اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2021/02/18 الحوار الغائب (ج3) -19- المرحلة المدنية (5) (تابع...) ي. نشوب المعركة: [وكان أول وقود المعركة، الأسود بن عبد الأسد المخزومي -وكان رجلا شرسا سيئ الخلق- خرج قائلا: أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه! فلما خرج، خرج إليه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه؛ فلما التقيا ضربه حمزة فأطَنَّ قدمه بنصف ساقه، وهو دون الحوض؛ فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه، يريد أن تبر يمينه؛ ولكن حمزة ثنّى عليه بضربة أخرى، أتت عليه وهو داخل الحوض؛ وكان هذا أول قتل أشعل نار المعركة. فقد خرج بعده ثلاثة من خيرة فرسان قريش، كانوا من عائلة واحدة، وهم عتبة وأخوه شيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة؛ فلما انفصلوا من الصف طلبوا المبارزة، فخرج إليهم ثلاثة من شباب الأنصار عَوْف ومُعَوِّذ ابنا الحارث (وأمهما عفراء) وعبد الله بن رواحة، فقالوا: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار. قالوا: أكِفَّاء كرام، ما لنا بكم حاجة؛ وإنما نريد بني عمنا! ثم نادى مناديهم: يا محمد، أَخرِج إلينا أكفاءنا من قومنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قُمْ يَا عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَقُمْ يَا حَمْزَةُ، وَقُمْ يَا عَلِيُّ!»[1]. فلما قاموا ودنوا منهم، قالوا: من أنتم؟ فأخبروهم، فقالوا: أنتم أكفاء كرام، فبارز عبيدة -وكان أسن القوم- عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة، وبارز عليّ الوليد. فأما حمزة وعلي فلم يمهلا قرنيهما (القرْن: النظير) أن قتلاهما؛ وأما عبيدة فاختلف بينه وبين قرنه ضربتان، فأثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم كَرَّ عليّ وحمزة على عتبة فقتلاه، واحتملا عبيدة وقد قطعت رجله. فلم يزل ضَمِناً (صاحب عاهة) حتى مات بالصفراء، بعد أربعة أو خمسة أيام من وقعة بدر؛ حينما كان المسلمون في طريقهم إلى المدينة. وكان عليّ يقسم بالله أن هذه الآية نــزلت فيهم: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} الآية [الحج:19]][2]. وينبغي أن نلاحظ هنا، أن الجاهليّين كانوا على أعراف في السلم وفي الحرب، قائمة في معظمها على أخلاق النبل والكرامة؛ ومنها أنهم كانوا يُخاطبون الأعداء بألقاب الشرف، كما خاطب الوليد بن عتبة وابنا ربيعة شباب الأنصار بـ "أكفاء كرام!"، وكما خاطبوا بعد ذلك من خرج لهم من المهاجرين. وإن كان المشركون حريصين على الأخلاق في هذه المواطن، فالمؤمنون أحرص؛ لأنهم أمناء الله على الأخلاق بعده. وعلى كل حال، فهذه المسألة لها فروع في الفقه، تُطلب في مظانّها. وهذا يعني أن الدين لا ينفصل عن الأخلاق النبيلة، بل هو مرسخ لها ومؤكد. وعندما ينزل أهل الدين إلى معاملة العوام، وإلى مقابلة السيئة بمثلها، فذلك يعني أن الضعف قد لحق بالإيمان الجمعي. والمسلمون اليوم، لا يختلف كثير منهم عما يكون عليه قليلو المروءة، وإن ظن بعضهم أن إقامة صور بعض الشعائر قد يُغنيهم. والحقيقة هي أن العبادة ينبغي أن يظهر أثرها على المعاملات، وإلا فهي مدخولة. يقول الله في هذا المعنى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]؛ ومن لم تنهه صلاته عن السفاسف، فكأنه ما صلى. ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الأُمُورِ وَأَشْرَافَهَا، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا.»[3]. ك. الهجوم العام: [وكانت نهاية هذه المبارزة بداية سيئة بالنسبة للمشركين؛ إذ فقدوا ثلاثة من خيرة فرسانهم وقادتهم دفعة واحدة، فاستشاطوا غضبا، وكرّوا على المسلمين كرة رجل واحد. وأما المسلمون فبعد أن استنصروا ربهم واستغاثوه وأخلصوا له وتضرعوا إليه تلقوا هجمات المشركين المتتالية، وهم مرابطون في مواقعهم، واقفون موقف الدفاع، وقد ألحقوا بالمشركين خسائر فادحة، وهم يقولون: أحَد، أحَد!][4]. إن الغضب واعتبار كثرة العدد، قد يُخرجان الناس عما ينبغي أن يلتزموه من الحكمة؛ وهجوم قريش على المسلمين، كان من هذا التهور الذي سيودي بهم. وأما ترديد المسلمين لاسم الله "أحد"، فهو من الأمر النبوي، الذي سنعرف -فيما بعد- أنه كان يختار لكل معركة ذكرا خاصا يردده المسلمون. وهذا ينبغي أن يجعل علماء الدين -قبل غيرهم- يعرفون مكانة الذكر بالأسماء الإلهية، عند النوازل. لكن هذا الذكر ينبغي أن يكون عن أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو أمر أحد ورثته العالمين بالأسماء. والعلم بالأسماء، هو علم يؤتيه الله لخواص الخواص؛ بخلاف ما يظنه المشتغلون بالعلوم الدينية. والاسم "الأحد"، هو أعلى اسم في الدلالة على الذات، بعد اسم الضمير "هو". بل إن الأحد أخص من "هو"، لأنه لا يحتمل أن يتصل من الأسماء إلا بالاسم "الله"، دون سواه. وذكره هنا لا يعطي للمؤمنين خصوصية على الكافرين، بل يمحق النسبتيْن معا. لكنه في مقابل ذلك، يُعلي من شأن "الله"، فوق ما يدرك الفريقان؛ وبهذا يكون ذكر تنزيه. وهذا يوافق حال البداية لدى الصحابة على الخصوص، لأن التنزيه يسبق التشبيه في الترتيب السلوكي؛ ولهذا السبب نجد عامة المؤمنين على تنزيه لا على تشبيه. وأما من يُسبق التشبيه من العامة، فإنه يكون أبعد عن بلوغ الغاية، لأنه يعكس الأمر. والبقاء مع التنزيه وحده نقص، بعكس ما يظن المتكلمون. ولو أن الصحابة -وحاشاهم- بدأوا بالتشبيه، لما استطاعوا مفارقة ما كانوا عليه من شرك بالأصنام والأوثان مفارقة تامة؛ لأن التشبيه سيكون عندئذ معنى مشتركا يجمع بين الحق والباطل. فليُعتبر هذا!... ل. ضراعة النبي إلى ربه: أما النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد أخبرنا عنه عمر رضي الله عنه بقوله: "فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ!» فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: "يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ!" فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وَجَلَّ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9]."[5]. وأغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة واحدة، ثم رفع رأسه فقال: «أَبْشِرْ يَا أَبَا بَكْرٍ، هَذَا جِبْرِيلُ مُعْتَجِرًا بِعِمَامَةٍ صَفْرَاءَ، آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ! فَلَمَّا نَزَلَ إِلَى الأَرْضِ، تَغَيَّبَ عَنِّي سَاعَةً؛ ثُمَّ طَلَعَ عَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ، يَقُولُ: "أَتَاكَ نَصْرُ اللَّهِ إِذْ دَعَوْتَهُ."»[6]. [وأوحى الله إلى ملائكته: {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ} [الأنفال: 12]، وأوحى إلى رسوله: {أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]؛ أي إنهم ردف لكم، أو يردف بعضهم بعضا أرسالا، لا يأتون دفعة واحدة.][7] [ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب العريش وهو يثب في الدرع ويقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:45]، ثم أخذ حَفْنَةً من الحَصْبَاء، فاستقبل بها قريشا وقال: «شَاهَتِ الْوُجُوهُ!»[8] ورمى بها في وجوههم، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه من تلك القبضة، وفي ذلك أنزل الله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى} [الأنفال:17]][9]. ولنستخلص من هذه الوقائع ما يلي: - إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم -من جهة خلافته- له من العبودية أتمها؛ لذلك فهو أكثر الناس لجوءا إلى ربه ولياذا به. ومهما تصور الناس هذا من قياسهم على أنفسهم، فلن يُدركوا حقيقته لبعد غوره. وأما الورثة فلهم فُضلة منه صلى الله عليه وآله وسلم، بها يعلمون أنهم لن يتم لهم العلم، وإن علموا. - إن أبا بكر عليه السلام، اصطفاه الله ليكون ثاني اثنين في كل مواقف الضيق والرخاء؛ وهذه مرتبة ليست إلا له. فليعرف الناس له حقه، ليتمكنوا من إرضاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه. وقد أجرى الله على لسان أبي بكر هنا، ما يُطمئن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أتباعه؛ وقد صدّقه الوحي مباشرة بعد ذلك، بنزول الآية من سورة الأنفال. - إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما له مؤنس من عالم الإنس وهو أبو بكر عليه السلام؛ فله مؤنس من عالم الملائكة هو جبريل عليه السلام. وقد شاء الله أن يرى النبي -عليه السلام- صاحبه من الملائكة وهو يبشره بالنصر الذي سأل ربّه. وقد كان جبريل رئيسا للملائكة النازلة من السماوات، وأوحى الله -الذي هو باطن النبي صلى الله عليه وآله وسلم- إلى الملائكة في أنفسهم أني معكم، ليَثْبتوا؛ وأمَرَهم بتثبيت الذين آمنوا بإلقاء التثبيت في قلوبهم؛ كما أخبر سبحانه بأنه سيُلقي في قلوب الذين كفروا الرعب، الذي هو من إلقاء الملائكة أيضا؛ لأن الملائكة هم وُسطاء الأسماء. وهذه الأمداد الغيبيّة، هي السبب الغيبي في انتصار المنتصرين، وفي انهزام المنهزمين؛ في كل معركة من المعارك. وأما الإخبار بأن عدد الملائكة كان ألفا، فلأن الألف هو نهاية العدد؛ ونعني من هذا، أن كل عدد بعد الألف فهو تكرار له فحسب. والمعنى هو أنه لم يبق من جنود الغيب أحد إلا وهو يقاتل مع المؤمنين. وهذا يعني مرة أخرى، أن من كان الله معه، فإن السماوات والأرض وما بينهما -من حيث هي جنود- تكون معه. وفي المقابل، فإن من كان الله عليه، فإن كل جنود الله تكون عليه. - وأما رمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأعداء بالحصباء، فهو رمي الله، من مظهر الخلافة. وإن إخبار الله عن ذلك في قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، هو من باب الحقيقة، لا من باب المجاز، كما قد يفهم قوم؛ لأن جميع الأفعال هي لله قبل أن تثبت لها النسبة إلى العباد. يقول الله تعالى في هذا الحكم العام: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]. ولم يُثبت الله الرمي منه -مع ذلك- إلا من مظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وهذا لأن النبي له الفناء التام في ربه، وله التحقق التام به. أما الصحابة، فقد أخبر الله عنهم بقوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 17]؛ فنفى عنهم القتل -بعكس النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أثبت له الرمي بعد أن نفاه- لأنهم ما زالوا بأنفسهم. والنفوس مظنة الشرك عند أصحابها، والله لا يُحب الشريك في النسبة. يقول الله سبحانه في الحديث القدسي: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ! مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ.»[10]. مع أن هذا الشرك الذي نتكلم عنه هنا، هو من الشرك الأصغر لا الأكبر؛ فليُعتبر هذا!... م. هجوم المسلمين: [وحينئذ أصدر (النبي) إلى جيشه أوامره الأخيرة بالهجمة المضادة فقال: «شُدّوا!»، وحرضهم على القتال، قائلًا: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّد بِيَدِهِ، لا يُقَاتِلُهُمُ الْيَوْمَ رَجُل فَيُقْتَلَ صَابِرًا محتسبًا مقبلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ، إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَةَ!»[11]، وقال وهو يحضهم على القتال: «قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ!»[12]، [وحينئذ] قال عُمَيْر بن الحُمَام: "بَخٍ بَخٍ!". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا يَحْمِلُكَ مِنْ قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟» قال: "وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلا رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا."، قال: «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا!». فَاخْتَرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرْنِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَييتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ، إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ! قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ.([13]) وكذلك سأله عوف بن الحارث (ابن عفراء) فقال: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يُضْحِكُ الرَّبَّ مِنْ عَبْدِهِ؟ قَالَ: «غَمْسُهُ يَدَهُ فِي الْعَدُوِّ حَاسِرًا!» قَالَ: فَأَلْقَى دِرْعًا كَانَتْ عَلَيْهِ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ.([14]). وحين أصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر بالهجوم المضاد كانت حدة هجمات العدو قد ذهبت وفتر حماسه؛ فكان لهذه الخطة الحكيمة أثر كبير في تعزيز موقف المسلمين، فإنهم حينما تلقوا أمر الشد والهجوم -وقد كان نشاطهم الحربي على شبابه- قاموا بهجوم كاسح مرير، فجعلوا يقلبون الصفوف، ويقطعون الأعناق. وزادهم نشاطا وحدّة أن رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع، وقد تقدمهم. فلم يكن أحد أقرب إلى المشركين منه، وهو يقول في جزم وصراحة: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}. فقاتل المسلمون أشد القتال ونصرتهم الملائكة. ففي رواية ابن سعد عن عكرمة قال: "كَانَ يَوْمَئِذٍ يُنْدَرُ رَأْس الرَّجُلِ، لا يَدْرِي مَنْ ضَرَبَهُ، وَتُنْدَرُ يَدُ الرَّجُلِ، لا يَدْرِي مَنْ ضَرَبَها."[15]. وقال ابن عباس: "بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ، فَوْقَهُ وَصَوْتَ الْفَارِسِ، يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ! فَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ، فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا؛ فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ وَشُقَّ وَجْهُهُ كَضَرْبَةِ السَّوْطِ؛ فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ. فَجَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «صَدَقْتَ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ!»[16]. وقال أبو داود المازني: "إِنِّي لَأَتْبَعُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِأَضْرِبَهُ، إِذْ وَقَعَ رَأْسُهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ سَيْفِي، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ قَدْ قَتَلَهُ غَيْرِي!"[17]. وَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ قَصِيرٌ بِالْعَبَّاسِ (بن عبد المطلب) أَسِيرًا، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِنَّ هَذَا وَاللَّهِ مَا أَسَرَنِي! لَقَدْ أَسَرَنِي رَجُلٌ أَجْلَحُ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا، عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ؛ مَا أَرَاهُ فِي الْقَوْمِ. فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: أَنَا أَسَرْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ لَهُ: «اسْكُتْ، لَقَدْ أَيَّدَكَ اللَّهُ بِمَلَكٍ كَرِيمٍ»[18]. وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: "قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَلأَبِي بَكْرٍ: «مَعَ أَحَدِكُمَا جِبْرِيلُ، وَمَعَ الآخَرِ مِيكَائِيلُ؛ وَإِسْرَافِيلُ مَلَكٌ عَظِيمٌ يَشْهَدُ الْقِتَالَ، وَيَكُونُ فِي الصَّفِّ.»[19]][20]. ولنستخلص ما تيسر من أسرار هذا المقطع: - إن منطق الإيمان قد يُخالف المنطق العقلي المجرد، لأن العقل يدل على أسباب البقاء في الحياة الدنيا، بينما منطق الإيمان قد يدل على أقرب أسباب الموت. والمعيار هو مرضاة الله ورسوله، لا غير!... ولقد ظهر أن الصحابة كانوا قد تشرّبوا الإيمان قبل المجيء إلى المعركة، وعندما جاؤوا لم يكن ينقصهم إلا حض النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم؛ إلى الحد الذي لم يعد أحد منهم يسأل إلا عن أقرب طريق إلى الجنة!... رضي الله عنهم وأرضاهم وألحقنا بهم!... ولو رجعنا إلى منطق الإيمان، فإننا سنجده غائبا، عن جل من يزعمون مرتبة الإيمان لأنفسهم اليوم؛ في مخالفة صريحة، لما أسسه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ودل عليه. وقد يختلط ما يكون عليه بعض الحركيّين من إقدام، ومِن تحمُّل للسجن والقتل، فيظنّون ذلك من ثمار الإيمان التي نتكلم عنها. ونحن قد سبق لنا التفريق بين هذا الإقدام وأحوال الإيمان، في فصل غير هذا؛ ونكتفي هنا بالإشارة إلى ما دللنا عليه من إقدام غير المؤمنين، واحتمالهم لما يحتمله المؤمنون في الظاهر، إن كانوا على عقيدة أيديولوجية. - من دلائل صحة الإيمان، ترك الأسباب؛ وهو ما دل عليه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم بترك الدرع والدخول في العدو حاسرا. وقد يختلط هذا على كثير من الفقهاء، الذين يقولون بوجوب الأخذ بالأسباب؛ لأنهم يحكمون بما تعطي الشريعة من الوجه العام، ويجهلون حكم المقام. والمقام الذي يُعطي ترك الأسباب -ولو لفترة محدودة- هو مقام التوكل. وقولنا "ولو لفترة محدودة"، هو من أجل ثبوت صحة المقام، والذي لا يكون إلا بعد ترك الأسباب. فإن ثبت المقام لصاحبه، وعاد إلى الأسباب، فلا شيء عليه؛ لكن ادعاء المقام من دون برهان مِن تركها، قد يكون من الاغترار والدعوى الجوفاء. - الوقائع التي دلت على اشتراك الملائكة في القتال يوم بدر كثيرة، وذلك لأن هذه المعركة كانت الأولى للمسلمين، وكانوا يحتاجون فيها إلى أن يعلموا هذه الحقيقة مشاهدة؛ حتى إذا جاءت المعارك الأخرى، كانوا على يقين من ذلك، وإن لم يظهر منه في عالم الشهادة شيء. - تأييد الله لخواص الصحابة بخواص الملائكة، هو من المناسبة التي بينهم؛ كما أن تأييد عمومهم كان بعموم الملائكة المـُشار إلى بعضهم بأنهم أهل السماء الثالثة. والمعنى هو أن الاسم الله الذي هو الاسم الخاص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، تكون تحته جميع الأسماء، والملائكة هم مظاهر تلك الأسماء، على اختلاف مراتبها. فمن كان الخليفة في صفه، كانت كل ملائكة الصف معه!... ن. فرار إبليس وتحقق هزيمة الأعداء: [ولما رأى إبليس -وكان قد جاء في صورة سراقة بن مالك بن جُعْشُم المدلجي كما ذكرنا، ولم يكن فارقهم منذ ذلك الوقت- ما يفعل الملائكة بالمشركين، فر ونكص على عقبيه؛ وتشبث به الحارث بن هشام -وهو يظنه سراقة- فوكز في صدر الحارث فألقاه، ثم خرج هاربا، وقال له المشركون: إلى أين يا سراقة؟ ألم تكن قلت: إنك جار لنا، لا تفارقنا؟ فقال: {إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:48]؛ ثم فر حتى ألقى نفسه في البحر. وبدأت أمارات الفشل والاضطراب في صفوف المشركين، وجعلت تتهدم أمام حملات المسلمين العنيفة، واقتربت المعركة من نهايتها، وأخذت جموع المشركين في الفرار والانسحاب المبدد، وركب المسلمون ظهورهم يأسرون ويقتلون، حتى تمت عليهم الهزيمة.][21]. أما إبليس فإنه المقابل للملائكة، لذلك يكون في صف الكفار والمشركين. وهو يُشاهد الملائكة ويرى فعلهم، لأنه يُدرك عالم الغيب المتعلق بالحس (لا الغيب المعنوي)؛ لذلك عندما رأى التقتيل منهم، فرّ من الساحة. وقوله الذي حكاه الله عنه {إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ}، هو من صدقه -لعنه الله- في هذا الموطن. ولعل لسائل أن يسأل هنا، فإن كان إبليس يرى ما لا يراه الناس، فلمَ يدخل في معركة خاسرة؟ فنقول: إن الله يحجب مشيئته في خلقه عن خلقه، بمن فيهم الملائكة والشياطين؛ إلا من شاء في الوقت المخصوص من العباد المخصوصين. لهذا، فإن إبليس لا يكون عالما بحكم الله بالنصر لمن يكون، وهو يطمع أن يكون له ولحزبه في كل مرة. وهذا يعني أن النصر لا يكون حليف المؤمنين دائما، لأنه ليس منهم؛ وإنما هو من الله. يقول الله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126]. وهذا هو الوجه الظاهر من المسألة، ويبقى الوجه الباطن، وهو متعلق بتفوق إيمان المشركين بباطلهم، على إيمان المؤمنين بالحق في بعض الأحيان؛ وقد ذكر هذا الوجه الشيخ الأكبر عليه السلام، ونبه إليه. وإبليس لم يعلم حكم الله بنصر المؤمنين على المشركين في بدر، إلا بعد رؤيته لقتال الملائكة مع المؤمنين، ورؤيته لأعداد القتلى والأسرى من المشركين. ومن علم هذا، علم أن إبليس لا يعلم من الغيوب، إلا ما يأذن الله له به، عند إرادته الإغواء والإضلال. فكما الملائكة عاملون في سبيل الخير، هو عامل في سبيل الشر؛ ولا فرق بينه وبين الملائكة، إلا من حيث الوظيفة. وهو يحضر مع حزبه (مظاهر الجلال) في كل معركة مصيرية، كمعركة بدر؛ أو له أن يبعث أعوانه، إن رأى أن الأمر لا يستدعي حضوره الشخصي. لكن علينا أن نعلم الفارق الأساس بين الملائكة والشياطين، وهو التكليف؛ فالشياطين واقعة تحت حكم التكليف، بخلاف الملائكة. لذلك فإن العذاب يلحق بالشياطين، بينما الملائكة لا يلحقها عذاب. والعذاب غير الأذى من جهة المعنى، وقد وردت الأخبار بتأذّي الملائكة من أشياء يفعلها الآدميون، ومن الروائح الكريهة؛ ووردت بحبها للطيوب المحسوسة والمعنوية. س. شأن أبي جهل: [أما الطاغية الأكبر أبو جهل، فإنه لما رأى أول أمارات الاضطراب في صفوفه، حاول أن يصمد في وجه هذا السيل، فجعل يشجع جيشه ويقول لهم في شراسة ومكابرة: لا يهزمنكم خذلان سراقة إياكم، فإنه كان على ميعاد من محمد، ولا يُهولنَّكم قتل عتبة وشيبة والوليد، فإنهم قد عجلوا! فواللات والعزّى لا نرجع حتى نقرنهم بالحبال، ولا ألفين رجلا منكم قتل منهم رجلا؛ ولكن خذوهم أخذا حتى نُعرّفهم بسوء صنيعهم. ولكن سرعان ما تبدت له حقيقة هذه الغطرسة، فما لبث إلا قليلا حتى أخذت الصفوف تتصدع أمام تيارات هجوم المسلمين. نعم، بقيت حوله عصابة من المشركين ضربت حوله سياجا من السيوف، وغابات من الرماح، ولكن عاصفة هجوم المسلمين بددت هذا السياج، وأقلعت هذه الغابات، وحينئذ ظهر هذا الطاغية، ورآه المسلمون يجول على فرسه، وكان الموت ينتظر أن يشرب من دمه بأيدي غلامين أنصاريين. قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إني لفي الصف يوم بدر إذ التفتّ، فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سرا من صاحبه: يا عم، أرني أبا جهل! فقلت: يا ابن أخي، فما تصنع به؟ قال: أُخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك. قال: وغمزني الآخر، فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس. فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه، قال: فابتدراه فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـقال: «أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟» فقـال كـل واحد منهما: أنا قتلته، قال: «هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟» فـقالا: لا! فنـظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلــى السيفـين فقال: «كِلَاكُمَا قَتَلَهُ!»[22]. وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسَلَبِه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومُعَوِّذ ابن عفراء. وقال ابن إسحاق: قال معاذ بن عمرو بن الجموح: سمعت القوم، وأبو جهل في مثل الحَرَجَة ـ والحرجة: الشجر الملتف، أو شجرة من الأشجار لا يوصل إليها (شبَّه رماح المشركين وسيوفهم التي كانت حول أبي جهل لحفظه بهذه الشجرة) وهم يقولون: أبو الحكم لا يُخلَص إليه، قال: فلما سمعتها جعلته من شاني فصمدت نحوه؛ فلما أمكنني حملت عليه، فضربته ضربة أطَنَّتْ قدمه (أطارتها) بنصف ساقه، فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تَطِيحُ من تحت مِرْضِخَة النوى حين يُضرب بها. قال: وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي، فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنه؛ فلقد قاتلت عَامَّةَ يومي وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي، ثم تَمَطَّيْتُ بها عليها حتى طرحتها، ثم مر بأبي جهل -وهو عَقِيرٌ- مُعَوِّذ ابن عفراء فضربه حتى أثبته، فتركه وبه رَمَق، وقاتل معوذ حتى قُتل... ولما انتهت المعركة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَنْظُرُ مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ؟»[23] فتفرق الناس في طلبه، فوجده عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وبه آخر رمق، فوضع رجله على عنقه، وأخذ لحيته ليحتز رأسه، وقال: هَلْ أَخْزَاكَ اللَّهُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ؟ قَالَ: وَبِمَ أَخْزَانِي؟ أَأَعْمَدُ مِنْ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ؟ أَخْبِرْنِي لِمَنِ الدَّائِرَةُ الْيَوْمَ؟ قُلْتُ: لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. قَالَ (الراوي): سَأَلْتُ ابْنَ إِسْحَاقَ: مَا أَعْمَدُ مِنْ رَجُلٍ؟ قَالَ: يَقُولُ: هَلْ هُوَ إِلا رَجُلٌ قَتَلْتُمُوهُ. ثم قال لابن مسعود -وكان قد وضع رجله على عنقه-: لَقَدِ ارْتَقَيْتَ مُرْتَقًى صَعْبًا يَا رُوَيْعِيَ الضَّأْنِ! وكان ابن مسعود من رعاة الغنم في مكة. وبعد أن دار بينهما هذا الكلام، احتز ابن مسعود رأسه، وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذا رأس عدو الله أبي جهل، فقال: «آللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ؟» فرددها ثلاثًا، ثم قال: «اللَّهُ أَكْبَرُ! الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ. انْطَلِقْ فَأَرِنِيهِ!»، فانطلقـنا فــأريته إيـاه، فقال: «هَذَا فِرْعَوْنُ هَذِهِ الْأُمَّةِ!»[24]. إن أبا جهل كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هو فرعون هذه الأمة؛ وهذا يعني أنه كان رأس الكفر، وخليفة الشيطان. وإن موته في معركة بدر، لهو من أكبر الإنجازات؛ وإن كان لا بد من أن يخلفه في مقامه غيره، ممن هم على شاكلته، من وقت وفاته إلى قيام الساعة؛ وهذا لأن المقامات مستمرة، بخلاف أصحابها. وما نقوله يصدق على الجانبيْن من أهل الحق وأهل الباطل جميعا؛ غير النبوة فإنها تنتهي بوفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يبقى منها إلا الوراثة. وعلى هذا، فلا بد من وجود وارث على رأس حزب الله في زماننا، كما لا بد من وجود خليفة لأبي جهل في مقابِله. أما الشيطان فيبقى رأس من ذكرنا مِن هذا الصنف، لأنه مستمر في الأزمنة بخلافهم؛ زيادة على مخالفته لهم في كونه من الجنّ، وهم من الإنس. ويظهر من كلمات أبي جهل عند احتضاره، كبرياؤه وجبروته؛ وهذه الصفات من صفات أهل الجلال، بعكس أهل الجمال الذين يكونون على تواضع ولين. ومن هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَلَا أُخْبِرُكَ (الخطاب للراوي) بِأَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: أَمَّا أَهْلُ النَّارِ، فَكُلُّ جَعْظَرِيٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ؛ وَأَمَّا أَهْلُ الْجَنَّةِ الضُّعَفَاءُ الْمَغْلُوبُونَ!»[25]. والجعظري الفظ الغليظ، والجواظ المختال الفاجر. ع. عِبر من بدر: [1 ـ روى ابن إسحاق عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «إِنِّي قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ رِجَالا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرَهُمْ قَدْ أُخْرِجُوا كُرْهًا لا حَاجَةَ لَهُمْ بِقِتَالِنَا، فَمَنْ لَقِيَ مِنْكُمْ أَحَدًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَلا يَقْتُلْهُ، وَمَنْ لَقِيَ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ بْنَ هِشَامٍ فَلا يَقْتُلْهُ، وَمَنْ لَقِيَ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلا يَقْتُلْهُ، فَإِنَّمَا خَرَجَ مُسْتَكْرَهًا.»[26]، فقال أبو حذيفة بن عتبة: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس، والله لئن لقيته لألحمنه -أو لألجمنه- بالسيف! فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لعمر بن الخطاب: «يَا أَبَا حَفْصٍ، أَيُضْرَبُ وَجْهُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ بِالسَّيْفِ؟»، فقال عمر: دعني أضرب عنقه يا رسول اللَّه، والله لقد نافق! فكان أبو حذيفة بعد ذلك يقول: ما أنا بآمِنٍ من تلك الكلمة التي قلت، ولا أزال منها خائفا إلا أن تُكفِّرها عني الشهادة! فقتل يوم اليمامة شهيدا.][27]. وإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عمن أُخرجوا من قريش مُـكرَهين، هو من الإخبار بالغيب. وإن من عدل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أن لا يؤاخِذ الناس بما لم يعزموا عليه. أما قول أبي حذيفة بن عتبة، فإنه كان من النفاق، كما أخبر عمر رضي الله عنه. وهذا يعني أن فعل المؤمن وقوله، قد يكونان من النفاق، وإن كان باقيا على أصل الإيمان. ولكن حذيفة قد علم سيِّئته، وتاب منها؛ وكان يعلم عِظمها، لذلك رجى أن تُكفرها عنه الشهادة. فاستجاب الله له فمات شهيدا رضي الله عنه. وقد يرى بعض المنكوسين أن في كلام أبي حذيفة الأول، بعض إنصاف؛ ويرون أن الدين يدعو إلى العدل التام، حتى فيما بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأتباعه؛ وهذا من الجهل بمعنى العدل. ولسنا نعني من هذا، إلا أن العدل بهذه الصورة، لا يتحقق إلا مع وحدة المرتبة بين الجانبيْن. ومرتبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فوق كل مرتبة؛ لذلك فإن الأدب معه فيما يأمر به أو يدل عليه، واجب. وكل من يخالف هذا الأدب، فهو على نفاق، علم أم لم يعلم. ولقد رأينا كثيرا ممن ينسبون نفسه إلى العلم، من أهل زماننا، ممن لا يعرفون مرتبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يتجرأون على نقد الحديث برأيهم؛ أو يطعنون في ورثته، وهم لا يعلمون أن مرتبة الوارث من مرتبة موروثه؛ أو يرون أنه -عليه السلام- لا يختلف عن المؤمنين إلا من كونه مبلِّغا، كما تقول الوهابية الضُّلاّل؛ أو يُسيئون إلى إحدى أمهات المؤمنين عليهن السلام؛ أو يتنقصون عليّا عليه السلام أو ذرّيته... وعلى العموم، فإنه لا يسلم من هذا النفاق، إلا من عصمه الله، ورزقه إيمانا خالصا، لا يحتاج إلى شائبة نظر. وهذا في الناس عزيز جدا!... ولا أقل ممن يقع في مثل هذه المهلكات، من أن يندم على ما بدر منه، وأن يُصحح توبته، وأن يأتي من الأعمال ما هو من نقيضها؛ لعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعفو عنه ويشفع له عند ربه. نقول هذا، لأن هذا الصنف من السيئات يغضب له الله، غيرة على نبيّه؛ وهذا الغضب الإلهي لا يزول حتى يزول سببه، وقد لا يزول سببه إلا بشفاعة من أُسيء إليه؛ صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا من أخلاق الله المجهولة، والتي لا يعلمها إلا الخواص؛ والخواص يعلمونها، لأنهم يكونون عليها عند اتصافهم بصفات ربهم عز وجل. فليُعتبر هذا، فإنه نافع جدا!... [2 ـ وكان النهي عن قتل أبي البختري؛ لأنه كان أكف القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، وكان لا يؤذيه، ولا يبلغ عنه شيء يكرهه، وكان ممن قام في نقض صحيفة مقاطعة بني هاشم وبني المطلب. ولكن أبا البختري قتل على رغم هذا كله، وذلك أن المـُـجَذَّر بن زياد الْبَلَوِىّ لقيه في المعركة ومعه زميل له، يقاتلان سويا؛ فقال المجذر: يا أبا البختري إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن قتلك! فقال: وزميلي؟ فقال المجذر: لا والله، ما نحن بتاركي زميلك! فقال: والله إذن لأموتن أنا وهو جميعا! ثم اقتتلا، فاضطر المجذر إلى قتله.][28]. إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هو أكثر الناس حرصا على مكافأة الحسنة بمثلها؛ لذلك أمر الصحابة بعدم قتل أبي البختريّ. لكن هذا الأخير، غلب عليه جهله، ووفاؤه لصُحبة الجاهلية، فمات ميتة جاهلية؛ وهذا يقع لكثير من الناس مع الربانيّين. ونعني من هذا، أن الربانيّ (نبيا أو وارثا) قد يحرص على نفع الشخص، ولكن الشخص لا يعلم وجه النفع المراد له؛ فيبقى مع ما تُعطيه السابقة في حقه. ولأجل هذا وأمثاله، يقول الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم (ومن بعده لورثته): {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56]. ولقد حدث هذا معنا نحن كثيرا، فكنا نعجب -ولا عجب!- كيف يصير المرء أعدى عدو لنفسه، وهو مسرور بذلك!... ولن ندخل في تفاصيل المسألة، من جهة باطنها؛ ولكن مرادنا التنبيه إلى هذا الأصل من المعاملات التي تكون بين الربانيّ والناس من حوله... [3 ـ كان عبد الرحمن بن عوف وأمية بن خلف صديقين في الجاهلية بمكة، فلما كان يوم بدر مر به عبد الرحمن، وهو واقف مع ابنه عليّ بن أمية، آخذا بيده، ومع عبد الرحمن أدراع قد استلبها، وهو يحملها، فلما رآه قال: هل لك فيّ؟ فأنا خير من هذه الأدراع التي معك، ما رأيت كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن؟ (يريد أن من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن) فطرح عبد الرحمن الأدراع، وأخذهما يمشي بهما، قال عبد الرحمن: قال لي أمية بن خلف، وأنا بينه وبين ابنه: من الرجل منكم المعلم بريشة النعامة في صدره؟ قلت: ذاك حمزة بن عبد المطلب، قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل. قال عبد الرحمن: فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي -وكان أمية هو الذي يعذب بلالا بمكة- فقال بلال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا! قلت: أي بلال، أسيري! قال: لا نجوت إن نجا! قلت: أتسمع يا ابن السوداء. قال: لا نجوت إن نجا! ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا! قال: فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل الْمَسَكَة، وأنا أذب عنه، قال: فأخلف رجل السيف، فضرب رجل ابنه فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط، فقلت: انج بنفسك، ولا نجاء بك! فوالله ما أغني عنك شيئا. قال: فَهَبَرُوهُمَا بأسيافهم حتى فرغوا منهما، فكان عبد الرحمن يقول: يرحم الله بلالا، ذهبت أدراعي، وفجعني بأسيري. وروى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف قال: كاتبت أمية بن خلف كتابا بأن يحفظني في صاغيتي (أي خاصتي ومالي) بمكة، وأحفظه في صاغيته بالمدينة... فلما كان يوم بدر خرجت إلى جبل لأحرزه حين نام الناس. فأبصره بلال، فخرج حتى وقف على مجلس الأنصار فقال: أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا أمية! فخرج معه فريق من الأنصار في آثارنا، فلما خشيت أن يلحقونا، خلفت لهم ابنه ليشغلهم، فقتلوه؛ ثم أبوا حتى يتبعونا، وكان رجلا ثقيلا، فلما أدركونا قلت له: ابرك، فبرك، فألقيت عليه نفسي لأمنعه، فتخللوه بالسيوف من تحتي حتى قتلوه، وأصاب أحدهم رجلي بسيفه. وكان عبد الرحمن يرينا ذلك الأثر في ظهر قدمه.][29]. إن قصة عبد الرحمن بن عوف مع أمية بن خلف، تدل على الوفاء الذي يكون بين الرجال؛ ولعل الصحابي كان يرجو لصاحبه أن يعود إلى الحق، بعد طول إعراض؛ ولكن القدر جرى بعكس مراد الصحابيّ، على يد بلال رضي الله عنه، الذي ذاق التعذيب على يد أمية؛ فشفا الله بمقتل هذا المتجبر صدر بلال وعموم المؤمنين. يقول الله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ . وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 14، 15]؛ وهذا لأن الله يعتبر أحوال المؤمنين، ويُجيب رجاءهم بإهلاك أعدائهم، إن وافق هذا منهم المشيئة الإلهية؛ وإلا فإن مصير بعض الأعداء يكون كما أخبر سبحانه في تمام الآية: {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 15]؛ أي هو سبحانه أعلم بمن سيتوب من الأعداء، فيتوب عليهم حكمة منه. والمسألة -كما نرى- لها اعتبارات متعددة، تعود إلى هذيْن الاثنيْن؛ والنتيجة إما إهلاك على أيدي المؤمنين، كما حدث لأمية بن خلف هنا، وإما توبة يصير بها العدو من المؤمنين. وهذا يعني أن الحكم على الظالمين حكما نهائيا بالعذاب، من قِبل بعض الناس، يكون من سوء الأدب مع الله ورسوله؛ لأن الناس لا يعلمون حكم الله في العبد المخصوص، إلا إن كان العبد مكاشَفا، وأطلعه الله على حكمه؛ أو كان ربانيا يحكم بالمشيئة؛ فعندئذ يجوز الجزم. [4. وقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومئذ خاله العاص بن هشام بن المغيرة، ولم يلتفت إلى قرابته منه، ولكن حين رجع إلى المدينة قال للعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في الأسر: يا عباس أسلِم، فوالله أن تُسلِم أحب إليَّ من أن يسلم الخطاب! وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه إسلامك!][30]. أما عمر رضي الله عنه، فهو نموذج وحده!... لا يخشى في الله لومة لائم، ولا يلين في مواطن القوة!... وإن قتله لخاله، لأدل شيء على قوته في الحق. وأما تكليمه للعباس قبل إسلامه، فهو دليل على كمال إيمانه؛ لأنه صار يُحب بحب رسول الله، ويُبغض ببُغضه!... ولا يكمل إيمان المؤمن، حتى يصير على مثل ما كان عليه عمر عليه السلام؛ فانيا عن نفسه وعن نِسبها المختلفة. ولقد أذاقنا الله بفضله، شيئا من ذلك، فما كنا نعتبر في الحق قريبا ولا صديقا!... [5. ونادى أبو بكر الصديق رضي الله عنه ابنه عبد الرحمن (وهو يومئذ مع المشركين) فقال: أين مالي يا خبيث؟ فقال عبد الرحمن: لَمْ يَبْقَ غَيْرُ شَكَّةٍ ويَعْبُوب وصَارِمٍ يَقْتُلُ ضُلاَّل الشِّيَبْ][31]. أما أبو بكر عليه السلام، فلم يمِل منذ عرف الحق إلا حيث يكون الحق. وهو هنا يطلب قتل ابنه، وكأنه ما عرفه يوما!... فلله دره!... وقد يلتبس حال الكبار، على من لا علم له، فيظنه من القسوة التي لا ينبغي أن يكون عليها أهل الدين؛ وكأن الدين جاء ليرقِّق الأفئدة ترقيقا لا معيار له!... والحق هو أن الدين من غير شك يرقق القلوب، حيث تكون الرقة محمودة عند الله؛ كما يكون ذلك مع المستضعفين. أما حيث يُحب الله القوة، فإن العبد كامل الإيمان، لا يرق أبدا!... وهذا ليس من القسوة كما نبهنا، ولكنه من تمام العبودية لله. وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَيُّ عُرَى الْإِسْلَامِ أَوْثَق؟» قَالُوا: الصَّلَاةُ! قَالَ: «حَسَنَةٌ، وَمَا هِيَ بِهَا!». قَالُوا: الزَّكَاةُ! قَالَ: «حَسَنَةٌ، وَمَا هِيَ بِهَا!». قَالُوا: صِيَامُ رَمَضَانَ! قَالَ: «حَسَنٌ، وَمَا هُوَ بِهِ!». قَالُوا: الْحَجُّ! قَالَ: «حَسَنٌ وَمَا هُوَ بِهِ!». قَالُوا: الْجِهَادُ! قَالَ: «حَسَنٌ وَمَا هُوَ بِهِ!». قَالَ: «إِنَّ أَوْثَق عُرَى الْإِيمَانِ، أَنْ تُحِبَّ فِي اللَّهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللَّهِ!»[32]. ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضا: «مَنْ أَحَبَّ فِي اللَّهِ، وَأَبْغَضَ فِي اللَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ، فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ!»[33] . وحتى يعلم العبد مكانة الحب في الله والبغض في الله من الدين، فعليه أن يعلم أنهما محدّدان لتوجُّهه كله؛ وليسا عمليْن من جملة الأعمال. وعلى هذا، فإن من لا حب له في الله ولا بغض، قد يكون على صلاة وصيام وغير ذلك؛ لكنه لا يكون تام الإيمان. وهذا الحال من تمام الإيمان، ظهر به الشيخان عليهما السلام، بأكثر مما ظهر في غيرهما؛ وإن كان الصحابة قد ارتقوا فوجا بعد الآخر إلى ذُرى الإيمان، ليُشاركوهما فيما ذكرنا. وسنعمل على إبراز مكانة الصحابة فردا فردا إن شاء الله، بحسب استطاعتنا، وتَبعا لما يعرض لنا من سيرهم الطاهرة... [6 ـ ولما وضع القوم أيديهم يأسرون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش، وسعد بن معاذ قائم على بابه يحرسه متوشحا سيفه، رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال له: والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم؟ قال: أجل والله يا رسول الله! كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل بأهل الشرك أحب إليّ من استبقاء الرجال!][34]. إن العداوة بين المؤمنين والكافرين، من تقابل الأسماء؛ لا كما يتوهم الجاهلون من أن كمال الآدمية هو عدم إضمار العداوة لأحد. وهذه العداوة، لا تختلف عن عداوة الخلايا البيضاء الطبيعية، للميكروبات الغازية للجسم. ولسنا ندري، لمَ لا يعمل القائلون بـ "التسامح" الكاذب، بالمنطق نفسه، فيمتنعون عند حلول المرض بهم، من استشارة الطبيب ومن تناول الدواء!... وقد يختلط ما نقوله هنا، بما ندل عليه من أحوال الكمّل، عندما نُخبر بأنهم لا يُعادون من جهة الباطن أحدا؛ بل ويُحبون كل أحد؛ فيظن من لا علم له أننا نتناقض في الكلام؛ فهذا مما يعود أيضا إلى أثر المراتب. ونعني من هذا أن الكُمّل، بمرتبتهم يعودون إلى الاسم الله أو الاسم الرحمن؛ وهذه مرتبة عرش لا مرتبة كرسي؛ أي هي مرتبة وحدة وجمع، لا مرتبة فرق. وقد يتساءل هنا القارئ: إن كان هذا حال أهل الجمع، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعلاهم مقاما وحالا، فلمَ تظهر منه معاداة الكافرين، وكأنه من صف المؤمنين الذين هم أدنى منهم؟... فنقول: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم -ومِن بعده الكُمَّل جميعا- له مُكنة النزول إلى المراتب التي يشاء؛ وله الصعود بعد ذلك إلى حيث مكانته الأصلية. فهذا هو سبب ظهور مقتضيات أسماء الجمال والجلال على التقابل فيه. ونعني من مقتضيات أسماء الجلال، التصرف بها في المظاهر المقابلة؛ فيكون منتقما أو شديد العقاب أو آسرا، أو غير ذلك؛ كما قد يكون رحيما رؤوفا وغير ذلك. وظهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الأسماء الجلالية، هو من نُصرة الاسم الله لعباده المؤمنين؛ وإلا استوى المحسنون والمسيئون، إن نحن اعتبرنا جمعيته وحدها. يقول الله تعالى في هذا المعنى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16]؛ وهذا يعني أن الله عندما ينفع أولياءه، ويضر أعداءه، من وجوهه الاسمية المتقابلة، لا يخرج عن كونه واحدا، أي جامعا لما يتقابل. ومعنى تشابه الخلق على من لا علم له، هو توهمه بتعدد الأرباب، عند اختلاف التجليات الجمالية والجلالية في نظره. ومعنى أنه سبحانه خالق كل شيء، هو أنه رب الفريقيْن خلقا وإمدادا. وذكر الخالقية دون الإمداد هنا، هو من باب التلازم بينهما؛ ولأن الخلق أصل في المدد ذاته. ومعنى كونه سبحانه الواحد القهار، هو أنه وحده من ترجع إليه المتقابلات المتفرقات؛ وهذا الرجوع من العباد، لا يكون اختياريا كما هو ظن عوام المؤمنين، عند غلبة منطق التشريع على عقولهم؛ ولكنه قهري من الجهة الذاتية. وما نذكره هنا منسوبا إلى الحق، هو عينه ما ننسبه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من كونه خليفة عن الله؛ وهو أيضا ما ننسبه إلى كل خليفة وارث فيما بعد. وهذا هو معنى التوحيد الذي ندل عليه، لا ما يتكلم به أهل العقائد من شرك، يتوهمونه توحيدا. وليتهم عندما توهموا سكتوا! ولكنهم صاروا يُنظِّرون لشركهم تنظيرات، لا تقوم لأقل النقود!... [7 ـ وانقطع يومئذ سيف عُكَّاشَة بن مِحْصَن الأسدي، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه جِذْلًا من حطب، فقال: «قَاتِلْ بِهَذَا يَا عُكَّاشَةُ!»[35]، فلما أخذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم هزه، فعاد سيفا في يده طويل القامة، شديد المتن، أبيض الحديدة؛ فقاتل به حتى فتح الله تعالى للمسلمين. وكان ذلك السيف يسمى العَوْن، ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد، حتى قُتل في حروب الردة وهو عنده.][36]. نحن لا نشك في أن كثيرا من المؤمنين، قد يردّون هذا الخبر؛ وسيجهدون في إيجاد سبب معتبر عند أهل صنعة الحديث، يُسعفهم في ذلك؛ ولكننا نؤكد على أن هذا وأمثاله، هو من مقتضيات مرتبة خلافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ربه (الله). وهذا يعني أنه -عليه السلام- من هذه المرتبة، له أن يشاء؛ وله أن يُريد كل ما يشاء. فيكون منه قوله لعكاشة «قَاتِلْ بِهَذَا»، من باب قول الله تعالى، عند نسبته الفعل إلى نفسه: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117]؛ ومن باب قوله تعالى، عند نسبته الفعل إلى نفسه وإلى مظهره (الخليفة): {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]. و"نا" الدالة على الفاعل، من قوله تعالى: {قَوْلُنَا} أو {أَرَدْنَاهُ} تكون بمعنييْن: الأول هو أن الله ينسب الفعل لنفسه من جهة وحدته، التي هي مجموع الأسماء المخصوصة بالإبراز من العدم إلى الوجود؛ وهذا يختلف من فعل إلى فعل، أي من شيء إلى شيء، بحسب مرتبة الشيء. والثاني، هو أن الله يعتبر واحديته من جهة، ويعتبر مظهر الخلافة عنه من جهة أخرى؛ وهذا أيضا جمع. ولسنا نعني -كما هو الشأن هنا- إلا أن الفعل الظاهر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عند تحويل العود إلى سيف، له نسبتان: فهو من جهة فعل الله، بحسب ما يقتضيه الإيمان؛ وهو من جهة ثانية فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بحسب ما يقتضيه العيان. فهذا مما سميناه في بعض كتاباتنا "شرك الحقائق"، الذي يغيب عن أهل التوحيد العام، كما يغيب عن أهل الجمع العام. وإن استمرار صورة السيف، إلى ما بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هو من حفظه -عليه السلام- من جهة غيبه لها (الصورة). وقد كان ذلك من طريق مباشر، قبل الوفاة؛ ومن طريق غير مباشر، وعبر وساطة أبي بكر عليه السلام فيما بعد؛ لأن حروب الردة كانت في زمن خلافته. ومن أدرك ما نلقي به هنا، فإنه سيعلم بعض خصائص خلافة الخلفاء، والتي سنعود إليها بتفصيل أكبر -إن شاء الله- عندما يأتي أوانها... [8 ـ وبعد انتهاء المعركة مر مصعب بن عمير العبدري بأخيه أبي عزيز بن عمير الذي خاض المعركة ضد المسلمين، مر به وأحد الأنصار يشد يده، فقال مصعب للأنصاري: شد يديك به، فإن أمه ذات متاع، لعلها تفديه منك! فقال أبو عزيز لأخيه مصعب: أهذه وصاتك بي؟ فقال مصعب: إنه -أي الأنصاري- أخي دونك!][37]. وما وقع لمصعب بن عمير رضي الله عنه، مع أخيه هنا، هو أيضا من دلالات كمال الإيمان؛ وهذا عينه ما ينقص المتأخرين من المسلمين. فتجد الرجل اليوم، يعتبر أبوة أبيه وأمومة أمه، ويعتبر أخوة أخيه أو أخته، قبل اعتبار الأمر الشرعي؛ فيعمد إلى مخالفة أمر الله، من دون أدنى تحرُّج. والأدهى من هذا، هو أنه يرى مخالفته لأمر ربه، موافقة؛ لأن فقهاء السوء قد علّموه، أن الدين لا يُعارض العادات والتقاليد؛ بل يؤكّدها. وهكذا، صارت العادات تدخل ضمن المنطق الفقهي، الذي تُطلب به تنزيلات الأحكام الشرعية. وحتى يفهم عنا من لم يفهم بعد، فلينظر إلى إفتاء الفقهاء بطاعة الحكام مطلقا، وجعلها أصلا في الشريعة؛ مع أن الشرع صرح بتقييد طاعة المخلوقين جميعا، بموافقتها لطاعة الله!... وإلا فلا طاعة!... [9 ـ ولما أُمر بإلقاء جيف المشركين في القَلِيب، وأُخذ عتبة بن ربيعة فسُحب إلى القليب، نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه ابنه أبي حذيفة، فإذا هو كئيب قد تغير، فقال: «لَعَلَّكَ قَدْ دَخَلَكَ مِنْ شَأْنِ أَبِيكَ شَيْءٌ؟» قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا شَكَكْتُ فِي أَبِي، وَلَا فِي مَصْرَعِهِ؛ وَلَكِنِّي كُنْتُ أَعْرِفُ مِنْهُ رَأْيًا وَحِلْمًا، فَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ يُسْلِمَ. فَلَمَّا رَأَيْتُ مَا أَصَابَهُ، وَمَا مَاتَ عَلَيْهِ أَحْزَنَنِي ذَلِكَ، فَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ لَهُ خَيْرًا.][38]. وهذه الواقعة، تدل أيضا على كمال إيمان أبي حذيفة رضي الله عنه؛ لأن حزنه على فوات الخير أباه، لم يغلب على رضاه بحكم الله ورسوله فيه. وقد يغلط بعض من يشترط على العبد عدم الحزن على أقاربه المـُعرضين عن الحق، بينما هذا الحزن من كمال الأخلاق لأنه طبيعي. وقد حزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عمه، عندما أبى أن ينطق بالشهادة عند الاحتضار، مع أنه -عليه السلام- أكمل الخلق علما وخلقا، وأعلمهم بما يُرضي الله وما يُغضبه!... ولكن المذموم، هو الحزن المخرج عن الرضى بقضاء الله، والتسليم له. وإن كل ما مر من مشاهد كمال إيمان الصحابة، لا ينبغي أن يشغلنا عن متابعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأحوال أصحابه الدقيقة، بأكثر ما تتابع أمّ صغارها. فهو -عليه السلام- ينظر إلى وجوههم ويستقريها مستخرجا ما وراءها من مكنون قلوبهم؛ ثم يبادر إلى السؤال، حتى يُعرب الصاحب عما في نفسه، من غير خوف ولا رهبة؛ لأنه يعلم أن سائله أرأف به من نفسه وأرحم. فكان عليه السلام، يجد منهم ما يسره، من يقين، ومن ثبات؛ فكان يحمد لهم الله ويدعو لهم بما يبقي عليهم المدد. وحتى يضح المعنى الذي نريده، فلنعد إلى الله في وصفه لحال الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حيث يقول تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29]، لنعلم أن الصحابة -والمؤمنين من بعدهم- هم غراس النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الذي يتعاهده بالسقي المددي، وبالتقويم التزكويّ، ليبلغ حال الاستواء على الساق الإيمانية العلمية، ويستغلظ بالتغذية المددية حتى لا تعصف به رياح البلاء والامتحان. وعندما بلغ الغراس نضجه على يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ظهرت منه صفات العبودية لله في صورة الركوع والسجود بالقلب قبل القالب، وسطع النور تبعا لذلك من الوجوه (الذوات) المتخلِّصة من الظلمة الطبيعية؛ وفاحت منهم الأخلاق المـَرْضيّة في الاتجاهين: فرضي عنهم زُراعهم (وصيغة الجمع في الزراع هي من اعتبار الورثة) وانغاظ منهم الكفار. والمقابلة هنا بين الزراع والكفار، هي من المقابلة المعنوية عند ثبوت الاشتراك اللفظي، ما دام الزارع في اللغة يُسمّى كافرا. فجزى الله عنا زارعنا خير ما جزى به زارعا عن غراسه، وأدام علينا (نعني المؤمنين جميعا) نعمة إمداده صلى الله عليه وآله وسلم إلى ما لا نهاية، في الدنيا والآخرة... (يُتبع...) [1] . ذكره محمد اليعمري الأندلسي في "عيون الأثر". |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.