اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2021/01/23 الحوار الغائب (ج3) -17- المرحلة المدنية (3) (تابع...) 3. تحريض قريش على النبي: [تقدم ما بدر من كفار مكة من التنكيلات والويلات على المسلمين في مكة، ثم ما أتوا به من الجرائم التي استحقوا لأجلها المصادرة والقتال، عند الهجرة، ثم إنهم لم يفيقوا من غيهم ولا امتنعوا عن عدوانهم بعدها؛ بل زادهم غيظاً أن فاتهم المسلمون ووجدوا مأمناً ومقراً بالمدينة. فكتبوا إلى عبد الله بن أبيّ بن سلول -وكان إذ ذاك مشركاً- بصفته رئيس الأنصار قبل الهجرة، بعد أن علموا أنهم كانوا قد اتفقوا عليه، وكادوا يجعلونه ملكاً على أنفسهم لولا أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وآمنوا به؛ كتبوا إليه وإلى أصحابه المشركين، يقولون لهم في كلمات باتة: "إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لتقاتلُنّه أو لتخرجنه، أو لنَسيرَنّ إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم، ونستبيح نساءكم.". وبمجرد بلوغ هذا الكتاب قام عبد الله بن أبيّ ليمتثل أوامر إخوانه المشركين من أهل مكة؛ وقد كان يحقد على النبي صلى الله عليه وسلم، لِما يراه أنه استلبه ملكه. يقول عبد الرحمن بن كعب: فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبيّ ومن كان معه من عبدة الأوثان، اجتمعوا لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لقيهم، فقال: «لَقَدْ بَلَغَ وَعِيدُ قُرَيْشٍ مِنْكُمُ الْمَبَالِغَ؛ مَا كَانَتْ تَكِيدُكُمْ بِأَكْثَرَ مِمَّا تُرِيدُونَ أَنْ تَكِيدُوا بِهِ أَنْفُسَكُمْ: تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا أَبْنَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ!»[1]، فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم تفرقوا. امتنع عبد الله بن أبي بن سلول عن القتال إذ ذلك، لما رأى خوراً أو رشداً في أصحابه؛ ولكن يبدو من تصرفاته أنه كان متواطئاً مع قريش، فكان لا يجد فرصة إلا وينتهزها لإيقاع الشر بين المسلمين والمشركين. وكان يضم معه اليهود، ليعينوه على ذلك، ولكن حكمة النبي صلى الله عليه وسلم، كانت تطفئ نار شرهم حينا بعد حين.][2]. بعد أن غادر المهاجرون مكة، صارت خالصة للمشركين أو تكاد؛ وهذا يعني أنها ستكون طيلة هذه المدة معقل الكفر، ومـُنطلق جيوشه الشريرة. وأما المدينة، فإنها بحلول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها، ومع أن أهلها لم يُسلموا كلهم، فإنها ستصبح مركز الإيمان في المقابل، ومنبع كل خير. غير أن مجتمع الإيمان في كل زمان، لا يخلو من فئة كارهة للإيمان، ويمكن أن تتحول في أي وقت إلى عون للكفار من الخارج، على ما يرومون. ولقد سبق لنا الكلام عن مقام النفاق، ليعود إليه من شاء عند الحاجة؛ وذلك حتى لا يُحصر النفاق في الأسباب الظاهرة وحدها، كأن يُنسب نفاق عبد الله بن أبيّ بن سلول، إلى حرمانه من المـُلك الذي كان يوشك أن يناله. ونعني من هذا، أن النفاق له مرتبة وجودية، كما للإيمان والكفر؛ من كونه برزخا بينهما من جهة حقيقتهما؛ والأسباب تبقى أسبابا. وأما تربص المنافقين بالمؤمنين، فهو من الوجه الذي يُشاركون فيه أهل الكفر، لا من الوجهيْن. ومن يعتبر أحوال المنافقين، فإنه سيجدهم معينين للمؤمنين على الكافرين في الأوقات الأخرى. وهذا الوجه، هو الذي جعل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يمتنع عن قتلهم؛ بل وجعله يرغب في الصلاة عليهم والاستغفار لهم، لولا أن الله نهاه. وقد استأذن عمر بن الخطاب فيما بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في أن يقتل عبد الله بن أبيّ بن سلول، عندما بلغه أنه يقول ما أخبر الله تعالى به في قوله: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8]؛ فأجابه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «دَعْهُ، لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ!»[3]؛ فسماهم عليه السلام أصحابه! فليُعتبر هذا الحكم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا. ولقد رأينا علماء الإسلام يغفلون هذا الأصل، فيقعون في الجهل بقدر ذلك. وأما نهي الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة على المنافقين، فقد ورد في قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84]. وهذا الحكم هو من غيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما نقول دائما، عندما أعطت الشهادة منه ما يُناقضه في الحكم. وهذا يعني أن الغيب له الحكم على الشهادة في نهاية الأمر؛ وهو هنا الانقلاب إلى البرزخ الذي هو أول مقامات الآخرة، من غير مغفرة. والآخرة، معلوم لدى الخاص والعام، أن الحكم فيها لِما يكون عليه العبد في حقيقته، وبحسب ما مات عليه؛ لا كما تدل أحواله من ظاهره وحده. وهذا الذي نقوله، له تنزيلات في الفقه لا يتسع تفصيلها هنا؛ وجدنا أئمة الطريق يدلون عليها عندما يعرض لهم حكم الكشف في مقابل حكم الظاهر. 4. إعلان قريش الصد عن المسجد الحرام مع ما هي عليه من التربص بالمسلمين: [ثم أن سعد بن معاذ انطلق إلى مكة معتمراً، فنزل على أمية بن خلف بمكة، فقال لأمية: انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف البيت! فخرج به قريباً من نصف النهار، فلقيهما أبو جهل، فقال: يا أبا صفوان، من هذا معك؟ فقال: هذا سعد! فقال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمناً، وقد آويتم الصُّباة، وزعمتم أنكم تنصرونهم، وتعينونهم! أما والله لولا أنك مع أبي صفوان، ما رجعتَ إلى أهلك سالماً! فقال له سعد -ورفع صوته عليه-: أما والله لئن منعتني هذا، لأمنعك ما هو أشد عليكم منه: طريقك على أهل المدينة.][4]. إن عزم قريش منع المسلمين زيارة البيت الحرام، هو مما تفعله البلدان (الدول) في العادة، مما يدخل ضمن الضغوط على الأعداء، من أجل إرغامهم على الخضوع لما يكرهون؛ بجميع الوسائل المتاحة. وهو يدخل في صنف الموازنات السياسية، التي ينبغي فيها تقدير الأضرار والمصالح، وارتكاب أهون الضرريْن، خدمة للمبدأ العام الحاكم على الاستراتيجية المتبعة. ولقد رأينا علماء الدين في زماننا، والإسلاميين من بعدهم، من أجهل الناس بهذا الأصل من الفقه السياسي في الشريعة؛ حتى إنهم يقعون على الدوام فيما يُضر بهم وبالأمة من بعدهم، ومع ذلك لا يعودون عما هم عليه؛ وإن عادوا، فإنهم يعودون من باب التنازل عن مبادئهم، لا عملا بمقتضى العلم التفصيلي. وهذه مسألة، لا ينبغي على الناظر فيها، أن يكتفي بالصورة الظاهرة من أجل بلوغ كنه العلم بها؛ حتى لا تختل الموازين، ويُفتح الباب للمنافقين، لينالوا من الأمة ما يبغون!... ولقد كان رد سعد بن معاذ رضي الله عنه، على أبي جهل حكيما؛ لأنه يدخل في باب تذكير العدو بتبعات أفعاله عليه، إن هو أقدم على ما يتوعد به منها. وسنرى فيما سيأتي -إن شاء الله- كيف سيبقى الأمر سجالا بين المؤمنين والكافرين مدة من الزمان، قبل أن يخلص للمؤمنين. [وكأن قريشاً كانت تعتزم على شر أشد من هذا، وتفكر في القيام بنفسها للقضاء على المسلمين، وخاصة على النبي صلى الله عليه وسلم. ولم يكن هذا مجرد وهم أو خيال، فقد تأكد لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكائد قريش وإرادتها على الشر ما كان لأجله لا يبيت إلا ساهراً، أو في حرس من الصحابة. روى الشيخان في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: "سَهِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْدَمَهُ الْمَدِينَةَ لَيْلَةً، فَقَالَ: «لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ!» قَالَتْ: فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ، سَمِعْنَا خَشْخَشَةَ سِلَاحٍ؛ فَقَالَ: «مَنْ هَذَا؟» قَالَ: "سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ!" فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا جَاءَ بِكَ؟» قَالَ: "وَقَعَ فِي نَفْسِي خَوْفٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجِئْتُ أَحْرُسُهُ!" فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ نَامَ.". ولم تكن هذه الحراسة مختصة ببعض الليالي، بل كان ذلك أمراً مستمراً؛ فقد روي عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس ليلاً حتى نزل: {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]؛ فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة، فقال: «يَا أَيُّها النَّاسُ، اِنْصَرِفُوا عَنِّي، فَقَدْ عَصَمَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ!»"[5]. ولم يكن الخطر مقتصراً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان يحدق بالمسلمين كافة؛ فقد روى أبيّ بن كعب، قال: "لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ الْمَدِينَةَ وَآوَتْهُمُ الأَنْصَارُ، رَمَتْهُمُ الْعَرَبُ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ؛ كَانُوا لا يَبِيتُونَ إِلا بِالسِّلاحِ وَلا يُصْبِحُونَ إِلا فِيهِ..." [6]][7]. نفهم من هذا الجزء، أن العصمة من الناس، تكون من الله، وبإعلام منه سبحانه. وإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لم يُثبتها لنفسه، إلا بعد أن أخبره الله بذلك، لا قبله. والمقصود من "الناس" هنا، المخالفون النّاوون للشر؛ وهم مظاهر أسماء الجلال، كما كنا نخبر قبل هذا. والمظاهر تُتَّقى بالمظاهر؛ لذلك رجا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أن يقوم عليه بعض أصحابه بالحراسة. وقد أجاب الله رجاءه، فبعث سعدا بن أبي وقاص، ومن بعده آخرين رضي الله عنهم، يحرسونه. ولكن عندما غلب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم شهود الألوهية في باطنه، أبت إلا أن يعود الحكم إليها، بدل الأسماء الفرقانية التي تحتها. وعندما ظهر حكمها، ارتفع حكم التفريق، وصار المظهر النبوي، فوق متناول الأسماء المخالفة؛ وهذا هو معنى العصمة. ولقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهلا لهذه العصمة من البداية، لأنه الحاكم على الفريقيْن من الأسماء؛ ولكن اعتبار عبوديته طغى على اعتبار ما ذكرنا. وهذا يحدث كثيرا للورثة، بسبب فرارهم من الظهور بالحقيقة في دار الدنيا. ولكن يحدث أن الله يغار على ألوهيته من باطنهم، فتظهر الأحكام التي كانوا يعملون على إخفائها رغما عنهم. ومن كان خصمه تحت حكمه، كيف يخاف؟!... وأما عموم الصحابة، فقد كانوا مواجهين على المقابلة، لمظاهر الأسماء الجلالية؛ وهكذا، فإنهم سيبقون في المعاناة التي تنشأ عن تلك المواجهة، من ذلك الوقت وإلى قيام الساعة، فيما يتعلق بمن سيتبعهم في طريق الإيمان. وقد تتحقق العصمة النبوية لبعض الورثة، عندما يغلب عليهم شهود الجمع؛ ولكنها لا تتحقق للجميع؛ أو -على الأصح- لا تدوم لهم. نقول هذا، حتى يميّز القارئ لكلامنا أحوال الورثة، ويعلم الحاكم عليهم في وراثتهم. ومن عرف ما أخبرَنا الله في كلامه، من وقوع كثير من الأنبياء عليهم السلام، تحت تصرف أسماء الجلال؛ إلى الحد الذي يُقتلون فيه على أيدي المجرمين، ويُنكَّل بهم، فإنه سيميّز ما أسلفنا؛ لأن الأنبياء عليهم السلام، لا يكونون إلا من خواص الأولياء، كما لا يخفى. وتحكيم الله لأعدائه في أوليائه، لا يدل على أن أولياءه ليسوا أولياء، كما يفهم هذا بعض الجَهلة من العامة؛ لأن تسليط الله لعدوه على وليّه، لا يكون إلا من باب الكرامة للولي، وهي الشهادة إن بلغ الأمر القتل؛ كما لا يكون إلا من إهانته سبحانه للظالمين في الدنيا والآخرة. وأما إن قيل: فإن كان الأمر على هذه الحال، وكانت الشهادة مقصودة للأولياء والأنبياء، فلمَ حُرمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ فإننا نجيب: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هو سيد الشهداء؛ ولكن الله آتاه الشهادة بحسب مقامه المـُنيف، لا بحسب ما تُدركه العامة من القتل المعلوم. ويدل على ما نقول قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ؛ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ؛ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ...»[8]. ونحن نعلم أن دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورجاءه مجاب عند الله؛ لذلك، فلا نشك نحن في شهادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما تليق به. ويدل أيضا على هذا، ما جاء في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «يَا عَائِشَةُ، مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ!»[9]. وهذا يعني أن السم كان عاملا في جسد النبي طول هذه المدة، إلى أن بلغ أمره أن يكون سبب وفاته صلى الله عليه وآله وسلم. وقد استشكل هذا الحديث (المعنى) كثير من أهل العلم، وظنوه مناقضا لقول الله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، ثم لقوله تعالى أيضا: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ . لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ . ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44 - 46]، لكون الأبهر المذكور في الحديث هو الوتين نفسه. وزعموا أن هذا لو حدث، لكان دليلا على تقوُّل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى إنفاذ الوعيد من الله فيه (حاشاه!)؛ والأمر على غير ذلك، لأسباب منها: - أولا: لأن العصمة المذكورة في قول الله من سورة المائدة، هي المنع من أن يتسلَّط الناس على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بما عُهد من صور القتل خصوصا. وأما أن يكون السبب سمّا عمل في الجسد النبوي الشريف مدة من السنين، فهو خارج عن صور القتل المعهودة. ولو لم يُخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه، لم يكن لأحد أن يعلم ذلك. وهذا يعني ثبوت العصمة من جهتها، وثبوت الشهادة -عند حلول الأجل- من جهتها؛ وهو جمع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، بما لم يُجمع لغيره من الحُسنييْن. وهو أليق بمرتبته صلى الله عليه وآله وسلم، التي لا يُشاركه فيها أحد من المخلوقين. - ثانيا: لأن الوعيد المذكور في آية سورة الحاقة، لا يتحقق إلا في صورة حدوثه بعد ما يُمكن عدُّه من التقوُّل، ليدل عليه؛ لا مـُطلقا. وهذا ممتنع في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بسبب عصمته عن التقول قبل عصمته عن تسليط الناس. وإتيان الموت بانقطاع الأبهر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بعد انقطاع الوحي، وبعد انصرام الأجل؛ لا يدخل في معنى الآية البتة؛ بل هو من الكرامة الصرف. وجهْل المشتغلين بالعلم، بما ذكرنا، هو ما أدخل عليهم الشبهة؛ والمسألة أبسط مما توهموا... ويلحق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، في معنى الشهادة، كل كبار الأمة من أهل البيت عليهم السلام، ومن الأولياء؛ لأن شهادتهم كرامة لهم أيضا، بعكس ما تظنه العامة. وأول من ينبغي اعتبار شهادته، الحسين عليه السلام؛ لأنها جاءت في صورة عنيفة، لا تطيقها نفوس العامة. والحقيقة، هي أن الحسين، كان متشهيا لها، وراثة أبوية من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عند قوله السابق: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ؛ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ؛ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ...». وهل يشك عاقل، في أن كبار الأمة وورثتها، يكونون على غير هذه الحال؟!... ومن يتأمل ما ذكرناه هنا، ويتتبعه في أحوال من ماتوا من أهل الله غيلة وقتلا، فإنه سيرى العجب من فرحهم بذلك، ومن انتظارهم له، كما ينتظر العبد التحفة من سيده!... ولكن جهل الناس بأحوال الولاية، وقياسهم لأحوال الخواص على أحوال أنفسهم الغافلة، يجعلهم لا يُدركون حقيقة الأمر. ويكفي في هذا الباب، الوقوف على ما لحق بيحيى عليه السلام، وهو من أكابر الأنبياء!... 5. الإذن بالقتال: [في هذه الظروف الخطيرة التي كانت تهدد كيان المسلمين بالمدينة، وتنبئ عن قريش أنهم لا يفيقون عن غيهم ولا يمتنعون عن تمردهم بحال، أنزل الله تعالى الإذن بالقتال للمسلمين ولم يفرضه عليهم، قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]. وأنزل معه آيات بيّن لهم فيها أن هذا الإذن إنما هو لإبطال الباطل وإقامة شعائر الله؛ قال تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41]. وكان الإذن مقتصراً على قتال قريش، ثم تطور فيما بعد مع تغير الظروف حتى وصل إلى مرحلة الوجوب، وجاوز قريشاً إلى غيرهم. ولا بأس من أن نذكر تلك المراحل بإيجاز قبل أن ندخل في ذكر الأحداث: 1- اعتبار مشركي قريش محارِبين؛ لأنهم بدأوا بالعدوان، فحق للمسلمين أن يقاتلوهم ويصادروا أموالهم دون غيرهم من بقية مشركي العرب. 2- قتال كل من تمالأ من مشركي العرب مع قريش واتحد معهم، وكذلك كل من تفرد بالاعتداء على المسلمين من غير قريش. 3- قتال من خان أو تحيز للمشركين من اليهود الذين كان لهم عقد وميثاق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونبْذ ميثاقهم إليهم على سواء. 4- قتال من بادأ بعداوة المسلمين من أهل الكتاب، كالنصارى؛ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. 5- الكف عمن دخل في الإسلام، مشركاً كان أو يهودياً أو نصرانياً أو غير ذلك، فلا يُتعرّض لنفسه وماله إلا بحق الإسلام، وحسابه على الله. ولما نزل الإذن بالقتال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبسط سيطرته على الطريق الرئيس الذي تسلكه قريش من مكة إلى الشام في تجاراتهم، واختار لذلك خطتين: الأولى: عقد معاهدات الحلف أو "عدم الاعتداء" مع القبائل التي كانت مجاورة لهذا الطريق، أو كانت تقطن ما بين هذا الطريق وما بين المدينة؛ وقد عقد صلى الله عليه وسلم معاهدة مع جهينة قبل الأخذ في النشاط العسكري، وكانت مساكنهم على ثلاث مراحل من المدينة، كما عقد معاهدات أخرى أثناء دورياته العسكرية، وسيأتي ذكرها. الثانية: إرسال البعوث واحدة تلو الأخرى إلى هذا الطريق.][10]. إن مسألة القتال الوارد بها الشرع، أصبح كثير من العوام في زماننا، يجهلون أصلها الوجودي؛ عندما سمعوا شبهات دخلت عليهم من قِبل متأخري النصارى، الذين يزعمون أن الدين لا ينبغي أن يكون فيه عنف؛ أو من قِبل الدجاليّين، الذين يوافقون في الظاهر النصارى، ولكن لا عن تصديق منهم؛ ولكن لجعل المسلمين يتوقّفون فحسب. فمن جملة ما يقولون: إن الله رحيم بعباده، لذلك فإن أمره بعض عباده بمقاتلة البعض الآخر، يتسبب في خلق العداوة الدائمة بينهم؛ وهذا مخالف لمبدأ الأخوة الإنسانية. والدعوة إلى الدين -على كل حال- لا يُمكن أن تكون بالعنف!... وهنا لا بد من أن نميّز بين أمور هي: - أما الدعوة إلى الدين بالسيف، فالإسلام في غنى عنها؛ خصوصا وأن الله تعالى يقول: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256]؛ ولا يخفى أن من استعمل العنف فقد أكره. - وأما دفاع المسلمين عن أنفسهم وأموالهم، في وجه أقوام كافرين، يبغون أن يردوهم إلى الكفر، أو أن يستبيحوا حرماتهم، فهو من حقوق المسلمين التي لا يجادل فيها أحد. وما ذكرناه من قصد للكافرين، هو وجه من وجوه الإكراه أيضا، يكون الغرض منه القضاء على الإسلام. فهل يمنع الله الإكراه على قبول الحق، ويأذن سبحانه في الإكراه على العودة إلى الباطل؟! هذا لا يكون أبدا؟!... وفي هذا الصنف من القتال، يقول الله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 9]. - وأما المستضعفون الذين يرغبون في الإيمان، ولا يستطيعونه، بسبب تسلط الجبابرة من أقوامهم عليهم؛ فقد أوجب الله على إخوانهم استنقاذهم مما هم فيه من القهر، رحمة بهم. وهذا الصنف من القتال، هو أيضا من باب عدم القبول بإكراه الناس على ما لا يُريدون. ويقول سبحانه في هذا الصنف: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء: 75]. ولقد أحسن بعض فقهاء العصر، عندما جعلوا الحرية -بالمعنى اللغوي لا بالمعنى الشرعي المـُقابل للاسترقاق- شرطا من شروط الإسلام؛ وهي من غير شك قيمة سابقة في الاعتبار على كل قيمة غيرها. نقول هذا، ونحن نعيش في زماننا صنوفا من الإكراه، لا يخجل الفاعلون لها من التشدق بالحرية. وعلى كل حال، فإن ما نذكره هنا، لا يحتاج كثير تفصيل... وغير هذا الذي ذكرناه، لا يوجد ضمن المبادئ الحربية للمسلمين؛ وكل ما يزعمه المـُبطِلون من أن المسلمين يُقاتلون من أجل التوسع في البلدان بغير حق، أو من أجل إخضاع الناس قهرا، هو من المـُغالطات التي يلجأ إليها، من يكون معاديا للإسلام، وكارها لدخول الناس فيه. وأما الظلم الذي يرمي به المسلمين، فإن الله قد غلّظ الوعيد في تحريمه!... فكيف يكون المسلمون عاملين بعكس ما أُمروا به، وهم يبتغون مرضاة ربهم؟!... ما لم يكن بعضهم على جهل بدينه نفسه، وهذا قد يقع؛ لكن لا يُنسب إلى الدين!... يقول الله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 57]؛ أي من المؤمنين. ثم يقول سبحانه: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 140]؛ وهذا في وقت الحرب، وحين تكون بعض أعمالها من باب الانتقام للنفس. ثم يقول عز من قائل: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40]؛ وهذا من باب التنازل عن حق الاقتصاص من الظالمين. ودينٌ يحض أتباعه على العفو مع تحقق ظلمهم، كيف يُنسب إلى الظلم؟!... إن هذا لا يقول به إلا ضعفاء العقول من المـُغرضين؛ وأما عقلاء الكافرين، فإن عقلهم يأبى عليهم ذلك!... ومن يحقق النظر في الأصول المشرعة للقتال في الإسلام، فإنه لن يجدها، إلا من قبيل الدفاع عن النفس، بجميع المعاني؛ والتي يدخل ضمنها ضمان حرية اختيار الدين، ورفع الإكراه عن الناس، حتى يأمنوا على أنفسهم عند اختيارهم ما يشاءون. وهذا من حقوق الإنسان الأصلية المعتبرة عند الله؛ بخلاف حقوق الإنسان التي يدل عليها الدجاليّون في زماننا، والتي لا يقرون بها إلا في جانب الكفر والمعصية وحدهما. ومن هنا يظهر أن طريق الدجاليّين، طريق شيطاني صرف؛ من لم يتبيّنه، فإنه يكون من أكبر المغفّلين. وأما مسألة قتل المرتد، التي يُدخلها الجاهلون في معنى الحرية الذي كنا بصدده، فهي ليست منه؛ ولها اعتبارات أخرى، لعلنا سنعرض لها، عندما نجد ما يدعونا إلى ذكرها ضمن هذا الكتاب؛ إن شاء الله. وأما من جهة المظاهر الاسمية، والتي عرفنا أنها تنقسم إلى مظاهر جمالية، وأخرى جلالية في المقابل؛ فلا بد من نشوب الحرب بينها، لكون كل فريق يرى مغالبة الفريق الآخر، بسبب اختلاف الحقائق. هذا هو الأصل في الأسماء، من هذا الوجه؛ وأما الأسماء في نفسها فليست مكلفة، حتى يُنظر إليها على أنها محقة أو مبطلة؛ لأنها داخلة تحت قول الله تعالى عن نفسه: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23]. وهذا يعني أن الأسماء (من أي صنف كانت) تفعل ما تعطيه حقيقتها، لا ما يدعو إليه الشرع؛ بخلاف مظاهرها التي هي مكلفة، ومسؤولة عما تفعل. وهو تتمة قوله تعالى: {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]. وهذا يعني أن التفريق بين الحق والباطل، لا يكون من مستوى الأسماء، وبالنظر إليها؛ وإنما يكون من مستوى المظاهر وحدها، عند التمييز بين أهل الحق وأهل الباطل. فإن كانوا في الجانب الذي يتبع الأوامر الإلهية، فإنهم يكونون على الحق، ويكون مقاتلوهم المخالفون لهم على الباطل. ومن هنا تظهر قيمة الشريعة بوصفها ميزانا، يُحتاج إليه في التمييز بين الحق والباطل من جهة، وفي التمييز بين درجات الحق ودرجات الباطل من جهة أخرى. وأما كيف تُعرف الشريعة الحق، ونحن نجد عدة أفرقاء من أهلها؛ كلٌّ يزعم أنه عليها وحده؛ إلى الحد الذي قد يجعل الاقتتال ينشب بين المسلمين أنفسهم في أحيان كثيرة؛ فهذا هو ما نبغي تبيينه بجميع تفاصيله، ومن جميع وجوهه، من كتابتنا لهذا الكتاب، بجميع أجزائه. وذلك لأن كل زعم، لا بد له من برهان؛ ونحن نبيّن البراهين على صدق دعوى المسلمين بتجرد تام، وبما نراه برهانا صحيحا في نفسه؛ لا بكل ما يُمكن أن يتخذه المرء برهانا، في أثناء الانتصار لما هو عليه بالطرق العقلية التي يُحسنها، وبالقدر الذي يكون عليه إحسانه ذاك. فليمهل القارئ نفسه، حتى يفهم عنا، وليكتف بما نتناوله في كل مرة؛ من دون أن يتعجل الحكم على المسائل من جميع وجوهها، وكأنه قد أحاط بها. فإن كثيرا من الجهل، يكون سببه توهم الإحاطة هذا!... وبحسب الإذن الإلهي في القتال، وعملا به، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، سيراقب الطريق بين المدينة ومكة (موطن قريش)، لينال منهم مقابل ما أخذوا من المهاجرين؛ وليصرف نظرهم عن مهاجمة المدينة، ما داموا على طغيانهم وظلمهم؛ وما دام طغيانهم يدفعهم إلى التفكير في ملاحقة من فروا منهم احتقارا لهم واستضعافا؛ في جهل تام لحقوق الناس في اختيار ما يريدون أن يعيشوا عليه من مبادئ وعقائد. وحتى يُدرك الناس أمر القتال في الشريعة الإسلامية، فإننا نقول: لو فرضنا أن الناس كانوا يُعطون غيرهم حق اختيار طريقهم، من غير أن يروا في ذلك طعنا فيما هم عليه، أو تنقيصا من قدره؛ فإن الإسلام عندئذ لن يكون به من داع إلى تشريع القتال. وأما انتشاره (أي الإسلام) فإنه سيكون منوطا بمدى إقبال الناس عليه وحده، مع اعتماد الصدق في ذلك كله، بسبب ارتفاع الخوف. فإن اختارته الأكثرية أو بقيت عليه الأقلية، فالأمر سيان عند الله وعند المؤمنين من هذا الوجه. ولكن هذا الفرض محال، لأن الأسماء الحاكمة على الجميع، لا بد لها من إعمال حقائقها؛ ومن هنا ينشأ الظلم عند المكلفين. وظلم المكلفين، تناوله التشريع، وحرم منه ما يكون عدوانا على الغير. والعمل بالتحريم من قبل المكلفين، قد ينتهي بمقدار المنافرة والمنابذة، إلى بلوغ المقاتلة عند اشتداد العداء. هذا فحسب!... 6. الغزوات والسرايا قبل بدر: [ولتنفيذ هاتين الخطتين بدأ بالتحركات العسكرية فعلاً بعد نزول الإذن بالقتال وكانت أشبه بالدوريات الاستطلاعية، وكان المطلوب منها كما أشرنا: - الاستكشاف والتعرف على الطرق المحيطة بالمدينة، والمسالك المؤدية إلى مكة. - عقد المعاهدات مع القبائل التي مساكنها على هذه الطرق. - إشعار مشركي يثرب ويهودها وأعراب البادية الضاربين حولها بأن المسلمين أقوياء وأنهم تخلصوا من ضعفهم القديم. - إنذار قريش عُقبَى طيشها، حتى تفيق عن غَيها الذي لا يزال يتوغل في أعماقها، وعلّها تشعر بتفاقم الخطر على اقتصادها وأسباب معايشها فتجنح إلى السلم، وتمتنع عن إرادة قتال المسلمين في عقر دارهم، وعن الصد عن سبيل الله، وعن تعذيب المستضعفين من المؤمنين في مكة، حتى يصير المسلمون أحراراً في إبلاغ رسالة الله في ربوع الجزيرة. وفيما يلي أحوال هذه السرايا بالإيجاز: 1- سرية سيف البحر: في رمضان سنة 1 هـ، الموافق مارس سنة 623م، أمّر رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه السرية حمزة بن عبد المطلب، وبعثه في ثلاثين رجلاً من المهاجرين يعترضون عيراً لقريش جاءت من الشام، وفيها أبو جهل بن هشام في ثلاثمائة رجل؛ فبلغوا سيف البحر من ناحية العيص، فالتقوا واصطفوا للقتال، فمشى مجديّ بن عمرو الجني -وكان حليفاً للفريقين جميعاً- بين هؤلاء وهؤلاء، حتى حجز بينهم فلم يقتتلوا. وكان لواء حمزة أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وكان أبيض، وحمله أبو مرثد كَناز بن حصين الغَنَوي. 2- سرية رابغ: في شوال سنة 1 من الهجرة، الموافق أبريل سنة 632م، بعث لها رسول الله صلى الله عليه وسلم عبيدة بن الحارث بن المطلب في ستين رجلاً من المهاجرين، فلقي أبا سفيان -وهو في مائتين- على بطن رابغ، وقد ترامى الفريقان بالنبل، ولم يقع قتال. وفي هذه السرية انضم رجلان من جيش مكة إلى المسلمين، وهما المقداد بن عمرو البهراني، وعتبه بن غزوان المارني؛ وكانا مسلميْن خرجا مع الكفار ليكون ذلك وسيلة للوصول إلى المسلمين. وكان لواء عبيدة أبيض، وحامله مسطح بن أثاثة بن المطلب بن عبد مناف. 3- سرية الخرار: في ذي العقدة سنة 1 هـ، الموافق مايو سنة 623م، بعث لها رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص في عشرين رجلا يعترضون عيراً لقريش، وعهد إليه ألا يجاوز الخرار؛ فخرجوا مشاة يكمنون بالنهار، ويسيرون بالليل، حتى بلغوا الخرار صبيحة خمس، فوجدوا العير قد مرت بالأمس. كان لواء سعد رضي الله عنه أبيض، وحمله المقداد بن عمرو. 4- غزوة الأبواء أو ودان: في صفر سنة 2 هـ، الموافق أغسطس سنة 623م، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بنفسه في سبعين رجلاً من المهاجرين خاصة، يعترض عيراً لقريش، حتى بلغ ودان، فلم يلق كيداً، واستخلف فيها على المدينة سعد بن عبادة رضي الله عنه. وفي هذه الغزوة عقد معاهدة حلف مع عمرو بن مخشي الضمري؛ وكان سيد بني ضمرة في زمانه. وهذا نص المعاهدة: [[بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. هَذَا كِتَابُ رَسُولِ اللهِ لِبَنِي ضَمْرَةَ: فَإِنَّهُمْ آمِنُونَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّ لَهُمُ النَّصْرَ عَلَى مَنْ رَامَهُمْ (أي بحرب)، إِلَّا أَنْ يُحَارِبُوا فِي دِينِ اللهِ، مَا بَلَّ بَحْرٌ صُوفَةً (يعني أن المعاهدة دائمة)؛ وَإِنَّ النَّبِيَّ إِذَا دَعَاهُمْ لِنَصْرِهِ أَجَابُوهُ؛ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ؛ وَلَهُمُ النَّصْرُ عَلَى مَنْ بَرَّ مِنْهُمْ وَاتَّقَى.]] [11]. وهذه أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة، وكان اللواء أبيض، وحامله حمزة بن عبد المطلب. [نقول: يتضح من معاهدة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لبني ضمرة، أنه لم يكن يبغي سوى منع المشركين من الوصول إلى المسلمين بالأذى. ويتضح جليّا أن المعاهَدين، لهم جميع الحقوق، من باب المساواة لهم مع المـُعاهِدين (المسلمين). وهذا كله يدل على أن الإسلام لا يُمكن أن يشرع للناس ما فيه ظلم لهم، وإن كانوا من الأعداء، بله أن يكونوا من المعاهَدين. وهذا الأصل العام، يدحض كل افتراءات المفترين، الذين يريدون إلصاق الدموية بالإسلام تعسُّفا. وستتأكد مبادئ العدل والإنصاف مع المدة لدى القارئ، وكلما مررنا بحادث يدعونا إلى تفصيل القول فيه.]. 5- غزوة بواط: في شهر ربيع الأول سنة 2 هـ الموافق سبتمبر سنة 623م، خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائتين من أصحابه، يعترض عيراً لقريش فيها أمية بن خلف الجمحي ومائة رجل من قريش، وألفان وخمسمئة بعير، فبلغ بواطا من ناحية رضوى ولم يلق كيدا. واستخلف في هذه الغزوة على المدينة سعد بن معاذ، واللواء كان أبيض، وحامله سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. 6- غزوة سفوان: في شهر ربيع الأول سنة 2 هـ، الموافق سبتمبر سنة 623م، أغار كرز بن جابر الفهري في قوات خفيفة من المشركين على مراعي المدينة، ونهب بعض المواشي فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلاً من أصحابه لمطاردته، حتى بلغ وادياً يقال له: سفوان من ناحية بدر، ولكنه لم يدرك كرزاً وأصحابه، فرجع من دون حرب، وهذه الغزوة تسمى بغزوة بدر الأولى. واستخلف في هذه الغزوة على المدينة زيد بن حارثة، وكان اللواء أبيض، وحامله علي بن أبي طالب. 7- غزوة ذي العشيرة: في جمادى الأولى، وجمادى الآخرة سنة 2 هـ، الموافق نوفمبر وديسمبر سنة 623هـ، خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خمسين ومائة ويقال: في مائتين، من المهاجرين، ولم يُكره أحداً على الخروج، وخرجوا على ثلاثين بعيراً يعتقبونها، يعترضون عيراً لقريش، ذاهبة إلى الشام؛ وقد جاء الخبر بفصولها من مكة، فيها أموال لقريش فبلغ ذا العشيرة، فوجد العير قد فاتته بأيام، وهذه هي العير التي خرج في طلبها حين رجعت من الشام، فصارت سبباً لغزوة بدر الكبرى. وكان خروجه صلى الله عليه وسلم في أواخر جمادى الأولى، ورجوعه في أوائل جمادى الآخرة، على ما قاله ابن إسحاق، ولعل هذا هو سبب اختلاف أهل السير في تعيين شهر هذه الغزوة. وفي هذه الغزوة عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم معاهدة عدم اعتداء مع بني مدلج وحلفائهم من بني ضمرة. واستخلف على المدينة في هذه الغزوة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي؛ وكان اللواء أبيض، وحامله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه. 8- سرية نخلة: في رجب سنة 2 هـ، الموافق يناير سنة 624م، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش الأسدي، وكتب له كتاباً، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين. فسار عبد الله ثم قرأ الكتاب بعد يومين، فإذا فيه: "إذا نظرت في كتابي هذا، فامض حتى تنزل نخلة بين مكلة والطائف، فترصد بها عير قريش وتعلم لنا مِن أخبارهم". فقال: سمعاً وطاعة، وأخبر أصحابه بذلك، وأنه لا يستكرههم؛ فمن أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع، وأما أنا فناهض، فنهضوا كلهم، غير أنه لما كان في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يعتقبانه، فتخلفا في طلبه. وسار عبد الله بن جحش حتى نزل بنخلة، فمرت عير لقريش تحمل زبيباً وأدماً وتجارة، وفيها عمرو بن الحضرمي، وعثمان ونوفل ابنا عبد الله بن المغيرة، والحكم ابن كيسان مولى بني المغيرة. فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، فإن قاتلناهم انتهكنا الشهر الحرام، وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم؛ ثم اجتمعوا على اللقاء، فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان والحكم وأفلت نوفل، ثم قدموا بالعير والأسيرين إلى المدينة، وقد عزلوا من ذلك الخمس، وهو أول خمس كان في الإسلام، وأول قتيل في الإسلام، وأول أسيرين في الإسلام. وأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلوه، وقال: «مَا أَمَرْتُكُمْ بِقِتًالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ!»[12] وتوقف عن التصرف في العير والأسيرين. ووجد المشركون فيما حدث فرصة لاتهام المسلمين بأنهم قد أحلوا ما حرم الله، وكثر في ذلك القيل والقال، حتى نزل الوحي حاسماً هذه الأقاويل وأن ما عليه المشركون أكبر وأعظم مما ارتكبه المسلمون: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217]. فقد صرح هذا الوحي بأن الضجة التي افتعلها المشركون لإثارة الريبة في سيرة المقاتلين المسلمين لا مساغ لها، فإن الحرمات المقدسة قد انتهكت كلها في محاربة الإسلام، واضطهاد أهله. ألم يكن المسلمون مقيمين بالبلد الحرام حين تقرر سلب أموالهم وقتل نبيهم؟ فما الذي أعاد لهذه الحرمات قداستها فجأة، فأصبح انتهاكها معرة وشناعة؟ لا جرم أن الدعاية التي أخذ ينشرها المشركون دعاية تبتني على وقاحة ودعارة. وبعد ذلك أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم سراح الأسيرين، وأدّى دية المقتول إلى أوليائه. تلكم السرايا والغزوات قبل بدر، لم يجر في واحدة منها سلب الأموال وقتل الرجال، إلا بعد ما ارتكبه المشركون في قيادة كرز بن جابر الفهري؛ فالبداية إنما هي من المشركين مع ما كانوا قد أتوه قبل ذلك من الأفاعيل. وبعد وقوع ما وقع في سرية عبد الله بن جحش تحقق خوف المشركين وتجسد أمامهم الخطر الحقيقي، ووقعوا فيما كانوا يخشون الوقوع فيه، وعلموا أن المدينة في غاية من التيقظ والتربص، تترقب كل حركة من حركاتهم التجارية، وأن المسلمين يستطيعون أن يزحفوا إلى ثلاثمائة ميل تقريباً، ثم يقتلوا ويأسروا رجالهم، ويأخذوا أموالهم، ويرجعوا سالمين غانمين. وشعر هؤلاء المشركون بأن تجارتهم إلى الشام أمام خطر دائم؛ لكنهم بدل أن يفيقوا عن غيهم، ويأخذوا طريق الصلاح والموادعة -كما فعلت جهينة وبنو ضمرة- ازدادوا حقداً وغيظاً، وصمم صناديدهم وكبراؤهم على ما كانوا يوعدون ويهددون به من قبل: من إبادة المسلمين في عقر دارهم، وهذا هو الطيش الذي جاء بهم إلى بدر. أما المسلمون فقد فرض الله عليهم القتال بعد وقعة سرية عبد الله بن جحش في شهر شعبان سنة 2 هـ، وأنزل في ذلك آيات بينات: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:190: 193]. ثم لم يلبث أن أنزل الله تعالى عليهم آيات من نوع آخر، يعلمهم فيها طريقة القتال، ويحثهم عليه، ويبين لهم بعض أحكامه: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [محمد: 4: 7]. ثم ذم الله الذين طفقت أفئدتهم ترجف وتخفق حين سمعوا الأمر بالقتال: {فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [محمد: 20]. وإيجاب القتال والحض عليه، والأمر بالاستعداد له هو عين ما كانت تقتضيه الأحوال، ولو كان هناك قائد يسبُر أغوار الظروف لأمر جنده بالاستعداد لجميع الطوارئ، فكيف بالرب العليم المتعال؛ فالظروف كانت تقتضي عراكاً دامياً بين الحق والباطل، وكانت وقعة سرية عبد الله بن جحش ضربة قاسية على غيرة المشركين وحميتهم، آلمتهم وتركتهم يتقلبون على مثل الجمر. وآيات الأمر بالقتال تدل بفحواها على قرب العراك الدامي، وأن النصر والغلبة فيه للمسلمين نهائيا، انظر كيف يأمر الله المسلمين بإخراج المشركين من حيث أخرجوهم، وكيف يعلّمهم أحكام الجند المتغلب في الأسارى والإثخان في الأرض حتى تضع الحرب أوزارها. هذه كلها إشارة إلى غلبة المسلمين نهائياً، ولكن ترك كل ذلك مستوراً حتى يأتي كل رجل بما فيه من التحمس في سبيل الله.][13]. ولقد ظهر في الأزمنة المتأخرة أقوام جاهلون، يزعمون أن الله لا يأمر بقتال؛ وأن الدين ينبغي أن يكون رحمة كله!... ولم يعلموا أن تشريع القتال رحمة. إذا لولا القتال، لما ارعوى الأنذال عن هتك الحرمات، وظلم المستضعفين، والصد عن سبيل الدين!... فهل يُسمح للظالم بالاستمرار في ظلمه، ثم يُقال بعد ذلك إن الدين رحمة؟... ثم هو رحمة لمن؟... للظالم أم للمظلوم؟!... وبما أنه سبق أن تكلمنا بأن الناس هم مظاهر لأسماء الجلال ولأسماء الجمال، وعرفنا أن الاختصام بين الفريقين واقع؛ فلم يبق إلا نزول التشريع الإلهي في المسألة، ليكون ميزانا حاكما على ما سيكون من اشتجار بينهما. فمن وافق التشريع من المسلمين عند مقاتلته للكافرين، فهو في رضى الله؛ وأما من جاوز الحد واعتدى، فإن الله لا يحب المعتدين. يقول الله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]. ونعني من هذا، أن القتال من المسلمين، لم يكن باتباع الأهواء، ومع عدم معرفة الحقوق لأصحابها؛ وإنما كان في أحايين كثيرة مخالفا للأهواء، ومشدِّدا على إنصاف الأعداء. وهذا الصنف من القتال، يدخل ضمن عبادة المكلَّفين؛ ولا يُمكن أن يُقارَن بغيره من صنوف القتال، التي تكون مؤسسة على الجهل وإطاعة الهوى!... ولقد جهل المسلمون أنفسهم، في زماننا، كثيرا من أحكام الإسلام في القتال، فخرجوا إلى ما صار يُسمّى إعلاميا بـ "الإرهاب". وهذا يعني، أن فقه القتال ينبغي أن يُجدَّد، ضمن أبواب الفقه الأخرى؛ حتى لا يعود المسلمون إلى الجاهلية في أمورهم، فيخسروا ثواب الله ونُصرته. 7. تحويل القبلة: [وفي هذه الأيام -في شعبان سنة 2 هـ / فبراير 624م- أمر الله تعالى بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام؛ وأفاد ذلك أن الضعفاء والمنافقين من اليهود الذين كانوا قد دخلوا صفوف المسلمين لإثارة البلبلة، انكشفوا عن المسلمين ورجعوا إلى ما كانوا عليه. وهكذا تطهرت صفوف المسلمين عن كثير من أهل الغدر والخيانة. ولعل في تحويل القبلة، إشارة لطيفة إلى بداية دور جديد لا ينتهي إلا بعد احتلال المسلمين هذه القبلة. أوَ ليس من العجب أن تكون قبلة قوم بيد أعدائهم! وإن كانت بأيديهم فعلا، فلابد من تخليصها يوما ما، إن كانوا على الحق. وبهذه الأوامر والإشارات زاد نشاط المسلمين، واشتد شوقهم إلى الجهاد في سبيل الله، ولقاء العدو في معركة فاصلة لإعلاء كلمة الله.][14]. إن مسألة تحويل القبلة، قد ذكرها الله تعالى في قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ . وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 144، 145]. وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم -من جهة باطنه- كان يتحرى القبلة التي تناسب مقامه؛ وهو ما عبر الله عنه بتقليب الوجه. وعندما أمره الله سبحانه بتولية وجهه نحو بيت الله الحرام، فإن ذلك كان إجابة لحاله عليه السلام. وهنا ينبغي أن نبيّن قليلا الفرق بين القبلتيْن من الناحية المعرفية، فنقول: - إن بيت المقدس: فيه إشارة إلى القلب من العبد، والذي ينبغي أن يكون مسكنا للرب. ومقام القلب، يناسبه من الدين مرتبة الإيمان. وأهل الكتاب لم يكونوا يُجاوزون هذه المرتبة، مع التأكيد على أن اليهود كانوا في عمومهم -في زمنهم التشريعي- من أهل الإسلام؛ ونعني بالإسلام هنا "إجمال الإيمان"؛ ولكنه على كل حال إيمان. ولقد بيّنّا سابقا، في عدة مناسبات، كيف أن الدين لدى الكتابيّين -وعلى رأسهم النصارى- لم يكن يُجاوز مرتبة الإيمان؛ فناسب تديُّنهم أن يتوجهوا إلى بيت المقدس، على الخلاف المعلوم، الذي بين اليهود والنصارى في ذلك. ونعني أن اليهود قد حافظوا على التوجه إلى بيت المقدس، وأما النصارى فكما ضلوا في العقائد، ضلوا في شأن القبلة، فصاروا يتوجهون نحو جهة الشرق حيث كانوا. - وأما الدين باعتبار الإكمال المحمدي، فقد تجاوز مرتبة القلب، وبالتالي فإن التوجه إلى بيت المقدس فيه، أصبح غير مناسب من جهة المرتبة. وبما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هو العبد الذاتي، فإن دلالته كانت ذاتية. ولا يناسب هذه المرتبة، إلا التوجه إلى الكعبة، التي لها هذه المكانة. والفرق بين بيت المقدس من هذا الوجه، والكعبة، هو أن بيت المقدس بيت الرب، وأن الكعبة بيت الله. وقد تكلمنا سابقا بأن الاسم "الله" له اعتباران: الأول هو العلمية على الذات، والثاني العلمية على مرتبة الألوهية. والدلالتان مناسبتان للدعوة المحمدية، من كونها تدعو إلى الله، لا إلى الرب وحده؛ من جهة التعريف؛ وتفتح بعد ذلك بابا لخواص هذه الأمة إلى معرفة الذات، التي لم يكن للسابقين من بني آدم باب إليها. وهذا هو السبب الذي جعل من أمتنا، من ورثتها، رجالا لا هم بالأنبياء ولا بالشهداء، يغبطهم الأنبياء على ما آتاهم الله من العلم به. فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى! قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُخْبِرُنَا مَنْ هُمْ؟! قَالَ: هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ، وَلَا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا! فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ، وَإِنَّهُمْ عَلَى نُورٍ، لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ! وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}»[15]. ومعنى كون هؤلاء الخواص من العباد، قد تحابوا بروح الله، يُشير إلى مرتبتهم الذاتية. وقد ورد التعبير عن الذاتية بالروح في القرآن في مواضع منها ما يخص عيسى عليه السلام، عندما وصفه ربه بقوله: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171]، ووصف سبحانه الروح المنفوخ في آدم فقال: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة: 9]؛ كل هذا ليدل على مرتبة الذات، لكن من الحقيقة المحمدية التي هي التعيُّن الأول لها، والذي سيكون مـُتعلَّق جميع الخلق ما عدا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، الذي متعلَّقه الأحدية وحده من دون المخلوقين. ونعني من هذا، أن كل عباد الله الذاتيين من الأنبياء والأولياء، ليس لهم من النسبة الذاتية، إلا ما هو من الحقيقة المحمدية؛ لأنه لا يُتصور علم بالذات خارج الحقيقة المحمدية حقيقة، إلا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، من جهة برزخيته العُظمى. - ولقد كان إبراهيم عليه السلام، أول من أسس للدعوة المحمدية، ببنائه للبيت الحرام. يقول الله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127]. وبهذا، قيل إن إبراهيم كان أول من أشار إلى الذات. ومن هنا أيضا، نفهم دعوته عليه السلام التي أخبر الله عنها بقوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129]؛ يقصد عليه السلام: رسولا ذاتيا؛ لأن هذه المكانة غاية كل من علم بوجودها. وإبراهيم قد أعلمه الله بوجودها، فعلم أن لها نبيا مخصوصا، هو قطب النبوة كلها، وهو من تدور عليه أحكامها. وهكذا فإن مكانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنظر إلى غيره من الأنبياء، هي كمكانة النبي منهم عليهم السلام، بالنظر إلى أممهم الخاصة. وإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عند تحويله القبلة عن أمر ربه، لم يكن في الحقيقة إلا رافعا للدلالة الدينية من شريعته، وفاتحا لمغاليق المعارف التي لم يؤذن لغيره بفتحها. ولقد أحسن القطب سيدي محمد البكري الصديقي رضي الله عنه، عند إخراجه لصلاة "الفاتح" إلى الناس، وفيها ذِكر المعاني التي نمر بها هنا. ولفظها: "اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق، والخـاتم لما سبق، ناصـر الحق بالحق، الهـادي إلى صراطك المستقيم، وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم.". وهذه الصلاة قد دل عليها سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه واعتمدها معراجا لأصحابه. ونعم ما فعل!... وكل ما ذكرناه هنا، يدل على أن الحكمة، كانت تقتضي أن يُغيّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم القبلة. وأما الحكمة من صلاته -عليه السلام- مدةً قبل ذلك، إلى بيت المقدس، فهي لربط أعلى الدين بأوله. فهو صلى الله عليه وآله وسلم مكمل لما بدأه الأنبياء قبله، وليس منفردا عنهم في الحق الذي أسسوه. وهذا يعني أنه عليه السلام من جهةٍ، أصل لهم كما بيّنّا؛ ومن جهةٍ وارث لهم ومكمل لما بدأوه. وهذان هما حكما الظاهر والباطن منه عليه السلام، أو حكما الحقيقة والشريعة. والقرآن قد دل على المعنييْن، وإن كان قليل من الناس من يعرف ذلك. واقتصار علماء الدين على موافقة قول الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، وحده، لا يوفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم حقه، من جهة الظاهر ومن جهة الباطن؛ بل سيكون سببا عند بعض الغافلين لتوهم المساواة التامة، بينه وبين غيره من الأنبياء؛ وهذا جهل لا مرية فيه. ورغم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قد نهى أمته عن أن يفضلوه على غيره من الأنبياء، تفضيلا لا عن علم؛ إلا أنه عليه السلام لم ينه عن طلب معرفة مكانته الفريدة في مقابل ذلك، كما يتوهم الجاهلون؛ لسبب وحيد: وهو أن العلم به يُفضي إلى العلم بالله، وكمال فيه؛ وأن الجهل به، يمنع من العلم بالله، ونقص فيه (أي في العلم). والعلم بالله -من دون شك- هو غاية العلم كله، وهو الغاية من الدين، لو كان الناس يعقلون!... وقد جاء ذكر تحويل القبلة في الحديث أيضا، فقد روى البراء بن عازب رضي الله عنه: "أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أَجْدَادِهِ، أَوْ قَالَ: أَخْوَالِهِ مِنْ الْأَنْصَارِ؛ وَأَنَّهُ صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا. وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ. فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ وَهُمْ رَاكِعُونَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ، لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وِسَلَّمَ قِبَلَ مَكَّةَ! فَدَارُوا كَمَا هُمْ، قِبَلَ الْبَيْتِ. وَكَانَتْ الْيَهُودُ قَدْ أَعْجَبَهُمْ إِذْ كَانَ يُصَلِّي قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ؛ فَلَمَّا وَلَّى وَجْهَهُ قِبَلَ الْبَيْتِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ."[16]. وإنكار اليهود لتحويل القبلة، هو من إنكار المخالفة، الذي يكون عليه من لا علم لهم بالحقائق. وهذا الذي أنكروه، هو عينه ما سيكون به امتياز الإسلام المحمدي من جهة المرتبة، لو كانوا يعلمون. ومع أن اليهود لا علم لهم بما نقول، إلا أنهم استشعروا خطورة الأمر، من جهة موافقة إشارة إبراهيم عليه السلام، من كونه الأصل الذي ينتسبون إليه؛ وكأنه قد جاء من يُنازعهم خصوصية النسبة. ولكنهم على عادتهم، سيتكتمون على الأمر، لئلا يتنبه الصحابة إليه فيزدادوا تمسكا بدينهم؛ ولئلا يتنبه العامة منهم فيتبعوا النبي الجديد... (يُتبع...) [1] . أخرجه أبو داود وغيره منقطعا، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن رجل من الصحابة. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.