اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2021/09/13 الحوار الغائب (ج3) -26- المرحلة المدنية (12) (تابع...) س. أول وقود المعركة: [وتقارب الجمعان وتدانت الفئتان، وآنت مرحلة القتال، وكان أول وقود المعركة حامل لواء المشركين طلحة بن أبي طلحة العبدري، وكان من أشجع فرسان قريش، يسميه المسلمون كبش الكتيبة. خرج وهو راكب على جمل يدعو إلى المبارزة، فأحجم عنه الناس لفرط شجاعته، ولكن تقدم إليه الزبير ولم يمهله، بل وثب إليه وثبة الليث حتى صار معه على جمله، ثم اقتحم به الأرض فألقاه عنه وذبحه بسيفه. ورأى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصراع الرائع فكبر، وكبر المسلمون وأثنى على الزبير، وقال في حقه: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا، وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ!»[1]][2]. ما ينبغي أن نلتقطه من هذه الواقعة، بعد إدراك تفاصيلها، من موافقتها لعادات المبارزة في الجيوش القديمة، وتغلب الصحابيّ المغوار "الزبير بن العوام" رضي الله عنه وأرضاه؛ هو ما شهد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكانة للزبير. وما ينبغي أيضا أن نعقله، هو أن هذه الصكوك التي تخرج من الغيب الرباني، على لسان الخليفة الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، هي شهادات ماضية في الدنيا والآخرة؛ لا يقف لها هنا مؤمن، ولا يقف لها هناك مَلَك. فهذه الشهادة يُوسَّع لها حيث ظهرت، وظهورها يكون بنورها، قبل اسمها. فهنيئا للزبير بهذه المرتبة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ جعلنا الله ممن يقدرها حق قدرها!... وسيأتي ضمن الأحداث في المستقبل، ما سيردّنا جميعا إلى هذه المرتبة المنيفة، ليقر بها من شاء الله له الوفاء بعهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويتجاهلها من كان مخذولا؛ عياذا بالله!... ولا شك أن القارئ سيلاحظ أننا نؤسس لأحكام شرعية، ستدعو الحاجة إليها فيما بعد، عن طريق إبراز ما ينبغي إبرازه؛ حتى إذا رددنا الناس إليه في أوانه، تذكروه -بإذن الله- كما دللنا عليه!... ع. استهداف لواء العدو: [ثم اندلعت نيران المعركة، واشتد القتال بين الفريقين في كل نقطة من نقاط الميدان، وكان ثقل المعركة يدور حول لواء المشركين، فقد تعاقب بنو عبد الدار لحمل اللواء بعد قتل قائدهم طلحة بن أبي طلحة، فحمله أخوه أبو شيبة عثمان بن أبي طلحة، وتقدم للقتال (...) فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب فضربه على عاتقه ضربة بترت يده مع كتفه، حتى وصلت إلى سرته، فبانت رئته. ثم رفع اللواء أبو سعد بن أبي طلحة، فرماه سعد بن أبي وقاص بسهم أصاب حنجرته، فأُدْلِعَ لسانُهُ ومات لحينه. وقيل: بل خرج أبو سعد يدعو إلى البراز، فتقدم إليه علي بن أبي طالب، فاختلفا ضربتين، فضربه علي فقتله. ثم رفع اللواء مُسَافع بن طلحة بن أبي طلحة، فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفْلَح بسهم فقتله؛ فحمل اللواء بعده أخوه كِلاَب بن طلحة بن أبي طلحة، فانقض عليه الزبير بن العوام وقاتله حتى قتله؛ ثم حمل اللواء أخوهما الجُلاَس بن طلحة بن أبي طلحة، فطعنه طلحة بن عبيد الله طعنة قضت على حياته. وقيل: بل رماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح بسهم فقضى عليه. هؤلاء ستة نفر من بيت واحد، بيت أبي طلحة عبد الله بن عثمان بن عبد الدار، قتلوا جميعاً حول لواء المشركين، ثم حمله من بني عبد الدار أرطاة بن شُرَحْبِيل، فقتله علي بن أبي طالب، وقيل: حمزة بن عبد المطلب؛ ثم حمله شُرَيح بن قارظ فقتله قُزْمَان (وكان منافقاً قاتل مع المسلمين حمية، لا عن الإسلام)؛ ثم حمله أبو زيد عمرو بن عبد مناف العبدري، فقتله قزمان أيضاً؛ ثم حمله ولد لشرحبيل بن هاشم العبدري فقتله قزمان أيضاً. فهؤلاء عشرة من بني عبد الدار -من حمله اللواء- أبيدوا عن آخرهم، ولم يبق منهم أحد يحمل اللواء. فتقدم غلام لـهم حبشي (اسمه صُؤَاب) فحمل اللواء، وأبدى من صنوف الشجاعة والثبات ما فاق به مواليه من حملة اللواء الذين قتلوا قبله: فقد قاتل حتى قطعت يداه، فبرك على اللواء بصدره وعنقه؛ لئلا يسقط، حتى قتل وهو يقول: اللّهم هل أعزرت؟ يعني هل أعذرت؟. وبعد أن قتل هذا الغلام، سقط اللواء على الأرض، ولم يبق أحد يحمله، فبقي ساقطاً.][3]. إن للواء مكانة رمزية لدى الجيوش؛ وما دام اللواء مرفوعا، والجنود ينظرونه، فإنهم يبقون على ثقة بأنهم سينتصرون؛ ولو بعد مشقة. أما إذا سقط اللواء، فإن هذا يعني أن الجيش قد انتهى أمره، وأن الهزيمة قد أصبحت متحققة؛ وإن بقي الجلاد مستمرا لبعض الوقت. ولقد أحسن المسلمون باستهدافهم للواء المشركين، بقتل حمَلَته الواحد بعد الآخر؛ لأنهم بذلك يكونون قد قصموا ظهر الجيش الذي يفوقهم عددا وعُدة. ومعلوم من الخطط العسكرية، أن الجيش إذا لم تكن له طاقة بالعدو، فإنه يعدل إلى الضربات المركَّزة التي تجعل الكفة ترجح لصالحه. ولو كان القتال يعتمد على العدد والعُدة وحدهما، لكان قتالا شبه آلي، ولا مجال فيه للإبداع العسكري. والإبداع العسكري، هو ما نراه للمسلمين المرة بعد الأخرى؛ تحت قيادة النبوة وببركتها. ف. القتال في باقي المحاور: [وبينما كان ثقل المعركة يدور حول لواء المشركين، كان القتال المرير يجري في سائر محاور المعركة؛ وكانت روح الإيمان قد سادت صفوف المسلمين، فانطلقوا خلال جنود الشرك انطلاق الفيضان، تتقطع أمامه السدود، وهم يقولون: "أَمِتْ، أَمِتْ!" كان ذلك شعاراً لهم يوم أحد. وأقبل أبو دُجَانة معلماً بعصابته الحمراء، آخذاً بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، مصمماً على أداء حقه، فقاتل حتى أمعن في الناس، وجعل لا يلقى مشركاً إلا قتله، وأخذ يهد صفوف المشركين هدّا. قال الزبير بن العوام: وجدت في نفسي حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف فمنعنيه، وأعطاه أبا دجانة، وقلت (أي في نفسي): أنا ابن صفية عمته، ومن قريش؛ وقد قمت إليه، فسألته إياه قبله، فآتاه إياه وتركني! والله لأنظرن ما يصنع! فاتبعته، فأخرج عصابة له حمراء فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، فخرج وهو يقول: أنا الذي عاهـــدني خليلي ونحـن بالسّـفْح لدى النَّخِيل ألا أقوم الدَّهْرَ في الكَيول أضْرِبْ بسَيف الله والرسول فجعل لا يلقى أحداً إلا قتله، وكان في المشركين رجل لا يدع لنا جريحاً إلا ذَفَّفَ عليه، فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه؛ فدعوت الله أن يجمع بينهما فالتقيا، فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته، فَعَضَّتْ بسيفه؛ فضربه أبو دجانة فقتله. ثم أمعن أبو دجانة في هدِّ الصفوف، حتى خلص إلى قائدة نسوة قريش، وهو لا يدري بها. قال أبو دجانة: رأيت إنساناً يخْمِش الناس خمشاً شديداً، فصمدت له، فلما حملت عليه السيف وَلْوَلَ؛ فإذا امرأة، فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة. وكانت تلك المرأة هي هند بنت عتبة. قال الزبير بن العوام: رأيت أبا دجانة قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة، ثم عدل السيف عنها، فقلت: الله ورسوله أعلم. وقاتل حمزة بن عبد المطلب قتال الليوث المهتاجة، فقد اندفع إلى قلب جيش المشركين يغامر مغامرة منقطعة النظير، ينكشف عنه الأبطال كما تتطاير الأوراق أمام الرياح الهوجاء، فبالإضافة إلى مشاركته الفعالة في إبادة حاملي لواء المشركين، فعل الأفاعيل بأبطالهم الآخرين، حتى صُرع وهو في مقدمة المبرزين، ولكن لا كما تصـرع الأبطال وجهاً لوجـه في ميدان القتـال، وإنما كمـا يغتال الكرام في حلك الظـلام.][4]. أما أبو دجانة، فلو سُئل، لأجاب بأن السيف كان في يده يُقاتل وحده! وهذا لأن إذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخاص له، لا بد من أن يظهر أثره. وهو ذاته ما أخبر عنه الزبير رضي الله عنه، الذي جعله الله يتتبع فعل أبي دجانة، ليرى بعينه ما يُثبت ما ذكرنا. ومسألة الإذن، منصوص عليها في القرآن والسنة، ولكن علماء الدين عنها غافلون؛ بل إنهم في كثير من الأحيان لا يفقهونها. وأما أهل الله، فالإذن عندهم هو عمدة الأعمال: والإذن يكون من الله ورسوله، ويكون من الوارث أيضا عن الله ورسوله. وهذا يعني أن الآذن لا يتعدد، إلا من جهة النسبة؛ لأن التوحيد يقتضي ما ذكرنا. وما جعلنا نقول عن أبي دجانة -رضي الله عنه- في قتاله ما قلنا، هو سر الإذن. ومن عرف ما للإذن من أثر في الأعمال، فإنه يحرص على أن لا يتحرك ولا يسكن إلا عن إذن إن استطاع. وهذا، لأن الإذن هو العامل في المأذون فيه، وإن بقيت الأسباب على ترتيبها المعتاد. ولكن الشخص المأذون، يشعر بذلك اليسر الذي يلقاه، ويتحقق القدرة التي تخرج عما اعتاده من نفسه. ثم لا بد لنا من ملاحظة أدب أبي دجانة، مع سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى نزهه عن أن يضرب به امرأة. وعلى المسلمين أن يتفطنوا إلى المنطق الذي يعمل به الصحابي في أدبه، لأنهم سيجدونه مخالفا للمنطق الذي يوجه تديّنهم. وهذا المنطق الذي يعمل عليه الصحابة، هو منطق الإيمان، المجهول لأهل مرتبة الإسلام. وحتى يعلم القارئ ما نقول، فعليه أن يضع نفسه موضع أبي دجانة رضي الله عنه؛ ولينظر هل كان سيعامل السيف على أنه سيف كالسيوف، أم سيعامله على أنه سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ أي بصفته الشخصية؟... فما أبعد منطق الإيمان عن المنطق العقلي العام!... ص. استشهاد حمزة عليه السلام: [يقول قاتل حمزة وحْشِي بن حرب: كنت غلاماً لجبير بن مُطْعِم، وكان عمه طُعَيمَة بن عدي قد أصيب يوم بدر، فلما سارت قريش إلى أُحد قال لي جبير: إنك إن قتلت حمزة عم محمد بعمي فأنت عتيق. قال: فخرجت مع الناس -وكنت رجلاً حبشياً أقذف بالحربة قذف الحبشة، قلما أخطئ بها شيئاً- فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره، حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأوْرَق، يهُدُّ الناس هدّا ما يقوم له شيء. فوالله إني لأتهيأ له أريده، فأستتر منه بشجرة أو حجر ليدنو مني، إذ تقدمني إليه سِبَاع بن عبد العزى؛ فلما رآه حمزة قال له: هلم إلى يابن مُقَطِّعَة البُظُور -وكانت أمه ختانة- قال: فضربه ضربة كأنما أخطأ رأسه. قال: وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه، فوقعت في ثُنَّتِه (أحشائه) حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي فَغُلِبَ؛ وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتي، ثم رجعت إلى العسكر فقعدت فيه، ولم يكن لي بغيره حاجة؛ وإنما قتلته لأعتق، فلما قدمت مكة عتقت.][5]. وها قد صدقت رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وصحبه، التي أولها بموت جماعة من أصحابه، وبموت واحد من أهل بيته الشريف. ولقد اُستُشهد من أهل البيت النبوي، أكثرهم نفعا للإسلام في المعارك والحروب، وأشدهم على المشركين. ولا يموت الكبار إلا غدرا، ما دام لا يُطيق أحد مواجهتهم. وإن هذا المـُصاب، سيجد له النبي صلى الله عليه وآله وسلم طول عمره الشريف؛ مع أن الله سيُبدله رجالا أفذاذا منهم من هو معه منذ البداية كعليّ عليه السلام، ومنهم من سيأتي فيما بعد من الأيام. وشاء الله لعباده أن يُذيقهم مرار الدنيا، كما أخبر سبحانه في قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157]. فلا بد للمؤمنين من البلاء في الأموال والأنفس والثمرات، ليتحققوا بالصبر على القضاء، ولينالوا الرحمات. ولعل لسائل أن يسأل: فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم له من المكانة عند الله، ما هو فوق مرتبة الإيمان (الإيمان هنا هو الدين كله)؛ فكيف نفهم ذوقه لما يذوقه الأتباع من البلاء؟ فنقول: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من كونه إماما، لا بد له من ذوق كل ما يذوقه المؤمنون في نفسه الشريفة، لتصح منه الإمامة ويصح من الأتباع الاقتداء. لذلك، فهو صلى الله عليه وآله وسلم، أشد الناس بلاء، ليكون أشدهم صبرا؛ وإلا أين يكون نظر أهل البلاء من الأتباع عندما يدهمهم. ومن هذا الباب يروي سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سُئِل: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قال: «الْأَنْبِيَاءُ! ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ. يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ صَلَابَةً؛ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ، خُفِّفَ عَنْهُ. وَلَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ، حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى الْأَرْضِ مَا لَهُ خَطِيئَةٌ!»[6]. ولقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأنبياء، لأنهم محل الاقتداء؛ ثم ذكر الأمثل فالأمثل، بحسب قرب أهل الدين منهم عليهم السلام. ولا أقرب إلى الأنبياء من الورثة، لكونهم محل اقتداء بالنيابة عنهم عليهم السلام. فلا أشد بعد الأنبياء بلاء من الورثة!... وأما المؤمنون (المتديّنون)، فهم يُبتلون على قدر مراتبهم ومقاماتهم؛ من إسلام وإيمان وإحسان. وهذا الإيمان هو الذي يكون البلاء على قدره، فإن زاد الإيمان زاد البلاء. وفي هذا المعنى، من وجه خفي، الإشارة إلى زيادة الإيمان ونقصانه؛ فعلى قدر الزيادة والنقصان في الإيمان، تكون الزيادة والنقصان في البلاء؛ ما دام الإيمان قابلا للزيادة والنقصان. وأما إذا بلغ العبد اليقين، فإنه يقبل الزيادة من غير نُقصان؛ وهنا يكون البلاء شبيها ببلاء الأنبياء عليهم السلام، لا كما يكون بلاء المؤمنين. وأدلة زيادة الإيمان (وبالتالي نقصانه)، متعددة في القرآن والسنة، فلا داعي لتتبعها هنا؛ خصوصا وأن المسألة قد تناولها الفقهاء على مر الأزمنة، وإن لم يدلّوا على أصلها الذي دللنا عليه نحن بحمد الله. وعن بلاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قالت عائشة عليها السلام: "مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشَدَّ عَلَيْهِ الْوَجَعُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!"[7]. وعلى كل حال، فالأمر من جهة السيرة التي نحن بصددها واضح جليّ؛ وإن كان الأمر على ما بيّنّا، فلا يعتبر المعافاة دليلا على المقام، إلا الغافلون من العامة. وهو ما أنكره الله عليهم وعلى الكافرين الذين هم أشد غفلة، في قوله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ . وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ . كَلَّا} [الفجر: 15 - 17]. والقاعدة العامة، هي ما علَّمَناه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من التناسب فيما بين الإيمان والبلاء، كما مرّ. وأما ما يظهر أنه استثناء في القاعدة، بخصوص بعض الخواص، فهو من وجوه أخرى، لا من هذا الوجه؛ فليُتنبَّه إليه!... [وبرغم هذه الخسارة الفادحة التي لحقت المسلمين بقتل أسد الله ورسوله حمزة بن عبد المطلب، ظل المسلمون مسيطرين على الموقف كله. فقد قاتل يومئذ أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الله بن جحش، وسعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وسعد بن الربيع، وأنس بن النضر وأمثالهم، قتالاً فَلَّ عزائم المشركين، وفتَّ في أعضادهم.][8]. ق. حنظلة الغسيل: [وكان من الأبطال المغامرين يومئذ، حَنْظَلة الغَسِيل (وهو حنظلة بن أبي عامر، وأبو عامر هذا هو الراهب الذي سمي بالفاسق، والذي مضى ذكره قريباً). كان حنظلة حديث عهد بالعُرْس، فلما سمع هواتف الحرب وهو مع امرأته، انخلع من أحضانها، وقام من فوره إلى الجهاد؛ فلما التقى بجيش المشركين في ساحة القتال أخذ يشق الصفوف حتى خلص إلى قائد المشركين أبي سفيان صخر بن حرب، وكاد يقضي عليه لولا أن أتاح الله له الشهادة، فقد شد على أبي سفيان، فلما استعلاه وتمكن منه رآه شداد بن الأسود فضربه حتى قتله.][9]. ولقد لُقِّب حنظلة بن أبي عامر رضي الله عنه بغسيل الملائكة، لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن الملائكة تغسله، في قوله: «إِنَّ صَاحِبَكُمْ حَنْظَلَةَ تُغَسِّلُهُ الْمَلائِكَةُ! فَسَلُوا صَاحِبَتَهُ!» فَقَالَتْ: خَرَجَ وَهُوَ جُنُبٌ، لَمَّا سَمِعَ الْهَائِعَةَ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَذَاكَ قَدْ غَسَّلَتْهُ الْمَلائِكَةُ!». والذي ينبغي أن نستخلصه من هذا الخبر، هو أن للباطن حكما على الظاهر من بعض الوجوه، وعند الضرورة. فمع أن الصحابي حنظلة لم يكن قد تطهر طهارة الظاهر، ولبى نداء الجهاد فور سماعه، فإن الله أراد أن يكتب له طهارة الظاهر إلى جانب طهارة الباطن التي تحكم بها الشهادة؛ فأمر سبحانه ملائكته بغسله غسل الجنابة؛ إذ إن الشهداء قد رفع الشارع عنهم غسل الميت، كما هو معلوم. وهذا كله من إتمام الله نعمته على من يشاء من عباده. يقول سبحانه ليوسف عليه السلام، في حق آل يعقوب: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف: 6]. وعلى الناس أن يعلموا أن كل ما ذكره الله من صنوف أفضاله على أنبيائه في القرآن، هو مما كتبه سبحانه لخواص هذه الأمة، سوى النبوة!... ر. ثبات الرماة وهزيمة المشركين: [وكانت للفصيلة التي عينها الرسول صلى الله عليه وسلم على جبل الرماة يد بيضاء في إدارة دفة القتال لصالح الجيش الإسلامي، فقد هجم فرسان مكة بقيادة خالد بن الوليد يسانده أبو عامر الفاسق ثلاث مرات؛ ليحطموا جناح الجيش الإسلامي الأيسر، حتى يتسربوا إلى ظهور المسلمين، فيحدثوا البلبلة والارتباك في صفوفهم وينزلوا عليهم هزيمة ساحقة، ولكن هؤلاء الرماة رشقوهم بالنبل حتى فشلت هجماتهم الثلاث. وبعد أن بذلت قريش أقصى جهدها لسد هجوم المسلمين، أحست بالعجز والخور، وانكسرت همتها -حتى لم يجترئ أحد منها أن يدنو من لوائها الذي سقط بعد مقتل صُؤاب فيحمله ليدور حوله القتال- فأخذت في الانسحاب، ولجأت إلى الفرار، ونسيت ما كانت تتحدث به في نفوسها من أخذ الثأر والوتر والانتقام، وإعادة العز والمجد والوقار. قال ابن إسحاق: ثم أنزل الله نصره على المسلمين، وصدقهم وعده، فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن المعسكر، وكانت الهزيمة لا شك فيها. روى عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه قال: "وَاللَّهِ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَنْظُرُ إِلَى خَدَمِ (سوق) هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ، وَصَوَاحِبُهَا مُشَمِّرَاتٌ هَوَارِبُ، مَا دُونَ أَخْذِهِنَّ قَلِيلٌ وَلا كَثِير..."[10] وفي حديث البراء بن عازب عند البخاري في الصحيح: "فَلَمَّا لَقِينَا هَرَبُوا حَتَّى رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ فِي الْجَبَلِ رَفَعْنَ عَنْ سُوقِهِنَّ قَدْ بَدَتْ خَلَاخِلُهُنَّ فَأَخَذُوا يَقُولُونَ: الْغَنِيمَةَ، الْغَنِيمَةَ!".][11]. ش. مخالفة الرماة للتعليمات النبوية: [وبينما كان الجيش الإسلامي الصغير يسجل مرة أخرى نصراً ساحقاً على أهل مكة -لم يكن أقل روعة من النصر الذي اكتسبه يوم بدر- وقعت من أغلبية فصيلة الرماة غلطة فظيعة، قلبت الوضع تماماً، وأدت إلى إلحاق الخسائر الفادحة بالمسلمين، وكادت تكون سبباً في مقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تركت أسوأ أثر على سمعتهم، وعلى الهيبة التي كانوا يتمتعون بها بعد بدر. لقد أسلفنا نصوص الأوامر الشديدة التي أصدرها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء الرماة، بلزومهم موقفهم من الجبل في كل حال من النصر أو الهزيمة؛ ولكن على رغم هذه الأوامر المشددة، لما رأى هؤلاء الرماة أن المسلمين ينتهبون غنائم العدو، غلبت عليهم أثرة من حب الدنيا، فقال بعضهم لبعض: الغنيمة، الغنيمة! ظهر أصحابكم، فما تنتظرون؟!... أما قائدهم عبد الله بن جبير، فقد ذكّرهم أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!... ولكن الأغلبية الساحقة لم تلق لهذا التذكير بالاً، وقالت: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة! ثـم غـادر أربعون رجلاً أو أكثر هؤلاء الرماة مواقعهم من الجبل، والتحقوا بسَوَاد الجيش ليشاركـوه فـي جمع الغنائم. وهكذا خلت ظهور المسلمين، ولم يبق فيها إلا ابن جبير وتسعة أو أقل من أصحابه، والتزموا مواقفهم مصممين على البقاء حتى يؤذن لهم أو يبادوا.][12]. إن هذه الحادثة، هي من أهم ما جرى في تاريخ الإسلام. وهي تبيّن كيف أن المسلمين تنقلب أحوالهم، إن هم خالفوا أوامر الله ورسوله. وإن السبب في هذه المخالفة وفي غيرها، هو الجهل بحقيقة الواقع من جهة؛ والميل إلى تحصيل الدنيا، من الجهة الأخرى. فلو أن الرماة حينها، كانوا على علم بأن المعركة لم تنته بعد، وأن المسارعة إلى الغنائم تجعلهم يلتفتون عما استُؤمنوا عليه، لما جازفوا بترك مواقعهم. وهذا الذي حدث ضمن فصول معركة من المعارك، هو نفسه ما سيحدث ضمن فصول عمر الأمة كله، عندما سينبذ المسلمون الوصايا النبوية في قرون بعينها، وفي بلاد بعينها، ويرتكبون المخالفات التي نهوا عنها، بسبب ميلهم إلى الدنيا وحطامها؛ حتى عادوا -كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم- غثاء كغثاء السيل في زماننا، على كثرة عددهم. فالصورة هي الصورة، وإن اختلفت مساحة النظر، أو اختلفت درجة التحديق. ت. تطويق الجيش الإسلامي: [وانتهز خالد بن الوليد هذه الفرصة الذهبية، فكرَّ بسرعة خاطفة إلى جبل الرماة ليدور من خلفه إلى مؤخرة الجيش الإسلامي، فلم يلبث أن أباد عبد الله بن جبير وأصحابه إلا البعض الذين لحقوا بالمسلمين؛ ثم انقض على المسلمين من خلفهم، وصاح فرسانه صيحة عرف بها المشركون المنهزمون بالتطور الجديد، فانقلبوا على المسلمين، وأسرعت امرأة منهم (وهي عمرة بنت علقمة الحارثية) فرفعت لواء المشركين المطروح على التراب، فالتف حوله المشركون ولاثوا به، وتنادى بعضهم بعضاً، حتى اجتمعوا على المسلمين، وثبتوا للقتال، وأحيط المسلمون من الأمام والخلف، ووقعوا بين شِقَّي الرحى.][13]. إن خالد بن الوليد، كان يومها على الشرك، وكان من أفرس فرسان قريش؛ وهو عندما رأى الرماة من المسلمين يتركون مواقعهم، علم بحسه العسكري، أن الفرصة قد سنحت له، من أجل تغيير مجرى المعركة؛ وهو ما يصبو إليه كل قائد حقيق، خبير بالتكتيك. فأسرع خالد إلى المكان الذي له المكانة من جهة العلوم العسكرية، وقتل من كان به استخلاصا له؛ فلما رأت المرأة القرشية انقلاب الوضع، سارعت بفطنتها إلى رفع لواء المشركين عن الأرض، حتى يعلموا أن الدائرة قد دارت؛ فعاد من كان منفصلا يطلب نجاة نفسه، إلى الالتفاف حول اللواء؛ فصار المسلمون بين فرقتيْن من جيش الشرك. وهذا هو أسوأ ما كان يخشاه عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومنه كان قد حذرهم... [وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ في مفرزة صغيرة (تسعة نفر من أصحابه) في مؤخرة المسلمين، كان يرقب مجالدة المسلمين ومطاردتهم المشركين؛ إذ بوغت بفرسان خالد مباغتة كاملة، فكان أمامه طريقان: إما أن ينجو سريعا بنفسه وبأصحابه التسعة إلى ملجأ مأمون، ويترك جيشه المطوق إلى مصيره المقدور؛ وإما أن يخاطر بنفسه فيدعو أصحابه ليجمعهم حوله، ويتخذ بهم جبهة قوية يشق بها الطريق لجيشه المطوق إلى هضاب أحد. (...)، فقد رفع صوته ينادي أصحابه: «إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ، إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ!»[14]، وهو يعرف أن المشركين سوف يسمعون صوته قبل أن يسمعه المسلمون، ولكنه ناداهم ودعاهم مخاطراً بنفسه في هذا الظرف الدقيق. وفعلاً فقد علم به المشركون فخلصوا إليه، قبل أن يصل إليه المسلمون.][15]. لقد تعمدنا حذف عبارة محل نقط الحذف، يعزو فيها الكاتب فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلى العبقرية؛ وقد وقع في هذا الخطأ اللغوي، كثير من كتاب المسلمين، كعباس العقاد وغيره. وما كان ينبغي أن لا يغفلوا عنه، هو أن أفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم تصدر عنه من مرتبة نبوته وخلافته عن الله، وإن بدا الفعل في ظاهره من مرتبة مشتركة. ومع كوننا نعلم أن هذا المعنى قد طُمس منذ القرن الأول، فإننا نعود إليه ونؤكده المرة بعد الأخرى قصدا، لندل الناس على الحق الذي أضاعوه، والذي هو سبب من أسباب الوقوع في مخالفة النبوة في العصور المتأخرة، كما أسلفنا. وأما هذا الذي حدث في مجمله، فهو من صولات الأسماء الإلهية بعضها على بعض. ونعني من هذا أن الاسم الجامع "الله"، قد يحكم أحيانا لأسماء مخصوصة بالغلبة، ثم يعود فيحكم لأسماء مقابلة لها بذلك. وهذا من أشد ما يعسر فهمه على عوام الفقهاء، عند طلبهم لعلة الأفعال الإلهية التي يظنون أنها تعود دائما إلى علل تشبه علل الأحكام المنوطة بأفعال العباد. ولو أنهم علموا أن قوله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23]، يعني أنه لا علة لأفعاله سبحانه في المستوى الأعلى إلا المشيئة، ما وقعوا في مثل ما ذكرنا. وعلى كل حال، فإن هذه المسألة أيضا، مما نكرر الدلالة عليه في كلامنا، حتى يعود علماء الدين إلى صحيح الفهم في القرآن والسنة، وفي وقائع السيرة النبوية وواقع الناس؛ فإن الجهل بهذه التفاصيل، تنتج عنه آفات لا آخر لها، تضر أشد الضرر بإيمان الناس وبإحكامهم لأعمالهم المشروعة. خ. تبدد المسلمين: [أما المسلمون فلما وقعوا في التطويق طار صواب طائفة منهم، فلم تكن تهمها إلا أنفسها، فقد أخذت طريق الفرار، وتركت ساحة القتال، وهي لا تدري ماذا وراءها؟ وفر من هذه الطائفة بعضهم إلى المدينة حتى دخلها، وانطلق بعضهم إلى ما فوق الجبل. ورجعت طائفة أخرى فاختلطت بالمشركين، والتبس العسكران فلم يتميزا، فوقع القتل في المسلمين بعضهم من بعض. روى البخاري عن عائشة قالت: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ هَزِيمَةً بَيِّنَةً، فَصَاحَ إِبْلِيسُ: أَيْ عِبَادَ اللَّهِ أُخْرَاكُمْ (أي احترزوا من ورائكم)! فَرَجَعَتْ أُولَاهُمْ عَلَى أُخْرَاهُمْ، فَاجْتَلَدَتْ أُخْرَاهُمْ، فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ فَإِذَا هُوَ بِأَبِيهِ، فَنَادَى: أَيْ عِبَادَ اللَّهِ أَبِي! أَبِي! فَقَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا احْتَجَزُوا عَنْهُ حَتَّى قَتَلُوهُ؛ فَقَالَ: حُذَيْفَةُ غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ! قَالَ عُرْوَةُ: فَوَاللَّهِ مَا زَالَتْ فِي حُذَيْفَةَ مِنْهَا بَقِيَّةُ خَيْرٍ، حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.». وهذه الطائفة حدث داخل صفوفها ارتباك شديد، وعمتها الفوضى، وتاه منها الكثيرون؛ لا يدرون أين يتوجهون. وبينما هم كذلك، إذ سمعوا صائحاً يصيح: إن محمداً قد قتل، فطارت بقية صوابهم، وانهارت معنوياتهم أو كادت تنهار في نفوس كثير من أفرادها، فتوقف من توقف منهم عن القتال، وألقى بأسلحته مستكيناً؛ وفكر آخرون في الاتصال بعبد الله بن أبيّ (رأس المنافقين) ليأخذ لهم الأمان من أبي سفيان. ومر بهؤلاء أنس بن النضر، وقد ألقوا ما بأيديهم فقال: ما تنتظرون؟ فقالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: ما تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم! ثم قال: اللّهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء (يعني المسلمين)! وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء (يعني المشركين)! ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ، فقال: أين يا أبا عمر؟ فقال أنس: واها لريح الجنة يا سعد! إني أجده دون أحد! ثم مضى فقاتل القوم حتى قتل؛ فما عُرف حتى عرفته أخته (بعد نهاية المعركة) ببنانه، وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم. ونادى ثابت بن الدَحْدَاح قومه فقال: يا معشر الأنصار، إن كان محمد قد قتل، فإن الله حي لا يموت! قاتلوا على دينكم، فإن الله مظفركم وناصركم.! فنهض إليه نفر من الأنصار، فحمل بهم على كتيبة فرسان خالد، فما زال يقاتلهم حتى قتله خالد بالرمح، وقتل أصحابه. ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار، وهو يتَشَحَّطُ في دمه، فقال: يا فلان، أشعرت أن محمداً قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بَلَّغ! فقاتلوا عن دينكم!... وبمثل هذا الاستبسال والتشجيع عادت إلى جنود المسلمين معنوياتهم، ورجع إليهم رشدهم وصوابهم؛ فعدلوا عن الاستسلام أو الاتصال بابن أبي، وأخذوا سلاحهم، يهاجمون تيارات المشركين، وهم يحاولون شق الطريق إلى مقر القيادة، وقد بلغهم أن خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم كذب مُخْتَلَق، فزادهم ذلك قوة على قوتهم، فنجحوا في الإفلات عن التطويق، وفي التجمع حول مركز منيع، بعد أن باشروا القتال المرير، وجالدوا بضراوة بالغة. وكانت هناك طائفة ثالثة لم يكن يهمهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقد كرت هذه الطائفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعملُ التطويق في بدايته؛ وفي مقدمة هؤلاء أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب وغيرهم رضي الله عنهم؛ كانوا في مقدمة المقاتلين، فلما أحسوا بالخطر على ذاته الشريفة -عليه الصلاة والسلام والتحية- صاروا في مقدمة المدافعين.][16]. إن هذه الصورة، من هذا المشهد الخاص من مشاهد غزوة أحد، تفصل أصناف المسلمين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الطبيعية. ونعني من هذا، أن المسلمين في قرون ما بعد النبوة، قد أصبحوا ثلاثة أقسام: القسم الأول: وهم من كانوا على ضعف شديد في الإيمان، فارتدوا عن الإسلام بعد أن بلغهم خبر وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأغلب هذا الصنف، من الأعراب ومن شاكلهم في غلظة الطبع. وهؤلاء كلهم، كانوا يتوهمون أن شخص النبي لا ينبغي أن يُشابه في وجه من وجوهه الناس؛ وبالتالي كانوا يتوقعون أن لا يموت النبي ميتة الناس. وقد ظهر هذا الصنف جليا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وكان منهم الجماعة الذين امتنعوا عن أداء الزكاة. وأما أشباههم من القرون التي بعدهم، فهم كل من توهم انقطاع النبي عن المسلمين بالموت الطبيعي؛ وبالتالي فقد حكموا بانقطاع المدد النبوي عن الأمة الشريفة، ورجعوا إلى اجتهادات عقولهم في القرآن والسنة وحدها. وعلى رأس هذه الطائفة التيميون الوهابية، الذين نحكم بخروجهم عن الصراط المستقيم من غير تكفير، تعظيما منا لكلمة التوحيد منهم، واعتبارا لسعة رحمة الله التي نرى أنها تسعهم ولو بعد حين... وهؤلاء كلهم يُشبهون في الصورة الظاهرة، من صدق خبر وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونظر لنفسه (اجتهد في سبل نجاته). والحكم الصواب في الظاهر، هو تكذيب خبر وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الذي يكون نظيره من جهة الأحكام القلبية الإيمانية: الحكم بعدم مماثلة النبي في وفاته الطبيعية للناس؛ وبالتالي ببقاء حكم اتصاله بأمته ميتا، كاتصاله بها حيا؛ من غير تطرق احتمال نقص في التعليم والتزكية!... وهذا الحكم عندنا أصلي وثابت بالقرآن والسنة، وإن غفل عنه جل علماء الأمة!... القسم الثاني: وهم من ثبتوا وعزموا على الموت على ما مات عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ونظير هؤلاء، هم أهل الإيمان من متأخري المسلمين، الذين لا علم لهم بخصوصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيا وميتا. ومن هذه الفئة من يُسمون بالعلماء العاملين، والفقهاء الناصحين؛ على مر القرون. وعددهم -بحمد الله- كبير... القسم الثالث: وهم المتصلون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ظاهرا وباطنا، من غير حكم للزمان عليهم. وهؤلاء هم خواص خواص الأمة: في مقدمهم كبار الصحابة كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ويأتي بعدهم كل ولي أطلعه الله على حقيقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كأمثالنا. وهؤلاء لا يشعرون بأنفسهم، وإنما يسعون دائما إلى فداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنفسهم، حيا وميتا: حيا، كما فداه خواص الصحابة ظاهرا؛ وميتا، بفداء دينه وأوامره، والقيام بحقه في أمته من بعده. ولأجل كل ما أسلفنا، نحن نعمل على ربط أول الأمة بآخرها؛ ونبرز الأحكام الشرعية الآن على حقيقتها، وكما هي في علم الله؛ لندل الأمة عليها، فتلتحق بالدائرة المتحلقة حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حيث المقام والمكانة؛ فتكون على أتم قوة في إيمانها وعلى أتم بصيرة. يقول الله تعالى في حق هؤلاء القوم، لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]. ونعني من هذا، أن تمام الاتباع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، يقتضي الكون على بصيرة فيه؛ ولا يُكتفى منه بصورته الظاهرة، التي هي مبلغ علم جل الفقهاء!... ذ. احتدام القتال حول رسول الله: [وبينما كانت تلك الطوائف تتلقى أواصر التطويق، وتطحن بين شِقَّي رَحَى المشركين، كان العراك محتدماً حول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكرنا أن المشركين لما بدأوا عمل التطويق، لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تسعة نفر؛ فلما نادى المسلمين: «هَلُمَّوا إِلَيَّ، أَنَا رَسُولُ اللَّهِ!»[17]، سمع صوته المشركون وعرفوه، فكروا إليه وهاجموه؛ ومالوا إليه بثقلهم، قبل أن يرجع إليه أحد من جيش المسلمين. فجرى بين المشركين وبين هؤلاء النفر التسعة من الصحابة عراك عنيف، ظهرت فيه نوادر الحب والتفاني والبسالة والبطولة. روى مسلم عن أنس بن مالك: "أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أُفْرِدَ يَوْمَ أُحُدٍ فِي سَبْعَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ؛ فَلَمَّا رَهِقُوهُ، قَالَ: «مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ؟» (أَوْ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ؟)، فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ؛ ثُمَّ رَهِقُوهُ أَيْضًا، فَقَالَ: «مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ؟» (أَوْ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ؟)، فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَاحِبَيْهِ: «مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا!»". وكان آخر هؤلاء السبعة هو عمارة بن يزيد بن السَّكَن، قاتل حتى أثبتته الجراحة فسقط.][18]. إن المشركين، لما سمعوا صوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ما كانوا ليفوّتوا الأمر، وهم يعلمون أنه قائد جيش المسلمين وأميرهم في السلم. فكانت ميلتهم عليه، إرادة منهم لقتله، وإنهاء الأمر؛ لأنهم يعلمون أن المسلمين ما كانوا ليثبتوا بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثباتهم وهو بينهم. ومع أن الصحابة كانوا ما يزالون في طور التربية، بحيث لن يتركهم مربيهم قبل أن يشتد عودهم فيها؛ إلا أنه صلى الله عليه وآله وسلم، ما أغلق باب الاستشهاد دون كبارهم. وهو عندما كان يسألهم أن يردوا عنه، ويبشرهم بالجنة؛ فإنه كان يُبشرهم بالشهادة التي ما توانوا عنها رضي الله عنهم؛ حتى فني من كان معه من الأنصار، ولم يبق إلا الاثنان من المهاجرين. وإن دعوته صلى الله عليه وآله وسلم صفوة أصحابه إلى الشهادة، كانت منه دعوة إلى أرفع درجات الإيمان، التي قد يمضي السالكون في قطعها أعمارهم كلها. ونعني من هذا أن التزكية النبوية كانت هي محور تديُّن الصحابة، سواء ألحقوا بالرفيق الأعلى، أم بقوا في الدنيا لبعض العمر. وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم عمن استُشهدوا: «مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا!»، فليس المراد منه ظاهر اللفظ، وهو محال في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من كونه سيد المنصفين أجمعين؛ ولكنه حكم بظاهر الأمر في الدنيا، وكأنه يريد أن يقول: ما كان ينبغي أن ندفع بهم جميعا إلى الموت الآن!... وهذا من شفقته صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه، والتي تفوق شفقة الأب على أبنائه. يقول الله تعالى في صفة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]؛ وهذا يعني أنه صلى الله عليه وآله وسلم، لا يُمضي أمرا مما يشق على أحد من أمته، إلا مـُكرَها. وهذا لا يعني أن هذا الوجه من باطنه الشريف، ينفي الوجوه الأخرى التي تدبرها أسماء غير الرؤوف الرحيم، كالعليم والحكيم والشائي والمريد وغيرها؛ لأن هذه الوجوه لها حكمها في المظاهر التي تكون لها، من دون تزاحم. وهذا العلم، مما ينفع في فهم أحكام أفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفهم أحكام التشريع عموما. والفقهاء، قلما يهتدون إلى بعض تلك الأحكام، بتوفيق من الله وهداية إلهام، لا بعلم تام. وهذا الباب من أوسع أبواب علوم القرآن، لمن آتاه الله فهما في كلامه!... (يُتبع...) [1] . أخرجه البخاري، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.