اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2020/08/25 الحوار الغائب (ج3) -2- الباب الأول : رسول الله قبل البعثة تبشير الأنبياء السابقين بمحمد لا شك أن القارئ يذكر "الكلمة" التي كانت في البدء، ويذكر "اللوغوس" الذي هو أول مخلوق لله، والذي كنا نسميه الحقيقة المحمدية؛ ولعله كان يعلم مدلول الكلمة واللوغوس، ويخفى عنه مدلول الحقيقة المحمدية، بسبب عدم دخولها في اللاهوت اليهودي أو المسيحي. وقد يرى أننا كنا نقحمها إقحاما، لغرض في نفسنا، كما هو شأن أهل الأهواء في كتاباتهم. والحقيقة هي أنه ينبغي علينا هنا، التفصيل قليلا، فيما اختلف فيه النصارى على الخصوص، طيلة قرون. ولنعد إلى الأقانيم المسيحية، لنتناولها كما هي عندنا. 1. الآب: الآب في الحقيقة، هي مرتبة الحق لنفسه، لا لغيره. وهي مرتبة الأحدية، التي لا ذكر فيها للخلق؛ وبالتالي فلا ذكر لما يتعلق بهم من أسماء إلهية. وهذا هو السبب الذي جعلنا فيما قبل نقول: إن مرتبة الألوهية، لم تتعين بالاسم الله، الجامع لجميع الأسماء المدبرة للخلق وشؤونهم، إلا من الحقيقة المحمدية، التي هي عينها حضرة الواحدية[1]. وحضرة الأحدية -بحسب ما ذكرنا- لا يكون عنها شيء، كما لم تكن هي عن شيء؛ لذلك، فلا تصح نسبة الخلق إلى الحق منها. وهي التي قال الله عنها في صورة الإخلاص: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3]، ليقطع عنها النسَب من الجهتيْن. وهذا يجعل "الكلمة"، لا تُنسب بالبنوة إلى الحق، كما اعتقد النصارى. وكيف تُنسب إلى الحق بالبنوة، وهي من جهة الباطن "الله" المستوي على عرش الألوهية؟!... ونعني من هذا أن أولئك الذين جعلوا الكلمة هي الله، ونسبوها بالبنوة إلى الآب، قد خلطوا كثيرا، وتداخلت عليهم المعاني؛ لأن الله بمعنى المرتبة هو صفة لله بمعنى الذات؛ ليس غير. وأما بنوة المسيح (الجسد)، فلا تصح من جهة الجسد إلا لآدم، الأب الطبيعي الأول. أما من جهة المعنى، فتصح للحقيقة المحمدية التي بشر عيسى بظهور صاحبها بعده، كما قال الله: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]؛ فـ "أحمد" هو اسم الحقيقة المحمدية عند النظر إليها من أسفل؛ ونعني من جهة الخلق المنبثقين عنها. وذلك لأن اسمها من جهة الحق الخالق لها، هو : "محمود". والجمع بين معنيَيْ الحمد في الحقيقة المحمدية، لا يكون إلا بالاسم "محمد". وأما الشخص المحمدي، فإنه سُمي محمدا، لمطابقته التامة لتلك الحقيقة العلوية؛ وليس هذا إلا له، صلى الله عليه وآله وسلم. 2. الكلمة (اللوغوس): لقد تنبه المسيحيون إلى أن الكلمة هي الله، رغم أنهم لم يُميّزوا بين وجهيها: الوجودي والعدمي. ونعني من هذا، أن الكلمة التي هي الله، ليست إلا تنزلا للحق من مرتبة الأحدية إلى مرتبة الواحدية فحسب. وفي المرتبتيْن معا، الحق هو الله، والله هو الحق؛ بالمعنى الذاتي، وبمعنى المرتبة (الألوهية). غير أن الذات في هذه المرتبة الثانية، اتخذت لنفسها صورة معنوية، سماها الله في القرآن "الإنسان". يقول الله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1]. والحين من الدهر الذي لم يكن الإنسان مذكورا فيه، هو حين الأحدية لا غيره. وهذه الصورة التي تصور بها الحق في مرتبة الواحدية عدمية، بما أن الحق في أصله غني عن الصورة، كما هو معلوم. وهي جامعة لكل حقائق الممكنات التي ستصدر عنها. وهذا لأن الحق من مرتبته، لا تصدر عنه المخلوقات؛ وإلا كانت لها نسبة إليه، هو سبحانه قد نفاها عند نفيه الولد. وهذا الإنسان، هو مسمى لفظ الإنسان عندنا، والذي ليس من المعاني الكلية التي يستخلصها العقلاء من أفراد الجنس. ثم بما أن الخلق ينبغي أن يكونوا عن شيء، يُنسبون إليه بالبنوة حقيقة، من أحد وجهيه، أو من وجهه الإمكاني الجامع، فإن الله جعل الذات في مرتبة الواحدية "ذات الصدور"؛ فقال سبحانه في عدة مواضع من القرآن، بهذا اللفظ أو بقريب منه: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 119]. فذات الصدور هي الحقيقة المحمدية، التي عنها صدرت كل المخلوقات، والتي منها على الخصوص عيسى. وهذا هو المعنى الذي ذكرناه عن عيسى في كلامه عن الآب الذي في السماوات؛ لأنه عليه السلام كان يتكلم عن هذه المرتبة الجامعة بين الألوهية من جهة والمألوهية من جهة أخرى. وهذا عينه معنى الممكن الأول أو العقل الأول أو القلم الأعلى أو "الله ورسوله"، أو غير ذلك من التسميات التي تنطبق عليه لاعتبار ما. وأما وجه تسمية هذه الحقيقة بالمحمدية، فلأنها لتوسُّطها بين الحق والخلق، حمدها الحق من جهة علوه، وحمدتها المخلوقات من جهة سفلها. وهذا المعنى هو الذي كان يتكلم عنه بعض اللاهوتيين في عيسى، عندما وصفوه بأنه وجه الحق إلى الخلق، ووجه الخلق والنائب عنهم لدى الحق. وهو معنى صحيح، لكنه ليس لعيسى بالأصالة؛ وإنما هو لمحمد. وعيسى عليه السلام، يعلم هذا، ويُقر بالإمامة لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم فيه عليه. ولقد جمعني صلى الله عليه وآله وسلم في مشهد مع عيسى فضلا منه، وكنا متقابليْن كتقابل الشخص وصورته في المرآة، غير أننا كنا شخصيْن؛ وكان هو صلى الله عليه وآله وسلم كالراعي لنا والمشرف علينا، والمبارك لاجتماعنا. وبما أن عيسى عليه السلام هو ختم الولاية العامة، التي تشمل كل الأولياء من زمن آدم إلى زمن البعثة المحمدية، فإنه يُعلم من مرتبته هذه أن له مكانة خاصة من باطن محمد (الإنسان العلوي). وبما أن باطن محمد هناك هو الألوهية التي يكون ابتداؤها بالأحدية التي هي الألف من الاسم "الله" ويكون انتهاؤها إلى هاء الهوية من الاسم أيضا، لتصح الأولية والآخرية للحق مطلقا؛ فإن عيسى عندما بُعث، ظهرت عليه الألوهية ظهورا خاصا، أثّر في أوليته الطبيعية بنفي الأب الطبيعي؛ وأثر في آخريته (في النصف الأول من حياته الدنيا) باستعصائه على الصلب والموت، الذي لم يُدرك المسيحيون حقيقته، وضلوا به عن المسيح كما هو في نفسه، وكما هو من محمد صلى الله عليه وآله وسلم. ولا بد لنا من أن نجيب عن سؤال قد يخطر للقارئ، وهو: لماذا كانت الألوهية في عيسى أظهر منها في محمد؟... ألا يجعل هذا الاعتبار عيسى أكمل من محمد، فينهدّ به كل ما نؤسس له؟... فنجيب: ا. نحن لا نخاف من الأسئلة، خصوصا إن كان السؤال وجيها مثل هذا. ب. نحن لا يضيرنا أن نشهد بالسبق لعيسى أو لغيره، إن علمنا ذلك وتحققناه؛ لأن مرادنا الحق لا غيره؛ وسبيلنا الإنصاف لا غيره. ج. أما جوابنا عن السؤال، فهو: نعم، إن عيسى قد ظهرت فيه الألوهية بأكثر مما ظهرت في محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ لكن هذا لا ينبغي أن يُنسينا أن الألوهية في أصلها الأول لمحمد من جهة حقيقته، هذا من جهة؛ ومن جهة ثانية، إن الظهور بالألوهية بدرجة تدل عليها مباشرة وبقوة تزيد عن الاعتدال، هو نقص لا كمال؛ لأن الموطن الدنيوي، ليس محلا للظهور بها. وعندما ننسب عيسى هنا إلى النقص، فبالنظر إلى الكمال المحمدي وحده؛ لا بالنظر إلى من دونه من الأنبياء في المرتبة، ناهيك عن الأولياء بجميع طبقاتهم؛ مع استثناء الشيخ الأكبر من أمتنا، لاشتراكه مع عيسى في الختمية الولائية. ولن نستطرد في هذه المقارنة، لأنها تخرج بنا الآن عن الغرض؛ ولعلنا نعود إليها في موضع آخر من هذا الجزء من الكتاب. د. أما الكمال المحمدي الذي يتضاءل أمامه كل كمال، فهو الظهور بصفات الحق والخلق على تمام الاعتدال. وهذا لا يكون إلا له صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يُطيقه إلا هو. وهو المعنى الذي أشار إليه صلى الله عليه وآله وسلم، عند قوله: «شَيَّبَتْنِي هُودٌ، وَالْوَاقِعَةُ، وَالْمُرْسَلَاتُ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ!»[2]. ولم يقصد صلى الله عليه وآله وسلم من هود إلا قول الله تعالى له: {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى: 15]. والمعنى من جهة الباطن، هو أن يستقيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التجلي، بين الحق والخلق، وأن لا يميل باتباع أهواء الأسماء الداعية له بالظهور بأحكامها من مرتبة الألوهية، في الدنيا وقبل الآخرة؛ وأن يعدل بين تجليات الدنيا والآخرة، فيخص كلاًّ منهما بما يناسبها؛ وذلك لأنه عبد في ظهوره بالخلافة الإلهية العظمى، ومحاسب على عدله فيها، كما هي المظاهر محاسبة، من المراتب التي دونه. وفي النهاية فإن مرجع الأعلى والأدنى إلى الله في جمعيته، ومن هذا الوجه كل العبيد سواسية. ه. ولقد ظهر الاعتدال المحمدي في الورثة المحمديين، من أصحاب الخلافة خاصة. ومن نظر إلى نموذج واحد منهم، والذي هو أبو بكر عليه السلام، فإنه سيعلم الاعتدال الذي كان عليه، بالمقارنة إلى الأولياء العيسويين من أمتنا، والذين يظهر باطنهم على ظاهرهم، فيختل ميزانهم، كالحلاج رضي الله عنه. وأما الخلفاء (الأغواث) المخفيون في الأزمنة غير أزمنة الاثني عشر الظاهرين، فلا كلام عنهم، لأنهم لا يطلع على حقيقة حالهم أحد من الخلق، وإن أخبروه بمرتبتهم. 3. الروح القدس: والروح القدس في أصله هو الروح المحمدي، من جهة نسبته الظاهرة؛ وهو روح الله من جهة النسبة الباطنة. ولما كانت حقيقة عيسى من باطن محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لذلك كان روح الله؛ وأما نسبة الظاهر، فعنها تكون جميع الأرواح المخلوقة، والتي تكون كالأشعة بالنظر إلى الروح المحمدي، الذي هو شمسها. ومن هذا الوجه، كانت كل المخلوقات العلوية والسفلية، تحيا بحياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، التي هي حياة الله ذاتها في نسبتيْن، لا في مظهريْن هنا. ولقد ذكرنا في موضع آخر إما من هذا الكتاب، أو من غيره، أن الروح القدس سمي كذلك، لتنزهه عن المخلوقية؛ بخلاف الأرواح التي تكون مظاهر له، والتي هي مخلوقة. ومن أعلى مظاهر الأرواح المخلوقة الروح العيسوي من جهة نسبته الظاهرة، والملائكة الرؤساء الذين من ضمنهم جبريل الذي سماه الله روحا. ومن علم التراتب الروحي المذكور هنا، فإنه سيعلم من أين كان يأتي جبريل عليه السلام بالوحي، وإلى أين كان ينزل به. ومن علم هذا، سيعلم أيضا معنى نزول القرآن، الذي يذكره الله في مواضع عدة، منها قوله تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الإسراء: 105]. وإن خلق عيسى من جهة أبيه عن الروح، يؤكد أن أباه هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، من جهة الروح، لا من جهة الشخص؛ لأنه لو كان ابنا للشخص، لورث عنه صفاته، زيادة على صفات أمه. بينما هو لم يرث من صفات البشرية -عليه السلام- إلا صفات أمه وهي امرأة. وقد قال الله على لسان أمها، عنها -عليها السلام- عند ولادتها: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36]. وهذا الميراث الأنثوي لعيسى، هو ما جعله يظهر بصفات الإناث في كثير من معاملاته. لكن الميراث الروحاني له -عليه السلام- قد حل محل الميراث الذكوري، لو أن أباه كان آدميا؛ ولهذا أيضا تبعاته، التي جعلت من عيسى روحا متجسدا؛ له قوة الإحياء للأجسام. وهو قد أحيا في صباه الطيور التي كان يصنعها من الطين، وينفخ فيها من روحه؛ كما أحيا الأموات المعروفين من سيرته عليه السلام. وبناء على ما ذكرنا، فإن ضلال النصارى كان بسبب ميل عيسى إلى جهة الحقيقة، والظهور بها في الدنيا، بسبب غلبة روحانيته. وهو يُشبه من هذا الوجه، ظهور سليمان بالمـُلك الذي لا ينبغي لأحد من بعده. غير أن الملك في حقيقته شطر الخلافة، التي هي في حقيقتها الألوهية ذاتها. وعلى خلاف هذا كله، فإن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، كان من اعتداله ولادته ولادة معتادة في عمومها، وكان موته موتا معتادا أيضا. وهذا يؤكد أن ما بين الولادة والموت، كان على الاعتدال أيضا؛ فلم يظهر صلى الله عليه وآله وسلم بما يُجاوز الاعتدال فيما يتعلق بالألوهية؛ وإلا كانت أمته عبدته من دون الله، بأكثر مما عبدت النصارى المسيح. كما لم يظهر عليه الصلاة والسلام بالمـُلك، وفضّل أن يظهر بصورة العبد؛ وهو أكمل في المعارف والحقائق. ومن الحادثة التالية، سنعلم حقيقة ما ذكرنا: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جَلَسَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا مَلَكٌ يَنْزِلُ. فَقَالَ جِبْرِيلُ: إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا نَزَلَ مُنْذُ يَوْمِ خُلِقَ قَبْلَ السَّاعَةِ. فَلَمَّا نَزَلَ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ؛ قَالَ: أَفَمَلِكًا نَبِيًّا يَجْعَلُكَ، أَوْ عَبْدًا رَسُولًا؟ قَالَ جِبْرِيلُ: تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ! قَالَ: «بَلْ عَبْدًا رَسُولًا!»"[3]. وإشارة جبريل الأمين عليه السلام، بــأن الملك النازل، لم ينزل إلى الأرض منذ خُلق، دليل على أن لله معاملة خاصة لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، لم يشاركه فيها أحد من الأنبياء السابقين. ثم لا ينبغي أن ننسى هنا أن المقصود من لفظ "أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ"، ليس سوى حقيقته العليا (ربه). ولهذا السبب كانت من شخصه الشريف هذه المطابقة التامة للحقيقة: فهو من جهة باطنه الله (الوجود الحق)، ومن جهة ظاهره العبد (الصورة العدمية الجامعة). ولهذا، فما ظهر بحقيقة الإمكان على تمام الاعتدال، وعلى السعة اللازمة له، غير محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا هو ما جعل حضرته (الحضرة المحمدية) أوسع من حضرة الله، كما أخبر أحد الصوفية. ولم يكن القائل يقصد إلا أن الإمكان في حقيقته، أوسع من الوجود؛ وذلك لأن هذه السعة الإمكانية تأتي من لا تناهي الاحتمالات الناتجة عن قبول العدم الثبوتي (أصل الإمكان) لكل صورة، بحسب المشيئة. وأما الوجود من نفسه، فلا تكون عنه صورة كما أخبرنا آنفا. ومن هنا يُعلم شطر ما يتعلّق بأصل الكثرة، وما يتعلّق بالأحدية، التي عند اتحادها بالواحدية تستدعي التوحيد ولا بد. وهذا من غريب العلم، الذي لا يطلع الله عليه إلا أفرادا من عباده. ولقد عنينا بكلامنا السابق، أن الوجودات التي تظهر بها الممكنات، ويمتاز بها بعضها عن بعض، هي وجود غير متعدد؛ هو معنى توحيد المظاهر الذي دللنا عليه. ونعني من هذا، أن تعدد المظاهر الوجودية، لا يعني تعدد الوجود في نفسه، قياسا على تعدد الممكنات من جهة إمكانها؛ لأن المتعدد في الممكنات، هو صورها العدمية لا وجودها. وهذه المسألة، إن لم يتفطن إليها الناظر في المعارف، فإنه قد يزل، أو قد تدخل عليه الحيرة التي تكون عن الجهل. ولولا ضيق الكتاب، لتطرقنا إلى معارف إلهية من هذا الوجه، تبهر الناظر وتخطف لبه؛ وتغرقه في بحر التوحيد دفعة واحدة، إن لم يكن قد خبر خوضه... ولما كان هذا الشخص المحمدي الشريف، على هذه المكانة الفريدة، كان لا بد أن يكون معلوما للأنبياء عليهم السلام، عند إنبائهم؛ لأنه ما ثم ما يُخبَر عنه إلا هو بجميع مراتبه. ومن هذا الوجه، عرف به آدم عليه السلام، فسأل الله به ليتوب عليه من المعصية الأصلية. وقد جاء في الحديث النبوي، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «لَمّا اقْتَرَفَ آدَمُ الْخَطِيئَةَ قَالَ: يَا رَبُّ أَسْأَلُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ إِلَّا غَفَرْتَ لِي فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: يَا آدَمُ كَيْفَ عَرَفْتَ مُحَمَّداً وَلَمْ أَخْلُقْهُ؟ قَالَ: يَا رَبُّ إِنَّكَ لَمَّا خَلَقْتَنِي، رَفَعْتُ رَأْسِي، فَرَأَيْتُ عَلَى قَوَائِمِ الْعَرْشِ مَكْتُوباً: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، فَعَلِمْتُ أَنَّكَ لَمْ تُضِفْ إِلَى اسْمِكَ، إِلَّا أَحَبَّ الْخَلْقِ إِلَيْكَ. فَقَالَ اللهُ تَعَالَى صَدَقْتَ يَا آدَمُ، إِنَّهُ لَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَيَّ؛ وَإِذْ سَأَلْتَنِي بِحَقِّهِ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ؛ وَلَوْلَا مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْتُكَ!»[4]. وأما الأنبياء على عمومهم، فقد أخبر الله عنهم في قوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ . فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 81، 82]. ومعنى {مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ}، أي معه أصل الذي معكم؛ حتى إن طابقتم بين النسختيْن، وجدتم ما معكم مطابقا لنسخته. وقد أخذ الله على النبيين إن هم عرفوا مرتبة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، إن هو أدرك زمانهم، أن يصيروا أتباعا له، ويتراجعوا له عن مرتبة الإمامة التي كانوا عليها في أقوامهم. وهذا تكليف مخصوص بالأنبياء، من لم يعمل به كان من الفاسقين. وكل هذا، إنما هو من توابع أحكام الدين الواحد، للنبي الواحد صلى الله عليه وآله وسلم؛ لذلك أتبع الله كلامه السابق بقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83]؛ أي (والخطاب للأنبياء) أفغير دين الله، الذي هو دين محمد تبغون؛ ولهذا الدين أسلم من في السماوات والأرض من المخلوقين طوعا وكرها (من جهة التكليف ومن جهة الذات)، من قبل أن تعلموا أنتم الدين التكليفي المتعلق بعبادة الطوع. ومن هذا العموم لمعنى الإسلام، يقول الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، من وجه كونه دين الكون كله علوه وسفله، ثم بعد ذلك من وجه كونه دين الأنبياء. ويكمل الله الآية بقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 19]؛ أي ما اختلف الذين أوتوا الكتاب، من جهة الإسلام الذاتي الذي يشتركون فيه مع جميع المخلوقين؛ ولكن اختلفوا، عندما نزل عليهم الدين التكليفي. والمقصود بالعلم هنا، علم الشرائع؛ والبغي هو مخالفة العصاة للطائعين في الحال، بعد ورود التكليف. وهذا، لأن معصية العصاة، تترتب عليها مشقة في حق المطيعين، بسبب اختلاف التوجه والقصد فيما بينهم وبين الكافرين. ونعني من هذا، أن المشقة التي يجدها المؤمنون بسبب الكافرين، هي من توابع أحكام التكليف؛ لذلك كان البغي على المؤمنين محسوبا على الكافرين، وإن لم يقع في الظاهر بينهم اقتتال. ولعل المعنى قد اتضح، فلنمر إلى غيره. وإذا كان الله قد أخذ الميثاق على الأنبياء أن يتبعوا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، إن هم أدركوه، فما الظن بأتباعهم!... ونحن هنا نجزم جزما لا خلل فيه، أن كل من أدرك زمن البعثة المحمدية من أهل الكتاب خصوصا (اليهود والنصارى)، ولم يؤمن به؛ فإن نسبته إلى نبيه التي كان ينتسب بها إليه كاذبة، ومقطوعة؛ وهو إن بقي على ذلك، يكون من أهل النار في الآخرة. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ سَمِعَ بِي مِنْ أُمَّتِي، أَوْ يَهُودِيٌّ، أَوْ نَصْرَانِيٌّ، فَلَمْ يُؤْمِنْ بِي، لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ.»[5]. ومن توابع أخذ الله الميثاق على الأنبياء بالتأخر عند مقدم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أن يبشروا به أقوامهم، احتياطا لمن بقي في الدنيا بعدهم، وأدرك زمن محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ استبراء لذمتهم بتمام التبليغ، وحتى لا يقول قائل من هؤلاء المتأخرين: ما أخبرنا نبينا شيئا عن محمد؛ ولو أخبرنا لعملنا بقوله!... كما يقول جل أهل الكتاب اليوم، افتراء على أنبيائهم. ولا يعلمون، أنهم بقولهم ذاك، إنما يُكذّبون أنبياءهم الذين يزعمون اتباعهم، ويتهمونهم بخيانة الأمانة وبعدم التبليغ؛ وحاشاهم!... واعتبارا لهؤلاء المنكرين، يشهد الله لأنبيائه في مثل هذه الأقوال: - يقول سبحانه عن إبراهيم: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة: 127، 128]. وهاتان الآيتان، تشهدان بأن إبراهيم وذريته من الأنبياء، كانوا مسلمين؛ ولا يقولن أحد، إن إبراهيم -أو أحدا من الأنبياء- لم يكن يعلم الإسلام باللفظ العربي، لأن المقصود المسمّى وإن اختلفت الألسن. ومسمى الإسلام ومعناه، هو الانقياد لأمر الله طوعا وكرها. والمعنى التكليفي، هو ما نقصده بالطوْع، كما قد أوضحنا. ويؤيد هذا الذي نقوله، دعاء يوسف الذي حكاه لنا القرآن في قوله تعالى: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101]. وهذا يعني أن يوسف يسأل التثبيت من الله على دينه الذي هو عنده الإسلام. وإن كان الإسلام دين يوسف، فهو حتما دين آبائه من قبله، الذين ورث عنهم الدين. ثم إن بلقيس (ملكة اليمن) عندما أسلمت على يد سليمان، حكى الله عنها أنها قالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44]. ومن أين لها أن تعلم الإسلام، لو لم يكن سليمان عليه؟!... ويتضح من كل كلامنا أن إبراهيم وذريته كانوا مسلمين، بشهادة الله، التي لا يتطرق إليها احتمال الشك. ثم إن إبراهيم دعا بدعوة قال فيها: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129]؛ وهذه الآية، هي التالية للآيتيْن اللتيْن أوردناهما من سورة البقرة آنفا. وليس لهذه الآية معنى إلا أن إبراهيم كان يعلم أنه سيكون من ذريته (من جهة إسماعيل عليه السلام)، ولد سيكون الجامع لما تفرق في غيره، والمزكي لغيره، غيبا وشهادة. وهذا يعني أنه النسخة المطابقة بذاته الشريفة للكتاب (الكلمة) مطابقة تامة؛ وهو المزكي لإبراهيم أبيه الترابي من مرتبة حقيقته، وقبل أن يولد في هذا العالم السفلي. وإبراهيم، كسائر الأنبياء عليهم السلام، كان له علم بالله، وبالتالي بالحقيقة المحمدية التي صدر عنها؛ وكان يعلم أنه لا بد لشخص من ذريته أن يكون محمدا بصفاته المعلومة لديه؛ فكان دعاؤه من باب نيل أجر الدعاء، لا من باب حدوث الإجابة خصيصا له؛ كما يكون ذلك في الدعاء بجميع الممكنات الجائزات، في المراتب الدنيا من الدعاء. ونعني من هذا، أن دعوة إبراهيم، تُشبه من جهتنا الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنها صلاةٌ حقيقةً، لكنها توجد من الجهة المقابلة لنا في الزمان؛ لذلك اختلف اللفظان واتحد المعنى (الدعاء)؛ وهذا يُظهر لنا مدى علم إبراهيم الخليل بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم. ومما قد يستشكل معناه على من لا علم له بما نقول؛ حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الذي ورد فيه عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أنَّهُ قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا عَنْ نَفْسِكَ؟ قَالَ: "نَعَمْ، أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ آخِرَ مَنْ بَشَّرَ بِي عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ.»[6]. فقد يُقال إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُقرّ أنه استجابة الله لدعوة إبراهيم، فكيف تقول أنت بأنه كان معلوما له عليه السلام؟... فنقول: لا تناقض بين المعنييْن، إن أدخلنا الزمان في الاعتبار؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يتكلم بعد انفراط زمن إبراهيم وسبق دعوته، في حين أن إبراهيم كان يدعو قبل خلق محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأزمنة؛ مع العلم أن محمدا بحقيقته كان مخلوقا لله ومعلوما لجميع الأنبياء عليهم السلام، ولا زمان. - ثم يقول الله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ . وَطُورِ سِينِينَ . وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ . لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 1 - 4]؛ ومن الواضح أن المـُقسم به المقصود من ذكر التين والزيتون، هو فلسطين مهبط الإنجيل على عيسى؛ وأن المقصود من طور سينين، هو مهبط التوراة على موسى؛ وأن المـُراد من البلد الأمين، مكة مهبط القرآن على محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وذكر هذه الأماكن المقدسة تباعا، ينبه إلى أن الرب الموحي بهذه الكتب واحد؛ وبالتالي فإن الترابط بين الكتب الثلاثة ثابت، لا غبار عليه. بل إن المراد من هذا الربط، هو الدلالة على محل الانتهاء، والذي هو محمد والقرآن المنزل عليه، صلى الله عليه وآله وسلم. وأما المـُقسم عليه، والذي هو خلق الإنسان في أحسن تقويم، في مرتبة الحقيقة المحمدية، فيدل على مطابقة صاحب القرآن للحقيقة الأولى من جهتيْن: ا. من جهة انتهاء الكتب المنزلة، إلى القرآن الكريم (الجامع)، المدلول عليه هنا بمكان ابتداء نزوله. وإلى هذا المعنى الإشارة بقول الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]؛ والهيمنة لا تكون إلا للجامع لها، الذي تكون هي أجزاء منه فحسب. ب. من جهة ملاصقة ذكر البلد الأمين مكة، لذكر الإنسان؛ فكأن المعنى هو أن ما أُنزل بمكة هو المطابق على التمام لمرتبة أحسن التقويم التي خلق الله الإنسان عليها. وفي هذا إشارة إلى فتح باب الترقي، إلى هذه المرتبة، من جهة التحقق؛ لا من جهة العلم المجرد وحده؛ والذي لم يبلغ المسيحيون إلا بعضه، مع ما لهم من مكانة عند الله. وأما بلوغ المسيحي الحقيقة المحمدية من جهة التحقق، فمحال؛ لأن هذه المرتبة لا تُنال إلا باتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم حصرا. ونعود لنؤكد مرة أخرى، أن كلام اللاهوتيين المسيحيين عن الكلمة ومرتبتها (ضمن الثالوث)، لم يكن إلا مجردا عن التحقق؛ وذلك هو سبب حيرتهم وكثرة اختلافهم. وأما المحمديون المتحققون، فإنهم لا يختلفون في علومهم، لكونهم يعلمونها بمحمد من محمد، صلى الله عليه وآله وسلم؛ لا من أنفسهم، كما هو حال المسيحيين. - ثم يقول الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157]. وهذا يعني أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، قد ورد ذكره نصا في التوراة وفي الإنجيل. ثم يذكر الله الصفات التي يعرفه بها أهل الكتاب من كتبهم، فيقول سبحانه: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]. وقد سبق لنا نحن في الجزء الأول من هذا الكتاب، أن ذكرنا ذلك بالنص من التوراة ومن الإنجيل، وسنعيد هنا ما أوردناه كما ورد، ومن دون تعليق؛ ومن أراد تتبع كلامنا، فليعد إليه في محله: ا. فمن التوراة: "أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَجْعَلُ كَلاَمِي فِي فَمِهِ، فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ. وَيَكُونُ أَنَّ الإِنْسَانَ الَّذِي لاَ يَسْمَعُ لِكَلاَمِي الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ بِاسْمِي أَنَا أُطَالِبُهُ."[7]. ب. وأما من الإنجيل: "لكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ الْحَقَّ: إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ، لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي، وَلكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ. وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ الْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرّ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ: أَمَّا عَلَى خَطِيَّةٍ فَلأَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِي. وَأَمَّا عَلَى بِرّ فَلأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى أَبِي وَلاَ تَرَوْنَنِي أَيْضًا. وَأَمَّا عَلَى دَيْنُونَةٍ فَلأَنَّ رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ قَدْ دِينَ. «إِنَّ لِي أُمُورًا كَثِيرَةً أَيْضًا لأَقُولَ لَكُمْ، وَلكِنْ لاَ تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا الآنَ. وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ الْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ، لأَنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ. ذَاكَ يُمَجِّدُنِي، لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ. كُلُّ مَا لِلآبِ هُوَ لِي. لِهذَا قُلْتُ إِنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ."[8]. ثم من الإنجيل أيضا: "أَمَّا يُوحَنَّا فَلَمَّا سَمِعَ فِي السِّجْنِ بِأَعْمَالِ الْمَسِيحِ، أَرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، وَقَالَ لَهُ: «أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟» فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمَا: «اذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعَانِ وَتَنْظُرَانِ: اَلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ، وَالْعُرْجُ يَمْشُونَ، وَالْبُرْصُ يُطَهَّرُونَ، وَالصُّمُّ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَالْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ. وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ»[9]. - ثم يقول الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]: ورغم أن الخطاب في هذه الآية كان للصحابة، ومن بعدهم للأمة المحمدية؛ إلا أن ذكر صفة ختم النبوة، هي عامة؛ تشمل جميع الزمان من بدايته، وإلى ما لا نهاية، على اعتبار أن الآخرة أبدية. ومعنى ختم النبوة، هو انتهاؤها إليه صلى الله عليه وآله وسلم، من كونه أصلها. ومعناه أيضا، أن محمدا له ذوق كل نبوة الأنبياء السابقين، كما ذاقوها هم في أنفسهم؛ ويزيد عليهم، بما حباه الله من معانيها المخصوصة به دونهم. ولا يعلم ما نقول هنا، إلا من له علم ذوقي، يقيس عليه؛ وإلا فإن الكلام سيبقى مجردا، لا يفيده معنى معتبرا. ومن علم نسبة الأنبياء إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه سيعلم أن دلالتهم عليه ذاتية؛ بحيث يكون مجرد ظهور النبي في قومه، محيلا عليه؛ ولكن هذه الدلالة لا يعلمها إلا من سبقت له معرفة مرتبة الحقيقة المحمدية. وهذا، مخصوص بالأنبياء أنفسهم، لا بغيرهم؛ كما سبقت الإشارة إليه. وهذه الدلالة، تُشبه دلالة الصور على النور الظاهرة به؛ أو تشبه دلالة المخلوقات على الحق، لكونها فرعا عنها. أما دلالة الأنبياء باللفظ، عليه، صلى الله عليه وآله وسلم، فهي داخلة ضمن تبليغهم لرسائلهم؛ وعودة بنبوتهم إلى أصلها، لأنهم يعلمون أنها تكون من دون أصلها مقطوعة. وهذا يعني، أنه لا يجوز البقاء مع النبيّ ذي النبوة النيابية إلا في زمنه المخصوص؛ وأما مطلقا، فلا يُجزئ ذلك؛ بل يصير ذلك قاطعا عن النبوة من أصلها. ولو تصورنا، أن الناس علموا نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، في زمن أنبيائهم، وآمنوا به من دون أن يتنكروا لنبي الزمان، لقطعنا بكونهم على الحق من دون تردد؛ ونعني بالحق هنا، الحق الذي هو أعلى مما أدركوه على كل حال. وأما اشتراطنا لنبوة صاحب الزمان، فلأنه مظهر محمدي تفصيلي فحسب؛ لا لأن الإيمان به في نفسه شرط. ونعني من هذا، أن الإيمان بالأنبياء في زمانهم، هو إيمان بوجه تفصيلي لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ والإيمان به هو، في زمانه، يكون إيمانا بالوجه الجامع الأصلي. فالأمر منه وإليه تفصيلا وإجمالا، كما يُشير إلى ذلك قول الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285]؛ وهذا يعني أن المؤمنين بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم، هم حتما مؤمنون بالملائكة كلهم، وبالكتب كلها، وبالرسل جميعا؛ ولو من دون تعيين. وهذا لا يصح إلا في حالة واحدة: وهي أن يكون جميع المذكورين عائدين في أصلهم إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، حقيقة وشريعة. ومن تأمل المنطق الناظم للعالم (الكون)، سيجده مبنيا على التوحيد. ونعني من هذا أن جميع الأجناس، ينبغي أن تنتهي إلى واحد. وهكذا، فإن النبوة والرسالة تنتهيان إلى واحد؛ هو النبي بالأصالة والرسول؛ وليس إلا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم. والمظاهر من حيث هي مظاهر، لا بد أن تنتهي إلى مظهر أول، هو الحقيقة المحمدية. وهذا المبدأ، كما يصدق في أعم العمومات، يصدق في التفاصيل. ولنأخذ مثلا واحدا على ما نقول، من جهة عموم جنس المـُلك؛ ولا نقصد إلا مُلك سليمان، الذي تنتهي إليه جميع مظاهر الملك؛ ويستوي في ذلك، ما كان قبله وما يأتي بعده. ويدل على هذا التفرد السليماني، قول الله تعالى على لسان سليمان: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ . فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ . وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ . وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ . هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 35 - 39]. فلهذا كنا نقول إن من لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، بعد بعثته، فإنه يكون مخالفا للحق؛ وإن توهم اتباعه لأحد الرسل السابقين. وذلك لكونه مَن تعود إليه المراتب والصفات كلها، عودا تلقائيا، متجاوزا لكل المراتب الوسطى البيْنيّة. فمن علم مرتبة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، التي دللنا عليها بإيجاز، فإنه سيعلم حتما وجه دلالة الأنبياء السابقين كلهم عليه. ومن علم دلالة الأنبياء هاته، فإنه لن يبقى بينه وبين الإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم حاجز؛ وسيجد نفسه -إن كان من الكتابيين في سابق عهده- مكملا لمساره الإيماني، لا منقطعا عنه. ولقد سمعت عن بعض القساوسة المسيحيين، بعد إسلامهم، يردون على من اتهمهم بتبديل دينهم بقولهم: الآن نحن مسيحيون أحقاء، لا قبل هذا!... ولينظر القارئ إلى مطابقة قول الله في كتابه، لما نطق به هؤلاء المسلمون من الكتابيين، إذ يقول سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ . وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ . أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 52 - 55]؛ ولنتناول هذه الآيات بقليل من التفصيل، استكناها لمعانيها: - يقول الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ}: أي إن الذين آتاهم الله الكتاب من قبل بعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كانوا مؤمنين به، من وراء إيمانهم بأنبيائهم عليهم السلام؛ لكن من دون علم من الأتباع، ما دامت مرتبتهم العلمية لا تعطيهم ذلك. أما الأنبياء، فقد كانوا مؤمنين به، لكونهم على علم بربهم، الذي ليس إلا الظاهر بصورته. - ثم يقول الله تعالى: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ}: وهذا يعني أن الأتباع من أهل الكتاب، المـُدركين للزمن التشريعي المحمدي، والذين هداهم الله إلى الحق فيه؛ يعلمون أنهم مواصلون للإسلام الذي كانوا عليه مع أنبيائهم نفسه؛ فلا تختلف عليهم إلا المرتبة منه، والتي صارت أعلى من سابقتها. وهذا، لأن الكتابيين بمجرد إسلامهم، يترقون إلى المرتبة الثانية من الدين في الغالب؛ فضلا من الله ونعمة. - ثم يقول الله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}: إن الله من اسمه الحكيم، لا يُعامل من أسلم من الكتابيين معاملة المسلمين بداءة؛ بل يعطيهم أجرا على اتباعهم رسولهم الأول، ويزيدهم أجرا مخصوصا، على اتباعهم الرسول الخاتم، صلى الله عليه وآله وسلم. وهم من النور الجديد الذي اكتسبوه مضافا إلى نورهم الأول، قد أصبحوا على علم خاص وعلى معاملة خاصة؛ هما ما مكّناهم من مواجهة السيئة من أقوامهم المنكرين عليهم ما يرونه تحوّلا منهم عن الدين الأصلي، بالحسنة؛ وهما ما جعلاهم ينفقون مما رزقهم الله من علم وأخلاق على المسيئين إليهم، بتعليمهم الحق المجهول لهم، وباحتمال أذاهم في سبيل الله. - ثم يقول سبحانه: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}: وما سماه الله لغوا هنا، هو الدعوة الكتابية السابقة في غير أوانها، وبعد تحريفها. والمعنى، هو أن المسلمين من الكتابيين، إذا سمعوا من يدعوهم إلى ما كانوا عليه سابقا، يُعرضون عنه بسبب جهله؛ ولا يُجادلونه، لأنهم يعلمون أنه محجوب عن الحق الذي منّ الله عليهم بظهوره لهم؛ وأقصى ما يقولون في باب الرد: هو تنبيه مخالفيهم إلى أن الله سيحاسب كلاًّ على عمله، بما يوافق الحق الذي أمر به سبحانه، والذي هو أعلم به، من كل عباده. وأما عبارة {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}، فهي تلخيص لكل معاملات هذا الصنف من المسلمين، والتي يحرصون منها على أن لا يؤذوا أحدا من مخالفيهم بلسانهم؛ ويجدون لهم عذرا بينهم وبين أنفسهم، هو جهلهم؛ وإن كان الشرع لا يعذر الجاهل بجهله، كما هو معلوم. [1] . الفرق بين الأحدية والواحدية، هو أن الأحدية لا تقبل التكثر، بينما الواحدية قوامها التكثر. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.