اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2021/07/18 الحوار الغائب (ج3) -25- المرحلة المدنية (11) (تابع...) 10. غزوة أحد: ا. استعداد قريش: [كانت مكة تحترق غيظاً على المسلمين مما أصابها في معركة بدر من مأساة الهزيمة وقتل الصناديد والأشراف، وكانت تجيش فيها نزعات الانتقام وأخذ الثأر، حتى إن قريشاً كانوا قد منعوا البكاء على قتلاهم في بدر، ومنعوا من الاستعجال في فداء الأسارى حتى لا يتفطن المسلمون إلى مدى مأساتهم وحزنهم. وعلى أثر غزوة بدر اتفقت قريش على أن تقوم بحرب شاملة ضد المسلمين تشفي غيظها وتروي غلة حقدها، وأخذت في الاستعداد للخوض في مثل هذه المعركة. وكان عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وأبو سفيان بن حرب، وعبد الله بن أبي ربيعة أكثر زعماء قريش نشاطاً وتحمساً لخوض المعركة. وأول ما فعلوه بهذا الصدد أنهم احتجزوا العير التي كان قد نجا بها أبو سفيان، والتي كانت سبباً لمعركة بدر، وقالوا للذين كانت فيها أموالهم: يا معشر قريش، إن محمداً قد وَتَرَكُم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا أن ندرك منه ثأراً! فأجابوا لذلك، فباعوها؛ وكانت ألف بعير، والمال خمسين ألف دينار. وفي ذلك أنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: 36]. ثم فتحوا باب التطوع لكل من أحب المساهمة في غزو المسلمين من الأحابيش وكنانة وأهل تهامة، وأخذوا لذلك أنواعا من طرق التحريض، حتى إن صفوان بن أمية أغرى أبا عزة الشاعر (الذي كان قد أسر في بدر، فَمَنَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطلق سراحه بغير فدية، وأخذ منه العهد بألا يقوم ضده)؛ أغراه على أن يقوم بتحريض القبائل ضد المسلمين، وعاهده أنه إن رجع عن الغزوة حياً يغنيه، وإلا يكفل بناته، فقام أبو عزة بتحريض القبائل بأشعاره التي كانت تذكي حفائظهم، كما اختاروا شاعراً آخر -مُسَافع بن عبد مناف الجمحي- للمهمة نفسها. وكان أبو سفيان أشد تأليباً على المسلمين بعدما رجع من غزوة السَّوِيق خائباً لم ينل ما في نفسه، بل أضاع مقدارًا كبيراً من تمويناته في هذه الغزوة. وزاد النار إذكاء، ما أصاب قريشاً أخيراً في سرية زيد بن حارثة من الخسارة الفادحة التي قصمت فقار اقتصادها، وزودها من الحزن والهم ما لا يقادر قدره. وحينئذ زادت سرعة قريش في استعدادها للخوض في معركة تفصل بينهم وبين المسلمين.][1]. يظهر من كل هذا، أن قريشا قد استجمعت كل أسباب الدخول في معركة حاسمة مع المسلمين، وأنها وظّفت من أجل ذلك كل ما تناله يدها من مال ومن رجال. كما يظهر من السياق أن إبليس قد نفخ في نارهم، فعاد من كان مؤمَّنا إلى المغامرة بنفسه، ووقع تأليب القبائل إطماعا لهم في الخلاص من المسلمين الذين غيّروا ميزان القوى في الجزيرة العربية. وإن إبليس له عادة في استثمار الأحوال الاجتماعية والسياسية، من أجل بلوغ مآربه؛ قد تخفى عن جل من يُساقون إلى الحرب. وليس من الغريب أن يُعين إبليس من النفوس، ما بها من حزن على فقد الأقارب والأموال، وما بها من حنق وغيظ على أناس كانت إلى عهد قريب تحتقرهم، أو تراهم من طبقة الخدم والعبيد. وكما ذكر الله بخصوص بدر قوله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 44]، فجعل التقليل في الأعين من أسباب اللقاء، كذلك جعل غيظ المشركين في هذه المرة دافعا لهم إلى خوض المعركة؛ أما المسلمون فإنهم كانوا أقرب إلى حال الدفاع منهم إلى حال الرغبة في القتال. هذا، مع علمهم بأن المواجهة كانت حتمية، وكانت "مسألة وقت" فحسب. ب. جيش قريش: [ولما استدارت السنة كانت مكة قد استكملت عدتها، واجتمع إليها من المشركين ثلاثة آلاف مقاتل من قريش والحلفاء والأحابيش، ورأى قادة قريش أن يستصحبوا معهم النساء حتى يكون ذلك أبلغ في استماتة الرجال دون أن تصاب حرماتهم وأعراضهم، وكان عدد هذه النسوة خمس عشرة امرأة. وكان سلاح النقليات في هذا الجيش ثلاثة آلاف بعير، ومن سلاح الفرسان مائتا فرس، جنبوها طول الطريق، وكان من سلاح الوقاية سبعمائة درع. وكانت القيادة العامة إلى أبي سفيان بن حرب، وقيادة الفرسان إلى خالد بن الوليد يعاونه عكرمة بن أبي جهل. أما اللواء فكان إلى بني عبد الدار.][2]. لقد تم لقريش الإعداد، وكان الوقت كافيا لها من أجل تكبير الأعداد واستكمال العُدة. وإن إخراج جماعة من النسوة بصحبتهم، يشهدن المعركة، هو من حيل الشيطان التي يعلم أثرها على نفوس الأجناد. وكما هو ظاهر، فقد ترأس الجيش سادة قريش، الذين يُعدّون استمرارا لأبي جهل ومن قضى معه في بدر؛ وكأن أحُدا هي الجولة الثانية من بدر فحسب... ج. تحرك جيش قريش واستعداد المسلمين: [وكان العباس بن عبد المطلب يرقب حركات قريش واستعداداتها العسكرية، فلما تحرك هذا الجيش بعث العباس رسالة مستعجلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ضمنها جميع تفاصيل الجيش. وأسرع رسول العباس بإبلاغ الرسالة، وجد في السير حتى إنه قطع الطريق بين مكة والمدينة -التي تبلغ مسافتها إلى نحو خمسمائة كيلو متر- في ثلاثة أيام، وسلم الرسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد قباء. قرأ الرسالة على النبي صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب، فأمره بالكتمان، وعاد مسرعاً إلى المدينة، وتبادل الرأي مع قادة المهاجرين والأنصار. وظلت المدينة في حالة استنفار عام لا يفارق رجالها السلاح حتى وهم في الصلاة، استعداداً للطوارئ. وقامت مفرزة من الأنصار -فيهم سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة- بحراسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يبيتون على بابه وعليهم السلاح. وقامت على مداخل المدينة وأنقابها مفرزات تحرسها؛ خوفا من أن يؤخذوا على غرة. وقامت دوريات من المسلمين -لاكتشاف تحركات العدو- تتجول حول الطرق التي يحتمل أن يسلكها المشركون للإغارة على المسلمين.][3]. د. جيش قريش على أسوار المدينة: [وتابع جيش مكة سيره على الطريق الغربية الرئيسية المعتادة، ولما وصل إلى الأبْوَاء اقترحت هند بنت عتبة -زوج أبي سفيان- نبش قبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بَيدَ أن قادة الجيش رفضوا هذا الطلب، وحذروا من العواقب الوخيمة التي تلحقهم لو فتحوا هذا الباب. ثم واصل جيش مكة سيره حتى اقترب من المدينة، فسلك وادي العَقيق، ثم انحرف منه إلى ذات اليمين حتى نزل قريباً بجبل أحد، في مكان يقال له: عَينَيْن، في بطن السَّبْخَة من قناة على شفير الوادي الذي يقع شمالي المدينة بجنب أحـد؛ فعسكر هناك يوم الجمعة السادس من شهر شوال سنة ثلاث من الهجرة.][4]. ه. الاستشارة وأخذ الرأي: [ونقلت استخبارات المدينة أخبار جيش مكة خبراً بعد خبر، حتى الخبر الأخير عن معسكره؛ وحينئذ عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً استشارياً عسكرياً أعلى، تبادل فيه الرأي لاختيار الموقف، وأخبرهم عن رؤيا رآها، قال: «إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ وَاللَّهِ خَيْرًا، رَأَيْتُ بَقَرًا تُذْبَحُ، وَرَأَيْتُ فِي ذُبَابِ سَيْفِي ثَلَمًا، وَرَأَيْتُ أَنِّي أَدْخَلْتُ يَدَيَّ فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ.»[5]، وتأوّل البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته، وتأول الدرع بالمدينة. ثم قدم رأيه إلى صحابته ألا يخرجوا من المدينة وأن يتحصنوا بها؛ فإن أقام المشركون بمعسكرهم أقاموا بِشَرِّ مُقَام وبغير جدوى، وإن دخلوا المدينة قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت، وكان هذا هو الرأي. ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي بن سلول (رأس المنافقين)، وكان قد حضر المجلس بصفته أحد زعماء الخزرج. ويبدو أن موافقته لهذا الرأي لم تكن لأجل أن هذا هو الموقف الصحيح من حيث الوجهة العسكرية، بل ليتمكن من التباعد عن القتال دون أن يعلم بذلك أحد. وشاء الله أن يفتضح هو وأصحابه -لأول مرة- أمام المسلمين وينكشف عنهم الغطاء الذي كان كفرهم ونفاقهم يكمن وراءه، ويتعرف المسلمون في أحرج ساعاتهم على تلك الأفاعي التي كانت تتحرك تحت ملابسهم وأكمامهم. وقد بادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر ومن غيرهم، فأشاروا على النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج، وألحوا عليه في ذلك حتى قال قائلهم: يا رسول الله، كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله، فقد ساقه إلينا وقرب المسير، اخرج إلى أعدائنا، لا يرون أنا جَبُنَّا عنهم! وكان في مقدمة هؤلاء المتحمسين حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم (الذي كان قد أبلى أحسن بلاء في معركة بدر)، فقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم: والذي أنزل عليك الكتاب، لا أطعم طعاماً حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة. وتنازل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رأيه مراعاة لهؤلاء المتحمسين، واستقر الرأي على الخروج من المدينة، واللقاء في الميدان السافر.][6]. وهنا ينبغي أن نلاحظ ما يلي: - إن الرؤيا التي رآها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعبّرها، لن تقع إلا على ما عبّرها به؛ لأنه أعلم الناس برد الصور الخيالية إلى أصلها من المعاني. - إن اختياره صلى الله عليه وآله وسلم، لمقاتلة المشركين داخل أزقة المدينة، هو من باب الرأي العسكري. وهذا الصنف من الحرب المعروف في العلوم العسكرية بـ "حرب الشوارع"، كان كفيلا برد العدوان بإذن الله. ولكن هذا الرأي النبوي، لا يخدم القدر الذي أخبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم عند تعبيره لرؤياه، وهو: قتل عدد من الصحابة، قتل أحد أهل بيت النبوة، مع بقاء حال المدينة على حالها حصنا للإسلام والمسلمين. لهذا عندما سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إصرار بعض الصحابة على الخروج، وسمع قسم حمزة عليه السلام، لم يسعه إلا النزول على هذا الرأي. وهذا يعني أن النبي أو الوارث، قد يأتي الشيء وهو يعلم أن غيره أولى منه؛ ولكنه يعلم أن القدر جارٍ بما يختاره. ومن لا علم له بهذا الصنف من العلوم التي يكون للقدر مدخل في مآلاتها، فإنه سيكون كثير الاعتراض على إمامه إن كان ربانيا. والسبب، هو غفلة العقول عن حتمية القدر، بغض النظر عن موافقته للمعايير العقلانية وعن مخالفتها. ولا شك أن القارئ، سيعلم هنا أن العقول المعاشية التي تكون للعامة، هي دون الخوض في مثل هذه المسائل المـُركّبة؛ وبالتالي سيعلم أن كل السياسات الناشئة عن هذه العقول، والتي يكون جل الحكام من أصحابها، لن توفّق دائما للأصوب من الآراء؛ وإنما هي -إن وافقها القدر- ستتبع ما تراه مناسبا لإدراكها فحسب. وأين إدراك الناس، من علم الله في الأمور؟!... والغريب أننا نجد العامة من حكام ومن محكومين، عاذرين لأنفسهم، عند حكمهم بما تُعطي عقولهم؛ وكأن القدر يجري على وفق ما تحكم به العقول!... وهذا قصور بيّن في النظر، ينبغي أن لا يقع فيه كبار السياسيين ومهرة الحكام... - تبعا لما ذكرنا، فلن ينصلح حال الأمة، حتى يعود حكامها في الرأي إلى حكمائها. وهذا ما لا نرى له مؤشرا إلى الآن، وإن كنا قد شاهدنا عمل بعض السياسيين من الدول الإسلامية بآرائنا، بعد فوات الأوان. والعمل بآرائنا بعد مرور الوقت، لا يكون من اعتبار أقوالنا؛ وإنما هو من استنفاد الآراء المخالفة، مع ظهور عدم نجاعتها. ولا شك أن القارئ يميّز بين هذين الصنفين من العمل. وهذه المسألة لها جذور في المعاملات الشرعية، لا يسمح لنا الوقت بالدخول فيها؛ ويكفي أن نشير منها إلى ما يكون من اختلاف الأحكام الشرعية، مع اتحاد صور الأعمال، لندل على أصلها. [ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس يوم الجمعة، فوعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد، وأخبر أن لهم النصر بما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم، ففرح الناس بذلك. ثم صلى بالناس العصر، وقد حشدوا وحضر أهل العَوَالي؛ ثم دخل بيته، ومعه صاحباه أبو بكر وعمر، فعمماه وألبساه، فتدجج بسلاحه وظاهر بين درعين (أي لبس درعا فوق درع) وتقلد السيف، ثم خرج على الناس. وكان الناس ينتظرون خروجه، وقد قال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير: استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج فردوا الأمر إليه، فندموا جميعاً على ما صنعوا، فلما خرج قالوا له: يا رسول الله، ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت، إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ (وهي الدرع) أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ!»[7].][8]. وهنا ينبغي أن نلاحظ: - أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قد أخبر أصحابه بالنصر؛ فإذا جمعنا هذا الإخبار إلى تعبير الرؤيا السابق، فإنه سيتضح ما ستعرفه معركة أحد من انتكاس، من دون أن يغيّر ذلك من النتيجة النهائية شيئا. وهذا من غير شك، من الإخبار بالغيب إجمالا وتفصيلا!... - أن الصحابة لم يتنبهوا إلى سبقهم لرأي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلا بعد فوات الأوان؛ عندما أرجعوا الأمر ثانية إليه -عليه السلام- وأظهروا له التسليم. هذا، مع أنهم عندما أبانوا عن رغبتهم في الخروج إلى العدو أولا، لم يكونوا يريدون بذلك إلا إدخال السرور على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإراءته منهم ما يُحبّ؛ ولكن العلم النبوي، فوق ما يحيط الناس به من جهة العادة. وعلى كل حال، فإن تراجع الصحابة عما كانوا قد أشاروا به، سيُخفّف عنهم تبعة سبق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكلام، من دون أن يحطها عنهم بالكلية. وسنرى كيف أن هذا سيكون سببا من أسباب تأديب الصحابة في هذه المعركة. - أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إذا عزم على أمر، فليس عزمه كعزم الناس؛ حتى إذا روجع تراجع؛ لأنه في كل ذلك قائم بربه. وبما أن صور القيام في العمل تختلف، فإن الناس يظنون أن لهم الخروج من صورة إلى غيرها بحسب ما يعنّ لهم؛ ويتوهمون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كهيئتهم، فيُشيرون عليه بتغيير العمل؛ ولا يعلمون أنه عليه السلام له علم مخصوص في كل صورة من صور الأعمال المخصوصة. لهذا، أبى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أن يعود عن القتال، بعد أن لبس لباس الحرب. ومن يعلم ما أشرنا إليه هنا، فإنه سيتريّث في معاملة الرباني، ويترك له الخيار في الأمور؛ فإن فعل، فإن النتيجة تكون أوفر كسبا، وأقل خسارة، على كل حال. أما إن ألجأه إلى رأي مخصوص، فإن الرباني يجاريه فيه، من باب التحدي الرباني، ولا يضمن أن تكون النتيجة في صالحه، إما جزئيا وإما كليا. وهذا الباب من علم الربانيّين غريب، لو علمه الناس، لكانوا يُسلّمون تسليما للربانيّين، ولو أشاروا عليهم بما ظاهره الهلاك المـُبين. ولكن هذه المعاملة، تتطلب يقينا تاما، واليقين قليل في الناس على مر العصور. وإلى هذا الأصل يُشير قول الله تعالى (من باب نصحه لعباده): {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. ومعنى لا يؤمنون في الآية: لا يكمل إيمانهم؛ وهو اليقين الذي ذكرناه نحن. [وقسم النبي صلى الله عليه وسلم جيشه إلى ثلاث كتائب: 2. كتيبة الأوس من الأنصار، وأعطي لواءها أسيد بن حضير. 3. كتيبة الخزرج من الأنصار، وأعطي لواءها الحُبَاب بن المنذر. وكان الجيش متألفاً من ألف مقاتل فيهم مائة دارع؛ ولم يكن فيهم من الفرسان أحد. واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقي في المدينة، وآذن بالرحيل، فتحرك الجيش نحو الشمال، وخرج السعدان (مثنى "سعد") أمام النبي صلى الله عليه وسلم يعدوان دارعيْن. ولما جاوز ثنية الوداع رأى كتيبة حسنة التسليح منفردة عن سواد الجيش، فسأل عنها، فأخبر أنهم اليهود من حلفاء الخزرج يرغبون المساهمة في القتال ضد المشركين، فسأل: «هَلْ أَسْلَمُوا؟» فقالوا: لا، فأبى أن يستعين بأهل الكفر على أهل الشرك.][9]. إن مسألة تجهز اليهود للقتال مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مع إرجاعه لهم، مسألة فيها غموض؛ لأن معاهدة المدينة تقتضي أن يقاتلوا مع المسلمين، إذا وقع الهجوم عليهم في المدينة. وهذه الرواية المذكورة هنا، لم ترد إلا عند الواقدي في "مغازيه"، من دون إسناد؛ وعند ابن سعد في "طبقاته"، متابعةً له. وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «قُلْ لَهُمْ فَلْيَرْجِعُوا؛ فَإِنَّا لا نَسْتَعِينُ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ!»، فأخرجه الطحاوي في مشكل الآثار، عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه؛ ولنورد الرواية مع التعليق بالنص، كما ورد عند الطحاوي رحمه الله: [قَالَ (أي الراوي): خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، حَتَّى إِذَا خَلَفَ ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ إِذَا هُوَ بِكَتِيبَةٍ خَشْنَاءَ، فَقَالَ: «مَنْ هَؤُلاءِ؟» قَالُوا: بَنُو قَيْنُقَاعَ! وَهُمْ رَهْطُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ، وَهُمْ قَوْمُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بْنِ سَلُولَ. فَقَالَ: «أَسْلِمُوا!»، فَأَبَوْا. قَالَ: «قُلْ لَهُمْ فَلْيَرْجِعُوا؛ فَإِنَّا لا نَسْتَعِينُ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ!» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: وَهُمْ قَوْمُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بْنِ سَلُولَ، لَيْسَ يَعْنُونَ بِذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ مِنْهُمْ؛ لأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بْنَ سَلُولَ لَيْسَ مِنَ الْيَهُودِ؛ وَلَكِنَّهُ مِنَ الرَّهْطِ الَّذِينَ يَرْجِعُ الأَنْصَارُ إلَيْهِمْ بِأَنْسَابِهِمْ، وَلَكِنَّهُ جَدَلَ بِنِفَاقِهِ. فَأَمَّا نَسَبُهُ فِيهِمْ فَقَائِمٌ! وَقِيلَ: إِنَّهُمْ قَوْمُهُ، أَيْ لأَنَّهُمْ قَوْمُهُ بِمُحَالَفَتِهِ لا بِمَا سِوَى ذَلِكَ. قَالَ هَذَا الْقَائِلُ: فَهَذَا يُخَالِفُ مَا فِي الآثَارِ الأُوَلِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَمَّا أَحَدُهُمَا فَإِنَّهُ جَعَلَهُمْ مُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ لَهُمْ: «إِنَّا لا نَسْتَعِينُ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ!»؛ وَأَمَّا الآخَرُ، فَمَنْعُهُ إيَّاهُمْ مِنَ الْقِتَالِ مَعَهُ؛ وَفِي حَدِيثِ ثَابِتِ بْنِ الْحَارِثِ الَّذِي قَدْ رَوَيْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَّا فِي هَذَا الْبَابِ دُعَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانُوا فِي النَّضِيرِ إِلَى الْقِتَالِ مَعَهُ. فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ، أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِذَلِكَ الْحَدِيثِ، وَلا شَيْءٍ مِمَّا رَوَيْنَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ؛ لأَنَّ وَجْهَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَؤُلاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ مَا قَالَهُ لَهُمْ فِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ كَانَ بَعْدَ وُقُوفِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ الْمُنَافِقِ مِنَ الْحِلْفِ؛ وَالْمُحَالَفَةُ: هِيَ الْمُوَافَقَةُ مِنَ الْحَالِفِينَ لِلْحَالِفِينَ. فَكَانُوا بِذَلِكَ خَارِجِينَ مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي كَانُوا مِنْ أَهْلِهِ مِمَّا سِوَاهُمْ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا فِي النَّضِيرِ فِي ذَلِكَ بِحِلافِهِمْ؛ لأَنَّهُمْ لَمْ يُحَالِفُوا مُنَافِقًا، وَكَانَ أُولَئِكَ بِمَا حَالَفُوا الْمُنَافِقَ الَّذِي حَالَفُوهُ مُرْتَدِّينَ عَنْ مَا كَانُوا فِيهِ إِلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ؛ وَكَانُوا بِذَلِكَ كَالْمُرْتَدِّينَ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِنَا إِلَى يَهُودِيَّةٍ أَوْ إِلَى نَصْرَانِيَّةٍ؛ فَلا يَكُونُونَ بِذَلِكَ يَهُودًا وَلا نَصَارَى؛ لأَنَّ ذَبَائِحَهُمْ غَيْرُ مَأْكُولاتٍ؛ وَلأَنَّ نِسَاءَهُمُ اللاتِي دَخَلْنَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ غَيْرُ مَنْكُوحَاتٍ. فَمِثْلُ ذَلِكَ بَنُو قَيْنُقَاعَ لَمَّا حَالَفُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ الْمُنَافِقَ، فَوَاطَأُوهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ النِّفَاقِ، وَوَافَقُوهُ عَلَى ذَلِكَ؛ خَرَجُوا بِذَلِكَ مِنْ حُكْمِ الْكِتَابِ الَّذِي كَانُوا مِنْ أَهْلِهِ، وَصَارُوا مُشْرِكِينَ كَمُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لا يَسْتَعِينُ بِهِمْ، فَلَمْ يَسْتَعِنْ بِهِمْ فِي قِتَالِهِ الْمُشْرِكِينَ لِذَلِكَ. فَأَمَّا مَنْ سِوَاهُمْ مِمَّنْ تَمَسَّكَ بِكِتَابِهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الَّذِي يَذْكُرُ أَنَّهُ عَلَى دِينِهِ فَمُخَالِفٌ لِذَلِكَ، وَلا بَأْسَ بِالاسْتِعَانَةِ بِمِثْلِهِ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ؛ لأَنَّهُ لَيْسَ بِمُشْرِكٍ، إِنَّمَا هُوَ كِتَابِيٌّ كَافِرٌ، وَهُوَ عَدُوٌّ لِلْكُفَّارِ مِنْ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ، كَمَا نَحْنُ أَعْدَاءٌ لَهُمْ. وَاللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ.](انتهى النقل). وأما نحن فنرجح أن اليهود لم يخرجوا في أحد، نكثا منهم للمعاهدة على عادتهم في نكث العهود. ونرد على الطحاوي قوله إن اليهود خرجوا من صفتهم الأصلية إلى النفاق الذي هو شرك، بمحالفتهم للمنافق ابن أبيّ، من ثلاثة أوجه: - من وجه تفريقه بين الكفر والشرك مطلقا، وهو ما لا يصح؛ لأن كفر أهل الكتاب -مثلا- لا يخلو من شرك. وإنما وقع التفريق بين أهل الكتاب والمشركين، اعتبارا للأصل الذي كانوا عليه، لا اعتبارا لحالهم في أنفسهم. وهذا التفريق بهذا الاعتبار هو من الله، الذي أوحى إلى الأنبياء عليهم السلام بالكتب. - من وجه معاداة أهل الكتاب للمشركين من الوثنيّين؛ لأن هذه المعاداة، لا تُخرج أهل الكتاب من الشرك الملازم لكفرهم، وإن كانت تجعلهم أعلى دركا في جهنم من الوثنيّين للاعتبار السابق. والدليل على ما نقول هنا، من ملازمة الشرك للكتابيّين قول الله تعالى عنهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]. وليتنبه القارئ إلى نسبة الشرك إلى أهل الكتاب صراحة في ختام الآية؛ وهو ما يفند ما ذهب إليه الطحاوي. - أما الوجه الثالث، فلو صح ما قاله الطحاوي، من كون العلة في رد اليهود محالفتهم لعبد الله بن أبي بن سلول؛ لكان رد الحليف أولى، وهو السبب في رد المحالِف. والحال إن ابن أبيّ قد خرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بحسب ما يُعطيه منه ظاهر أمره. ولولا هذا، ما كان تخذيل المنافقين -كما سنعرف بعد قليل- ممكنا فجر المعركة، وهو ثابت بنص القرآن. ز. استعراض الجيش والمبيت: [وعندما وصل -صلى الله عليه وسلم- إلى مقام يقال له: "الشيخان"، استعرض جيشه، فرد من استصغره ولم يره مطيقاً للقتال؛ وكان منهم: عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأسامة بن زيد، وأسيد بن ظُهَير، وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وعَرَابَة بن أوْس، وعمرو بن حزم، وأبو سعيد الخدري، وزيد بن حارثة الأنصاري، وسعد بن حَبَّة، ويذكر في هؤلاء البراء بن عازب، لكن حديثه في البخاري يدل على شهوده القتال ذلك اليوم. وأجاز رافع بن خَدِيج، وسَمُرَة بن جُنْدَب على صغر سنهما، وذلك أن رافع بن خديج كان ماهراً في رماية النبل فأجازه؛ فقال سمرة: أنا أقوى من رافع، أنا أصرعه! فلما أُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، أمرهما أن يتصارعا أمامه فتصارعا، فصرع سمرة رافعاً، فأجازه أيضاً. وفي هذا المكان أدركهم المساء، فصلى -عليه السلام- المغرب، ثم صلى العشاء، وبات هنالك. واختار خمسين رجلاً لحراسة المعسكر يتجولون حوله، وكان قائدهم محمد بن مسلمة الأنصاري، بطل سرية كعب بن الأشرف؛ وتولى ذَكْوَان بن عبد قيس حراسة النبي صلى الله عليه وسلم خاصة.][10]. نستخلص من هذه الفقرة، أنه لا يجوز استغلال الأطفال في القتال؛ كما نراه في الأزمنة المتأخرة عند الميلشيات المختلفة. والفرق جلي، بين القتال في سبيل الله، الذي ينبغي أن لا يخالف أصلا من أصول شريعته؛ والقتال الجاهلي، الذي لا يعبأ فيه الناس إلا بما يزيد من فرص النصر من أسباب؛ من دون مراعاة شيء غير ذلك... ح. تمرد عبد الله بن أبيّ وأصحابه: [وقبل طلوع الفجر بقليل أدلج عليه السلام، حتى إذا كان بالشَّوْط صلى الفجر، وكان بمقربة جداً من العدو. فقد كان يراهم ويرونه، وهناك تمرد عبد الله بن أبي المنافق، فانسحب بنحو ثلث العسكر (ثلاثمائة مقاتل) قائلاً: ما ندري علام نقتل أنفسنا؟ ومتظاهراً بالاحتجاج بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك رأيه وأطاع غيره. ولا شك أن سبب هذا الانعزال لم يكن هو ما أبداه هذا المنافق من رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيه، وإلا لم يكن لسيره مع الجيش النبوي إلى هذا المكان معنى. ولو كان هذا هو السبب لا نعزل عن الجيش منذ بداية سيره، بل كان هدفه الرئيس من هذا التمرد -في ذلك الظرف الدقيق- أن يحدث البلبلة والاضطراب في جيش المسلمين على مرأى ومسمع من عدوهم، حتى ينحاز عامة الجيش عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتنهار معنويات من يبقى معه؛ بينما يتشجع العدو، وتعلو همته لرؤية هذا المنظر، فيكون ذلك أسرع إلى القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المخلصين، ويصحو بعد ذلك الجو لعودة الرياسة إلى هذا المنافق وأصحابه. وكاد المنافق ينجح في تحقيق بعض ما كان يهدف إليه، فقد همت طائفتان (بنو حارثة من الأوس، وبنو سلمة من الخزرج) أن تفشلا، ولكن الله تولاهما، فثبتتا بعدما سرى فيهما الاضطراب، وهمتا بالرجوع والانسحاب، وعنهما يقول الله تعالى: {إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122]. وحاول عبد الله بن حَرَام (والد جابر بن عبد الله) تذكير هؤلاء المنافقين بواجبهم في هذا الظرف الدقيق، فتبعهم وهو يوبخهم ويحضهم على الرجوع، ويقول: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع، فرجع عنهم عبد الله بن حرام قائلاً: أبعدكم الله أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيه. وفي هؤلاء المنافقين يقول الله تعالى: {وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران: 167].][11]. يظهر من هذا المقطع، ما كنا قد وعدنا به من ذكر لشأن المنافقين برئاسة عبد الله بن أبيّ بن سلول. ولقد كان رأس النفاق لا يعزم بخروجه مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، على مناصرة الله ورسوله، كما يُفترض أن يكون؛ ولكنها كانت خطة منه وممن يوافقونه على النفاق، من أجل أن ينسحبوا من جيش المسلمين في آخر لحظة؛ بُغية إيقاع الفتنة فيهم، وزرع البلبلة؛ لعل شطرا من الجيش يتبعهم، أو لعل الأعداء عند رؤية ما يُطمعهم في النيل من المسلمين، أن ينقضوا عليهم فيقطعوا دابرهم بميلة واحدة، قبل أن يجتمع لهم رأي. ولقد همت الطائفتان المذكورتان في القرآن، أن تفشلا، لولا أن الله ثبتهما. وهذا الذي ذكره الله لنا في كتابه، من شأن المنافقين، ومَن يتأثرون بهم من المسلمين، هو من الحقائق السارية أبد الدهر، كلما تواجه كفر وإيمان. ولولا أن المنافقين يوافقون بظاهرهم المسلمين، ويوافقون في الآن ذاته ببواطنهم الكافرين، لم يكونوا ليتمكنوا من العمل على الإضرار بجند الله من الداخل. وهذا الإضرار، لو أن الله أمضاه، لكان أبلغ من الأذى الذي يلقاه المؤمنون على أيدي الجيش المقابل. وإن نحن حققنا النظر، فإننا سنجد المؤمنين بين عدوّين: أحدهما ظاهر، والآخر مندس بينهم. كل هذا، لأن عزة الإيمان تقتضي أن يحاط من جهتيه بالظلمات. وقد غلط قوم، عند إرادتهم الكلام في النفاق، عندما قالوا بانعدامه في المتأخرين، بما أنه لا أحد يخاف على نفسه بينهم؛ كما كان يخاف المنافقون بين المؤمنين الأولين. والسبب في الوقوع في هذا الغلط، هو جعل الخوف على النفس باعثا على النفاق، عند خوف إعلان الكفر بين أظهر المؤمنين. والحقيقة هي أن النفاق باق في الناس، وليس منوطا بالخوف على النفس وحده؛ بل هو مقام يقتضي التذبذب بين الكفر والإيمان، يوجد في المتأخرين كما وُجد في المتقدمين؛ وإن اختلفت الظروف. لهذا فنحن نرى أن المنافقين اليوم أكثر عددا من المنافقين الأولين، لأنهم صاروا يأمنون على أنفسهم أكثر منهم؛ وهذا يجعل ضررهم في المسلمين أبلغ وأشد. فهم الآن يستطيعون الجهر بما لم يكونوا يستطيعونه سابقا؛ خصوصا وأنهم من جهة الظاهر مسلمون. ومن أراد أن يعرفهم، فلينظر إلى نشاطهم عند خوفهم من انتصار الدين، ولو في مسألة جزئية؛ بدعاوى كثيرة، منها الحفاظ على السلم، ومنها مراعاة الحريات، ومنها اعتبار الأخوة الإنسانية وإسباقها على الأخوة الإيمانية... وما لا يفهمه المنافقون، هو ما يجهله إبليس ذاته: وهو أنهم جميعا مسخرون للمؤمنين. فحتى الأذى الذي ينال المؤمنين منهم، يكون سببا في التطهير من الذنوب، وسببا في الترقي إلى أعلى ذرى الإيمان، وفي النهاية سببا في الفوز عند الله!... ط. مواصلة جيش المسلمين إلى أحد: [وبعد هذا التمرد والانسحاب قام النبي صلى الله عليه وسلم ببقية الجيش (وهم سبعمائة مقاتل) ليواصل سيره نحو العدو؛ وكان معسكر المشركين يحول بينه وبين أحد في مناطق كثيرة، فقال: «مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ بِنَا عَلَى الْقَوْمِ مِنْ كَثَبٍ؟»[12]؛ أي من قريب؛ من طريق لا يمر بنا عليهم. فقال أبو خَيثَمةَ: أنا يا رسول الله! ثم اختار طريقاً قصيراً إلى أُحد، يمر بحَرَّةِ بني حارثة وبمزارعهم، تاركاً جيش المشركين إلى الغرب. ومر الجيش في هذا الطريق بحائط مِرْبَع بن قَيظِي (وكان منافقاً ضرير البصر)، فلما أحس بالجيش، قام يحثو التراب في وجوه المسلمين، ويقول: لا أحل لك أن تدخل حائطي إن كنت رسول الله. فابتدره القوم ليقتلوه، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تَقْتُلُوهُ، فَهَذَا الأَعْمَى أَعْمَى الْقَلْبِ، أَعْمَى الْبَصَرِ!»[13]. ونفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى نزل الشعب من جبل أحد في عدوة الوادي، فعسكر بجيشه مستقبلاً المدينة، وجاعلا ظهره إلى هضاب جبل أحد، وعلى هذا صار جيش العدو فاصلاً بين المسلمين وبين المدينة.][14]. إنّ وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمربع بن قيظي، بعمى القلب وعمى البصر جميعا، هو من تعليم الصحابة تمييز المنافقين. وذلك لأن المنافق مهما بالغ في كتمان حاله، فإنه يظهر أعمى القلب، لا يفقه في طريق الله شيئا. والدليل على نفاق الرجل، هو إرادة منعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من المرور في بستانه، مع ذكره لرسالته عليه السلام. ولو لم يكن أعمى القلب، لعلم أن الرسول في زمانه، له الحكم في الأشياء بسلطة الخلافة عن الله. وهل لعبد أن يعترض على حكم الله؟!... أما قرنه صلى الله عليه وآله وسلم، بين عمى القلب وعمى البصر في الرجل، فليبيّن عليه السلام أن فقدان البصر لا ينقص من العبد شيئا، إن كان بصير القلب؛ بخلاف ما إن كان المرء بصير العين أعمى القلب. وهذا المعنى، هو ما يُشير إليه قول الله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]. ومن كان ذا بصيرة، فإنه سيعرف عُمي البصائر بسهولة؛ وبالتالي فلا يتمكن منافق من استغفاله... ي. خطة الدفاع: [وهناك عبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشه، وهيأهم صفوفاً للقتال، فاختار منهم فصيلة من الرماة الماهرين، قوامها خمسون مقاتلاً، وأعطى قيادتها لعبد الله بن جبير بن النعمان الأنصاري الأوسي البدري، وأمرهم بالتمركز على جبل يقع على الضفة الشمالية من وادي قناة (عرف فيما بعد بجبل الرماة) جنوب شرق معسكر المسلمين، على بعد حوالي مائة وخمسين متراً من مقر الجيش الإسلامي. والغرض من ذلك هو ما أبداه رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلماته التي ألقاها إلى هؤلاء الرماة، فقد قال لقائدهم: «انْضَحِ الْخَيْلَ عَنَّا بِالنَّبْلِ! لا يَأْتُونَا مِنْ خَلْفِنَا! إِنْ كَانَتْ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا، فَاثْبُتْ مَكَانَكَ! لا نُؤْتَيَنَّ مِنْ قِبَلِكَ!»[15] وقال للرماة: «احْمُوا ظُهُورَنَا! فَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نُقْتَلُ، فَلَا تَنْصُرُونَا؛ وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا قَدْ غَنِمْنَا فَلَا تَشْرَكُونَا!»[16]؛ وفي رواية البخاري (عن البراء بن عازب) أنه قال: «إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ، فَلَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا، حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ! وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا الْقَوْمَ، وَأَوْطَأْنَاهُمْ، فَلَا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ!». بتعيين هذه الفصيلة في الجبل مع هذه الأوامر العسكرية الشديدة، سد رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلمة الوحيدة التي كان يمكن لفرسان المشركين أن يتسللوا من ورائها إلى صفوف المسلمين، ويقوموا بحركات الالتفاف وعملية التطويق. أما بقية الجيش فجعل على الميمنة المنذر بن عمرو، وجعل على الميسرة الزبير بن العوام، يسانده المقداد بن الأسود، وكان إلى الزبير مهمة الصمود في وجه فرسان خالد بن الوليد، وجعل في مقدمة الصفوف نخبة ممتازة من شجعان المسلمين ورجالاتهم المشهورين بالنجدة والبسالة، والذين يوزنون بالآلاف. ولقد كانت خطة حكيمة ودقيقة جداً، تتجلى فيها [ربانية] قيادة النبي صلى الله عليه وسلم العسكرية، وأنه لا يمكن لأي قائد مهما تقدمت كفاءته أن يضع خطة أدق وأحكم من هذا: فقد احتل أفضل موضع من ميدان المعركة، مع أنه نزل فيه بعد العدو، فإنه حمى ظهره ويمينه بارتفاعات الجبل، وحمى ميسرته وظهره -حين يحتدم القتال- بسد الثلمة الوحيدة التي كانت توجد في جانب الجيش الإسلامي، واختار لمعسكره موضعاً مرتفعاً يحتمي به -إذا نزلت الهزيمة بالمسلمين- ولا يلتجئ إلى الفرار، حتى يتعرض للوقوع في قبضة الأعداء المطاردين وأسْرهم، ويلحق مع ذلك خسائر فادحة بأعدائه إن أرادوا احتلال معسكره وتقدموا إليه. وألجأ أعداءه إلى قبول موضع منخفض يصعب عليهم جداً أن يحصلوا على شيء من فوائد الفتح إن كانت الغلبة لهم، ويصعب عليهم الإفلات من المسلمين المطاردين إن كانت الغلبة للمسلمين، كما أنه عوّض -عليه السلام- النقص العددي في رجاله، باختيار نخبة ممتازة من أصحابه الشجعان البارزين. وهكذا تمت تعبئة الجيش النبوي صباح يوم السبت السابع من شهر شوال سنة 3هـ.][17]. لا شك أن خطة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كانت محكمة غاية الإحكام؛ ولكنها في الوقت ذاته تتوقف على الإتقان في التنفيذ. وهو ما سيُبتلى فيه المسلمون، كما سيأتي؛ حتى لكأن هذه الخطة ما كانت إلا امتحانا عاما، سيتلقى فيه المسلمون درسا قاسيا، يتعلمون منه مدى أهمية الالتزام بالتوجيهات النبوية حرفيا. وهو ما سيكونون محتاجين إليه في كل ما سيأتي من الحروب؛ سواء في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو بعد وفاته. وهذا علم جليل، لا يناله أهله إلا عن ذوق وتربية ربانية في تزكية نبوية. ك. تعبئة الجيش النبوي: [ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم الناس عن الأخذ في القتال حتى يأمرهم؛ وظاهر (جمع) بين درعين؛ وحرض أصحابه على القتال؛ وحضهم على المصابرة والجلاد عند اللقاء؛ وأخذ ينفث روح الحماسة والبسالة في أصحابه حتى جرد سيفاً باتراً ونادى أصحابه: «مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ؟»[18]، فقام إليه رجال ليأخذوه، منهم: علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وعمر بن الخطاب؛ حتى قام إليه أبو دُجَانة سِمَاك بن خَرَشَة، فقال: أَنَا آخُذُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِحَقِّهِ، فَمَا حَقَّهُ؟ قال: «أَنْ لا تَقْتُلَ بِهِ مُسْلِمًا، وَلا تَفِرَّ بِهِ عَنْ كَافِرٍ!»[19]. قال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله! فأعطاه إياه. وكان أبو دجانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، وكانت له عصابة حمراء إذا اعتصب بها علم الناس أنه سيقاتل حتى الموت. فلما أخذ السيف عصب رأسه بتلك العصابة، وجعل يتبختر بين الصفين؛ وحينئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهَا لَمِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللَّهُ إِلا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ!»[20].][21]. نستخلص من هذا المقطع ما يلي: - أن العمل لا يكون معتبرا عند الله، إلا عن إذن رباني (نبوي أو وراثي). وهذه المسألة في الفقه صارت مجهولة، فعاد الناس يعتبرون صور الأعمال وأسبابها؛ فاشتركوا مع الكافرين في أصول العمل، وهو ما جلب على المسلمين الهزائم المتلاحقة!... - أن القتال المشروع، بعد الإذن فيه، هو ما وافق الشرط الذي أعلن عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصحابة: وهو أن لا يُقاتل مسلم مسلما، وأن لا يفر مسلم من عدو كافر. والتوجيه الذي خوطب به أبو دجانة رضي الله عنه، كان عاما لجميع الصحابة من غير شك!... - أن الاختيال بين صفوف الجنود، على غرار ما تفعله الجيوش الحديثة من طريقة في المشي التي صارت سمة تُعرف بها الجيوش وتُماز، هي في الأصل هيئة المتكبّرين. والله سبحانه لا يقبل من عباده أن يتكبروا في الأرض؛ ولكنه سبحانه يُحب هذه الهيئة المخصوصة في هذا الموطن؛ لأن التكبر على الأعداء، هو من صميم العبودية لله!... وهذا يجعل المؤمنين، ينظرون في ظروف الأعمال وأحوالها، فإن العلم يتعلق بها كلها. والشريعة، هي ما كان حكما موافقا لحكم الله ورسوله، مراعيا لكل ما ذكرنا. وهذا باب واسع من العلم، يمكن للعلماء أن يُعيدوا فيه ترتيب الأحكام بحسب المواطن. وما أنفعه من علم، لو أنه يجد من يُخرجه بتفاصيله إلى الناس!... ل. تعبئة جيش المشركين: [أما المشركون فعبأوا جيشهم حسب نظام الصفوف، فكانت القيادة العامة إلى أبي سفيان صخر بن حرب الذي تمركز في قلب الجيش، وجعلوا على الميمنة خالد بن الوليد -وكان إذ ذاك مشركاً- وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، وعلى المشاة صفوان ابن أمية، وعلى رماة النبل عبد الله بن أبي ربيعة. يظهر من ترتيب جيش المشركين أن من تبقّى من صناديد قريش بعد بدر، ما زالوا على ما كانوا عليه من الضلال والعداء للحق. وهم في هذه المرة مصرون على أن ينتقموا لقتلاهم، وأن يمسحوا العار الذي لحقهم عن وجوههم. والخلاصة هي أن حزب الشيطان الذي تدبره أسماء الجلال، يبدو في هذه المرة أشد تيقظا، وأحرص على الفوز مما سبق!... م. مناورات سياسية من قِبل قريش: [وقبيل نشوب المعركة حاولت قريش إيقاع الفُرقة والنزاع داخل صفوف المسلمين؛ فقد أرسل أبو سفيان إلى الأنصار يقول لهم: خلوا بيننا وبين ابن عمنا فننصرف عنكم، فلا حاجة لنا إلى قتالكم. ولكن أين هذه المحاولة أمام الإيمان الذي لا تقوم له الجبال، فقد رد عليه الأنصار رداً عنيفاً، وأسمعوه ما يكره!... واقتربت ساعة الصفر، وتدانت الفئتان، فقامت قريش بمحاولة أخرى لنفس الغرض، فقد خرج إلى الأنصار عميل خائن يسمى أبا عامر الفاسق (واسمه عبد عمرو ابن صَيفِي، وكان يسمي الراهب، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق) وكان رأس الأوس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام شَرِق به، وجاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة، فخرج من المدينة وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحضهم على قتاله، ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه، ومالوا معه، فكان أول من خرج إلى المسلمين في الأحابيش وعُبْدَان أهل مكة، فنادى قومه وتعرف عليهم، وقال: يا معشر الأوس، أنا أبو عامر! فقالوا: لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق! فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر! ولما بدأ القتال، قاتلهم قتالاً شديداً، وراضخهم بالحجارة. لقد كان على رأس جيش قريش أبو سفيان، وهو داهية معلوم الدهاء؛ فلا شك في أن يستعمل بعض دهائه فيما يروم نيله من المسلمين؛ على عادة السياسيّين الذين يبغون النيل من جيش العدو، قبل بدء القتال. ولكن لحمة الإيمان، لم تدع لفعله حظا من أجل بلوغ غايته؛ بل إن هذه الأفعال، قد تعود إذا لم تصادف آذانا صاغية -وهي الحال هنا- عملا استفزازيا، يُلهب حماس المقصودين به؛ وهذا من مكر الله بالعدو من حيث لا يشعرون. يقول الله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]؛ ولقد سبق لنا أن ذكرنا بخصوص مكر الله، بأنه قد يظهر من الأعداء أنفسهم، ليتسببوا في هلاك أنفسهم بأيديهم وأفواههم، من دون أن يخطر لهم أن الله يُحاربهم من بواطنهم!... لا يشكّنّ أحد، في أن جيش المشركين إذا واجه جيش المؤمنين -وإن كان أكثر عددا منه وعدة- يقاسي رعبا لا يعلمه إلا الله، ثم من أذاقه الله إياه!... لا لأن أسباب الفوز تتخلف عنهم، بل لأن جيوش الملائكة تقذف في قلوبهم الرعب، فلا يستطيعون منه فكاكا. وكل صرخات جنود الأعداء، وعبارات التثبيت التي تصدر عنهم، أو التنادي بأمجاد الآباء والقبائل، لا تكون إلا طلاء ظاهريا على قلوب ترتعد خوفا من لقاء الموت المحقق. وهذا ما سيظهر لنا خلال هذه المعركة المباركة، وخلال كل المعارك المقبلة، كما سنرى... (يُتبع...) [1] . الرحيق المختوم. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.