَاءِ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ وَالْإِخْوَانِ؛ فَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمُ الْفِدْيَةَ، فَيَكُونُ مَا أَخَذْنَا مِنْهُمْ قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ؛ وَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ فَيَكُونُوا لَنَا عَضُدًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا تَرَى يَابْنَ الْخَطَّابِ؟» قال: قُلْتُ: وَاللَّهِ مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ، وَلَكِنْ أَرَى أَنْ تُمَكِّنَنِي مِنْ فُلَانٍ (قَرِيبًا لِعُمَرَ) فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنَ حَمْزَةَ مِنْ أَخِيهِ فُلَانٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ؛ حَتَّى يَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قُلُوبِنَا هَوَادَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ؛ هَؤُلَاءِ صَنَادِيدُهُمْ وَأَئِمَّتُهُمْ وَقَادَتُهُمْ! فَهَوِيَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ؛ فَأَخَذَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ. فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ، قَالَ عُمَرُ: غَدَوْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ قَاعِدٌ وَأَبُو بَكْرٍ يَبْكِيَانِ. قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي مَاذَا يُبْكِيكَ أَنْتَ وَصَاحِبُكَ؟ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنَ الْفِدَاءِ! لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُكُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ! (لِشَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ) وَأَنْزَلَ اللَّهُ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا، إِلَى قَوْلِهِ: لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.]؛ والعذاب الذي رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أدنى من الشجرة، هو ما كان ينتظرهم في غزوة أحد؛ حيث قتل سبعون من المسلمين (وهو عدد الكثرة)، وأصاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما أصاب؛ بالإضافة إلى الزلزال الباطني الذي زُلزِله الصحابة مرات متتالية: مرة عند ظنهم موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومرة عند علمهم بمحاصرة المشركين له، ومرة عند اضطرارهم إلى مواجهة كثرة المشركين بقلة منهم!... وما ينبغي أن نذكره هنا، هو أن العذاب الذي كان سيصيب المسلمين، ربما كان سيمحقهم؛ ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم العليم بهذه الأمور من جهة الغيب، وقبل ظهورها في عالم الشهادة، آثر أن يفدي أصحابه بنفسه الشريفة. وإن قطرة الدم الواحدة منه عليه السلام، تعدل الأنهار من غيره بلا شك، فكان اختياره صلى الله عليه وآله وسلم لشج وجهه الشريف وكسر رباعيته، بديلا عما كان سيصيب الأصحاب. وإذا علمنا أنه قد مات منهم سبعون، مع إصابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه الشريفة، فإننا سنعلم مقدار العذاب الذي كان نازلا عليهم. وهذا الأصل من الفداء، معلوم لرجال الغيب، فلا داعي إلى أن نؤصل له هنا فنخرج عن الغرض من الكتاب. ومبدأ الفداء هذا، هو الذي ضلت به النصارى، عند قولهم بقتل عيسى عليه السلام فداء للمؤمنين به. ولولا أنه سبق لهم علم بهذا المبدأ، لم يكونوا ليُنشئوا عليه عقيدتهم!... وسنعود بشيء من التفصيل إلى مسألة الفداء بعد فقرات إن شاء الله... وأما النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه كان على علم بعدم غلبة المشركين، رغم كل ما حدث. وقد روى أحمد في مسنده عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ دَمَّوْا وَجْهَ رَسُولِهِ!»، ثم قَالَ بعدها: «اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا!». فهذه العبارة الثانية، تدل على ما ذهبنا إليه. لذلك فإن الامتحان كان للصحابة رضي الله عنهم، وأما النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يُمتحن إلا ظاهر باطنه لحكمة يعلمها أهلها. وإن قول الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، وإن كان قد نزل يوم الأحزاب، فإنه عام لجميع أحوال الشدة التي تصيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه. والامتحان المفضي إلى الزلزلة، لا شك أنه منوط بالأتباع وحدهم، لنزاهة النبي عن الامتحان. وأما قوله عليه السلام مع القائلين: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ؟}، فهو بالنظر إلى الأتباع ونتيجة للخوف عليهم. وهذا يشبه خوف الأنبياء على أممهم يوم القيامة، مع كونهم آمنين في أنفسهم!... فليُعتبر هذا!... وأما ما اختص الله به طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، من وقاية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه، فهو كما أخبر الصديق رضي الله عنه: فوزه بجائزة يوم أحد دون غيره. وهي ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه قد نال مرتبة الشهادة، وهو حي يمشي على الأرض. وهذه الشهادة صنف، لا يخلو منه زمان؛ يكون الرجل عند الله ميتا، وهو حي حياة طبيعية بين الناس، وأجله لم يحن بعد. وقد صحبت سيدي ابن الطاهر الشريف الإدريسي مدة، وكان من الواصلين، فأخبرني عن حاله من غير أن يُفصح على عادته، ولشدة أدبه مع ربه، فقال: إن لله عبادا، قد انتقلت أرواحهم إلى العالم العلوي، وبقيت أجسامهم في هذا العالم تنتظر الأجل؛ فهي في عيشتها الأرضية تُشبه عيشة الدواب!... وقد فهمت عنه -بفضل الله- مقصده، وكنت أعرف له مرتبته. وأهل هذه المرتبة، لا يُعدون من أهل الدنيا إلا من جهة أبدانهم؛ أما من جهة أرواحهم، فهم من أهل الآخرة. وقد حكمنا عليهم بحكم الآخرة، لا بحكم البرزخ، لأننا نعلم مجاوزتهم بالحال لأهله. ومن هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبلال: «بمَ سَبقْتَنِي إِلَى الْجَنَّةِ؟!»، قَالَ: مَا أَحْدَثْتُ إِلَّا تَوَضَّأْتُ وَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بهَذَا!». فحُكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحكم الخواص من أمته في البرزخ، حكم الآخرة، لا حكم البرزخ؛ غير أن هذا لا يظهر لعموم أهل البرزخ، بسبب انحجابهم عن الحقائق. وكل هذا، والآخرة لم تُخلق بعد، على الصورة التي يصفها الله في القرآن، ويصفها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأخبار. وهذا العلم من العلم الغريب، الذي لا يعلمه إلا الغرباء؛ فلا يعترضن علينا أحد فيه بما يعطيه عقله، وإن توهم أنه منطلق فيه من النص الشرعي!... فإذا عرفنا أهل هذا الصنف من الشهادة، الذين لم يُغادروا الدنيا بنيلهم للشهادة، وجب علينا أن نعرف أنهم في الصحابة كثير؛ وليس الأمر مقصورا على طلحة وحده. ولعلنا سنقف مع جريان الأحداث، على بعض الصحابة الذين نالوا هذه المرتبة، مرة بعد أخرى؛ ولعله سيظهر لنا مع كل واحد من هؤلاء الشهداء الأحياء، ما يخصه في نفسه، لنزداد علما بهذه الطائفة المرْضية. وأما ذكر مقاتلة جبريل وميكائيل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غيبا، كما أخبر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فهو عندنا مما لا يتطرق إليه الشك. وذلك لأن الملكيْن الشريفيْن -عليهما السلام- هما خادمان لمرتبة الخلافة عن الله؛ يوجههما (كما يوجه غيرهما) الخليفة بباطنه حيث يُريد. وكل من يتوهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يكون معرَّضا للهلاك، كغيره من الناس حوله، فإنه يكون جاهلا جهلا عظيما بمرتبته صلى الله عليه وآله وسلم. ومن هنا نعلم، أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان مختارا مـُريدا لما أصابه يوم أحد من أذى؛ ولو شاء أن لا يُصاب بشيء لكان له ذلك؛ ولكنه -كما أسلفنا- آثر فداء أصحابه، لئلا يهلكوا عن بكرة أبيهم، أو يهلك معظمهم. والذي نحن على يقين من أنه كان بعيدا عن غضب الله في هذه النازلة، هو عمر رضي الله عنه وحده، لموافقته حكم الله في عدم قبول الفداء من أسرى بدر؛ مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعلم حكم الله، ولكنه مال إلى حكم أبي بكر رضي الله عنه، من شدة إشفاقه على قومه يومئذ. وما كان ميل النبي إلى حكم أبي بكر إلا ظاهرا، ولعلمه بالحكمة التربوية من ورائه؛ وأما باطنه عليه السلام فكان على علم بحكم الله، وكان متشبثا به من جهة الغيب. ولولا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، تشبث بحكم الله من جهة الغيب، لصار الحكم منسوخا؛ ولم يظهر في عالم الشهادة إلا ما يوافق رأي أبي بكر من عمر نفسه. نقول كل هذا، من باب تقليب المسألة العلمية على وجوهها؛ وإلا فإن القدر قد شاء الله أن يجري بالذي كان. وهذا التناول العلمي، يفتح آفاقا، لأهل الباطن وأهل الظاهر، لم تكن لتفتح دونه. فالحمد لله على فضله العام: علينا وعلى الناس!... وأما قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، عند إصابته في أحد: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128]؛ فهو تذكير له بحكم الله السابق في الأصحاب (حكمه)، لأنه لو شاء لنسخه من مرتبة الخلافة؛ فعاد وكأن مخالفة الصحابة للتوجيه النبوي في أحد، كانت ابتداء، وكانوا يستحقون عليها العقوبة، من دون أن يحمل عنهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئا. وهكذا عاد الحكم، إلى ما كان عليه في غزوة بدر، وكانت مخالفة الصحابة في أحد ناتجة عن ذلك الحكم، حتى تكون قدرا جالبا للعقوبة مرتيْن: الأولى أصلية (منوطة ببدر)، والثانية فرعية (منوطة بأحد جزئيا)؛ ولكن هذا الحكم المركب، كان يستتبع حمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بذاته الشريفة لمعظم العذاب النازل. ومن فهم هذا، لا بد له أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من جهة رأفته بأمته وشفقته عليها، لن يقبل بعذابها في الآخرة، ولن يحتمله. وقد ذكر هذا المعنى المفسرون، عند قول الله تعالى من باب البشارة لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]، وذكره الله في قوله تعالى أيضا: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]. قال المفسرون رواية عن العباس عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن الله وعد النبي بأن لا يُدخل أحدا من أهل بيته النار، وقيل أحدا من أمته. ونحن مع عموم الحكم، لكنَّ إنفاذ الحكم في الآخرة له وجوه وتفاصيل، لا يتسع الوقت لذكرها هنا. ظ. تجمع الصحابة من جديد حول النبي: [وقعت هذه كلها بسرعة هائلة في لحظات خاطفة، وإلا فالمصطفون الأخيار من صحابته صلى الله عليه وسلم (الذين كانوا في مقدمة صفوف المسلمين عند القتال) لم يكادوا يرون تغير الموقف، أو يسمعون صوته صلى الله عليه وسلم حتى أسرعوا إليه؛ لئلا يصل إليه شيء يكرهونه؛ إلا أنهم وصلوا وقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقي من الجراحات، وستة من الأنصار قد قتلوا، والسابع قد أثبتته الجراحات؛ وسعد وطلحة يكافحان أشد الكفاح. فلما وصلوا أقاموا حوله سياجاً من أجسادهم وسلاحهم، وبالغوا في وقايته من ضربات العدو، ورد هجماته. وكان أول من رجع إليه هو ثانيه في الغار أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه. روى ابن حبان في صحيحه، عن عائشة قالت: قال أبو بكر الصديق: "لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْصَرَفَ النَّاسُ كُلُّهُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَرَأَيْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ رَجُلا يُقَاتِلُ عَنْهُ وَيَحْمِيهِ؛ قُلْتُ: كُنْ طَلْحَةَ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي! كُنْ طَلْحَةَ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي!... فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ أَدْرَكَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، فَإِذَا هُوَ يَشْتَدُّ كَأَنَّهُ طَيْرٌ حَتَّى لَحِقَنِي، فَدَفَعْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا طَلْحَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ صَرِيعًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دُونَكُمْ أَخَاكُمْ فَقَدْ أَوْجَبَ!»، وَقَدْ رُمِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَبِينِهِ، وَرُمِيَ وَجْهُهُ حَتَّى غَابَتْ حَلَقَةٌ مِنْ حَلَقِ الْمِغْفَرِ فِي وَجْنَتِهِ؛ فَذَهَبْت لأَنْزِعَهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ يَا أَبَا بَكْرٍ، إِلا تَرَكْتَنِي! قَالَ: فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ السَّهْمَ بِفِيهِ، فَجَعَلَ يُنَضْنِضُهُ كَرَاهَةَ أَنْ يُؤْذِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ اسْتَلَّ السَّهْمَ بِفِيهِ، وَنَدَرَتْ ثَنِيَّةُ أَبِي عُبَيْدَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ثُمَّ ذَهَبْتُ لآخُذَ الآخَرَ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ يَا أَبَا بَكْرٍ، إِلا تَرَكْتَنِي! قَالَ: فَأَخَذَهُ بِفِيهِ فَجَعَلَ يُنَضْنِضُهُ، ثُمَّ اسْتَلَّهُ، وَنَدَرَتْ ثَنِيَّةُ أَبِي عُبَيْدَةَ الأُخْرَى؛ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دُونَكُمْ أَخَاكُمْ فَقَدْ أَوْجَبَ!». قَالَ: فَأَقْبَلْنَا عَلَى طَلْحَةَ نُعَالِجُهُ، وَقَدْ أَصَابَتْهُ بِضْعَةَ عَشَرَ ضَرْبَةً؛ بَيْنَ ضَرْبَةٍ، وَطَعْنَةٍ، وَرَمْيَةٍ، وَمِنْهَا بَرِيقًا فِي جَبِينِهِ، وَمِنْهَا مَا قَطَعَ نَسَاهُ حَتَّى يَبُسَتْ أُصْبُعُهُ."[6] وخلال هذه اللحظات الحرجة اجتمع حول النبي صلى الله عليه وسلم عصابة من أبطال المسلمين منهم أبو دُجَانة، ومصعب بن عمير، وعلي بن أبي طالب، وسهل بن حنيف، ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري، وأم عمارة نُسَيْبة بنت كعب المازنية، وقتادة بن النعمان، وعمر بن الخطاب، وحاطب بن أبي بلتعة، وأبو طلحة (جزاهم الله عنا خيرا).][7]. نلاحظ في هذا المقطع أن الصّدّيق رضي الله عنه -على عادته- كان ألصق واحد بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، يقصد حمايته وفداءه بنفسه؛ ثم لحقه أحد أكابر الصحابة: أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وطلب من الصديق أن يمنّ عليه بتركه يفك الحلق المغروز في وجنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتركه ليستل السهم بفيه، ويترك هناك ثنيتيْه عربونا على محبته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأما طلحة فكان قد سبق أن سقط من جراحاته، بعد أن سبقهما إلى القيام بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مدافعا. وكانت كلمة أبي بكر وهو آت من بعيد لهذا الرجل الفذ: "كُنْ طَلْحَةَ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي!"، تدل من جهة على أن الصديق ما كان ليأمن غيره -رضي الله عنهما- في مثل هذه الشدة، على شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ ومن جهة أخرى تدل على أن أبا بكر كانت له إرادة بالله نافذة، استجاب الله لها ليجد طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، كما رجا من ربه، ويجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدل الصحابيين القادميْن على أخيهما ليُصلحا من شأنه؛ رغم جراحاته في نفسه الشريفة. وما أحسن عبارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يُشير إلى طلحة بقوله: «دُونَكُمْ أَخَاكُمْ فَقَدْ أَوْجَبَ!»؛ أي قد أتى بما أوجب الله عليه، فوجبت له الجنة!... فهنيئا له ولإخوانه الذين سلكوا مسلكه من جميع المؤمنين!... [كما كان عدد المشركين يتضاعف كل آن، وبالطبع فقد اشتدت حملاتهم وزاد ضغطهم على المسلمين، حتى سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها، فجُحِشَتْ ركبته، وأخذه عليّ بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائماً، وقال نافع بن جبير: سمعت رجلاً من المهاجرين يقول: شهدت أُحُداً فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها، كل ذلك يُصرف عنه، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ: دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا! ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، ما معه أحد! ثم جاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان؛ فقال: والله ما رأيته! أحلف بالله إنه منا ممنوع! خرجنا أربعة، فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله، فلم نخلص إلى ذلك!][8]. نستفيد من هذا المقطع، أن الله كان يمنع نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، من أن يُصيبه أحد المشركين الأنجاس. ولكن السؤال الذي ينبغي أن يتبادر إلى الذهن الآن، هو: إذا كان الأمر هكذا، فلم سُلِّط الأعداء على النبي، حتى أصابوا منه كل تلك الجراحات، وأصابوه بكل تلك المشاق؟ والجواب هو: بما أن الله كان قد كتب على المسلمين العقوبة على ما اقترفوه في بدر، وظهر ذلك منهم في أحد في صورة المخالفة لأمر النبي؛ وبما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا يظهر شيء من ذلك إلى عالم الشهادة إلا عن طريقه؛ فإنه بعد علمه بالمقدور، شاء أن يتعرض بذاته الشريفة له، حتى لا يهلك أصحابه؛ فهذا هو سبب جراحاته ونزول الدم منه عليه السلام. وهذا يعني أن القطرة الواحدة من دمه الشريف، كانت فداء للعدد العديد من المسلمين، من أهل أُحد وممن جاءوا بعدهم في الزمان؛ وهو من الفداء الذي يكون من إمام القوم في الدنيا لأتباعه. وهو المعنى الذي تفطنت إليه النصارى، فنسبوه إلى عيسى عليه السلام؛ لو أنهم عرفوا حقيقة الأمر، ولم يغلب عليهم الظاهر. وقد ذكرنا في الجزء الأول من هذا الكتاب، أن عيسى لم يكن ليجري عليه الصلب أو الموت، بسبب غلبة روحانيته فحسب. وهذا خاص بطوره الدنيوي الأول، وأما بعد نزوله -عليه السلام- ثانية، فإنه سيبلغ الاعتدال المحمدي، الذي نتكلم عنه نحن بغير ما يعقل النصارى من الفداء؛ ولسنا نعني إلا إصابتهم أصل الحكم، وإخطاءهم تنزيله. وأما نحن -بحمد الله- فنعلم الأصل، ونخالف في التنزيل بين ما وقع لنبينا عليه السلام، وما وقع لعيسى. وكلا الأمريْن واقع من أولياء هذه الأمة، بحسب صنف الوراثة. وهذا علم جليل، ينفع الناس عند نزول البلاء؛ فإنهم إذا علموه قصدوا من له القدرة على اعتراضه بنفسه وحده. وقد حُكي هذا عن بعض الأولين، حتى أصبح من كان له علم بنزول البلاء إذا رأى الناس في عافية، سأل عن ولي بعينه، فيُخبَر أنه قد نزل به بلاء في نفسه، فيعلم أنه اعترض البلاء فداء لعموم الناس، جزاه الله خيرا، وجزى من على شاكلته من أهل كل زمان!... [وقام المسلمون ببطولات نادرة وتضحيات رائعة، لم يعرف لها التاريخ نظيراً. كان أبو طلحة يسور نفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرفع صدره ليقيه سهام العدو. قال أنس: "لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو طَلْحَةَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُجَوِّبٌ بِهِ عَلَيْهِ بِحَجَفَةٍ لَهُ (ترس من الجلود)، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ رَجُلًا رَامِيًا شَدِيدَ الْقِدِّ يَكْسِرُ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا؛ وَكَانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ مَعَهُ الْجَعْبَةُ مِنَ النَّبْلِ، فَيَقُولُ: "انْشُرْهَا لِأَبِي طَلْحَةَ!"، فَأَشْرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَى الْقَوْمِ، فَيَقُولُ أَبُو طَلْحَةَ: "يَا نَبِيَّ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! لَا تُشْرِفْ، يُصِيبُكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْقَوْمِ! نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ!"([9]). (...) وقام أبو دجانة أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَتَرَّسَ عليه بظهره. والنبل يقع عليه وهو لا يتحرك. وتبع حاطب بن أبي بلتعة عتبة بن أبي وقاص (الذي كسر الرَّباعية الشريفة)، فضربه بالسيف حتى طرح رأسه، ثم أخذ فرسه وسيفه؛ وكان سعد بن أبي وقاص شديد الحرص على قتل أخيه عتبة هذا، إلا أنه لم يظفر به، بل ظفر به حاطب. وكان سهل بن حُنَيف أحد الرماة الأبطال، بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت، ثم قام يفي بوعده في ذود المشركين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر الرماية بنفسه، فعن قتادة بن النعمان: "أن رسول الله رمى عن قوسه حتى اندقت سِيَتُها، فأخذها قتادة بن النعمان، فكانت عنده. وأصيبت يومئذ عينه حتى وقعت على وَجْنَتِه، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فكانت أحسن عينيه وأحَدَّهُما."([10]). وقاتل عبد الرحمن بن عوف حتى أصيب فوه يومئذ فهُتِمَ، وجرح عشرين جراحة أو أكثر، أصابه بعضها في رجله فعرج. وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته صلى الله عليه وسلم حتى أنقاه، فقال: «مُجَّه!»، فقال: والله لا أمجه، ثم أدبر يقاتل؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا!»[11]، فقتل شهيداً. وقاتلت أم عمارة فاعترضت لابن قَمِئَة في أناس من المسلمين، فضربها ابن قمئة على عاتقها ضربة تركت جرحاً أجوف، وضربت هي ابن قمئة عدة ضربات بسيفها، لكن كانت عليه درعان فنجا؛ وبقيت أم عمارة تقاتل حتى أصابها اثنا عشر جرحاً. وقاتل مصعب بن عمير بضراوة بالغة، يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم هجوم ابن قمئة وأصحابه؛ وكان اللواء بيده، فضربوه على يده اليمنى حتى قطعت، فأخذ اللواء بيده اليسرى؛ وصمد في وجوه الكفار حتى قطعت يده اليسرى؛ ثم برك عليه بصدره وعنقه حتى قتل. وكان الذي قتله هو ابن قمئة، وهو يظنه رسول الله (لشبهه به)؛ فانصرف ابن قمئة إلى المشركين، وصاح: إن محمداً قد قتل!][12]. إن هذه المشاهد من أحد، تستوجب منا التوقف عند عبر، لا ينبغي أن تفوت المؤمن؛ وهي: 1. إن الله ابتلى المسلمين في هذه المعركة، بما تتصدع له القلوب: فهم قد رأوا بأعينهم تفرق الناس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهجوم المشركين عليه، يبغون استئصال شأفة الإسلام. فقيض الله لهذا البلاء الشديد رجالا أشداء، اختارهم من صفوة المؤمنين، ليكونوا أئمة في مواقفهم، لجميع من سيأتي بعدهم من أفراد الأمة، من كل الأزمنة والقرون... 2. تصدى الصحابة المرْضيون للسهام والطعنات بصدورهم وظهورهم، يفدون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنفسهم. وقد يجهل هذا الأصل من الدين كثير من المتأخرين، عندما لم يعاصروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لظنهم أنهم غير معنيين به؛ وهذا لا يصح!... يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: 120]؛ ومع أن الخطاب في الآية خاص باعتبار سبب النزول، إلا أنه مما يعم في الحكم جميع المسلمين، من كل زمان. وهذا، لأن الصحابة ليسوا وحدهم من امتُحنوا في النبي صلى الله عليه وآله وسلم!... لأن هذا لو صح، لصار الدين به دينيْن: واحد خاص بالصحابة، والثاني خاص بمن جاء بعدهم من المسلمين؛ وهذا لا يقول به أحد!... وأصل الابتلاء في النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عائد إلى خلافته عن الله في الأمة جمعاء، لا في جماعة الصحابة وحدهم. وهكذا تكون خلافة الخلفاء، التي جاءت بعد عصر النبوة، خلافة عن الخليفة الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، لا خلافة بالأصالة. وهذا يعني أن الصحابة قد امتحنوا في صورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بينما الذين جاؤوا من بعدهم، سيُمتحنون في صور الخلفاء. والخلافة تؤخذ لدى المتأخرين بجميع مراتبها، بدءا من الخلافة العامة التي لأبي بكر وأضرابه رضي الله عنهم، وانتهاء بالخلافة في التزكية التي تكون للربانيين من ورثة النبوة. فكل هؤلاء، يُمتحن الناس فيهم، من امتحانهم في النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فمن وفّى، فهو يلحق بالموفين من الصحابة، من أمثال هؤلاء المذكورين في غزوة أحد؛ ومن أخلف، فإنه يلحق بالمنافقين والمرتدين الأولين. وبهذا الاعتبار وحده، يصح لنا القول بوحدة دين الأمة، لا باختلاف الأحكام بين الأولين والآخرين، كما يتوهم الجهلة من المتعالمين. والأمر من الله للمسلمين بأن لا يرغبوا بأنفسهم عن نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشريفة، هو مستمر في الزمان من البعثة النبوية إلى قيام الساعة. هذا وإلا كيف يصح أن يعمل المتأخرون بالآية المذكورة آنفا؟!... أم يظن الجاهلون أن هذه الآية ومثيلاتها مما نُسخ من القرآن؟!... تعالى الله عما يظنون علوا كبيرا!... وحتى يكون المسلم على الصراط المستقيم، عليه أن يوطن نفسه على فداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه، وعلى الموت دونه؛ من دون اعتبار لفارق الزمان بينه وبينه، لكي يُكتب عند الله من المؤمنين حقا، ولكي يُوفَّق للعمل بالأمر الرباني في صور الخلفاء المتعاقبة في الزمان. ونعني من هذا، أن المتأخرين يُعاملون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الخلفاء، علموا أم لم يعلموا؛ لكن فضل العالم على الجاهل عظيم!... فَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَانِ: أَحَدُهُمَا عَابِدٌ، وَالْآخَرُ عَالِمٌ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ، كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ!»، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْض، حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا؛ وَحَتَّى الْحُوتَ؛ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ!»[13]. ومعنى العابد في الحديث: المسلم الجاهل؛ ومعنى العالم: العارف بحقوق الله ورسوله، لا الفقيه بالاصطلاح. ونحن نعجب كثيرا من عوام الفقهاء، عندما ينزلون أمثال هذا الحديث على أنفسهم، وهم على أسوأ الأدب مع الله ورسوله!... وعجبنا الأكبر، هو من إصرارهم على جهلهم، بعد تنبيهنا لهم بمثل كلامنا هذا!... وسنعود إلى أحكام الخلافة بالتفصيل في إبانها، إن شاء الله... 3. يُستنتج مما سبق أن الأحكام الفقهية المتعلقة بمعاملة المؤمنين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ليست كالأحكام العامة المعلومة من الفقه للمتأخرين؛ لأن الدم كما هو معلوم نجاسة، يحرم شربه. ولكن شرب مالك بن سنان رضي الله عنه لدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان من محبته له؛ حتى استوجب بذلك أن يشهد له النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجنة شهادة معجلة، تنبئ عن علو مرتبته رضي الله عنه!... وإذا نحن فرّعنا الحكم، فإن كل من يعامل أحد الخلفاء عن محبة أصلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم الظاهر بمظاهرهم، بشرب دمهم إن تيسر له ذلك، أو بوقايتهم بنفسه، أو غير ذلك من الآداب التي لا تليق في الظاهر إلا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه يلحق في المرتبة بالصحابة العاملين بتلك الآداب. وهذا باب من العلم، يحسن بالعلماء الكلام فيه من جديد؛ لأنه من العلوم التي تظهر في آخر الزمان، إبان التجديد الأكبر. ونحن نعني بالتجديد الأكبر، التجديد الذي سميناه "إعادة تأسيس الدين"، التي تكون قُبيل وإبان الخلافة الخاتمة. وهذا التجديد الأكبر، هو الوارد ذكره في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ الإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ.»[14]؛ ولم نجد من دل على هذا المعنى فيمن سبقنا، إلا أن يكون ولم نعلم به أو نسيناه. وهذا لأن تبشير النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعودة الإسلام، قد توهَّم منها الناظرون في الحديث أنها مقابلة لغربته الأولى؛ بينما الصحيح هو أن الدين سيعود بعد الغربة الثانية جديدا كما بدأ بعد الغربة الأولى. وحتى تكون هذه البداية، شبيهة بما أسسه النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، قلنا بأن التجديد المتعلق بها، لا بد من أن يكون تجديدا أكبر، يفوق تجديد القرون المذكور في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا.»[15]. 4. نستنتج أيضا مما سبق، ومما لم نذكره من شأن الصحابيات المرْضيات في غزوة أحد، وما يُتوسَّع فيه في مظانه، أنه يجوز للنساء المؤمنات مقاتلة العدو، كما فعلت أم عمارة رضي الله عنها، إن دعت الضرورة لذلك؛ كما يجوز لهن العمل على إمداد الجنود بالأكل والشرب، وعلى التمريض، داخل الميدان. وهذا من الفقه الذي ينبغي الاحتكام إليه في آخر الزمان، عند شيوع النفاق في الرجال!... 5. يُستحب للمؤمن الثبات في موضعه (على ثغره)، وإن قطع إربا إربا؛ كما ثبت مصعب رضي الله عنه. وهذا مما يزيد في مكانته عند الله ورسوله، بعكس ما يُظن من الترخُّص في مثل هذه المواضع، عند فقد عضو من الأعضاء؛ لأن الغاية القصوى التي يرجوها المؤمن هي الشهادة، لا الإصابة، ولا السلامة بعد الإصابة. ولا ينبغي أن يحول بين المؤمن والظفر بالشهادة، إلا القدر وحده!... مع حرصه عليها وتعلق نيته بها!... غ. إشاعة مقتل النبي، وتغييره عليه السلام لمجرى الأحداث: [ولم يمض على هذا الصياح دقائق، حتى شاع خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم في المشركين والمسلمين. وهذا هو الظرف الدقيق الذي خارت فيه عزائم كثير من الصحابة المطوَّقين، الذين لم يكونوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانهارت معنوياتهم، حتى وقع داخل صفوفهم ارتباك شديد، وعمتها الفوضى والاضطراب، إلا أن هذه الصيحة خففت بعض التخفيف من مضاعفة هجمات المشركين؛ لظنهم أنهم نجحوا في غاية مرامهم، فاشتغل الكثير منهم بتمثيل قتلى المسلمين.][16]. إن هذا الحدث، هو غاية ما كان سيبلغه السوء في ذلك اليوم؛ وقد ظن وقوعَه كلُّ من سمعه من المسلمين ومن الأعداء، لتبوء كل نفس بما كسبت إزاءه. فمن رضي به من الأعداء، فقد وجب له الغضب الشديد؛ ومن حزن وأُصيب في نفسه، فإنه قد ابتلي البلاء الشديد، الذي سيجد أجره عند ربه. كل هذا، والأمر لم يقع في الواقع!... وهذا من لطف الله بعباده المؤمنين!... ويقع مثل هذا للمؤمنين أيضا، في عالم الرؤيا، ليذوقوا من البلاء ما يؤجرون عليه، وكأنهم قد عاشوه في الواقع. وهذا اللطف أيضا، هو من إشفاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه، بعد غضبه منهم في باطنه الشريف. وهذه العلوم، لا يعرفها من أمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلا من تحققت له الوراثة في النبوة؛ لأنه يجد باطنه ينصبغ ببعض ما انصبغ به باطن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مع أصحابه. وأوجه تحقق الأجر على البلاء للمؤمنين، تبقى من العلم الخفي الذي قد لا يُشعر به؛ وإن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ما ترك شيئا إلا وقد بيّنه. يقول عليه الصلاة والسلام: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلَا وَصَبٍ، وَلَا هَمٍّ، وَلَا حُزْنٍ، وَلَا أَذًى، وَلَا غَمٍّ؛ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ!»[17]. [ولما قتل مصعب، أعطى رسول الله اللواء عليّ بن أبي طالب، فقاتل قتالاً شديداً، وقامت بقية الصحابة الموجودين هناك ببطولاتهم النادرة، يقاتلون ويدافعون. وحينئذ استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشق الطريق إلى جيشه المطوق، فأقبل إليهم فعرفه كعب بن مالك (وكان أول من عرفه) فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأشار إليه، أن اصمت!... وذلك لئلا يعرف موضعَه المشركون؛ إلا أن هذا الصوت بلغ إلى آذان المسلمين، فلاذ إليه المسلمون حتى تجمع حوله قُرابة ثلاثين رجلاً من الصحابة. وبعد هذا التجمع أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانسحاب المنظم إلى شعب الجبل، وهو يشق الطريق بين المشركين المهاجمين، واشتد المشركون في هجومهم، لعرقلة الانسحاب؛ إلا أنهم فشلوا أمام بسالة ليوث الإسلام.][18]. وهنا سيبدأ الحال في الانقلاب، بعد بلوغ الغاية المعلومة منه عند الله؛ وليقضي الله أمرا كان مفعولا، بكل الأسباب التي مرت. ولا شك أن الصحابة المرْضيين، سيحيون من جديد بعد سماعهم لخبر نجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه روحهم الذي يحيون به (من غير مبالغة)، أو بعد رؤيتهم لطلعته البهية، وهو وجه الله فيهم. يقول الله تعالى صراحة في كتابه العزيز: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا . وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 28، 29]؛ فوجه الله، هو صورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، التي يتعرف فيها الصحابة إلى ربهم؛ وهي الحق من ربهم، الذي يؤمن به من شاء الله له مرتبة الإيمان بالحق، ويكفر بها من شاء الله له الكفر به، وإن آمن بالدين من محجوبي المسلمين. وأما أهل المشاهدة فهم مشاهدون للحق، عالمون بأنه هو (غيبا)؛ في مقابل أهل الكفر الأكبر، الذين يستبعدون هذا الأمر ويرونه محالا!... [تقدم عثمان بن عبد الله بن المغيرة (أحد فرسان المشركين) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: لا نجوت إن نجا! وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم لمواجهته، إلا أن الفرس عثرت في بعض الحفر، فنازله الحارث بن الصِّمَّة، فضربه على رجله فأقعده؛ ثم ذَفَّفَ عليه (أجهز عليه) وأخذ سلاحه، والتحق برسول الله صلى الله عليه وسلم. وعطف عبد الله بن جابر (فارس آخر من فرسان مكة) على الحارث بن الصِّمَّة، فضربه بالسيف على عاتقه فجرحه حتى حمله المسلمون، ولكن انقض أبو دجانة (البطل المغامر ذو العصابة الحمراء) على عبد الله بن جابر، فضربه بالسيف ضربة أطارت رأسه. وأثناء هذا القتال المرير كان المسلمون يأخذهم النعاس أمنة من الله، كما تحدث عنه القرآن. قال أبو طلحة: كنت فيمن تغشّاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مراراً، يسقط وآخذه ويسقط وآخذه. وبمثل هذه البسالة بلغت هذه الكتيبة -في انسحاب منظم- إلى شعب الجبل، وشق النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبقية الجيش طريقاً إلى هذا المقام المأمون، فتلاحق به في الجبل...][19]. يقول الله تعالى عن تغشي النعاس للمقاتلين: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال: 11]؛ وهي من الآيات المتعلقة بغزوة بدر، كما مرّ؛ ولعل هذا الحال مما تكرر مع المسلمين في الغزوتيْن، خصوصا مع تقاربهما في الزمان وتشابه الأحوال من الصحابة بسبب هذا القرب. وأما تسليط الله النعاس على عباده في مواطن الخطر، فهو لإراحتهم من التنبُّه المفرط الذي يكونون عليه، والذي يُرهق أعصابهم. فهم بهذا، يستريحون وهم في خضم القتال، بخلاف عدوهم الذي لا يجد فرصة للراحة. وهذا يزيد -بلا شك- من قدرة المسلمين القتالية، ويرفع من احتمال الغلبة لديهم. وأما من جهة أخرى، متعلقة بالتربية، فإن الله يُري المؤمنين النعاس من أنفسهم، وهم في القتال، ليعلموا أن الله وحده هو من كان يُنجيهم؛ وإلا فلو هجم العدو على أحدهم وهو نعسان، لتمكن منه!... والنعاس هنا، ليس هو نعاس العادة؛ وإن كان نعاس العادة منه؛ ولكنه من حال الفناء، حيث ينتفي الفعل وتنتفي الصفة عن العبد، ويعود إلى حقيقته العدمية، التي لا يقدر معها على شيء. وقد أخبر أحد السابقين من أهل الله، أنه كان لا يقوى على قطع خبزه في كل أوقاته؛ فإذا جاء وقت الصلاة، أعاد الله إليه قوته. ولقد كنا في بداية ذوقنا لحال الفناء، لا نتمكن من تحريك عضو من أعضائنا، ما عدا العينيْن؛ والناس ينظرون إلينا، بين مسلّم ومكذب. وكل الذي ذكرناه، حتى يتحقق المؤمنون، أن النصر ليس من عند أنفسهم؛ ولا هو بقوة منهم أو إقدام؛ وإنما هو من الله، من وراء كل الأسباب والمظاهر. وهذا هو ما قرره القرآن لهم، ليزدادوا إيمانا بأحوالهم، فيقول سبحانه: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10]. ومن لم يعلم أمور القتال وأحواله على ما ذكرنا، إن كان ممن شهد المعارك، فليعلم أنه على غير سبيل المؤمنين؛ يُقاتل كما يقاتل الكافرون الغافلون، لا كما يقاتل المؤمنون الموقنون!... وهذا مما يجدر التنبيه إليه في علوم الدين، ليتعرف المتأخرون طريق الاقتداء بالأولين!... (يُتبع...) [1] . أخرجه الطبراني في مسند الشاميين، عن أبي أمامة رضي الله عنه. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.