اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2021/01/11 الحوار الغائب (ج3) -16- المرحلة المدنية (2) (تابع...) ج. وثيقة المدينة: لم يكتف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتأسيس مجتمع الإيمان وحده، كما مرّ بنا، ولكنه سيعمل على إقامة مجتمع عام في المدينة، تكون العلاقات فيما بين مختلف مكوناته مضبوطة بما يحفظ الخير العام؛ من دون إكراه لغير المسلمين على الدخول في الإسلام، ومن دون السماح لهم بإكراه المسلمين على العودة في الكفر، عن طريق التضييق عليهم أو عن طريق العنف المباشر. وعلى هذا، فإن هذا المجتمع العام، سيكون له مركز، هو الربانية النبوية؛ وستكون له دائرة أولى، هي دائرة المؤمنين؛ وتكون له دائرة ثانية، هي دائرة غير المؤمنين. وهذا يعني أن الربانية، ليست خيرا مقصورا على أهل الإيمان وحدهم، كما يتوهم ذلك كثير من أهل الدين أنفسهم؛ ولكن خيرها يعم في الدنيا جميع صنوف البشر؛ بل ويتعداهم إلى جميع صنوف المخلوقين. ولا يبلغ مجتمع من المجتمعات، هذا الفضل العميم، بهذه السعة والشمول، إلا مع الربانية! فليُعتبر هذا!... وسنذكر هنا بنود هذه الوثيقة النبوية المدنية، ونعلّق عليها بما يظهر لنا، ملتزمين في ذلك الاختصار من غير إخلال، بإذن الله: [بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن اتّبعهم فلحق بهم وجاهد معهم.] - إنهم أمة واحدة من دون الناس: وهذا يعني أن الأمة في دائرتها الخاصة، هي القبائل والجماعات والأفراد، الذين التحقوا بالمدينة المنورة التحاق هجرة، سواء أكانت الهجرة المعنوية مرفقة بهجرة بدنية، كما هو شأن مهاجري قريش؛ أم اقتصرت الهجرة على الشق المعنوي وحده، بسبب اتحاد الدار بين المـُهاجِر (المؤمن) والمـُهاجَر إليه (النبي صلى الله عليه وآله وسلم)؛ كما هو شأن الأنصار، وهذا يُعيدنا إلى تبيّن مركزية الهجرة في الدين، كما بيّنّا في فصل سابق. ولسنا نعني بهذا، إلا أن الأمة كلها ينبغي أن تتحقق بمعنى الهجرة ولو في الشق الباطني منه، لتكون أمة بالمعنى الشرعي التام. ويظهر لنا جليا من هذا الأصل، السبب المباشر لافتراق الأمة في الأزمنة المتأخرة، كما سبق أن بيّنّا عدة مرات أيضا. وأما الدائرة العامة للأمة، فهي الأمم الأخرى، بالإضافة إليها؛ لكن بشرط هيمنة الربانية في الحكم؛ وحتى لا يقول قائل، إن في هذا احتكارا لمنصب الرئاسة للأمة (العصبية الدينية) بالمعنى الخاص، والذي قد يوهم بالخروج عن معنى العدل؛ خصوصا إن وجدنا الأمم في زماننا تعتمد الانتخابات العامة لتعيين من يترأسها، وتزعم أن ذلك أقصى ما يمكن منه (العدل). ويظهر العمل بهذا النظام، في عين العقل المجرد (عن الدين) أكمل في العدل من غيره، لأنه لا يعتبر إلا ظاهر الصورة وحده؛ لكنه من جهة الحقيقة مخل بالعدل إخلالا لا شبهة فيه. وذلك لأن الرئاسة مكانة يجهل مُعظم الناس مكانتها من جهة الغيب؛ وهي (الرئاسة) لمكانتها، حاصلة للخليفة الغيبي من هذه الأمة، وإن جُهل ذلك للمؤمنين وللكافرين جميعا. والكافرون أو الخوارج من المسلمين، عندما يريدون الخروج عن ربانيّ الأمة (إن كان ظاهرا بالخلافة)، فإنهم لن يتمكنوا من ذلك إلا من جهة الظاهر، إن أذن الله بذلك. أما من جهة الغيب، فهم يكونون تحت تصرفه، يحكم فيهم بما يشاء. وهذا من أسرار الله في خلقه، طول الزمان، وعلى اختلاف الأحوال والمظاهر... ونعني من هذا كله، أن الأمة في العالم أمة واحدة، تُشبه أمة المدينة العامة؛ وإن اختلفت من جهة الظاهر، وظهرت في صورة دول يستقل بعضها عن بعض. وهذا -كما قلنا- لأن الحكم فيها دائما للاسم "الله"، ووحدتها التي نتكلم عنها هنا، هي باعتبار عودتها في كل شؤونها إليه وحده. والجهل بهذا الأصل، الذي يكون عليه الكافرون، ويكون عليه جلّ المؤمنين، لا يُغيّر من حقيقته شيئا... ومن تأمل، فإنه سيجد الله مدبرا لملكه، من غير أن ينتظر -سبحانه وتعالى- من عباده أن يعلموا ذلك أو يُقروا به؛ لأنه سبحانه، كما هو غني عنهم في الإيجاد، فهو غني عنهم في التدبير؛ وإن كانوا جزءا من ذلك التدبير هم أنفسهم!... - المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين: والربعة، هي الجماعة. وهذا يعني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لم يعمل على نقض الجماعات، بالمعنى الذي يرتضيه الشرع، سواء أكانت الجماعة قبيلة أم قاطنة لبلد مخصوص أو منسوبة إليه؛ كما هو شأن المهاجرين هنا، في نسبتهم إلى مكة التي نزحوا عنها؛ أم غير ذلك... وهذا يُخالف مخالفة صريحة مبدأ المواطنة الذي تقوم عليه الأنظمة السياسية المعاصرة. والسبب في الإبقاء على معنى الجماعة الذي لا يُعارض معنى الأمة، هو أن هذه الجماعات لها وظيفة الوسيط، بين الفرد والأمة. فلهذا أناط بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عقل الدم فيما بين أفرادها، والذي هو التعاون على دفع الدية إن وقع قتل؛ وأناط بها صلى الله عليه وآله وسلم أيضا التعاون على جمع ثمن فداء العاني، والذي هو الأسير إن كان منهم. ونرى هنا أن الرعاية الاجتماعية، منوطة بالجماعة التي ينتمي إليها الفرد، لا بالدولة في المرتبة الأولى؛ كما هي الحال الآن، وكما هو في القوانين الحديثة. ومن ينظر إلى أثر ترك الفرد (المواطن) في مواجهة الدولة وحده، ومن دون وساطة جماعته، يبِنْ له مكمن الخلل في التشريعات الوضعية، عند هضم الدولة لحقوق الأفراد، من غير تمكين لهم -بالوسائل الناجعة- من استردادها؛ بل ومن دون علم منهم بما آل إليه أمرهم في أحيان كثيرة. أما الجماعة التي ينتمي إليها الفرد، فإنها لا تزهد فيه، وترعى مصلحته من كونها جزءا لا يتجزأ من مصلحتها هي ذاتها. وكما لا يخفى هنا، فإن للعصبية وجها محمودا، به تكون الرابطة بين الفرد والجماعة، في خدمة الفرد وخدمة الأمة. وقد غلط قوم، عندما عدّوا العصبية شرا محضا، فراموا التخلُّص منها؛ ولم يعلموا أنهم بذلك، إنما قد أضعفوا الفرد، وجردوه من أدنى حماية لديه. وقد نبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ضرورة التفريق بين الحد المحمود (الضروري) من العصبية، والحد المذموم الضار؛ ولسنا نعني بالضرر هنا إلا الحجاب عن الحق، الذي هو أصل كل ضرر. وعندما سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن العصبية أجاب: «أَنْ تُعِينَ قَوْمَكَ عَلَى الظُّلْمِ.»[1]؛ وهذا يعني أن العصبية المذمومة، هي ما اعتُبر قبل الحق؛ وأما أن يجمع العبد بين التعصُّب لقبيلته، وعدم الخروج عن أحكام الشرع، بنصرة ظالم على مظلوم، أو بهضم حق ثابت؛ فهو من العمل بأوسط الشرع. وكيف يتوهم الناس عدم اعتبار القبائل والجماعات، والله سبحانه ما دل إلا عليها في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]. والمعنى هو أن العبد له اعتبارات عند الله: بما هو فرد، وبما هو منتمٍ إلى القبيلة، وبما هو منتمٍ إلى الأمة. وعلى العاقل أن يعطي كل اعتبار من هذه الاعتبارات حقه، إن كان يريد أن يكون من أهل الحق. ونحن نرى كيف أن الأمة قد ضعُفت، عند إضعاف القبائل وتجريدها من وظائفها الأصلية. ويكفي أن ننظر إلى كثرة انتشار الفاحشة في الأمة، لنعلم أنه لولا ضعف الحامية القبلية، ما وقع هذا الانتشار!... وعلى كل حال، فإن كل فكر سياسي الآن، لا يعتبر الأواصر من غير "المواطنة"، لن يكون إلا فكرا مؤسسا لاستبداد حديث، وربما إلى استرقاق حديث. والعبرة هنا بحقائق الأمور، لا بالألفاظ الجوفاء، أو بالشعارات الطنانة!... ولقد اشترط النبي صلى الله عليه وآله وسلم، على الجماعة والفرد ضمن هذا "البند"، أن يكون التكافل والتعاون بالمعروف؛ أي بما يتعارف عليه الناس من كونه خيرا معروفا بينهم، معمولا به؛ وأن يكون ذلك ضمن العدل العام والشامل، بما يوافق التشريع الرباني، وبما لا يُعارض أحكام العقول السليمة. - وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين: وبنو عوف، قبيلة يهودية استوطنت المدينة؛ فأقرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أعرافهم التي كانوا عليها، من غير إكراه لهم على الدخول في الإسلام، أو حل لجماعتهم. بل إن الأمة قبلت بهم من حيث هم أقلية ضمنها، تستطيع الحفاظ على خصوصياتها، ما دامت لا تناقض ما تقوم عليه الأمة في مجموعها من قوانين؛ وهذا من العدل مع جميع الناس، لا مع المؤمنين وحدهم. وهو يُخالف ما كان عليه اليهود عند تحريف شريعتهم، وفيما أخبر الله عنهم بقوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 75]. وهذا الانحراف قد تسرب في الأزمنة المتأخرة إلى المسلمين أنفسهم، عندما صار الجهلة منهم، يظنون أن أهل الكفر لا حقوق لهم في المجتمع المسلم. وهذا يعني أن المنحرفين من اليهود ومن المسلمين فيما بعد، قد اشتركوا في السبب الداعي إلى هذه المخالفة الشنيعة، ألا وهو القول على الله الكذب. وليس المقصود منه، إلا أن تزعم كل أمة، أنها الأمة الوحيدة المعتبرة عند الله؛ بالمعنى الذي يوقعها في الظلم لغيرها من الأمم والجماعات. وهذا الانحراف مخالف لمبدأ العدل العام في الإسلام، الذي ورد فيه مثل قول الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]، وورد في مخالفته الوعيدُ كما في قوله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 109]، ويقول سبحانه أيضا: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]؛ وقد عرفنا أن الظالم لغيره، مفتر على الله بتحليله لظلمه، إن كان يرى حِلّه؛ وإلا فهو عاص من جملة العاصين. والشرع الإلهي، كما حمى حقوق المسلمين فيما بينهم، فإنه حمى حقوق غيرهم بينهم؛ وإلا فما الفرق بين المجتمع الجاهلي والمجتمع المسلم إذاً؟!... - وبنو الحارث (من الخزرج) على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. - وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. - وبنو جُشَم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. - وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. - وبنو عمرٍو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. - وبنو النَّبِيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. - وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. - وأن المؤمنين لا يتركون مُفْرَحاً بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل: والمـُفرح، هو كثير العيال ثقيل الديْن؛ وهذا يدخل ضمن ما نسميه اليوم "مراعاة الظروف". والمعنى هو أن العطاء في الفداء والعقل، يكون نسبيّا، بحسب حال كل واحد؛ وليس الأمر فيه قانونا جامدا؛ وإن هذا الأمر مما يميّز التشريع الرباني عن غيره. ولا يخفى ما فيه من رعاية للجانب "الاجتماعي" للأفراد، مما يمكن أن يندرج ضمن التضامن والتكافل تحت مبدأ إعطاء الحقوق. ولقد كان المسلمون أَوْلى الناس بالعمل بهذه الأصول، لو أنهم كانوا باقين على الهدي الأوّل؛ ولكننا نلاحظ أن بعض الأنظمة الكافرة قد سبقتهم إلى ما هو من أصولهم اليوم. فلله الأمر من قبل ومن بعد! ولم يُثبت التاريخ القديم، أن أمة من الأمم عاشت فيها الأقليات المخالفة لها آمنة وموفورة الحقوق، كما وقع ذلك تحت حكم الإسلام لليهود والنصارى خصوصا؛ ولكل أهل الملل الأخرى عموما. ولم نر تشريعا، يحفظ حقوق المخالفين كالتشريع الإلهي، الذي جاء فيه على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا.»[2]. وهذا لا يوجد إلا في الإسلام المحمدي، وعند اكتمال التشريع. ومن فقه دينه، فإنه سيعلم أن الظلم بجميع صنوفه محرم فيه... وأن الأخذ على يد الظالم، واجب على كل الأمة، وإن كان الظالم من أشرافها، والمظلوم من الأقليات المخالفة لها؛ لأن الله لا يعتبر في مثل هذه النوازل -في المرتبة الأولى- إلا العبودية العامة المشتركة، بين المسلم وغير المسلم. فهو سبحانه رب المخالف، كما هو رب المسلم؛ وهو الراعي لحقوق جميع عباده، بالنظر إلى جميع الاعتبارات الحاكمة. وإن بعض ما يلحق الأمة الإسلامية من تأديب إلهي، هو من ظلم غير المسلمين بينهم، عندما فسقوا عن الشريعة وحكّموا الأهواء!... - وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه: وهذا حتى يبقى اعتبار العمل بالأصل، سابقا على الفرع؛ لكون المولى ملحقا في الحكم بالمؤمن، وليس منفصلا عنه. ومولاة المولى من دون سيده، هو باعث على الفرقة بين المؤمنين أنفسهم في النهاية، ومهدد للسلم الأهلي. ومن لم يقطع أسباب الفرقة -من قِبله- عن المجتمع، أوشك أن يراه ممزقا!... ونعني هنا أن الفرد مكلف من الله بالحفاظ على وحدة مجتمعه، لا من قِبل الدولة وحدها؛ كما يتوهم الناس اليوم. وعندما راعى الناس أوامر الدولة وحدها، فإنهم تخلوا عن واجباتهم الدينية، وبالتالي كُشف المجتمع وصار عُرضة للنيل منه بمختلف الوسائل، ومن مختلف الأعداء، ومن جميع الجهات. وما دامت القوانين التي تحكم المجتمعات المسلمة، لا تنبثق عن التشريع الإسلامي، ولا تحافظ على روحه في الفروع والجزئيات، فإن الضرر لا بد من وقوعه بقدر ذلك الإخلال. ومن هنا ينبغي القول بأن التشريع القانوني لدى المسلمين، لا يجوز أن يكون بمنأى عن الفقه المعلوم؛ بشرط توافر الأهلية القانونية لدى الفقهاء. ولقد قصّر الجميع في الربط بين المجاليْن، فنتجت عن ذلك التقصير آفات لا يعلم آثارها إلا الله... - وأن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثماً أو عدواناً أو فساداً بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم: وهذا يعني أن قوة الجماعة ينبغي أن تكون ضاربة على يد الفرد الظالم منها، خصوصا إن كان له من القوة ما يُعينه على ظلمه. ولا فرق في هذا، بين أن يكون الظالم من القرابة أو أن يكون من غيرها؛ وهذا يُعبّر عنه في الدساتير العصرية باستواء الناس في نظر القانون. غير أن العمل بهذا المبدأ من مـُنطلق الدين، لا تبلغه جماعة لا تُحكّم الدين، مهما زعمت. وذلك لأن كل جماعة لا تبتغي بأعمالها وجه الله، فإنها لا بد من أن تحتال على القوانين، ومن أن يُفسّرها أقوياؤها على ما هو في مصلحتهم. وكل خروج عن الأصل في هذا المضمار، هو إضعاف للمجتمع، وعمل على تفكيكه وتفريق لكلمته؛ علم ذلك من علمه، وجهله من جهله. ويكفي أن ننظر إلى ما يقترفه أقرباء ذوي النفوذ في مجتمعاتهم، من غير أن ينالهم عقاب، لنعلم أن المجتمعات الإسلامية قد فسقت منذ قرون... - ولا يَقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا يَنصر كافراً على مؤمن: وقد جهل هذا الأصل بعض المتحذلقين من أدعياء الوحدة الإنسانية في الأزمنة المتأخرة، وظنوا أن هذا من المـَيْز الذميم، وهو في الحقيقة من العدل التام. وهذا لأن المؤمن لا يعدله كافر، من جهة قيمته الإنسانية عند الله؛ باعتبار قيمة الإيمان الزائدة فيه على إنسانيته العامة. ومن يقتل مؤمنا بكافر، فإنه ما حقق القصاص الذي يُرجى منه تحقيق العدل؛ لأن القتيل عندئذ غير مساوٍ للقاتل في القيمة. وهذا الذي نقوله، ليس استهانة بالكفار، واستباحة لنفوسهم، عند أمن المؤمنين على أنفسهم من الموت قصاصا، كما يُبادر إلى فهم هذا سيئو النية وخبيثو الطوية؛ ولكنه اعتبار -بعد وقوع الأمر من جهة القدر- لجميع جوانب المسألة. وهذا الذي نقوله هنا، لا يُناقض الوعيد في الآخرة على قتل الذميّ، كما بيّنّا آنفا؛ لأن التفريق في العقوبات بين ما هو دنيوي وما هو أخروي يستند إلى الظاهر في الدنيا، ويعود إلى علم الله في عباده وخبرته بهم، في الشق المتعلق بالآخرة؛ حتى لا يختل ميزان العدل المنصوب في الدنيا والآخرة من جهة المجموع. ونعني من هذا، أن العدل التام، لا يتحقق إلا في الآخرة، بعد أن يقتص الله لمن ظُلم في الدنيا أو يقتص ممن أُعطي حقا ليس من حقوقه؛ لكون علم قُضاة الدنيا غير محيط بأحوال الناس على التمام؛ بخلاف علم الله الحاكم في الآخرة الذي هو محيط. ونعني مرة أخرى، أن الكافر إن قُتل ظُلما، فإن الله هو من سيحكم على قاتله في الآخرة، بما أن الإيمان المـُثبت له في الدنيا (إن كان متظاهرا به) ينتظر أن يُثبته الله له في الآخرة، حتى يمضي الحكم. وهذه مسألة دقيقة، لم نر الفقهاء قد اعتنوا بها كما يليق بمكانتها في الدين؛ وذلك لغلبة الظاهر عليهم دون الباطن، ولغلبة نظرهم إلى الدنيا دون الآخرة. وهذا من حكم مرتبتهم عليهم (على إدراكهم في الأمور)!... ويلحق هذا الأصلَ أيضا مناصرةُ الكافر على المؤمن؛ لأن الإيمان صلة بين المؤمنين، لا يقوم لها في المقابل الكفر، الذي هو انقطاع لها. ولقد شدد الله في الوعيد على موالاة الكافرين على المؤمنين، حتى جعل الموالي لهم يلحق بهم في الحكم الذي هو الكفر. فقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51]. ومعنى قول الله تعالى إنه منهم، هو أنه بفعله ذاك يشهد على نفسه بالحال والعمل، أنه لا يجتمع مع المؤمنين في رابطة الإيمان. وهذا مما يشهد الظاهر فيه على صحة الباطن أو عدمها؛ وهو باب من العلم نفيس، من فرّط فيه وقع فيما يقابله من النقائص والسيئات. ولا ينبغي أن يُفهم من الآية أن يكون المؤمنون فيما بينهم على اليهود والنصارى، في غير زمن الحرب؛ لأن ذلك يخرج بهم عن الحكم الشرعي الأصلي، الذي هو: تحريم الظلم. وبين الأمريْن فرقان، لمن كان ذا لب!... ومن حقق النظر، فإنه سيجد الأحكام المعتبرة للإيمان، معتبرة له من كونه نسبا إلهيا؛ لا من كونه صفة للعبد. والنسب الإلهي مقدم في الاعتبار على الصفات البشرية المشتركة، كما هي الإنسانية الجامعة بين المؤمن والكافر. والعدل يقتضي أن تُعطى النِّسب حقها في الأحكام؛ لا أن تُتجاهل، فيُسوّى بين الحائز لها والفاقد. فهذا -من غير شك- يدخل في معنى الظلم، بقدر ذلك التجاهل والإغفال. - وأن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم؛ وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض، دون الناس: وهذا أيضا ليس من التمييز الذميم بين الناس (العنصرية)، وإنما هو من اعتبار الوجوه التي يقع بها التمييز عند الله رب الناس. وذمة الله واحدة بالنظر إلى جميع المؤمنين، لا يفضل أحدهم فيها الآخر، وإن كان فاضلا بالاعتبارات الجزئية؛ كأن يكون الفاضل من ذوي السلطان أو من أهل العلم المعتبرين، أو غير ذلك... وذلك لأن الإيمان يسبق اعتباره عند الله كل الاعتبارات الأخرى. ولذلك أعطى أن يُجير عليهم أدناهم، الذي هو أقلهم شأنا من جهة الظاهر؛ وأما من جهة الحقيقة فلا يستطيع أحد أن يقطع بدونية أحد من المسلمين في المجتمع المسلم. ومعنى الجوار الذي يكون لأدنى المؤمنين، والذي يكونون ملزمين به في مجموعهم، هو أن يكون من حق أدنى المؤمنين التصرُّف باسم جماعة المؤمنين -ما لم يكن تصرفه إثما- وإن كان ضمن الجماعة الخليفة العام نفسه. وكم من حكم صدر عن آحاد المسلمين، وأقره النبي صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الباب؛ ومن ضمن ذلك ما كان تأسيسا في الأعمال الشرعية ذاتها. ولسنا هنا في معرض التفصيل حتى نتوسع لذلك في الاستدلال، ونترك ذلك للفقهاء وفقهم الله. وهذه الصفة الإيمانية الماحية للفوارق الاعتبارية والشخصية، هي التي تُعطي من الجهة الأخرى، أن يكون المؤمنون بعضهم موالي بعض من دون الناس؛ لأنهم جسد إيماني مستقل عن الأجساد الأخرى، التي يكون اجتماعها على اعتبارات غير الإيمان. لهذا، فإن إسباق اعتبار المبادئ الإنسانية العامة في عصرنا، على اعتبار الإيمان، في المجتمعات الإسلامية، لا يكون إلا خروجا عن الصراط المستقيم، ومعنى من معاني الفُسوق لدى الأمة؛ سواء أتعلق الأمر بالفرد أم بالجماعة. وهو مما يدخل في المبادئ الدجالية، التي يُريد أهلها التهييئ بها لخروج الدجال في آخر الزمان. وهذا الذي نقوله، ينبغي أن يُعتبر في الفقه الإسلامي المـُعاصر؛ حتى لا يبقى الفقهاء متخلفين عن زمانهم، كما هي الحال الآن. ولقد سبق أن عرضنا على الفقهاء إعانتنا لهم، على تبيّن الأحكام، بما يُناسب العصر؛ حتى يتمكنوا من تجديد فقههم؛ غير أن الاستجابة منهم -عفا الله عنا وعنهم- ما تزال دون القدر المطلوب... - وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم: ولقد جاء تخصيص اليهود هنا، من كونهم أهل كتاب (أي أهل دين بالمعنى الأصلي للكلمة). ومعنى أن يتبع اليهود المسلمين هنا، هو من دلالات الموالاة السياسية والعسكرية؛ لا من الاتباع في الإيمان. وهذا يعني أن اليهود يبقون على دينهم إن هم رغبوا في ذلك؛ لكن من غير أن يكون لهم حق التحالف على المسلمين، أو حق الغدر بهم وخيانتهم. وهذا يدخل ضمن الحقوق الاجتماعية التي تُبقي على حال المجتمع متماسكا، كما لا يخفى. فإن فعل اليهود ذلك، والتزموا بما لا يعمل على إضعاف المجتمع المسلم، مما قد يظنون أنهم أحرار فيه؛ فلهم في مقابل ذلك النصر على من يُعاديهم من خارج المجتمع المؤمن، ويحرم على المؤمنين أن يظلموهم في حق من حقوقهم، في أنفسهم وفي أعراضهم وأموالهم. وكل من يخفر ذمة الله فيهم فإنه يكون مرتكبا لذنب كبير، يُعاقب عليه في الدنيا وفي الآخرة. وكل من يُناصر على اليهود قوما من خارج المجتمع المسلم، فإنه يكون عاملا ضد الإسلام نفسِه وضد المسلمين. وهذا المعنى، مما جهله متأخرو المسلمين، ففسقوا فيه عن الصراط، عند عدم حفظهم لحقوق الكتابيّين بينهم. ولقد ذكرت هذه الوثيقة اليهود -مع أن النصارى يدخلون من غير شك في حكمهم- لكونهم كانوا من سكان المدينة، وكان لهم فيها مجتمعهم الخاص وقبائلهم. لهذا، فحسب!... بل إن الإسلام قد اعتبر حقوق النصارى، بأشد مما اعتبر حقوق اليهود، بسبب قربهم من المؤمنين في الحال؛ وبسبب إقرارهم بالحق في غالبيتهم، وعدم تعمُّدهم لإنكاره عند ظهوره لهم في الغالب. وليس هذا محل تفصيل القول في هذه المسألة، فلنعد إلى ما كنا بصدده. - وأنّ سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم: وهذا يعني أن مسالمة المسلمين لغيرهم تكون عامة، ولا تُسالم فئة وتبقى فئة أخرى في حكم المحاربة، أو يُسالم فرد دون الجماعة؛ لأن هذا يفرق كلمة المسلمين، ويؤدي في النهاية إلى نشوب الاقتتال داخليا فيما بينهم؛ وهو من كبار الذنوب. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ!»[3]. ومن يتأمل حال الأمة اليوم، فإنه يجدها قد أُتيت من هذا الباب؛ خصوصا عندما غلب منطق الدولة القطرية على منطق الأمة. لذلك فنحن ندعو المسلمين جميعا إلى العودة إلى تحكيم الشريعة في أنفسهم، ليخرجوا من هذا الهوان الذي لحقهم من جراء الفسوق والعصيان. - وأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضهم بعضاً: وهذا يعني أن من غزا مع المسلمين، فإن ذلك يُحفظ لهم بحسب الترتيب الذي كانوا عليه في الغزو؛ أولا بأول. وهذا من قبيل التنظيم الإداري الذي ستترتب عليه الحقوق فيما بعد. - وأن المؤمنين يَبِن بعضهم عن بعض بما نال دماءهم في سبيل الله: أي إن المؤمنين يفضل بعضهم بعضا بحسب ما يلحقهم من أذى في المعارك. وهذا أيضا من قبيل إعطاء الحقوق بحسب الاستحقاق. - وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه: أي إن المتقين من المؤمنين المراعين لأحكام الشريعة، مـُلزَمون بتفسير هذه البنود أفضل تفسير، وأقربَه إلى روح التشريع العام؛ وهذا لا يُحسنه إلا الفقهاء من ذوي الملَكة. وهذا لأن المجتمع لا بد فيه من معيار ناظم، يكون أساس كل ما يتبعه من الأحكام. وهذا المعيار، قد يغيب لدى فئة من المؤمنين أو لدى أفراد، إن بقيت لديهم آثار من أحكام الجاهلية الأولى، أو هم عادوا إليها بعد طروء الغفلة. وهذا يعني أن المؤمنين لا حق لهم في تشريع القوانين لأنفسهم، بما يوافق أهواءهم، وبما يخرج بهم عن أحكام شرعيّة ثابتة ومعلومة الأصل. وهذه الآفة، تصيب أغلب المجتمعات الجاهلية بسبب اعتبار القوة (العسكرية أو السياسية والمالية) في الغالب، عند جهل قوة الحق في نفسه. وقد دل الله على اعتبار قوة الحق في العباد، عند قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]؛ فهو سبحانه بعد تسويته بين جميع بني آدم في حكم أصل الخليقة، جعل المرجح في القوة بينهم التقوى. ولهذا السبب كانت التقوى في المجتمع المسلم المعيار الأول؛ لأنها محور الدين، وعليها مدار الشؤون الدنيوية والأخروية للعباد. وهذا بحسب الظاهر وحده، ما دامت التقوى في حقيقتها من أحوال الباطن. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «التَّقْوَى هَا هُنَا! (يُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ)»[4]. وهذا هو ما جعل الله يختم الآية السابقة بقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}؛ أي إن الله وحده يعلم حقيقة التقوى من العبد من جهة الاسمين "العليم" و"الخبير". ولو علم الناس معنى تعلق هذين الاسميْن بالعباد، لعلموا من أين كانت شهادة جلودهم وأعضائهم عليهم؛ وهو علم عزيز، لا يحوزه إلا الكمّل من الورثة. وعندما تخلّت المجتمعات المسلمة عن اعتبار هذا المعيار، وصارت تقتفي أثر الأمم الجاهلية، فإن أمورها انعكست، ومراتبها اختلت واختلطت؛ وبالتالي فقد ذهب تماسكها، وحل ضعفها محل قوتها. وبما أن النتائج منوطة بأسبابها، فإنه لن يعود الصلاح إلى المجتمعات المسلمة، إلا بعودة مركزية التقوى فيها. ولا ينبغي هنا، أن يلتبس علينا أمر الجماعات الإسلامية الحركية، التي تزعم أنها عاملة بهذا الأصل في شؤونها؛ لأن التقوى عندها -وإن كانت حاضرة في تنظيرها وأدبياتها- غائبة في واقعها. والسبب هو أن التقوى، تتطلب العمل بمبدأ التزكية (بالمعنى الشرعي)، حتى تتحقق في الواقع؛ والجماعات الحركية تعتمد الديماغوجية بدل التزكية. وهذا يعني، أن وجود الجماعات الحركية، سبب من أسباب ضعف الأمة في المرحلة الراهنة؛ ولن تعود السلامة إلى المجتمع المسلم إلا باندثار هذه الجماعات وانحلالها. نقول هذا، ونحن نعلم أن جُلّ المسلمين، ما زالوا بعيدين عن إدراك ما نقول، بسبب انفعالهم للفكر السياسي الذي للإسلاميّين، والذي غطى على الفهم الصحيح للدين تغطية عظيمة. وإن كانت هذه الآفة، قد أصابت علماء الدين، فما الظن بالعامة من المسلمين!... - وأنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً ولا يحول دونه على مؤمن: وهذا يعني أن المشرك من سكان المدينة، الباقي على دينه، لا يجوز له أن يحمي لقريش مالا ولا نفسا، لكونها قد عادت المؤمنين وأخرجتهم من أرضهم وأموالهم؛ ولأن المؤمنين لهم حق استرداد أملاكهم منها، وحق القصاص ممن قَتل منهم أو آذاهم. وكل من يحول بين المؤمنين وبين نيل حقوقهم، فإنه يندرج في حكم المـُعادين الأصليّين. وتترتب على هذا الأصل أحكام فرعية، تُعالج في النوازل، كما يحدث مع القوانين الفرعية، المتولدة عن القانون الدستوري. - وأنه من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول (بالعقل)، وأن المؤمنين عليه كافة لا يحل لهم إلا قيام عليه: وهذا يعني أن من قتل مؤمنا متعمدا، يُقتل به قصاصا؛ إلا أن يرضى ولي المقتول بالدية. ولا يجوز لجماعة المؤمنين السكوت على القاتل البتة، وإلا اختل النظام العام، وعاد الأمر فوضى. والفوضى -لمن كان يعقل- لا توجد في المجتمع الرباني أبدا، بل هي دليل على الفسوق بالمعنى الأصغر أو الأكبر. وكشأن جميع الأحكام، فلا ينبغي أن يُستثنى من القصاص ذوو السلطة أو أبناؤهم وأقاربهم؛ كما لا يُستثنى ذوو الغنى، الذين يتوهمون أنهم بأموالهم يستطيعون شراء الأحكام. وهذا يعني أن رضى وليّ الدم بالدية، لا بد أن يكون طواعية وعن طيب خاطر؛ لا نتيجة لاعتبار سلطان أو مال. وكل اعتبار لقوة السلطان والمال، يدخل ضمن الإكراه المـُسقط للعقل. وهذا يعني أن الإكراه على قبول الدية -بمعنى من المعاني- يُبقي القاتل مُطالبا بذنبه في الآخرة؛ بخلاف قبولها طواعية، الذي يكون مسقطا للمؤاخذة الأخروية. - وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً أو يؤويه، وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل: والمعنى هو أنه لا يجوز للمؤمنين السكوت على زان، ولا أن يمنعوه؛ ومن يفعل ذلك فإن عليه لعنة الله وغضبه في الآخرة، وشأنها أخطر من شأن الدنيا؛ ولا يكون مؤتمنا ولا تُقبل له شهادة في دنياه، لذهاب مروءته بين قومه وفي مجتمعه. وهذا -كما هو واضح- متفرع عن اعتبار معيار التقوى، الذي مررنا به آنفا. - وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله وإلى محمد: وهذا يعني أنه إذا شجر خلاف بين المؤمنين، في أمر من الأمور، فإن الحكم فيه يكون لله ورسوله؛ حتى يُحسم الخلاف ولا ينجر عنه ما يفرق الكلمة بعد ذلك. وبما أننا قد أبنّا عدة مرات، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هو الخليفة عن الله، فإنه ينبغي أن يُعلم أن اشتراط العودة إليه في المنازعات التي تنشأ في الطائفة الواحدة، أو بين الطوائف في المجتمع المدنيّ، إنما هو عمل بما تُعطيه الحقيقة من نفسها؛ ونعني من هذا أنه لا يحكم في المملكة البشرية (المجتمع البشري) إلا ربها وملكها الحق، من مظهر الخلافة، الذي هو الواسطة الشهودية بين العباد وربهم. وإن هذا الحكم منوط بالمجتمع الذي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم متواجدا فيه؛ ولا يصدق هذا الشرط على التخصيص إلا في مجتمع المدينة، وما سيلحق به من توسع في العصر النبوي خاصة. وهذا، لأنه لا أحد يبلغ في الخلافة عن الله، مرتبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ويتفرع عن هذا الحكم، كون حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، على الناس هو حكم الله ذاته؛ لكن مع تفريق بين حكم الدنيا وحكم الآخرة، بسبب ضيق الدنيا عن الإحاطة التي تكون في الآخرة. وقد نبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلى هذا الأصل في قوله: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ؛ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ؛ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَلَا يَأْخُذْ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ!»[5]. وأما بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا تصح النيابة في الخلافة عن الله، إلا للخلفاء الاثني عشر، الذين يجمعون بين خلافة الغيب وخلافة الشهادة. وأما في غير أزمنة الخلافة النيابية، فلا يصح لرئيس الدولة، بجميع المعاني المعروفة، أن يزعم لنفسه المرجعية في الأحكام الفصلية لدولته أو لمجتمعه؛ لأنه لا يختلف من جهة المرتبة عن آحاد الناس من أفراد مجتمعه. وقد غلط كثير من فقهاء الأمة، قبل غيرهم، عندما جعلوا للسلطان من السُّلطة ما لا ينبغي له. وهذا يعود بنا إلى التمييز بين رئاسة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للدولة الأمة، ورئاسة الخلفاء الملوك للأمة فيما بعد. وأما رئاسة الرؤساء للدول القطرية، فهي أدنى من ذلك كله في الاعتبار. ومن هنا كان ردّنا على الفقهاء الذين تكلموا في تصرفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بغير علم؛ حتى نشأت عن ذلك ضلالات صارت تتوالد في المجتمعات المسلمة، إلى أن بلغت إلى شبه ما كانت عليه أقوام الأكاسرة والقياصرة. وهذا يعني أنه في الأزمنة التي لا يحكم فيها الخلفاء، لا غَناء لرئيس الدولة عن مجلس استشاري، يكون مستقلا في الرأي عنه؛ وإلا صرنا إلى الملكية المطلقة التي هي مـُخالفة للتشريع الإسلامي. وهنا لا بد من التفريق بين الشورى على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعهد الخلفاء الراشدين، والشورى على عهد الخلفاء الملوك؛ لأن الصنف الأول لا يكون ملزما، وأما الصنف الثاني فملزم بلا شك. وعلى هذا، فإن قول الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، ليس في المعنى مطابقا لقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]. وقد جهل المفسرون هذا الفرق، لجهلهم بأصل الخلافة عن الله، وإن لم يغب عنهم اختلاف الحكم مع وجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عما هو عليه مع غيره. ولعلنا سنعود إلى تفاصيل هذه المسألة، بحسب الأحداث التي ستعرفها المدينة في عصر النبوة وعصر الخلافة معا... - وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين: والمعنى هو أن اليهود يتحملون نفقة الحرب مع المؤمنين، إن وقع الهجوم على المدينة؛ لكونهم مشاركين للمؤمنين في سُكناها. والدفاع إنما يقع عن سكان البلد كلهم، لا عن بعضهم. - وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين؛ لليهود دينهم وللمسلمين دينهم؛ مواليهم وأنفسهم؛ إلا من ظلم أو أثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته: (والوَتَغ: الهلاك)؛ وهذا يعني أن اليهود أمة إلى جانب أمة المسلمين، هم ومواليهم؛ لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، من دون اشتراط دخول الإسلام عليهم؛ إلا من ارتكب فاحشة، فإنه يكون قد وقع تحت طائلة العقوبة هو وأهل بيته، من دون أن يعم ذلك قومه. والمقصود هنا، هو أن حكم الأصل يعم، وحكم الفرع والاستثناء يخص؛ حتى لا يقع الظلم على من التزم القانون. - وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف: أي إن لقبائل اليهود غير بني عوف حكمهم. وهذا لأن منطق القبيلة كان غالبا على اليهود، كما كان غالبا على غيرهم. - وأن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف. - وأن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف. - وأن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف. - وأن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف. - وأن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته. - وأن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم: وهذا يُلحق الفروع الكبرى للقبائل، بحكم القبائل نفسها. - وأن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف وأن البر دون الإثم. - وأن موالي ثعلبة كأنفسهم: موالي القبيلة، هم عبيدها؛ وهم مـُلحقون في الحكم بها. - وأن بطانة يهود كأنفسهم: البطانة الأقارب والأعوان. - وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد: أي لا يُسمح لأحد من يهود المدينة وأتباعهم بالخروج من المدينة إلا بإذن من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم؛ وهذا لأن المدينة منذ أن هاجر إليها النبي قد دخلت في وضع حربي. وإن عدم مراقبة مداخل البلد ومخارجه، لا بد من أن تلحق الضرر بأهله؛ لأن العدو لا بد من أن يحاول التسلل عبرها. وهذا الأمر جليّ، مع مراقبة الحدود التي تعرفها الدول العصرية. - وأنه لا ينحجز على ثأر جرح، وأنه من فتك، فبنفسه وأهل بيته، إلا من ظُلم؛ وأن الله على أبر هذا: وهذا يعني أن من جرح غيره، فإن للمجروح حق طلب الاقتصاص لنفسه من جارحه؛ وأن من ألحق ضررا بغيره، فإنما يعود ضرره على نفسه وأهل بيته بالعدل؛ إلا أن يكون الفاتك مدافعا عن نفسه وأهل بيته، فإنه لا شيء عليه. - وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم: والمعنى هو أن كل هؤلاء المذكورين في الصحيفة، والذين هم المكوّنون لمجتمع المدينة، ينفرد بعضهم عن بعض في النفقة، فيما هو متعلق بمعاشهم؛ بخلاف نفقة الحرب، التي هي مشتركة. وعلى بعضهم مناصرة البعض الآخر، إن وقع هجوم خارجي، حفاظا على الوحدة العامة. وتكون المعاملة فيما بينهم داخليا، على أساس التعاون على الخير العام، مع اجتناب الإضرار بأي طرف. - وأنه لا يأثم امرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم: أي إن وقع اعتداء على المؤمنين من قوم كانوا حلفاء لإحدى القبائل القاطنة بالمدينة، أو لأحد من أفرادها، فإن أثر الاعتداء لا يقع على أهل المدينة بسبب ذلك؛ مع الإبقاء على حق الانتصار للمظلوم من ظالمه (الحليف الخارجي)، وعلى واجب مناصرة من كان من أهل المدينة له. - وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محارَبين: وهذا من تقاسم تبعات الحروب، فيما بين المجتمع كله. - وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة: أي إن المدينة مخصوصة بمن ذُكر في هذه الصحيفة من أمم وقبائل، ويحرم على غيرهم دخولها إلا بإذنهم. - وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم: وهذا يعني أن للجار حرمة النفس، وله حكمها؛ فلا يُعامل إلا بما يُرضيه، من غير أن يُسمح له هو بإضرار جاره، أو تجاوز حده. - وأن لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها: والمعنى هو أن لا تُحمى حُرمة لأحد، فيعامل معاملة الجار، إلا بإذنه؛ وذلك لأن الدخول في المعاهدات والمواثيق يكون اختيارا لا كرها. - وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره: وقد سبقت الإشارة إلى أن كل خلاف ينشأ بين أهل المدينة، ينبغي أن تَرضى فيه أطرافه بحكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حفاظا على وحدة المجتمع. وإن الله شاهد وضامن لمن التزم بأفضل تأويل لبنود هذه الصحيفة، من غير أن يكون لأحد احتيال يروم به إيقاع ظلم على أحد، أو الفرار من العقوبة. - وأنْ لا تجار قريش ولا من نصرها: وهذا لأنها في حكم المـُحارِب، ومـُناصرها في حكمها. - وأن بينهم النصر على من دهم يثرب: أي إن على كل القبائل القاطنة بالمدينة (وكل الطوائف)، أن تكون يدا واحدة، ضد كل هجوم على المدينة أو على بعض أهلها. - وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين: وهذا يعني إن وقع صلح من إحدى قبائل المدينة، أو من إحدى طوائفها، فإن أهلها كلهم يلتزمون به؛ وعلى المؤمنين أن يلتزموا أيضا به، ما لم يكن المـُصالَح من خارج المدينة، محاربا للمؤمنين في الدين. - على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قِبلهم: وهذا يعني أن من ناصر عدوا للمؤمنين، فإنه يتحمل تبعات مناصرته له من جهته؛ بحيث لا يعم حكم ذلك غيره. - وأن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة؛ وأن البر دون الإثم؛ لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره: وهذا تخصيص ليهود الأوس، وتأكيد لمكانتهم؛ ما داموا قد ذُكروا مع قبائل اليهود سابقا. - وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم؛ وأنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو آثم؛ وأن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم): والمعنى، هو أن عموم دلالات ألفاظ ما ورد في هذه الصحيفة، لا يُعمل به إن كان سيؤدي إلى حماية ظالم أو آثم؛ لأن المراد من هذا الميثاق هو إقامة العدل بين أهل المدينة، والنصوص تؤوّل بحسب المبدأ الناظم لها، وعند الحاجة. وكل أهل المدينة آمنون سواء أخرجوا منها أم بقوا فيها (وهو نظير حكم المواطنة اليوم، التي يكون صاحبها في حماية دولته سواء أبقي على أرضها، أم خرج إلى بلادٍ غيرها)؛ إلا من ظلم منهم أو أثم، فلا أمان له. وكل من التزم بما في هذه الصحيفة روحا ونصا، فإن الله ورسوله ضامن له وموف له عهده. وكما لا يخفى، فإن هذه الوثيقة -كما نبّهنا سابقا- هي أول دستور وُضع مكتوبا في تاريخ البشرية؛ وهي أول ميثاق لحقوق الإنسان بالاصطلاح المتداول في زماننا، لا بمعناه. وقد نُشرت (الوثيقة) بتصريح من المعهد الدولي لحقوق الإنسان بجامعة "دي بول" بشيكاغو، واستلهمتها كثير من الدول، عند وضعها لدساتيرها. وأما المسلمون في دولهم القطرية، فهم مخالفون لروحها ولنصها؛ لأن الوحدة العامة للمؤمنين، هي من ضمن البنود الكبرى لهذه الوثيقة؛ زيادة على أن الدساتير المعتمدة قطريا، هي في الغالب نُسخ عن دساتير الدول المـُستعمِرة للمسلمين فيما مضى من الزمان. وهذا من غير شك، نكوص من المسلمين، عما أُسِّس لهم من قِبل نبيّهم صلى الله عليه وآله وسلم، واستبدال للذي هو أدنى بالذي هو خير. وهذا كله، داخل ضمن معنى اتباع الأمة الإسلامية لغيرها من الأمم، الذي صرّح به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ؛ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ. قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ!»[6]. ولا بد هنا من أن نفرق بين اليهود والنصارى من حيث هم أهل شريعة منسوخة، وبين الفكر السياسي والقانوني الذي يُنتجونه من حيث هم لا على دين. وهذا التأسي باليهود والنصارى من قِبل المسلمين، قد كان من هذا الوجه الثاني؛ لا من الوجه الأول. وقد أدّى بدوره إلى ظهور الجانب الفكري لدى المسلمين، والذي هو منفصل عن الدين لديهم. وهذا سيكون أصل "العلمانية" الإسلامية (إن صح التعبير)، وسيكون أصل الفكر الإسلامي أيضا؛ وإن توهم الناس أن هذا الأخير لا بد أن يكون من الدين!... (يُتبع...) [1] . أخرجه أبو داود، عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.