اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2020/12/31 الحوار الغائب (ج3) -15- المرحلة المدنية إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، سيشرع في المدينة في بناء المجتمع المسلم، الذي جعله الله نموذجا لكل مجتمع ربانيّ بعده، من غير اعتبار لزمن مخصوص أو لمكان مخصوص؛ بل هو خلاصة المجتمعات البشرية كلها، وهو المملكة الإلهية الكبرى باعتبار العالم، في أبهى مظاهرها. وليس المراد بالمملكة الإلهية، إلا حيث يكون الملك "الله"، ويكون الرعايا مظاهر الأسماء الإلهية. وليس هذا المجتمع إلا الأمة الإسلامية، في صورتها الجمعية المدنيّة الأولى، أو في صورتها المستوعبة لكل شعوب الأرض وبلدانها، منذئذ وإلى قيام الساعة. ونحن هنا نخالف منظّري "الإسلام السياسي"، الذين يحصرون معنى المجتمع المدني في "الدولة الإسلامية"، الذي ضلوا به عن معنى الأمة الأوسع. ولعل ما نُشير إليه من فرق، سيضَح بالتدريج، كلما تقدمنا في الكلام... 1. سكان المدينة عند الهجرة: [لم يكن معنى الهجرة التخلص والفرار من الفتنة فحسب، بل كانت الهجرة تعني مع هذا تعاونا على إقامة مجتمع جديد في بلد آمن، ولذلك أصبح فرضا على كل مسلم يقدر على الهجرة، أن يهاجر ويسهم في بناء هذا الوطن الجديد، ويبذل جهده في تحصينه ورفعة شأنه. ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام والقائد والهادي في بناء هذا المجتمع، وكانت إليه أزِمَّة الأمور بلا نزاع. والذين قابلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة كانوا على ثلاثة أصناف، تختلف أحوال كل واحد منها بالنسبة إلى الآخر اختلافا واضحا؛ وكان يواجه بخصوص كل صنف منها مسائل عديدة، غير المسائل التي كان يواجهها بالنظر إلى الآخر. وهذه الأصناف الثلاثة هي: 1 ـ أصحابه الصفوةُ الكرام البررة رضي الله عنهم. 2 ـ المشركون الذين لم يؤمنوا بعد، وهم من صميم قبائل المدينة. 3 ـ اليهــود.][1]: بدأنا نشم من كلام الكاتب، شيئا مما ذكرناه آنفا عن الإسلاميين؛ لأن ذكر "الوطن" والعمل له في عبارة: "... أن يهاجر ويسهم في بناء هذا الوطن الجديد، ويبذل جهده في تحصينه ورفعة شأنه." تخرج بمعنى الوطن من معناه اللغوي -وبالتالي الشرعي- إلى المعنى السياسي المعروف حديثا في جميع الدساتير. ثم إن ذكر عبارة: "ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام والقائد والهادي في بناء هذا المجتمع." هي عبارة -وإن كانت مستساغة من الناحية الشرعية في عمومها- تُحيل على القاموس السياسي العصري، وعلى مرتبة رئيس الدولة، وقائد الثورة، وغير ذلك مما وقع في حباله أهل الفقه من المسلمين عموما، وأهل الفقه السياسي خصوصا. وممن وقع في ذلك من الفقهاء، وصار كلامهم أصلا لدى من جاء بعدهم: ابن قتيْبة، وهو أول من تكلم في تصرُّفات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، والتي لم تكن تخالف في جوهرها معنى السنة على اختلاف مراتبها؛ وابن حزم، الذي بدأ في التمييز بين ما هو من أمور الدين، وما هو من أمور الدنيا؛ والقاضي عياض، الذي انتهج نهجه، مع زيادة تمييز في الأمور الدنيوية للعوارض البشرية؛ والعز بن عبد السلام، الذي قسم التصرفات النبوية إلى ثلاثة أقسام: الفتيا، والحكم، والإمامة العُظمى؛ والقرافي، الذي صنفها إلى أربع تصرفات: التصرف بالتبليغ، والتصرف بالفتوى، والتصرف بالقضاء، والتصرف بالإمامة؛ والسُّبكيّان، اللذان فصّلا في عموم دلالات فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ونحن وإن كنا نعلم أن قصد الفقهاء المذكورين، كان التفريق في مراتب دلالة أفعال النبوة من جهة التشريع، على نور وبيّنة؛ وحتى لا تؤخذ كل التصرفات النبوية على أنها مرتبة واحدة، يشق بها الاتباع على المسلمين؛ فإننا في المقابل، نحذر مما انتهى إليه المتأخرون، خصوصا من منظري الإسلاميّين، إلى تسوية بعض أفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بأفعال غيره من الناس، عندما أخرجوا جزءا منها عن الوحي بقرائن معتبرة في العلم، لكنها أنتجت انحرافا عقديا لديهم، تسبب فيه انقطاعهم عن النور. ولقد انتهى جمهور المتأخرين إلى جعل تصرفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقساما هي: الفعل الجبلّي، الفعل العاديّ، الفعل الدنيوي، الفعل المـُعجِز، الفعل الخاص، الفعل البياني، الفعل الامتثالي، الفعل المتعدي، الفعل المؤقت (الوقتي)، الفعل المـُبتدأ المجرد. ونحن قد لا نوافق على بعض المعاني المقصودة من هذه التقسيم ابتداء، لكون المتكلمين لا يعلمون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بشريته، وإن أقروا بأنه يوحى إليه. والحقيقة التي لن يبلغها أحد من كل مَن ذكرنا -على اختلاف بين أهل النور وأهل الظلمة- هي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل تصرفاته كان متصرفا بالله، لا بنفسه كما يتوهم المحقّون والمـُبطلون جميعا. وهذا يعني أن تصرفاته عليه السلام، عند اختلافها فيما بينها، فإنما يعود اختلافها إلا اختلاف المراتب واختلاف الحضرات فحسب. وعندما جهل المتأخرون ما نذكر، وكانوا بسبب ظلمتهم أكثر جرأة على مقام النبوة من سابقيهم، فإنهم قد انحجبوا عن الفقه السياسي الشرعي جملة، عندما ظنوه من سنخ الاجتهادات الفكرية التي تكون عليها مختلف الأمم، من مختلف العصور. وهذا ضلال بيّن، قد جعل عموم المسلمين ينصرفون عن نور النبوة في مسألة الأحكام السياسية الشرعية وفي غيرها، إلى ما يُعطيه الفكر وحده. والفكر عندنا -رغم أنه مرخَّص له من قِبل الشارع في عملية الاستنباط الفقهي- ليس أساسا لإدراك الأحكام الشرعية على اختلاف مراتبها، ولا ممَكَّنا من التمييز لِما هو دنيوي منها مما هو أخروي؛ وذلك لأن فقه الدنيا عندنا من فقه الآخرة، لا كما يفهمه المتأخرون من فصل بينهما. وهذا الفصل في الفقه بين الدنيا والآخرة، بالمعنى المـُدرك لأصحابه، قد أدخل المنظِّرين من الفقهاء والمسلمين من بعدهم إلى "علمانية إسلامية" بالقياس إلى العلمانية النصرانية المعلومة لأهلها. وما زالت الأمة إلى الآن تتخبط في هذا الفقه الظلامي، وتحصد ثمراته المرة على جميع الواجهات. وقد انتهى الأمر بأمتنا إلى أن صارت كغيرها من الأمم، تعمل على الصعيد الاجتماعي، والسياسي، والنفسي، والتربوي، والعسكري، بحسب ما هي عليه الأمم الأخرى؛ مع فقه للخصوصية الإسلامية، في حدوده الدنيا؛ عند فقد الفقه الإسلامي الصحيح في تلك المجالات كلها. ولولا أن وقتنا يضيق عن تناول كل العلوم بالتفصيل اللازم، لكنا -بحمد الله- نردها كلها إلى أصلها الإسلامي الذي لا يختلف فيه اثنان من أهل الملة؛ ولكن عندما لم يتسع وقتنا لذلك، رجونا أن يلتحق بنا أهل كل التخصصات المذكورة وغير المذكورة، في "معهد العمرية"، لنضعهم على الطريق، ولنعينهم على تبيُّن الأحكام في صورتها الإجمالية المخصوصة، وفي صورتها التفصيلية المخصوصة أيضا... [ا ـ والمسائل التي كان يواجهها بالنسبة إلى أصحابه هو أن ظروف المدينة بالنسبة إليهم كانت تختلف تماما عن الظروف التي مروا بها في مكة، فهم في مكة وإن كانت تجمعهم كلمة جامعة وكانوا يستهدفون هدفا واحدا، إلا أنهم كانوا متفرقين في بيوتات شتى، مقهورين أذلاء مطرودين، لم يكن لهم من الأمر شيء، وإنما كان الأمر بيد أعدائهم في الدين، فلم يكن هؤلاء المسلمون يستطيعون أن ينشئوا مجتمعا إسلاميا جديدا بمواده التي لا يستغني عنها أي مجتمع إنساني في العالم؛ ولذلك نرى السور المكية تقتصر على تفصيل المبادئ الإسلامية، وعلى التشريعات التي يمكن العمل بها لكل فرد وحده، وعلى الترغيب في البر والخير ومكارم الأخلاق والترهيب عن الرذائل والدنايا. أما في المدينة فكان أمر المسلمين بأيديهم منذ أول يوم، ولم يكن يسيطر عليهم أحد من الناس، وهذا يعنى أنهم قد آن لهم أن يواجهوا مسائل الحضارة والعمران، والمعيشة والاقتصاد، والسياسة والحكومة، والسلم والحرب، وأن تفصّل لهم مسائل الحلال والحرام، والعبادة والأخلاق، وما إلى ذلك من شؤون الحياة؛ أي آن للمسلمين أن يكونوا مجتمعا إسلاميا يختلف في جميع مراحل الحياة عن المجتمع الجاهلي، ويمتاز عن أي مجتمع يوجد في العالم الإنساني، ويكون ممثلا للدعوة الإسلامية التي عانى لها المسلمون ألوانا من النكال والعذاب طيلة عشر سنوات. ولا يخفى أن تكوين أي مجتمع على هذا النمط لا يمكن أن يستتب في يوم واحد، أو شهر واحد، أو سنة واحدة، بل لابد له من زمن طويل يتكامل فيه التشريع والتقنين والتربية والتثقيف والتدريب والتنفيذ شيئا فشيئا، وكان الله كفيلا بهذا التشريع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما بتنفيذه والإرشاد إليه، وبتربية المسلمين وتزكيتهم وفق ذلك {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 2]. وكان الصحابة رضي الله عنهم مقبلين عليه بقلوبهم، يتحلون بأحكامه، ويستبشرون بها {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2]. وليس تفصيل هذه المسائل كلها من مباحث موضوعنا، فنقتصر منها على قدر الحاجة. وكان هذا أعظم ما واجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنسبة للمسلمين، وهو الهدف الأسمى والمطلب النبيل المقصود من الدعوة الإسلامية والرسالة المحمدية، ومعلوم أنه ليس بقضية طارئة تطلب الاستعجال، بل هي قضية أصيلة تحتاج إلى آجال. نعم، كانت هناك قضايا طارئة تطلب الحل العاجل والحكيم، أهمها أن المسلمين كانوا على قسمين: قسم كانوا في أرضهم وديارهم وأموالهم، لا يهمهم من ذلك إلا ما يهم الرجل وهو آمن في سِرْبِـه، وهم الأنصار؛ وكان بينهم تنافر مستحكم وعداء مزمن منذ أمد بعيد. وقسم آخر فاتهم كل ذلك، ونجوا بأنفسهم إلى المدينة، وهم المهاجرون؛ فلم يكن لهم ملجأ يأوون إليه، ولا عمل يكسبون به ما يسد حاجتهم، ولا مال يبلغون به قَوَاماً من العيش؛ وكان عدد هؤلاء اللاجئين غير قليل، ثم كانوا يزيدون يوما فيوما؛ إذ كان قد أُذن بالهجرة لكل من آمن بالله ورسوله. ومعلوم أن المدينة لم تكن على ثروة طائلة فتزعزع ميزانها الاقتصادي، وفي هذه الساعة الحرجة قامت القوات المعادية للإسلام بشبه مقاطعة اقتصادية، قَلَّت لأجلها المستوردات وتفاقمت الظروف.][2]. هذان القسمان هما صلب مجتمع المدينة، المنبني على المهاجرين والأنصار. والمهاجرون والأنصار من كونهم مهاجرين راحلين ومستقبلين مـُؤوين، سيكونون طليعة المجتمع المسلم حيث كان؛ لأنه لا يخرج مسلم عن أحد المعنييْن المذكوريْن. وسنعود إلى ما يتعلق بهؤلاء الأسياد فيما بعد إن شاء الله. [ب. أما القوم الآخرون -وهم المشركون من صميم قبائل المدينة- فلم تكن لهم سيطرة على المسلمين، وكان منهم من يتخالجه الشكوك ويتردد في ترك دين الآباء، ولكن لم يكن يبطن العداوة والكيد ضد الإسلام والمسلمين، ولم تمض عليهم مدة طويلة حتى أسلموا وأخلصوا دينهم لله. وكان فيهم من يبطن شديد الإحن والعداوة ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ولكن لم يكن يستطيع أن يناوئهم، بل كان مضطرا إلى إظهار الودّ والصفاء نظرا إلى الظروف، وعلى رأس هؤلاء عبد الله بن أبيّ؛ فقد كانت الأوس والخزرج اجتمعوا على سيادته بعد حرب بُعَاث -ولم يكونوا اجتمعوا على سيادة أحد قبله- وكانوا قد نظموا له الخَرْز، ليُتَوِّجُوه ويُمَلّكُوه؛ وكان على وشك أن يصير ملكا على أهل المدينة إذ بوغت بمجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصراف قومه عنه إليه. فكان يرى أنه استلبه الملك، وكان يبطن شديد العداوة ضده؛ ولما رأى أن الظروف لا تساعده على شركه، وأنه سوف يُحرَم بقايا العز والشرف، وما يترتب عليهما من منافع الحياة الدنيا، أظهر الإسلام بعد بدر، ولكن بقي مستبطنا الكفر. فكان لا يجد مجالا يكيد فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين إلا ويأتيه، وكان أصحابه -من الرؤساء الذين حرموا المناصب المرجوة في ملكه- يساهمونه ويدعمونه في تنفيذ خططه، وربما كانوا يتخذون بعض الشباب وسذجة المسلمين عميلا لتنفيذ خطتهم من حيث لا يشعر.][3]. هذا القسم الثاني ستولد منه فئة المنافقين (الاسم مشتق من النفق) التي هي ستكون مع المسلمين بظاهرها، ومع الكافرين بباطنها. وهذا الصنف من الناس لا بد منه، كلما أُعلن الإيمان وقابله الكفر؛ لأنه ناتج عن الجمع بين المنزلتيْن. وشأنه في هذا، كشأن الإمكان الناتج عن الوجود والعدم. وهذا يعني أن النفاق ليس إيمانا محضا ولا كفرا محضا، وإنما هو رسوخ في مقام الشك والتردد. ولقد جهل كثيرون حقيقة النفاق، فظنوا أنه ناتج عن الخوف من إظهار الكفر؛ حتى قيل تبعا لذلك، إن النفاق قد انقطع في الأزمنة المتأخرة، بسبب ارتفاع الخوف على النفس في المجتمعات التي أصبحت تعرف ما يُسمى بحقوق الإنسان وحرية التعبير... والحقيقة هي أن النفاق قد زاد في المتأخرين، لأن الشك قد زاد، عند ضعف الإيمان في القلوب، بسبب اشتداد الفتن وكثرة التشكيك. ومع أن المنافقين يعملون تارة لصالح المؤمنين، وتارة لصالح الكافرين، إلا أن النتيجة النهائية تكون ضررا للمؤمنين من غير شك؛ وذلك لأن المجتمع المؤمن ينبغي أن تكون جهوده موحدة نحو غاية مشتركة. وبما أن المنافقين لا يكونون مع المؤمنين من جهة الباطن، فإن حالهم يكون مثبطا لغيرهم ومـُخذِّلا، في كثير من الأحيان، وخصوصا في الظروف العصيبة. وبسبب سوء أثرهم على المؤمنين حذَّر الله منهم في كتابه، واعتبرهم أشد عداوة للمؤمنين من الكافرين، فقال سبحانه عنهم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4]. ولنا عودة إن شاء الله، إلى المنافقين وأحوالهم التفصيلية، فيما بعد... [جـ ـ أما الصنف الثالث -وهم اليهود- فإنهم كانوا قد انحازوا إلى الحجاز زمن الاضطهاد الأشورى والروماني كما أسلفنا، وكانوا في الحقيقة عبرانيين؛ ولكن بعد الانسحاب إلى الحجاز، اصطبغوا بالصبغة العربية في الزي واللغة والحضارة، حتى صارت أسماؤهم وأسماء قبائلهم عربية، وحتى قامت بينهم وبين العرب علاقة الزواج والصهر، إلا أنهم احتفظوا بعصبيتهم الجنسية، ولم يندمجوا في العرب قطعا؛ بل كانوا يفتخرون بجنسيتهم الإسرائيلية (اليهودية) وكانوا يحتقرون العرب احتقارا بالغا، وكانوا يرون أن أموال العرب مباحة لهم، يأكلونها كيف شاءوا، قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75]. ولم يكونوا متحمسين في نشر دينهم، وإنما جل بضاعتهم الدينية هي: الفأل والسحر والنفث والرقية وأمثالها، وبذلك كانوا يرون أنفسهم أصحاب علم وفضل وقيادة روحانية. وكانوا مَهَرَةً في فنون الكسب والمعيشة، فكانت في أيديهم تجارة الحبوب والتمر والخمر والثياب، كانوا يستوردون الثياب والحبوب والخمر، ويصدّرون التمر؛ وكانت لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون، فكانوا يأخذون المنافع من عامة العرب أضعافا مضاعفة؛ ثم لم يكونوا يقتصرون على ذلك، بل كانوا أكالين للربا، يعطون القروض الطائلة لشيوخ العرب وساداتهم، ليكسبوا بها مدائح الشعراء والسمعة الحسنة بين الناس بعد إنفاقها من غير جدوى ولا طائلة؛ وكانوا يرتهنون لها أرض هؤلاء الرؤساء وزروعهم وحوائطهم، ثم لا يلبثون إلا أعواما حتى يتملكوها. وكانوا أصحاب دسائس ومؤامرات وعتو وفساد؛ يلقون العداوة والشحناء بين القبائل العربية المجاورة، ويغرون بعضها على بعض بكيد خفي، لم تكن تشعر له تلك القبائل؛ فكانت تتطاحن في حروب، لا تكاد تنطفئ نيرانها حتى تتحرك أنامل اليهود مرة أخرى لتؤججها من جديد. فإذا تم لهم ذلك جلسوا على حياد يرون نتائج هذا التحريض والإغراء، ويستلذون بما يحل بهؤلاء المساكين (العرب) من التعاسة والبوار، ويزودونهم بقروض ثقيلة ربوية حتى لا يحجموا عن الحرب لعسر النفقة. وبهذا التدبير كانوا يحصلون على فائدتين كبيرتين: هما الاحتفاظ على كيانهم اليهودي، وإنفاق سوق الربا؛ ليأكلوه أضعافا مضاعفة، ويكسبوا ثروات طائلة. وكانت في يثرب منهم ثلاث قبائل مشهورة: بنو قَيْنُقَاع: وكانوا حلفاء الخزرج، وكانت ديارهم داخل المدينة؛ وبنو النَّضِير: وكانوا حلفاء الخزرج، وكانت ديارهم بضواحي المدينة؛ وبنو قُرَيْظة: وكانوا حلفاء الأوس، وكانت ديارهم بضواحي المدينة. وهذه القبائل هي التي كانت تثير الحروب بين الأوس والخزرج منذ أمد بعيد؛ وقد ساهمت بأنفسها في حرب بُعَاث، كلٌّ مع حلفائها. وطبعا فإن اليهود لم يكن يرجى منهم أن ينظروا إلى الإسلام إلا بعين البغض والحقد؛ فالرسول لم يكن من أبناء جنسهم حتى يُسَكِّن جَأْشَ عصبيتهم الجنسية التي كانت مسيطرة على نفسيتهم وعقليتهم؛ ودعوة الإسلام لم تكن إلا دعوة صالحة تؤلف بين أشتات القلوب، وتطفئ نار العداوة والبغضاء، وتدعو إلى التزام الأمانة في كل الشؤون، وإلى التقيد بأكل الحلال من طيب الأموال؛ ومعنى كل ذلك أن قبائل يثرب العربية ستتآلف فيما بينها، وحينئذ لابد من أن تفلت من براثن اليهود، فيفشل نشاطهم التجاري، ويحرمون أموال الربا الذي كانت تدور عليه رحى ثروتهم؛ بل يحتمل أن تتيقظ تلك القبائل، فتدخل في حسابها الأموال الربوية التي أخذتها اليهود، وتقوم بإرجاع أرضها وحوائطها التي أضاعتها إلى اليهود في تأدية الربا. كان اليهود يدخلون كل ذلك في حسابهم منذ عرفوا أن دعوة الإسلام تحاول الاستقرار في يثرب؛ ولذلك كانوا يبطنون أشد العداوة ضد الإسلام، وضد رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أن دخل يثرب، وإن كانوا لم يتجاسروا على إظهارها إلا بعد حين.][4]. إن أبرز ما يميّز اليهود بعد انغلاق مجتمعاتهم وشدة تعصُّبهم لعرقهم، هو حساباتهم الدنيوية؛ وهذا يعني أن الدين عندهم لا يقوم على اعتبار الآخرة حقيقة، ولكن هو رابط ثقافي يقوم على المصلحة، يربط بعضهم إلى بعض فحسب. ولقد حذر الله في كتابه من اليهود، لعلمه سبحانه بأن صفاتهم -إلا قليلا جدا منهم- راسخة فيهم، لا يتحولون عنها؛ وذلك لعدم شعورهم بالحاجة إلى تحصيل الكمالات النفسية التي هي أسمى غايات الدين. يقول الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82]. ومع أن اليهود لا يعتبرون الدين حقيقة في مقابل اعتبارهم للدنيا، فإنهم يتعصبون لتديّنهم الملفق، وينظرون إليه على أنه الدين الحق الذي ينبغي أن يكونوا عليه. وهم من غير شك يفتقرون في أمورهم كلها إلى الحس النقديّ، الذي يمكّن كل فرد وكل جماعة، بالنظر إلى الغير، من معرفة المحاسن والمساوئ؛ وبالتالي من اختيار الأصلح، ومن تقويم المسار. وهذا الجمود الذي يكونون عليه، هو ما يجعلهم أشد الناس عداوة لأهل الإيمان، الذين يدفعهم إيمانهم إلى طلب الأصلح على الدوام. وهذا يعني أن اليهود عالمون بمعايير الحق والخير، ولكنهم لا يريدون العمل بها؛ لأنها تعاكس مصالحهم الدنيوية العاجلة. وعلى هذا، فإن عداوتهم لأهل الإيمان، تكون طمعا في القضاء على ما يرونه سببا في إفساد نظامهم والذهاب بكيانهم. وهذه العداوة، من شدة استحكامها، تصبح كالعداوة الطبيعية التي لا يُرجى لها تبديل ولا تغيير. ونعني بالعداوة الطبيعية ما يكون من منافرة بين النور والظلمة، والخير والشر، إلى غير ذلك من الأضداد المعلومة... [ويظهر ذلك جليّا بما رواه ابن إسحاق عن أم المؤمنين صفية رضي الله عنها. قال ابن إسحاق: حُدِّثت عن صفية بنت حُييّ بن أخطب أنها قالت: كنت أحَبَّ ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر؛ لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه. قالت: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قباء في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي حيي بن أخطب، وعمي أبو ياسر بن أخطب مُغَلِّسِين؛ قالت: فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس؛ قالت: فأتيا كَالَّيْن كسلانين ساقطين يمشيان الهُوَيْنَى. قالت: فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إليّ واحد منهما، مع ما بهما من الغم. قالت: وسمعت عمي أبا ياسر، وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو؟ قال: نعم والله! قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم! قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت!...][5]. تثبت هذه الواقعة أن اليهود قد عرفوا نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واستيقنوها؛ لأنهم كانوا على آثار كتابية صحيحة، وعلى نبوءات موروثة. وهذا يعني أن الله قد أعذر اليهود والنصارى، بتضمينه سبحانه للتوراة والإنجيل ما يدلهم على صفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إن هم أدركوا زمانه. ولقد ذكرنا في بداية هذا الجزء الثالث من الكتاب، كيف أن النبوة بالأصالة لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ وذكرنا أن هذا الحكم يستلزم تأخر كل نبيّ قبله عن الإمامة في الدين ليتركها له، إن هو أدركه؛ فلا داعي إلى تكرار كلامنا هنا. لكن ما ينبغي أن نثبته هنا، هو أن الكتابيّين وفي مقدمتهم اليهود، لم يكونوا جاهلين بالنبوة، ولا بعلاماتها، ولا بصفات خاتَمها، كما زعموا عند ظهورها ويزعمون إلى الآن؛ وكأن التنكُّر للواقع، يغني عنهم من الله شيئا. يقول الله تعالى في هذا المعنى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]؛ وينبغي أن نتبيّن من الآية ما يلي: - أن بعض أهل الكتاب وحدهم، كانوا على علم بصدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وهم خواصهم وأولو العلم منهم. وأما العامة من كل أمة، فهم يقلدون خواصهم؛ ولا سبيل لهم من أنفسهم لتبيُّن الحق، بسبب ضعف إدراكهم وقلة علمهم. وهؤلاء العامة هم من قال الله فيهم: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا . وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا . رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 66 - 68] - أن من عرف الحق منهم، عرفه كما يعرفون أبناءهم؛ وهذا يدل على معنييْن: الأول، هو أنهم لا يشكون فيه من جهة الشهادة (الظاهر)، كما لا يشكون في أبنائهم؛ والثاني، هو أنهم من جهة الغيب، ما يزالون تحت حكم الحجاب المناسب لمقامهم. وهم في هذا كعدم الجزم بصحة نسب الابن إلى أبيه جزما تاما، لتطرق احتمال اختلاط الأنساب بالطرق الخفية. - أن من أهل الكتاب، من دأبهم إنكار الحق بعد علمه؛ وهذه أسوأ صفة قد يقع فيها العبد. وما وقع فيها مَن وقع، إلا لأنه يرى أثر إنكاره للحق، على من يتبع رأيه ويستعين به في تبيّنه. وهذا يعني أن إنكار الحق في الغالب وظيفيّ لدى المنكرين؛ وإلا فإنهم يعلمون أن أقوالهم لا تغيّر من الحق شيئا في الواقع. ويدخل ضمن هذا الصنف، إضلال السياسيين لأقوامهم، مع علمهم بصواب خلاف ما يقولون. ولهذا السبب كان طالب الحق يُشترط عليه أن لا يخاف في الحق لومة لائم، كما يُخبر الله تعالى في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54]؛ أي لا يعتبرون في الحق أيَّ اعتبار دونه. وهذه الصفة لا تكون إلا لخواص العباد، لأننا نجد أكثر المسلمين على خلافها؛ عندما يعتبرون ما ينعكس على دنياهم من جراء اتباع الحق، فيتراجعون عنه ولو جزئيا خوف البلاء. والمصيبة، هي أن جُلّهم يجدون لنكوصهم مخارج شرعية، يوهمون بها أنفسهم ويترخصون فيما لا رُخصة فيه؛ وينسون أن الصحابة لم يكونوا يسلكون ذلك السبيل. والحق الصراح، هو ما كان عليه الصحابة المرضيون على عهد النبوة؛ فلا ينبغي لطالب الحق صرف نظره عنهم، إن كان يبغي الالتحاق بهم في الحكم. ومع أن هذا الأصل متين في فقه الدين، إلا أننا لا نكاد نجد من متأخري الفقهاء دلالة عليه، بسبب غيابه لديهم؛ وهو ما أدى -من الناحية العلمية قبل العملية- إلى فصل بين حال الصحابة وحال المتأخرين. فليُعتبر هذا!... [ويشهد بذلك أيضا ما رواه البخاري في إسلام عبد الله بن سَلاَم رضي الله عنه، فقد كان حبراً من فطاحل علماء اليهود، ولما سمع بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في بني النجار جاءه مستعجلا، وألقى إليه أسئلة لا يعلمها إلا نبي؛ ولما سمع ردوده صلى الله عليه وسلم عليها، آمن به ساعته ومكانه؛ ثم قال له: إن اليهود قوم بُهْتٌ؛ إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم، بَهَتُونِي عندك! فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت اليهود، ودخل عبد الله بن سلام البيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَيُّ رَجُلٍ فِيكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ؟» قالوا: أعلمنا وابن أعلمنا، وأخيرنا وابن أخيرنا (وفي لفظ: سيدنا وابن سيدنا، وفي لفظ آخر: خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ؟» فقالوا: أعاذه الله من ذلك! (مرتين أو ثلاثا)؛ فخرج إليهم عبد الله فقال: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله!" قالوا: شرّنا وابن شرّنا، ووقعوا فيه. وفي لفظ: فقال: يا معشر اليهود، اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو، إنكم لَتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بحق! فقالوا: كذبت! وهذه أول تجربة تلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود في أول يوم دخل فيه المدينة. وهذه هي الظروف والقضايا الداخلية التي واجهها الرسول صلى الله عليه وسلم حين نزل بالمدينة.][6]. إن حادثة إسلام عبد الله بن سلام، رضي الله عنه، تؤكد ما كان عليه اليهود من الصفات التي سبق لنا التنبيه إليها: فإنهم لم يتورعوا عن تغيير كلامهم في الحال، بسبب عزمهم على جحد الحق إن هو ظهر لهم. وما ذلك إلا لأنهم وطّنوا أنفسهم على ما اعتادوه في دنياهم، ولكونهم راضين بالعاجلة عن الآخرة. وهذه الآفة، هي أكبر ما يعترض سبيل الناس في كل زمان، وإن اختلفت الظروف. ولا ينجو منها إلا من تجرّد لطلب الحق، واستعد للبلاء؛ ومن ذلك أن يكون متهيّئا لتغيير قناعاته كلما دعت الضرورة إلى ذلك، من غير اعتبار لشيء غير الحق المحض. ولقد وجدنا أكبر المفكرين في زماننا، لا يتمكنون من التجرد للحق، رغم زعمهم لأنفسهم المكانة العقلية السامية، ورغم ظن الناس بهم أنهم لا يُمكن أن يُساوَموا في الحق!... ونحن عندما نجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُخبر عن حال المتأخرين من المسلمين، فيقول: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا! فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ؛ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ! وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ! فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ!»[7]؛ فإنه ينبغي أن نُفرق بين اعتبار العدد، كما تفعل العامة في الغالب؛ واعتبار أحوال القلوب. وقد وجدنا في زماننا كبار علماء المسلمين بحسب الزعم، عندما يخاطبون المستهينين بالإسلام من الكافرين، يقولون لهم من باب التخويف لهم: أنتم تعادون ما يُقارب ملياريْ مسلم!... ولو أنهم كانوا يُصدّقون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيما أخبر به، لسكتوا؛ لأن العدد لا اعتبار له في الحق، كما هو معلوم. ولو أن الكافرين كانوا على علم بهذه المسألة، وردّوا على المسلمين فيها، لهزموهم مرة أخرى، ولأثبتوا لهم أنهم على غير سبيل النبوة!... فليت الناس يعتبرون!... [أما من ناحية الخارج فكان يحيط بها (المدينة) من يدين بدين قريش؛ وكانت قريش ألـد عـدو للإسلام والمسلمين، جربت عليهم طوال عشرة أعوام -حينما كان المسلمون تحت أيديها- كل أساليب الإرهاب والتهديد والمضايقة والتعذيب، والمقاطعة والتجويع؛ وأذاقتهم التنكيلات والويلات، وشنت عليهم حربا نفسية مضنية مع دعاية واسعة منظمة. ولما هاجر المسلمون إلى المدينة صادرت أرضهم وديارهم وأموالهم، وحالت بينهم وبين أزواجهم وذرياتهم، بل حبست وعذبت من قدرت عليه. ولم تقتصر على هذا، بل تآمرت على الفتك بصاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم، والقضاء عليه وعلى دعوته؛ ولم تَأْلُ جهدا في تنفيذ هذه المؤامرة. فكان من الطبيعي جدا، حينما نجا المسلمون منها إلى أرض تبعد نحو خمسمائة كيلو متر، أن تقوم بـ[دورها] السياسي والعسكري، لما لها من الصدارة الدنيوية والزعامة الدينية بين أوساط العرب؛ بصفتها ساكنة الحرم ومجاورة بيت الله وسدنته؛ وتغري غيرها من مشركي الجزيرة ضد أهل المدينة. وفعلا، قامت بذلك كله حتى صارت المدينة محفوفة بالأخطار، وفي شبه مقاطعة شديدة، قَلَّتْ لأجلها المستوردات؛ في حين كان عدد اللاجئين إليها يزيد يومًا بعد يوم، وبذلك كانت [حالة الحرب] قائمة بين هؤلاء الطغاة من أهل مكة ومن دان دينهم، وبين المسلمين في وطنهم الجديد. وكان من حق المسلمين أن يصادروا أموال هؤلاء الطغاة كما صودرت أموالهم، وأن يديلوا عليهم من التنكيلات بمثل ما أدالوا به، وأن يقيموا في سبيل حياتهم العراقيل كما أقاموها في سبيل حياة المسلمين، وأن يكيلوا لهؤلاء الطغاة صاعا بصاع؛ حتى لا يجدوا سبيلا لإبادة المسلمين واستئصال خضرائهم. (...) وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعالجة كل القضايا أحسن قيام، بتوفيق من الله وتأييده، فعامل كل قوم بما كانوا يستحقونه من الرأفة والرحمة، أو الشدة والنكال؛ وذلك بجانب قيامه بتزكية النفوس وتعليم الكتاب والحكمة. ولا شك أن جانب التزكية والتعليم والرأفة والرحمة، كان غالبا على جانب الشدة والعنت، حتى عاد الأمر إلى الإسلام وأهله في بضع سنوات، وسيجد القارئ كل ذلك جليا في الصفحات الآتية.][8]. إن الوضع العام الذي يصفه الكاتب هنا، ينبئ بأن المدينة قد دخلت في حصار من قِبل الأعداء، منذ انتقال الإسلام إليها. وهذا ليس من باب العادة وحده، وحين يعادي الناس كل جديد مخلخل للعادات والتقاليد، ومخالف لما ألفه الناس من عيشهم؛ ولكنه من باب معاداة الباطل للحق قبل ذلك. ولقد كان الباطل مستقرا في بيئة الجهل والشرك، وكان الناس في تلك البيئة شياطين على صور آدمية، إلا قليلا ممن بقي منهم على الفطرة. ولما ظهر الحق على يد سيد المخلوقين وخليفة رب العالمين، صلى الله عليه وآله وسلم، فإن الزلزال الذي عرفته البواطن، كان أشد على النفوس من كل شدة في الظاهر. ولا يعلم هذا الذي نقول، إلا من ذاق الظلمة وذاق بعدها النور، وذاق الصراع بين النور والظلمة في باطنه عند الامتحان. وإنّ حصر ما كان يلاقيه المسلمون في حيواتهم بمكة وبالمدينة في البداية، أو في كل بقاع الأرض، فيما هو داخل في الجوانب المالية الاقتصادية، أو في الجوانب العسكرية وغيرها، لن يوفي المشهد العام حقه؛ وسيجعل الناظر يتوهم أن الأمر لا يخرج عما اعتاده الناس عند إقامة الدول، وعند تغيير مسار الحضارات في الأزمنة المختلفة!... الأمر أكبر من هذا وأجل!... لأنه "إعلان الحق عن نفسه" بتعبير إخواننا النصارى، في أسمى صورة وأعظم مظهر، مع إعراض جلّ الناس عنه، كما هي عادتهم. ما كان يعلم قليلا من حقيقة ما يجري، إلا عالم الملائكة، من جهة كونهم على خبرة سابقة بالتجلّي الآدمي في حضرة التعليم، حين انتهى بهم الأمر إلى السجود المعلوم، بعد المحاورة المعلومة؛ وما سيعلم في المقابل شيئا عما وقع، إلا عالم الشياطين الذين لهم سبق في الإباية والعناد؛ والجميع الآن، في محضر أصل آدم وأبيه من جهة المعنى، الذي هو الخليفة بالأصالة صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا يعني أن المنافرة بين أهل الحق وأهل الباطل، ستكون أكثر حدة. يقول ابن الفارض رضي الله عنه، في الإشارة إلى الخلافة المحمدية: فَخَمْرٌ ولا كرْم وآدَمُ لي أبٌ وكَرْمٌ ولا خَمْرٌ ولي أُمُّها أُمُّ فالمقصود بالأم في البيت الحقيقة المحمدية، التي تكون الصورة المحمدية الآدمية أعظم مظاهرها. والملائكة والشيطان، قد عرفوا -منذ الوهلة الأولى- ما لم يعرفه الناس من أهل الكفر أو من أهل الإيمان، بسبب الخبرة السابقة التي كانت لهم مع آدم. ونحن ندخل أهل الإيمان في الجهل بحقيقة ما وقع، لأن علم ذلك خاص، وهم بعدُ في أول طريق التعرُّف. وكل ما ستُسفر عنه الأحداث، فإنما هو من آثار ما وقع في عالم الغيب -يوم تنصيب آدم خليفة- على عالم الشهادة فحسب. ونعني من هذا أن من عادى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنما عاداه بما يجده في باطنه من نفور عن الحق؛ لا عن علم بحقيقته المنزهة عن تعلق علمه بها؛ وأن من والاه صلى الله عليه وآله وسلم، لم يواله إلا مما يجد من انشراح في باطنه، لا عن علم في البداية. كل هذا، لأن الخطب أجل من أن تُدركه العقول، أو تتعلق به الأوهام. يقول الله تعالى في هذا: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125]. ولقد كنا نضرب المثل لمن كنا نُخاطبه في تقريب الحقيقة، فنقول: إن الله قد تنزل لعباده وتجلى في عالم السُّفل في صورة آدمية تشبه صورهم، فلم يعرفه فيها أحد؛ إلا بعد كشفه لحقيقته لهم فيما بينه وبينهم. وكنا نقول: هذا يُشبه ما يقوم به بعض ملوك الأرض، من خروج في الليل على مثل ما تكون عليه العامة في الهيئات، من غير إظهار خصوصية لمرتبتهم؛ ليقفوا على أحوال الرعية كما هي، ومن غير أن يتزيّن لهم أحد. غير أن الله، لم يتنزل سبحانه ليعلم من عباده ما لا يعلمه من عليائه؛ ولكن ليُكرم من شاء منهم بمعرفته في عالم الطبيعة عيانا، كما منّ عليهم بمعرفة صفات كماله إيمانا. وهذه منّة، لو عرف بها الثقلان لغابوا عن عقولهم طربا وفرحا؛ ولكن الله احتجب سبحانه بما شاء من الحجُب، حتى لا يَعرف ما ذكرنا إلا من سبقت لهم منه العناية. وإذا كان الله قد تجلى لعباده من الأمم السابقة، في صور الكُمّل من أنبيائه، فإنه اختص آخر الأمم، والشطر الثاني من الزمان بأكمل التجليات وأتم الصور؛ فلا يعلم قدر هذه النعمة إلا الأنبياء السابقون ورؤساء الملائكة عليهم السلام. ويبقى كل ما يُدركه الناس من النبوة المحمدية عموما، ومن السيرة المطهرة خصوصا، ظِلالا لما هي الحقيقة عليه. لذلك، فنحن لن نكتفي في هذا الكتاب بإعادة الأمور إلى العادة، أو إلى ظاهر النصوص من الوحي؛ ولكن سنفتح بين الحين والآخر نوافذ إلى عالم الغيب للدلالة على العظمة، وإن كنا على علم بأن العظمة لا تحتملها النشأة الطبيعية في الدار الدنيا إلا يسيرا. وهذا المعنى هو ما يُشير إليه قول الله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21]. فإن علم المرء أن الجبل وهو من أقوى الأجسام الطبيعية، لا يحتمل نزول القرآن عليه، فليعلم الآن أن القرآن هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ وليعلم بعد ذلك أنه لن يُطيق معرفته أحد من الخلق، إلا بما يُقدره الله عليه؛ لا كما هو في نفسه صلى الله عليه وآله وسلم... ونحن هنا نعني المؤمنين قبل الكافرين!... 2. تأسيس المجتمع الرباني: ا. بناء المسجد: إن المجتمع الرباني، ينبغي أن يقوم على عبادة الله، من كونها أجلّ ما يُعتبر؛ لا على متطلبات الحياة الطبيعية، التي ما عاد الناس يعرفون غيرها. ألسنا نرى الأسس التي تقوم عليها سياسات الدول في زماننا، والتي لا تتجاوز في المرتبة الأولى ما يُسمى "الاقتصاد"؟ لظن الظانين أنه لا حاجة للناس إلا الحاجات الحيوانية([9])!... وأين مجتمع لا يعرف من نفسه إلا حيوانيته، من مجتمع يقوم على عبادة الله التي هي مناط آدميته!... يقول الله تعالى تنبيها إلى أُس الأمر: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. ويتجلى هذا الفرق بين المجتمعيْن، إن نحن قارنّا بين مجتمعات الشرك ومجتمع المسلمين بالمدينة، في كون أول ما اعتنى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كل الأمور "المسجد". والمسجد هنا ليس بناء يجتمع فيه القوم على أداء شعائرهم، مما يَعدُّه المتأخرون من الخصوصيات الحضارية، فحسب؛ ولكنه المكان الذي تجتمع فيه القلوب قبل الأبدان، على الخليفة الإلهي العام صلى الله عليه وآله وسلم. وهكذا، فإن الصلاة في الإسلام، لن تكون شعيرة بالمعنى المعتاد لدى الكتابيّين من مرتبتهم، أو بعد طروء الغفلة عليهم؛ ولا هي معاملة تُشبه ما كان يُعامِل به أهل الجاهلية أصنامهم؛ وإنما هي تحلُّق (يظهر في المكان الواحد الجزئي اصطفافا، ويظهر في الأرض كلها تحلُّقا) بحسب المراتب في الحضرة الإلهية، لطوافها المعنوي حول الاسم "الله" في مظهره الأسمى. وهذا يعني أن هذه الصلة بالله المتحققة في الصلاة، ستكون أساس كل المعاملات الاسمية البينية، في المجتمع المسلم في سائر الأوقات. ونعني من هذا، أن المسلمين ينبغي أن يكونوا في صلاة في كل أوقاتهم من ليلهم ونهارهم، من جهة بواطنهم؛ وأنهم لا يعودون إلى المسجد في الأوقات المخصوصة وعلى الهيئة المشروعة، إلا من أجل ذوق الصلة في أعلى تجلياتها. وهذا يجعلهم في حال صلاتهم في استمداد لما هم في حاجة إليه من جميع صنوف المدد، ليتمكنوا من الإنفاق (الإمداد) مما نالوه لمن هو دونهم في الوقت، من أجل أن يتحققوا بالجمعية المطلوبة، والتي يقتضيها التوحيد. ونعني من هذا، أن الإسلام ليس دينا شركيا يقوم على عبادة ألوهية، دون اعتبار سريانها في جميع المظاهر الاسمية التي تكون في المرتبة تحت الاسم "الله"؛ وإن لم يعلم ذلك كل أحد، ولا أدرك ذلك من نفسه كل أحد. وذلك لأنه لا يُدرك المعنى الذي نُشير إليه إلا الكُمّل من العباد، لا كل مؤمن أو كل عالم!... [وأول خطوة خطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك هو بناء المسجد النبوي، واختار له المكان الذي بركت فيه ناقته صلى الله عليه وسلم، فاشتراه من غلامين يتيمين كانا يملكانه، وأسهم في بنائه بنفسه، فكان ينقل اللبِن والحجارة ويقول: اللهم لا عَيْشَ إلا عَيْشُ الآخرة فاغْفِرْ للأنصار والمـُهَاجِرَة وكان يقول: هذا الحِـــمَالُ لا حِـــمَال خَيْبَر هــــذا أبـَــــرُّ رَبَّنَا وأطْـــهَر وكان ذلك مما يزيد نشاط الصحابة في العمل، حتى إن أحدهم ليقول: لَئِــــنْ قَعَــــدْنا والنَّبِيُّ يَعْمَــل لَـذاكَ مِــنَّا العَمَــــلُ المـُضَلَّل وكانت في ذلك المكان قبور للمشركين، وكان فيه خرب ونخل وشجرة من غَرْقَد، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت، وبالخَرِب فسوي، وبالنخل والشجرة فقطعت، وصفت في قبلة المسجد؛ وكانت القبلة إلى بيت المقدس. وجعلت عضادتاه من حجارة، وأقيمت حيطانه من اللبن والطين، وجعل سقفه من جريد النخل، وعُمُده الجذوع، وفرشت أرضه بالرمال والحصباء، وجعلت له ثلاثة أبواب، وطوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع؛ والجانبان مثل ذلك أو دونه، وكان أساسه قريبا من ثلاثة أذرع.][10]. وهكذا سيكون المسجد بمعناه الأصلي، المكان الذي تدور حوله حياة المجتمع المسلم بكل تفاصيلها: فهو محل إقامة الصلوات، وهو محل إلقاء البلاغات النبوية (الخطب)، وهو محل التعليم النبوي، وهو محل التداول في الشؤون العامة (البرلمان الإسلامي)، وهو القاعدة العسكرية التي يتم فيها التخطيط للحروب، ويتم الإعداد لها. وقد يرى بعض المتأخرين من المتأثرين بالفكر العالمي، أن ذلك كان قصورا عما تعرفه الدول الحديثة من مؤسسات يستقل بعضها عن بعض، وتقوم بتدبير مختلف القطاعات المذكورة؛ ويرون أن جمع ذلك في محل واحد هو المسجد، إنما كان لأن "الدولة" كانت في صورتها البدائية بحسب ما يظنونه من أثر للزمان في تطور مظاهر التمدن كلها. ونحن لا نوافقهم الرأي البتة، لأسباب منها: - أن ما أسسه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الخليفة عن الله، لا يبلغه أحد ممن هم دونه في المرتبة؛ وإن بدا للجاهلين أنه أكمل من جهة الصورة المنوطة بالزمان. - أن اضطلاع المسجد بجميع المهام، من تعليم وتدبير للشورى مدنيا وعسكريا، يضمن أن تكون أمور الناس كلها موافقة لما شرعه الله لعباده من أحكام؛ ويضمن مركزية اتخاذ القرار، بأكثر مما تضمنه رئاسة الوزراء في زماننا، أو رئاسة الدولة. - أن الكلام في الشؤون العامة على رؤوس الأشهاد، عامتهم وخاصتهم، يجعل الأمة مطمئنة إلى ما يُتوصّل إليه من قرارات؛ ويمنع أن يدخل بين الفرد المسلم وقيادته أي شيطان من شياطين الإنس والجن، إن كان يروم التثبيط وزرع الشك. وهذا يبقي المجتمع المسلم على أقوى تماسك يمكن لمجتمع بشري أن يبلغه. - لكن المسجد لا يقوم بهذه الوظائف الخطيرة من نفسه، أي من كونه مسجدا بالاسم؛ ولكن ذلك منوط بكون الجماعة المسلمة جماعة شرعية. والجماعة الشرعية هي ما كان على الصورة الأولى التي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عليها مع أصحابه. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وصف "الفرقة الناجية" من أمته: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي»[11] . وهذه الصفة لا تتحقق إلا إن كان الإمام ربانيا، نبيّا أو وارثا (خليفة)؛ لأن الرباني يضمن سير الأمور في الاتجاه الذي يرضي الله. أما اليوم، فإن المسجد لم يعد على الصفة التي أسسه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها؛ لأن الجماعة فقدت صفة الشرعية عندما صار أئمتها غير ربانيّين، وعندما صارت جماعة كل مسجد منفصلة عن جماعات المساجد الأخرى. وهذا يعني أن المسجد قد احتفظ بالحد الأدنى من وظائفه، وهو أن يكون محلا للصلاة فحسب. وأما إن نحن اعتبرنا التوظيف السياسي من المتأخرين للمساجد، بما يجعل الجماعة فيها أحيانا تخرج إلى مخالفة الشريعة؛ فإن ذلك سينزع صفة المسجد ذاتها عن المكان. ولسنا نعني بالصفة هنا، إلا الصفة الشرعية، لا الوصف اللغوي الذي يكون به المسجد محلا للسجود. وعندما جهل الناس أصول ما يتعلق بالمساجد من أحكام، فإن الفتن عادت مستقرة فيها ومنطلقة منها، بعكس المظنون. ولقد عمل الشيطان منذ القرن الأول على طمس وظائف المسجد لدى المسلمين، ليتمكن من تفريقهم أباديد، حسّا ومعنى. ولكن أهم ما ناله اللعين من الأمة، هو الجهل بمرتبة الخلافة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والتي هي الشرط في استمرار الجماعة على ما كانت عليه؛ لأن هذه المرتبة يدور عليها كل ما عداها من الوظائف التي ذكرناها آنفا. وسنعود -إن شاء الله- إلى انقضاض أول عروة في الإسلام (عروة الحكم)، عندما نصل إلى زمن الخلافة الراشدة؛ ليتضح الانحراف العام الذي بدأ يسم جماعة المسلمين، والذي بلغ مداه في الأزمنة المتأخرة كما نرى عيانا... وأما تضخيم أبنية المساجد، وتزيينها بما يجعلها معارض للفنون الزخرفية وفنون التبليط، وغير ذلك مما يلحق بما ذكرنا؛ فإن الناس يرومون به -علموا أم لم يعلموا- تعويض ما لحق بتديّنهم من نقص، وما نال قلوبهم من خراب؛ وهيهات!... ب. المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار: وبعد تشييد مكان اجتماع الجماعة الربانية، لم يبق أمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلا أن يؤاخي بين المهاجرين والأنصار في الله، ليمحو عنهم الفوارق الموروثة من الجانبيْن: جانب مكة المتمثل في المهاجرين، وجانب المدينة المتمثل في الأنصار. ولقد رتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هذه الأخوة أحكاما لا تقل عن أحكام أخوة الدم. ولقد واسى الأنصار بدنياهم المهاجرين، حتى عرضوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يُقاسموهم النخيل، وهي أعز ما يملكون. فيروي أبو هريرة رضي الله عنه قائلا: "قَالَتْ الْأَنْصَارُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ!" قَالَ: «لَا!» فَقَالُوا: "تَكْفُونَا الْمَؤُونَةَ وَنَشْرَكْكُمْ فِي الثَّمَرَةِ!" قَالُوا (أي المهاجرون): "سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا!"[12]. ويحدثنا الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فيقول: "لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ؛ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ: إِنِّي أَكْثَرُ الْأَنْصَارِ مَالًا، فَأَقْسِمُ لَكَ نِصْفَ مَالِي، وَانْظُرْ أَيَّ زَوْجَتَيَّ هَوِيتَ، نَزَلْتُ لَكَ عَنْهَا؛ فَإِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا. قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَا حَاجَةَ لِي فِي ذَلِكَ، هَلْ مِنْ سُوقٍ فِيهِ تِجَارَةٌ؟ قَالَ: سُوقُ قَيْنُقَاعٍ! قَالَ: فَغَدَا إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَأَتَى بِأَقِطٍ وَسَمْنٍ، قَالَ: ثُمَّ تَابَعَ الْغُدُوَّ، فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَلَيْهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَزَوَّجْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالَ: وَمَنْ؟ قَالَ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ! قَالَ: كَمْ سُقْتَ؟ قَالَ: زِنَةَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ! فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ!»[13]. ولم يكن سعد بن الربيع منفردا في ذلك عن غيره من الأنصار؛ بل كان هذا شأن عامة الصحابة، حتى وصلت المؤاخاة إلى درجة أن يتوارث المتآخيان؛ ثم نُسخ هذا التوارث بقول الله عز وجل:{وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }[الأنفال:75]. وإن المجتمع الإنساني منذ خلقه الله وإلى أن يأذن سبحانه بفناء الدنيا والانقلاب إلى الآخرة، لم يعرف، ولن يعرف أخوة في الدين كالتي أنشأها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار. ووالله إنه لا تبلغها في الأزمنة الأخرى أخوة الدم مع أخوة الدين مـُجتمعتيْن!... فكان هذا المجتمع الفاضل، المتماسك والمتعاون، والذي يتخذ دنياه مطية لآخرته، معجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ استطاع الناس بمدده الشريف، أن يتجاوزوا آثار الأنانيات الضيقة، واستطاع الفرد منهم أن يعيش "الأنا" الجمعية التي هي شرط في قيام الأمة؛ فكانوا بحق -رضي الله عن جميعهم- جسدا واحدا، كما وصفهم سيّدهم وصاحب الفضل عليهم، في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى.»[14]. وهذا الاتحاد الذي تحقق بين المؤمنين، لم يكن ليتم إلا باتحاد الأسماء الإلهية الجمالية، تحت الاسم "الرحمن" الظاهر بالمظهر المحمدي. فكانوا بذلك كتلة صماء، في مواجهة مظاهر الجلال التي تدبرها الأسماء الجلالية، والتي هي أيضا تحت هيمنة الاسم "الرحمن"، لكن من جهة غيب المظهر المحمدي دون شهادته. وهذه المسألة مما يكون الفصل فيه بين الغيب والشهادة ضروريا، بخلاف ما تظن العامة من اتحاد بينهما ضرورة. وعلى كل حال، فإن علم الأسماء من العلوم الخاصة؛ ونحن ما نشير إليها إلا تسهيلا على المستشرفين، ممن زكت بواطنهم فحسب. ولقد أثنى الله على المهاجرين والأنصار في أخوتهم، بما لا يبلغه كلام متكلم، فقال سبحانه وهو ربهم: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ . وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 8، 9]؛ فشهد الله للفريقيْن بالفوز: الأول بالهجرة إلى الله ورسوله مع الزهد في الدنيا والقوم، والثاني بإيواء الفريق الأول ومحبته محبة خالصة لله، أنتجت لهم الإيثار على أنفسهم بعد مجاوزة أثر حكم الشح النفسي الطبيعي. وهذا يدل من جهةِ علمِ التزكية على أن المهاجرين والأنصار، لم يعودوا في غالبيتهم من أهل مرتبة الإسلام وحدها؛ بل لقد تجاوزوها بهمة (إرادة) النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في أقصر مدة، إلى أعلى مقامات الإيمان. وعن قريب سيبلغون بالمدد النبوي ذُرى الإحسان!... فلله دره من مجتمع عُجن بالإيمان، على عين النبي العدنان!... وإن المتأخرين من المؤمنين، إن هم لم يتبيّنوا الأسس التي قام عليها مجتمع الصحابة، والتي على رأسها الربانية النبوية، والتزكية النبوية القائمة على المدد النبوي الإلهي، فإنهم لن يتمكنوا من معرفة مواطن قوة ذلك المجتمع؛ وبالتالي سيبقون دون ما تحقق له من الغايات (ثمرات الإيمان). وإن كل ما يسعى إليه المتأخرون من تعويض في هذا الباب، عن طريق مدارسة رسم الدين وعلومه فيما بينهم، لن يبلغ بهم أدنى مرتبة من مراتب الصحابة؛ لإخطائهم الطريق. ونعني من هذا أن طريق التديُّن، لا يقوم فيه التجريد مقام الذوق (التجربة) أبدا. وإن الخلط بين الأمريْن، ما لم يُتناول من قِبل العلماء، تسهيلا على الناس لتمييز الأصول الأولى التي ينبني عليها الدين، سيُبقي الحال على ما هو عليه؛ وبالتالي ستبقى أسباب ضعف الأمة وهوانها قائمة. والله سبحانه، لا يُغير ما بالناس، حتى يغيّروا ما بأنفسهم، كما أخبر تعالى في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]. وأولى مراحل تغيير ما بالنفس، تصحيح العلم؛ لكون العلم أساسا لكل عمل قلبي وبدني بعده. ولقد ذكر الله سبحانه أهم ركيزة لذلك كله، في قوله سبحانه: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر: 9]. وهذا يعني أن المحبة كانت متبادلة بين المهاجرين والأنصار، وفيما بين كل فريق على حدة. ومن هنا يُعلم أن اللُّحمة التي تقوم عليها الأمة، لا تكون غير المحبة. والمحبة، لا يبلغها أفراد الأمة إلا إن هم اجتمعوا على إمام رباني، يكون معهم على الصورة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه («مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي!»). وذلك لأن الرباني هو المظهر الجامع لمعنييْ المحبة والمحبوبية، الوارد بهما الوحي في قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]. وما اجتمع في الإمام، هو عينه ما ظهر متفرقا في الأتباع؛ فهم بمحبتهم لإمامهم يُحب بعضهم بعضا، لا بأنفسهم. وقد غاب هذا المعنى عن أذهان الناس، فذهبت بغيابه المحبة؛ مع أنه قد ورد في الحديث القدسي: «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي!»[15]. وحتى لا يختلط معنى الجلال من مستوى الصفات، بهذا الجلال هنا؛ فإننا نقول: إن الجلال في لفظ الحديث يُقصد منه الذات. والمحبة التي تحابّ بها المتحابون الذين يُنادى عليهم يوم القيامة، هي من المحبة الإلهية الذاتية؛ لذلك كان جزاؤهم فوق كل الجزاءات التي هي منوطة بالأحوال والأعمال مما دونها؛ ولم يكن لهم من جزاء إلا أن يُظلهم الله في ظله. ومعنى إظلال الله لهم، هو إدراج نورهم في نوره سبحانه؛ لتعود منهم الفروع إلى أصلها. وليس فوق هذه المرتبة مرتبة يكون لعبد فيها مطمع؛ ولا يفوق هؤلاء العباد منزلة إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو نور الله الذي يعودون إليه انتهاء، كما كان صدورهم عنه ابتداء. نقول هذا، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الواسطة بين جميع العباد والحق؛ فلا يجهلن أحد ويتوهم أنه سيصل إلى الله خارج المظهر المحمدي وجودا وشهودا!... ومن عقل عنا ما نخاطبه به، فإنه سيعلم أنا قد دللناه على سر الله الأعظم وكنزه الأفخم؛ فليعرف قدر ما دللناه عليه، وليكن من الشاكرين!... ومن آثار أخوة المحبة، ما جناه الصحابة من ثمار؛ وعلى رأس ذلك: - صدق النصيحة: وذلك لأن الأخ يكره أن يرى أخاه على منقصة يَأْباها الله ورسوله، وتحول دون تحقُّق الأخ بصفات الكمال. فعن وهب بن عبد الله رضي الله عنه، قال: "آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ: فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا! فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ (سلمان): كُلْ! قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ! قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ! قَالَ: فَأَكَلَ. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ، ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ؛ قَالَ: نَمْ! فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ؛ فَقَالَ: نَمْ! فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ؛ قَالَ سَلْمَانُ: قُمْ الْآنَ! فَصَلَّيَا. فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا؛ فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ!"، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ سَلْمَانُ!»[16]. وتدل هذه القصة على أن الصحابة المتآخين في النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يصير بعضهم إلى بعض سفراء التعليم النبوي وسفراء التزكية النبوية؛ حتى تعود التربية القلبية الإيمانية فيما بينهم كالعسل الذي يتعاون أفراد النحل على إنتاجه بجميع حركاتهم. ومن لم يعرف التربية على هذا النحو، فما عرفها!... ونعني من كلامنا، أن الجماعات الإيمانية في المتأخرين، إن كانت مجموعة على إمام رباني، فلا بد من أن تظهر هذه الصفة بين أفرادها عند تحققهم بالأخوة فيه. ولقد كان شيوخ المغرب يقولون في هذا المعنى: "إن الشيخ يلد، والفقراء (المريدون) يُربّون!". وهذا يدل على أن الأمة جسد واحد، لا في الزمان الواحد فقط؛ ولكن في جميع الأزمنة المتعاقبة، من البعثة النبوية الشريفة إلى قيام الساعة. وبهذا الشرط يجد المتأخرون ما وجده السابقون من ثمرات الإيمان، ويتحقق لهم السير على الطريق الواحد (المحجة البيضاء)؛ بل ويتحقق لهم البعث الواحد، ليظهروا يوم القيامة أمةً لا أشتاتا من الناس؛ وهو ما سنذكر أصله بعد هذا... - الاتحاد بين الإخوة: يقول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103]. والوحدة الإسلامية تقتضي عدم الاستجابة إلى أسباب الفُرقة التي كانت قد عرفتها الجاهلية؛ مع إبراز مكانة الوحدة في الدين، بحيث يُصبح المرء الخارج عنها، عائدا إلى الجاهلية ولو جزئيا. وقد بيّنت الآية ذلك بوضوح، عند تذكير الله بإنعامه سبحانه على المسلمين بالأخوة الإيمانية، وتحذيره سبحانه من العودة إلى سابق عهد حال الجاهلية، مع ربط ذلك بالنار، التي هي أصل -قبل أن تصير مآل- كل عمل معاكس لروح التشريع. ولقد أهمل المتأخرون من المسلمين هذا الأصل، وعادوا إلى الفُرقة المنهيّ عنها؛ بل إن الفرقة مع طول العهد بها، قد أصبحت لا تثير في النفوس شيئا من التضجُّر، وكأنها هي الأصل. وهذا، إن كان يعني شيئا، فإنه يعني أن القلوب في عمومها قد انحرفت عن التديُّن الأصلي، واختلطت بها أحوال ما كان الدين ليقبل بها في حال صفائه ونقائه. ثم يقول الله بعد ذلك: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 104، 105]. والمعنى هو أن المسلمين بعد التزامهم أوامر ربهم المتعلّقة بوجوب تحقيق الأخوة العامة، وبعد نبذ ما يعاكسها من أحوال الفرقة التي درج عليها الجاهليّون؛ سيصبحون لأول مرة أمة. ومعنى الأمة، مشتق من "الأم"؛ والمقصود هو اجتماع المسلمين على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، اجتماعا يُشبه اجتماع الأطفال على أمهم؛ وهذا يُعيدنا إلى مركزية الربانية (النبوية والوراثية) في بناء الأمة. وإن نحن عدنا إلى المقارنة بين الرعيل الأول والذين جاءوا من بعدهم، فإننا سنجد السبب الرئيس للفُرقة الطارئة على الأمة، الجهل بمركزية الربانية في صورة "الخلافة الراشدة"، وفيما بعدها. وذلك لأن الجهل بهذا الأصل، جعل الناس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يتوهمون أنهم قد فقدوا النبوة بانتقال صاحبها إلى البرزخ. وهذا أمر خطير، لم يتصد له الصحابة -في عمومهم- فَمَن بعدهم، بما يليق من إعادة التأصيل للمركزية الربانية ضمن بناء الأمة، وقبل ذلك ضمن العلم الحق. وهكذا بدأت تيارات الردة تعمل في جسم الأمة، إما بصفة مباشرة فورية، وإما بصفة تدريجية، جعلت الناس ينسون منصب الإمامة الدينية، ويعودون إلى مركزية السلطة وحدها. وهذا، لأن من لا صلة له بالتشريع والربانية، لا بد من أن يعود إلى السلطة، من حيث هي الناظم البديل لجميع شؤونه. وإن العودة إلى السلطة، تقع حتما، لأنها مظهر تراتب الأسماء الإلهية؛ وإن إدراك العباد لمعاني الأسماء من دون ردّ لها إلى الاسم الجامع أو إلى الاسم الخليفة، يجعلهم يعبدون ببواطنهم مظاهرها، وإن أبقوا على دلائل الإسلام فيما يعود إلى الظواهر. وهو ما سيجعلهم لا يختلفون كثيرا من جهة النُّظم السياسية الاجتماعية، عما كانت عليه الإمبراطوريات القديمة المعروفة من التاريخ. والمؤسف، هو أن الأمة إلى الآن، لم تتبيّن مكامن الانحراف الأول؛ وما زالت عاملة بالمبدأ الخاطئ ذاته، الذي كان سببا في تمزقها، ألا وهو الاستعانة في مضمار السياسة والحكم، بما وصلت إليه المجتمعات البشرية في الشرق أو في الغرب؛ زاعمين غلطا أن الإسلام ليس له نظام حكم مخصوص، وإنما هو يعرض مبادئ عامة، ويقبل كل نظام يُنتجه الفكر البشري، إن كان لا يُصادمها. وهذه المقولة ضلالية من غير شك، يروّج لها الجهلة من حملة العلوم الدينية (لا العلماء)؛ لأن الحقيقة هي أن الإسلام له نظام مخصوص، يقوم على اعتبار مركزية الربانية فيه، وإن جُهلت مكانتها منذ القرن الأول. وبما أننا هنا لسنا بصدد تفصيل القول في هذ المسألة، وأن هذا الفصل لا يحتملها، فإننا سنرجئ تبيانها إلى مرحلة ما بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعند تعريف الخلافة بأنواعها... (يُتبع...) [1] . الرحيق المختوم، للمباركفوري. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.