اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2020/12/16 الحوار الغائب (ج3) -14- المرحلة المكّيّة (5) (تابع...) 25. عزم قريش على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: [ولما رأى المشركون أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تجهزوا وخرجوا، وحملوا وساقوا الذراري والأطفال والأموال إلى الأوس والخزرج أصابتهم الكآبة والحزن، وساورهم القلق والهم بشكل لم يسبق له مثيل، فقد تجسد أمامهم خطر حقيقي عظيم، أخذ يهدد كيانهم الوثني والاقتصادي. فقد كانوا يعلمون ما في شخصية محمد صلى الله عليه وسلم من غاية قوة التأثير مع كمال القيادة والإرشاد، وما في أصحابه من العزيمة والاستقامة والفداء في سبيله، ثم ما في قبائل الأوس والخزرج من القوة والمنعة، وما في عقلاء هاتين القبيلتين من عواطف السلم والصلاح، والتداعي إلى نبذ الأحقاد، ولاسيما بعد أن ذاقوا مرارة الحروب الأهلية طيلة أعوام من الدهر. كما كانوا يعرفون ما للمدينة من الموقع الاستراتيجي بالنسبة إلى المحجة التجارية التي تمر بساحل البحر الأحمر من اليمن إلى الشام. وقد كان أهل مكة يتاجرون إلى الشام بقدر ربع مليون دينار ذهب سنويا، سوى ما كان لأهل الطائف وغيرها. ومعلوم أن مدار هذه التجارة كان على استقرار الأمن في تلك الطريق. فلا يخفى ما كان لقريش من الخطر البالغ في تمركز الدعوة الإسلامية في يثرب، ومجابهة أهلها لهم. شعر المشركون بتفاقم الخطر الذي كان يهدد كيانهم، فصاروا يبحثون عن أنجح الوسائل لدفع هذا الخطر الذي مبعثه الوحيد هو حامل لواء دعوة الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم. وفي يوم الخميس 26 من شهر صفر سنة 14 من النبوة، الموافق 12 من شهر سبتمبر سنة 622م -أي بعد شهرين ونصف تقريبا من بيعة العقبة الكبرى- عقد برلمان مكة (دار الندوة) في أوائل النهار أخطر اجتماع له في تاريخه، وتوافد إلى هذا الاجتماع جميع نواب القبائل القرشية؛ ليتدارسوا خطة حاسمة تكفل القضاء سريعا على حامل لواء الدعوة الإسلامية؛ وتقطع تيار نورها عن الوجود نهائيا. وكانت الوجوه البارزة في هذا الاجتماع الخطير من نواب قبائل قريش: ولما جاءوا إلى دار الندوة حسب الميعاد، اعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل، عليه بَتٌّ له، ووقف على الباب، فقالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتّعدتم له، فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى ألا يعدمكم منه رأيا ونصحا. قالوا: أجل، فادخل! فدخل معهم. وبعد أن تكامل الاجتماع بدأ عرض الاقتراحات والحلول، ودار النقاش طويلا. قال أبو الأسود: نخرجه من بين أظهرنا وننفيه من بلادنا، ولا نبالي أين ذهب، ولا حيث وقع؛ فقد أصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت. قال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي! ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به؟ والله لو فعلتم ذلك، ما أمنتم أن يحل على حي من العرب، ثم يسير بهم إليكم -بعد أن يتابعوه- حتى يطأكم بهم في بلادكم، ثم يفعل بكم ما أراد. دبروا فيه رأيا غير هذا! قال أبو البختري: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ما أصاب أمثاله من الشعراء الذين كانوا قبله (زُهيرا والنابغة) ومن مضى منهم، من هذا الموت؛ حتى يصيبه ما أصابهم. قال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي! والله لئن حبستموه -كما تقولون- ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم، فينزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم. ما هذا لكم برأي! فانظروا في غيره. وبعد أن رفض البرلمان هذين الاقتراحين، قدم إليه اقتراح آثم وافق عليه جميع أعضائه، تقدم به كبير مجرمي مكة أبو جهل بن هشام. قال أبو جهل: والله إن لي فيه رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد. قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نَسِيبا وَسِيطا فينا؛ ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه، فيضربوه بها ضربة رجل واحد، فيقتلوه، فنستريح منه؛ فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا، فرضوا منا بالعَقْل، فعقلناه لهم. قال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل! هذا الرأي الذي لا رأي غيره. ووافق برلمان مكة على هذا الاقتراح الآثم بالإجماع، ورجع النواب إلى بيوتهم وقد صمموا على تنفيذ هذا القرار فورًا.][1]. ونستخلص من هذا الجزء أمورا، منها: - أن الشيطان قد يظهر للناس في صورة آدمية، إذا شاء؛ وهذا من ضمن ما آتاه الله من أسباب الإضلال، عندما باء باللعن. وإن غفلة الناس عن هذه القدرات التي أوتيها إبليس، قد تجعلهم عُرضة لها. يقول الله تعالى: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ . وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ . قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ . قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ . إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ . قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 77 - 83]. والعباد المـُخلَصون الذين يعلم اللعين أنه لا سلطان له عليهم، هم الكاملون من الأولياء لا غيرهم. ولقد استهان بهذا الأصل كثير من علماء الدين ومن المؤمنين، فكانت عاقبة أمرهم خُسرا. ويدل على أن الله قد أمد إبليس بما يُمكّنه من الإضلال، قوله سبحانه: {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ . قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ . قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ . ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ . قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 14 - 18]. ونعني من كلامنا أن الإنظار الذي سأله إبليس، كان لغاية في نفسه، علمها الله وأقرّه عليها؛ ألا وهي الإضلال. ثم إن إقسام اللعين على القعود للناس على الصراط المستقيم، يعني ضمنا أنه قد مُكّن من ذلك بجميع الوسائل. وهذا داخل ضمن مشيئة الله الحاكمة على إبليس وعلى المكلَّفين. والإقسام بالعزة، هو من علم اللعين، بأن مهمة إضلاله، هي من أثر صفة العزة الإلهية؛ لذلك هو قد تحمَّل هذه المهمة بالفرح اللائق بها. فهو يعلم أنه بمرتبته هذه، يقابل جميع الأنبياء عليهم السلام، من كونهم هداة إلى الصراط المستقيم. ولهذا كنا نقول: إن إبليس مقابل لرسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في شمولها؛ لكنه لا يُقابل الحقيقة المحمدية، بسبب كونها حقيقة من حقائقها فحسب. ولعلنا قد ذكرنا في غير هذا الموضع، لمَ اختُصّ إضلال إبليس بجهات الأمام والخلف، واليمين والشمال، دون جهتيْ العلو والسُّفل؛ ولا بأس من التذكير بذلك هنا. والسر في ذلك كله، هو أن جهة العلو للربوبية وحدها، وجهة السفل لعبودية العبد الكامنة في أصل نفسه. وهاتان الجهتان محرمتان على إبليس، لأن الربوبية أعز من أن تُزاحم، ولأن العبودية أحمى من أن تُقتحم. ولو كان اللعين يُطيق العبودية، ما كان تأبّى على السجود، وهو منتهى العبودية. ومن تتبع الأصول في معاني الكلام، ظهرت له أسراره؛ فلا ينبغي أن يبقى العالِم مع المقولات التقليدية وحدها!... ولعلنا سنعود في مرات أخرى -بإذن الله- إلى الكلام عن أسرار إبليس، في مواضع تستدعي ذلك، ليكون الناس على بيّنة منه ومن طرقه وأساليبه... - أن كلام إبليس لم يكن مقتصرا على ما يظهر على لسانه وهو في صورة الشيخ النجدي؛ بل كان المفتيَ للقوم من جهة باطنهم أيضا، من دون أن يشعروا. ومن لم يكن من أهل النور، فإنه لا يعلم ما يدخل قلبه ولا ما يخرج منه؛ وبالتالي فلن يميِّز إلقاء الشيطان إليه. ولقد أضل اللعين كثيرا من أهل الدين في الظاهر من هذا الباب؛ فكيف بمن لا دين له!... وهو مِن أعلم الخلق بطرق الاستدلال الشرعي من جهة الظاهر، فيأتي العلماء بما يظهر لهم في صورة الدليل ليضلهم عن السبيل. لهذا السبب، لم يكن علماء الإسلام يستغنون-إن هم أرادوا السلامة- عن فتوى أهل الباطن؛ حتى يبيّنوا لهم ما غاب عنهم من تلبيساته. وقد يكتفي من كبار أهل العلم والورع، بترك الأولى؛ إن هو لم يتمكّن من إخراجهم إلى الباطل الصُّراح. ورغم أن بعض الفقهاء قد ألف في تلبيسات إبليس، إلا أنه ينبغي أن ننبه إلى أن ما يدخل منها في دائرة علمهم، لا يكاد يُعتبر فيما لا يدخل. وذلك بسبب كثرة تشعيبه، مع اطلاعه على طرق الاستنباط كما ذكرنا. وهو يطمع حتى في خواص الأمة، ويأتيهم بما ظاهره شبهة؛ فيكشفونه بالنور الرباني لا بنور عقولهم. ولا بأس هنا من أن نورد ما حكاه الشيخ الأكبر قُدِّس سره عن مناظرة إبليس للتستَريّ، حتى نبيّن بعض أسرارها: يقول الشيخ الأكبر: [قال سهل بن عبد الله عالمنا وإمامنا: لقيت إبليس فعرفته وعرف مني أني عرفته فوقعت بيننا مناظرة فقال لي وقلت له؛ وعلا بيننا الكلام، وطال النزاع، بحيث أن وقفت ووقف، وحرت وحار؛ فكان من آخر ما قال: قال الله عز وجل: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، فعمّ؛ ولا يخفى عليك أني شيء بلا شك، لأن لفظة كل تقتضي الإحاطة والعموم، و"شيء" أنكر النكرات؛ فقد وسعتني رحمته. قال سهل فوالله لقد أخرسني وحيرني بلطافة سياقه وظفره بمثل هذه الآية، وفهمه منها ما لم نفهم، وعلمه منها ومن دلالتها ما لم نعلم. فبقيت حائراً متفكراً وأخذت أتلو الآية في نفسي، فلما جئت إلى قوله تعالى فيها: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156]، سررت وتخيلت أني قد ظفرت بحجة، وظهرت عليه بما يقصم ظهره، وقلت له: يا ملعون إن الله قد قيدها بنعوت مخصوصة يخرجها من ذلك العموم فقال: {فَسَأَكْتُبُهَا}! فتبسم إبليس، وقال: يا سهيل، ما كنت أظن أن يبلغ بك الجهل هذا المبلغ، ولا ظننت أنك ها هنا! ألست تعلم يا سهل أن التقييد صفتك لا صفته؟ قال سهل: فرجعت إلى نفسي، وغصصت بريقي، وأقام الماء في حلقي، ووالله ما وجدت جواباً ولا سددت في وجهه باباً؛ وعلمت أنه طمع في مطمع، وانصرف وانصرفت. ووالله ما أدري بعد هذا، ما يكون؛ فإن الله سبحانه ما نص بما يرفع هذا الإشكال. فبقي الأمر عندي على المشيئة منه في خلقه، لا أحكم عليه في ذلك بأمد ينتهي، أو بأمد لا ينتهي.][2]. ولنتناول ما يخص هذه الواقعة، بما يناسب الوقت، فنقول: ا. إن لقاء كبار الأولياء باللعين، هو من باب الكرامة لهم؛ لا من باب التسليط. فهو يأتيهم صاغرا مقهورا، ليعلموا منه ما يشاء الله لهم أن يعلموه. ولقد رأيناه مرة في واقعة يطل علينا من نافذة غرفة الجلوس التي كانت لنا في بيتنا بجرادة؛ وبمجرد أن رأيناه عرفناه، وعرف منا أنّا عرفناه؛ فصار يتأخر ويتصاغر إلى أن اختفى عن نظرنا؛ ولم يكلمنا، ولم نكلمه. وقد ظهر لنا حينها -لعنه الله- في صورة فقهاء المغرب: أسمر اللون، دون الأربعين من عمره؛ له جلباب أبيض، يضع "قُبّه" (غطاء الرأس من الجلباب) على رأسه. ولقد التقيناه قبل هذه المرة، تحت إشراف شيخنا رضي الله عنه -إبّان سلوكنا- ووقعت بيننا معركة أظفرني الله عليه فيها، بعد جهد ومجاهدة، نضرب عنها صفحا هنا طلبا للاختصار. ب. إن إثبات اللعين لنفسه نيل الرحمة الواسعة له، بالاستدلال الذي تقدّم صحيح؛ لكن هذه الرحمة تعم العذاب أيضا، بوصفه شيئا من الأشياء. وأما الرحمة التي هي مقيّدة بتقييد الله، فهي خالصة للمؤمنين، ولا تناله. وحكم الرحمة الواسعة لا يُناقض خصوص الرحمة، لأن هذه الأخيرة متضمَّنة في الأولى. ونحن لا ندري سبب توقف سهل -رضي الله عنه- في هذه المسألة، وهي مما يدخل ضمن معلومه بلا شك؛ ولا نرى لذلك وجها، إلا أن نظره كان إلى المشيئة وإطلاقها. وذلك لأن طلاقة المشيئة، قد تحجب عن تقييداتها في الوقت؛ لكن العلم بالطلاقة من حيث هي طلاقة، يُعطي أن التقييد من معاني الإطلاق، لئلا يبقى الإطلاق متعلقا بوجه واحد. ولسنا نعني بالتقييد هنا، إلا كونه إطلاقا عن الإطلاق. وعلى كل حال فإبليس محجوج، بأي وجه من الوجوه؛ ما لم يكن الاعتبار للذات وحدها. ولعل هذا ما جعل التستري يتوقف، وجعل الشيخ الأكبر يسكت؛ لأنه هو ما يناسب مقامهما، رضي الله عنهما. وأما سكوت الشيخ الأكبر في نفسه، عن المسألة، فكأنه يُريد به تحفيز من يقرأون كلامه، على الاستزادة من العلم؛ لأن الولي إذا توجه إلى مسألة كان يجهلها، علّمه الله إياها بإذنه إكراما له. لذلك، فلا سبيل إلى أن يجعل الناظرون في هذه المسألة، الكلام حجة لإبليس؛ فإنه أهون على الله من أن يجعل له حجة على أوليائه!... وأما الكلام في المشيئة كما أشرنا، فهو وجه آخر للمسألة، لا يقدر على الخوض فيه إلا من كان ذاتيا. ولعل سهلا، قد سبقه النظر إلى هذا الوجه، فسكت أدبا مع الله؛ وهذا أليق به، رضي الله عنه. ويدل هذا منه، على أن الأولياء، لا يسعَون إلى إقامة الحجة على أحد، بغير إذن من الله؛ وإن كان المحجوج إبليس نفسه. وذلك لأن إقامة الحجة على العباد، تدخل ضمن الربوبية، وهم رضي الله عنهم يفرون منها فرارا. فليُتأمّل هذا!... ج. إن إشارة إبليس على القرشيّين بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، دليل على جهله التام؛ لأنه لو كان يعلم مرتبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لعلم أنه تحت تصرّفه، لا يتمكن من أن يتحرك أو يسكن إلا بأمره، من جهة الغيب. ومن هذه الحضرة، أخبر الله عن عيسى (وهو وجه من الوجوه المحمدية)، فقال سبحانه: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157]؛ والمعنى هو أنه لا أحد يتسلّط على عيسى، أو في مقدوره ذلك... وأما إثبات تسلط الشيطان على الأنبياء، كما في قول الله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]، فهو من حضرة أخرى؛ يكون فيها الخليفة من جهة الغيب، مسلِّطا للأسماء الحاكمة على إبليس على بدنه الشريف، أو على قلبه الشريف؛ لحكمة يُريدها من نفسه، أو من العالَم حوله. وهذا لا يُنقص من مرتبة العبد الخاص شيئا، بل يُثبت له الخلافة الباطنية. وعلى هذا، فإن إبليس، لن يزيد نفسه وأتباعه، بفتاواه لهم، إلا خذلانا وبوارا؛ من حيث لا يعلم هو، أو لا يعلمون هم!... ومن علم هذا الذي نقوله هنا، من حزب الله، لم يتكدّر من شيء يصدر عن أعداء الله، ويكون على يقين من انقلابه بعد حين، إلى ما يسره ويسر المؤمنين أجمعين!... وهذا الباب من العلم، من أرجى أبوابه؛ ومن أكثرها بعثا على السرور!... د. إن كل من يسعى إلى قتل عدوه، لا يفعل ذلك إلا من مقام الضدّ؛ سواء أكان الساعي ربانيا أم كان شيطانيا. أما الرباني إن عاد إلى مرتبة جمعه، فإنه لا يقصد إلى قتل عدوه أبدا؛ لأنه يراه تحت تصرفه، ويرى كل شؤونه منه وإليه؛ ولا يُمكن تبعا لذلك أن يكره شيئا منه. ومن هنا كان إبليس لا يضر في النهاية إلا نفسه، وأما النبي صلى الله عليه وآله وسلم -والوارثون- فإن تضرُّره منه لا يكون إلا ظاهريا، يزداد به علما ورفعة. وهذا الذي نذكره، هو ما سيتسبب في حسرة اللعين وندمه على الإيذاء؛ عند علمه بأنه كان يسعى في نفع أعدائه بجهله. وما أردنا أن نثبته بكلامنا هنا، هو أن الراغب في قتل عدوه، لا يُعبّر بذلك إلا عن ضيق مقامه في الوقت. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم، شاء الله له أن ينتقل في المقامات صعودا ونزولا، حتى تظهر الحكم الإلهية من ذلك؛ وأما لو بقي في عُلاه، فإن ذلك كله يبقى مكتوما، والله أراد الإظهار. فلله الحمد على إذنه لعبده صلى الله عليه وآله وسلم، بتطوره في المراتب والمقامات، ليُعلّم الخواص والعوام ما لم يكونوا يعلمون. وعلى العموم، فإن الكلام عن خصوصيات النبي صلى الله عليه وآله وسلم يضيق؛ وكلٌّ يتكلم فيه على قدر علمه فحسب. ولله در ابن الفارض عندما يقول: 26. هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: [من طبيعة مثل هذا الاجتماع السريةُ للغاية، وألا يبدو على السطح الظاهر أي حركة تخالف اليوميات، وتغاير العادات المستمرة، حتى لا يشم أحد رائحة التآمر والخطر، ولا يدور في خلد أحد أن هناك غموضا ينبئ عن الشر؛ وكان هذا مكرا من قريش، ولكنهم ماكروا بذلك الله سبحانه وتعالى، فخيبهم من حيث لا يشعرون. فقد نزل جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من ربه تبارك وتعالى فأخبره بمؤامرة قريش، وأن الله قد أذن له في الخروج، وحدد له وقت الهجرة، وبين له خطة الرد على قريش فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه. وذهب النبي صلى الله عليه وسلم في الهاجرة -حين يستريح الناس في بيوتهم- إلى أبي بكر رضي الله عنه ليبرم معه مراحل الهجرة. قالت عائشة رضي الله عنها: "بَيَّنَا نَحْنُ جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، قَالَ قَائِلٌ لأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي، وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلا أَمْرٌ! قَالَتْ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَ، فَأَذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ؛ فَقَالَ لأَبِي بَكْرٍ: «أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ!» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: «فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ!» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصُّحْبَةَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: «نَعَمْ.»"[3]. ثم أبرم معه خطة الهجرة، ورجع إلى بيته ينتظر مجيء الليل. وقد استمر في أعماله اليومية حسب المعتاد حتى لم يشعر أحد بأنه يستعد للهجرة، أو لأي أمر آخر اتقاء مما قررته قريش. أما أكابر مجرمي قريش فقضوا نهارهم في الإعداد سرا لتنفيذ الخطة المرسومة التي أبرمها برلمان مكة (دار الندوة) صباحا، واختير لذلك أحد عشر رئيسا من هؤلاء الأكابر، وهم: أبو جهل بن هشام، والحَكَم بن أبي العاص، وعُقْبَة بن أبي مُعَيْط، والنَّضْر بن الحارث، وأُمية بن خَلَف، وزَمْعَة بن الأسود، وطُعَيْمة بن عَدِيّ، وأبو لهب، وأبيّ بن خلف، ونُبَيْه بن الحجاج، وأخوه مُنَبِّه بن الحجاج. وكان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينام في أوائل الليل بعد صلاة العشاء، ويخرج بعد نصف الليل إلى المسجد الحرام، يصلي فيه قيام الليل، فأمر عليّا رضي الله عنه تلك الليلة أن يضطجع على فراشه، ويتسجى ببرده الحضرمي الأخضر، وأخبره أنه لا يصيبه مكروه. فلما كانت عتمة من الليل وساد الهدوء، ونام عامة الناس جاء المذكورون إلى بيته صلى الله عليه وسلم سرا، واجتمعوا على بابه يرصدونه، وهم يظنونه نائما، حتى إذا قام وخرج وثبوا عليه، ونفذوا ما قرروا فيه. وكانوا على ثقة ويقين جازم من نجاح هذه المؤامرة الدنيّة، حتى وقف أبو جهل وقفة الزهو والخيلاء، وقال مخاطبا لأصحابه المطوقين في سخرية واستهزاء: إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم، ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها! وقد كان ميعاد تنفيذ تلك المؤامرة بعد منتصف الليل في وقت خروجه صلى الله عليه وسلم من البيت، فباتوا متيقظين ينتظرون "ساعة الصفر"، ولكن الله غالب على أمره، بيده ملكوت السموات والأرض، يفعل ما يشاء، وهو يجير ولا يجـار عليه، فقـد فعـل مـا خاطب به الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بعد: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]. وقد فشلت قريش في خطتهم فشلا ذريعا مع غاية التيقظ والتنبه؛ إذ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيت، واخترق صفوفهم، وأخذ حفنة من البطحاء فجعل يذره على رؤوسهم، وقد أخذ الله أبصارهم عنه فلا يرونه، وهو يتلو: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يس:9]. فلم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا، ومضى إلى بيت أبي بكر، فخرجا من خوخة في دار أبي بكر ليلا حتى لحقا بغار ثَوْر في اتجاه اليمن. وبقي المحاصِرون ينتظرون حلول ساعة الصفر، وقبيل حلولها تجلت لهم الخيبة والفشل، فقد جاءهم رجل ممن لم يكن معهم، ورآهم ببابه فقال: ما تنتظرون؟ قالوا: محمدا! قال: خبتم وخسرتم! قد والله مر بكم، وذرّ على رؤوسكم التراب، وانطلق لحاجته! قالوا: والله ما أبصرناه! وقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم. ولكنهم تطلعوا من صير الباب فرأوا عليّا، فقالوا: والله إن هذا لمحمد نائماً، عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا. وقام عليٌّ عن الفراش، فسُقط في أيديهم، وسألوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا علم لي به!... غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته في ليلة 27 من شهر صفر سنة 14 من النبوة، الموافق 12/13 سبتمبر سنة 622م. وأتى إلى دار رفيقه -وأمنّ الناس عليه في صحبته وماله- أبي بكر رضي الله عنه. ثم غادر منزل الأخير من باب خلفي؛ ليخرجا من مكة على عجل وقبل أن يطلع الفجر. ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن قريشا سَتَجِدُّ في الطلب، وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيس المتجه شمالا، فسلك الطريق الذي يضاده تماما، وهو الطريق الواقع جنوب مكة، والمتجه نحو اليمن. سلك هذا الطريق نحو خمسة أميال حتى بلغ إلى جبل يعرف بجبل ثَوْر، وهو جبل شامخ، وَعِر الطريق، صعب المرتقى، ذو أحجار كثيرة، فحفيت قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: بل كان يمشي في الطريق على أطراف قدميه كي يخفي أثره فحفيت قدماه؛ وأيا ما كان فقد حمله أبو بكر حين بلغ إلى الجبل، وطفق يشتد به حتى انتهى به إلى غار في قمة الجبل عرف في التاريخ بغار ثور. ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: والله لا تدخله حتى أدخل قبلك، فإن كان فيه شيء أصابني دونك. فدخل فكسحه، ووجد في جانبه ثقبا فشق إزاره وسده به، وبقي منها اثنان فألقمهما رجليه، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادخل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضع رأسه في حجره ونام. فلُدغ أبو بكر في رجله من الجحر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «مَا لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟» قال: لدغت، فداك أبي وأمي! فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب ما يجده([4]). وكَمُنَا في الغار ثلاث ليال، ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد. وكان عبد الله بن أبي بكر يبيت عندهما. قالت عائشة: وهو غلام شاب ثَقِف لَقِن، فيُدْلِج من عندهما بسَحَرٍ، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرا يكتادون به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام. و[كان] يرعى عليهما عامر بن فُهَيْرَة مولى أبي بكر مِنْحَة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رِسْل -وهو لبن مِنْحَتِهما ورَضيفِهما- حتى يَنْعِق بها عامر بن فُهَيْرَة بغَلَس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث. وكان عامر بن فهيرة يتبع بغنمه أثر عبد الله بن أبي بكر بعد ذهابه إلى مكة ليُعَفي عليه. أما قريش فقد جن جنونها حينما تأكد لديها إفلات رسول الله صلى الله عليه وسلم صباح ليلة تنفيذ المؤامرة. فأول ما فعلوا بهذا الصدد أنهم ضربوا عليّا، وسحبوه إلى الكعبة، وحبسوه ساعة، علهم يظفرون بخبرهما. ولما لم يحصلوا من عليّ على جدوى، جاءوا إلى بيت أبي بكر وقرعوا بابه، فخرجت إليهم أسماء بنت أبي بكر، فقالوا لها: أين أبوك؟ قالت: لا أدري والله أين أبي؟ فـرفع أبو جهل يـده -وكان فاحشا خبيثا- فلطم خـدها لطمـة طـرح منها قرطها. وقررت قريش في جلسة طارئة مستعجلة استخدام جميع الوسائل التي يمكن بها القبض على الرجلين، فوضعت جميع الطرق النافذة من مكة (في جميع الجهات) تحت المراقبة المسلحة الشديدة، كما قررت إعطاء مكافأة ضخمة قدرها مائة ناقة بدل كل واحد منهما، لمن يعيدهما إلى قريش حيين أو ميتين؛ كائنا من كان. وحينئذ جدت الفرسان والمشاة وقُصّاص الأثر في الطلب، وانتشروا في الجبال والوديان، والوهاد والهضاب؛ لكن من دون جدوى وبغير عائدة. وقد وصل المطاردون إلى باب الغار، ولكن الله غالب على أمره. روى البخاري عن أنس عن أبي بكر قال: "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت: يا نبي الله، لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا. قال: «اسْكُتْ يَا أَبَا بَكْرٍ! اثْنَانِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا!»، وفي لفظ: «مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟!». وقد كانت معجزة أكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد رجع المطاردون حين لم يبق بينه وبينهم إلا خطوات معدودة. وقد ذكر ابن إسحاق المواضع التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الطريق، قال: لما خرج بهما الدليل سلك بهما أسفل مكة، ثم مضى بهما على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من عُسْفَان، ثم سلك بهما على أسفل أمَج، ثم استجاز بهما حتى عارض بهما الطريق بعد أن أجاز قُدَيْداً، ثم أجاز بهما من مكانه ذلك فسلك بهما الْخَرَّار، ثم سلك بهما ثَنَّية الْمَرَّة، ثم سلك بهما لِقْفاً، ثم أجاز بهما مَدْلَجَة لِقْف، ثم استبطن بهما مَدْلَجة مِجَاج، ثم سلك بهما مَرْجِح مِجَاح، ثم تبطن بهما مَرْجِح من ذي الغُضْوَيْن، ثم بطن ذي كَشْر، ثم أخذ بهما على الْجَدَاجِد، ثم على الأجرد، ثم سلك بهما ذا سلم من بطن أعدا مَدْلَجَة تِعْهِنَ، ثم على العَبَابيد، ثم أجاز بهما الفَاجَة، ثم هبط بهما الْعَرْج، ثم سلك بهما ثنية العَائِر -عن يمين رَكُوبة- حتى هبط بهما بطن رِئْم، ثم قدم بهما على قُباء.][5]. ولنستخلص الآن بعض أسرار هذا الجزء من السيرة المطهرة: ا. مشروعية الهجرة: إن هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الحسيّة من مكة إلى المدينة، ليست إلا تكثيفا لمعاني الهجرة المعنوية التي تكون للعبد إلى ربه. وقيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها، هو من أجل سَنِّها، ليقتدي به المقتدون من زمنه ذاك، إلى قيام الساعة. يقول الله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 100]. والآية تُبيّن غاية الهجرة القلبية، التي هي الله ورسوله؛ وهذه الغاية مندرجة في الغاية الحسيّة، بالنظر إلى المهاجرين الأولين. وذلك لأن المهاجرين بهجرتهم من مكة إلى المدينة، إنما كانوا يهاجرون إلى الله ورسوله، لا إلى يثرب. و"الله ورسوله" هنا اسم مركّب، للمظهر المحمدي الخليفة عن الله، كما ذكرنا في غير هذا المحل. وهذه الهجرة وإن كانت من جهة الظاهر مسنونة، فهي فرض على العبد المسلم؛ ليتم له قطع مراتب الدين كلها، ويتحقق بالإسلام التام لربه. وقد جُهلت هذه الهجرة، عند عموم أهل الإسلام، بعد حلول قرون الغفلة، واكتفاء الناس بصورة ظاهر الدين، التي صار فقهاء الرسوم سدنة لها. وهكذا، لم يُبق على سنة الهجرة إلا أهل السلوك من هذه الأمة، رضي الله عنهم، وجزاهم خيرا. ب. لا تصح الهجرة المعنوية لسالك، إلا بصحبة شيخ مرشد. ولقد كان الشيخُ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم، وكان المريد السالك أبا بكر رضي الله عنه. فنعم الشيخ ونعم السالك هما!... وكما أن طريق الهجرة الحسيّة محفوف بالأخطار، ويتطلب مراوغة للأعداء وإعدادا جيدا لخطة السفر؛ فكذلك السلوك القلبي، هو محفوف بالمخاطر الناجمة عن آفات النفوس، وعن مكر إبليس؛ ويتطلب علما خاصا يُنجي من ذلك كله. وهذا العلم لا يكون للمريد، وإنما هو مـُطالب فيه بمتابعة شيخه في إرشاده، من غير تكلّف. فإن تحققت له المتابعة نجا، ثم رزقه الله علم ما لم يكن يعلم فيما بعد. وأما إن هو رجع إلى عقله، فإنه يقع فريسة للنفس والشيطان، ويكون من الخاسرين. ولا معين للمريد على متابعة شيخه، إلا المحبة!... ولقد بلغت المحبة بأبي بكر رضي الله عنه، أن صار درعا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، يقيه المخاطر بنفسه؛ وظهرا له، يحمله ليخفف عنه مشقة المسير؛ فكان ذلك براقا له رضي الله عنه، طار به في سلوكه؛ فقطع مراتب الدين في أقصر مدة!... لذلك، فلا ينبغي أن يحرص مريد على شيء، كحرصه على الفوز بمحبة شيخه (أن يصير هو مـُحِبّا لشيخه)؛ فإن تحققت له المحبة، فلا يسأل عن شيء بعدها؛ لأنه سيكون طائرا بكريّ السلوك. ج. قد يدعي المحبة كل أحد، لذلك يُطلب من صاحبها الدليل؛ وليس إلا الفناء في قدوته وإمامه. فإن صار السالك يهتم لراحة إمامه ويغيب عما يدخل في حظوظه الشخصية، فقد شهد له الحال بصحة محبته؛ وإن بقي راعيا لشؤونه مع وجود شيخه، فإنه يكون كاذبا في دعواه. وهذه السنة المتعلقة بالهجرة، لا تتغيّر ولا تتبدل؛ وهي سارية عند أهلها من خواص هذه الأمة، إلى قيام الساعة. وأما الفقهاء، فإنهم في الغالب يجهلون ما يتعلق بفقه القلوب؛ لذلك فلا ينبغي أن تُعتبر أقوالهم في مسألة الهجرة القلبية. ولقد شهد الحال لأبي بكر رضي الله عنه، بصدّيقيته (المقام الأكبر في الصدق) في كل شؤونه؛ لذلك أكرمه الله بأن ذكره في قوله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40]؛ ليكون قدوة في سلوكه لكل سالك بعده، كما هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدوة لكل شيخ بعده. وأما الغار الحسي، فهو كناية عن كهف العناية الإلهية الخاصة، التي حفت الإمام والمأموم. وقول الله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}، هو مطابق لما ورد في الحديث الذي ذكرناه آنفا، عندما رد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أبي بكر بقوله عليه السلام: «مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟!». ولا يصح هذا القول إلا من رباني، يكون الله حقيقته!... ومن هنا كان لا بد للشيخ الدال على الطريق، أن يكون قد فرغ من نفسه، وتحقق له الوصول؛ بل لا بد أن يكون من أهل التحقق بالحق، لا من أهل الوصول وحده. فإذا كان الدال ربانيا، فإن المدلول لا يخاف على نفسه شيئا؛ لأن غايته معه، لا تفارقه في مظهر مصحوبه، وإن كان لا يعلم. ولسنا نعني بالغاية إلا الله، الذي يطلب السالك الوصول إليه. د. وأما العون الذي كان يأتي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتلميذه، تارة من مظهر راع يجلب لهما الحليب، وتارة من مظهر مخبِر يحيطهما علما بشؤون الأعداء، وتارة من مظهر دليل يسلك بهما الطرق المجهولة المأمونة؛ فهو من الأمداد التي يؤتيها الله ظاهر الشيخ وظاهر المريد وباطنه. وقد خصصنا الشيخ بالظاهر وحده، لأنه لا يُشارك تلميذه إلا من جهة الظاهر؛ وأما من جهة الباطن فالشيخ الإمام، هو أصل المدد كله الآتي من جهتَيْ الحسّ والمعنى. وإن هذا العلم مما ينبغي أن يحصله المريدون، حتى ينتفعوا بأئمتهم؛ كما انتفع أبو بكر بصحبته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكل هذا الذي نذكره هنا، هو مندرج ضمن علم الصحبة من فقه الباطن، والذي ندعو علماء الأمة إلى إعادة اكتشافه من جديد، ليتمكنوا من دلالة عوام الأمة عليه. ولنا عودة إلى ما يتعلق بالهجرة في الفقرات المقبلة بإذن الله... ه. لا يفوتنا أن نذكر هنا خصوصية عليّ وخصوصية أبي بكر عليهما السلام؛ حتى لا يظن الجاهلون بأحدهما الظنون. فلولا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان يعتبر عليّا من نفسه؛ ما تركه في محلّه، يبيت في فراشه ويتدثر بدثاره. ولولا أن أبا بكر كان الصاحب الأخص للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ما اصطفاه للخروج معه وحده. وإن أبا بكر في هذا الخروج -عليه السلام- كان يمثّل الأمة كلها، سلفها وخلفها. فما أسناها من مرتبة!... وعلى هذا، فإن من لا يجمع في محبته وتعظيمه بين عليّ وأبي بكر، فإن محبته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، تكون مدخولة، بغير أدنى شك!... ونحن ننصح الأمة هنا، بأن تتخلى عن بدع الرافضة والنواصب أجمعين؛ لعلها تعود إلى صفاء الدين، فتظفر منه بما ظفر به الأولون السابقون. 27. في الطريق: [ا. روى البخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: أَسْرَيْنَا لَيْلَتَنَا وَمِنَ الْغَدِ حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ وَخَلَا الطَّرِيقُ لَا يَمُرُّ فِيهِ أَحَدٌ فَرُفِعَتْ لَنَا صَخْرَةٌ طَوِيلَةٌ لَهَا ظِلٌّ لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَنَزَلْنَا عِنْدَهُ وَسَوَّيْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَانًا بِيَدِي يَنَامُ عَلَيْهِ وَبَسَطْتُ فِيهِ فَرْوَةً، وَقُلْتُ: نَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنَا أَنْفُضُ لَكَ مَا حَوْلَكَ! فَنَامَ وَخَرَجْتُ أَنْفُضُ مَا حَوْلَهُ، فَإِذَا أَنَا بِرَاعٍ مُقْبِلٍ بِغَنَمِهِ إِلَى الصَّخْرَةِ يُرِيدُ مِنْهَا مِثْلَ الَّذِي أَرَدْنَا، فَقُلْتُ لَهُ: لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلَامُ، فَقَالَ: لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوْ مَكَّةَ... قُلْتُ: أَفِي غَنَمِكَ لَبَنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ! قُلْتُ: أَفَتَحْلُبُ، قَالَ: نَعَمْ! فَأَخَذَ شَاةً، فَقُلْتُ: انْفُضْ الضَّرْعَ مِنَ التُّرَابِ وَالشَّعَرِ وَالْقَذَى! قَالَ: فَرَأَيْتُ الْبَرَاءَ يَضْرِبُ إِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى يَنْفُضُ، فَحَلَبَ فِي قَعْبٍ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ وَمَعِي إِدَاوَةٌ حَمَلْتُهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْتَوِي مِنْهَا، يَشْرَبُ وَيَتَوَضَّأُ؛ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُ، فَوَافَقْتُهُ حِينَ اسْتَيْقَظَ فَصَبَبْتُ مِنَ الْمَاءِ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ؛ ثُمَّ قَالَ: أَلَمْ يَأْنِ لِلرَّحِيلِ؟ قُلْتُ: بَلَى! قَالَ: فَارْتَحَلْنَا... ب. وكان من دأب أبي بكر رضي الله عنه أنه كان ردفا للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان شيخا يُعرف، ونبي الله صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف، فيلقي الرجل أبا بكر فيقول: من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني الطريق، فيحسب الحاسب أنه يعني به الطريق، وإنما يعني سبيل الخير. ج. وفي اليوم الثاني أو الثالث مر بخيمتي أم مَعْبَد الخزاعية، وكان موقعهما بالمـُشَلَّل من ناحية قُدَيْد على بعد نحو 130 كيلو متر من مكة. وكانت أم معبد امرأة برزة جلدة تحتبي بفناء الخيمة، ثم تطعم وتسقي من مر بها، فسألاها: هل عندها شيء؟ فقالت: والله لو كان عندنا شيء ما أعوزكم، القِرَى والشاء عازب، وكانت سَنَةٌ شَهْباء. "فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِلَى شَاةٍ فِي كَسْرِ الْخَيْمَةِ، فَقَالَ: «مَا هَذِهِ الشَّاةُ يَا أُمَّ مَعْبَدٍ؟» قَالَتْ: شَاةٌ خَلَّفَهَا الْجَهْدُ عَنِ الْغَنَمِ. قَالَ: «هَلْ بِهَا مِنْ لَبَنٍ؟» قَالَتْ: هِيَ أَجْهَدُ مِنْ ذَلِكَ! قَالَ: «أَتَأْذَنِينَ لِي أَنْ أَحْلُبَهَا؟» قَالَتْ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، إِنْ رَأَيْتَ بِهَا حَلْبًا فَاحْلُبْهَا. فَدَعَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَمَسَحَ بِيَدِهِ ضَرْعَهَا، وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى، وَدَعَا لَهَا فِي شَاتِهَا، فَتَفَاجَّتْ عَلَيْهِ وَدَرَّتْ، فَاجْتَرَّتْ، فَدَعَا بِإِنَاءٍ يَرْبِضُ الرَّهْطُ فَحَلَبَ فِيهِ ثَجًّا حَتَّى عَلاهُ الْبَهَاءُ؛ ثُمَّ سَقَاهَا حَتَّى رَوِيَتْ، وَسَقَى أَصْحَابَهُ حَتَّى رَوَوْا، وَشَرِبَ آخِرَهُمْ حَتَّى أَرَاضُوا؛ ثُمَّ حَلَبَ فِيهِ الثَّانِيَةَ عَلَى هَدَّةٍ حَتَّى مَلأَ الإِنَاءَ؛ ثُمَّ غَادَرَهُ عِنْدَهَا، ثُمَّ بَايَعَهَا وَارْتَحَلُوا عَنْهَا. فَقَلَّ مَا لَبِثَتْ، حَتَّى جَاءَهَا زَوْجُهَا أَبُو مَعْبَدٍ لِيَسُوقَ أَعْنُزًا عِجَافًا يَتَسَاوَكْنَ هُزَالا مُخُّهُنَّ قَلِيلٌ، فَلَمَّا رَأَى أَبُو مَعْبَدٍ اللَّبَنَ أَعْجَبَهُ، قَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا يَا أُمَّ مَعْبَدٍ وَالشَّاءُ عَازِبٌ حَائِلٌ، وَلا حلوبَ فِي الْبَيْتِ؟ قَالَتْ: لا وَاللَّهِ، إِلا أَنَّهُ مَرَّ بِنَا رَجُلٌ مُبَارَكٌ مِنْ حَالِهِ كَذَا وَكَذَا... قَالَ: صِفِيهِ لِي يَا أُمَّ مَعْبَدٍ! قَالَتْ: رَأَيْتُ رَجُلا ظَاهِرَ الْوَضَاءَةِ، أَبْلَجَ الْوَجْهِ، حَسَنَ الْخَلْقِ، لَمْ تَعِبْهُ ثَجْلَةٌ، وَلَمْ تُزْرِهِ صَعْلَةٌ؛ وَسِيمٌ قَسِيمٌ، فِي عَيْنَيْهِ دَعَجٌ، وَفِي أَشْفَارِهِ وَطَفٌ، وَفِي صَوْتِهِ صَهَلٌ، وَفِي عُنُقِهِ سَطَعٌ، وَفِي لِحْيَتِهِ كَثَاثَةٌ، أَزَجُّ أَقْرَنُ؛ إِنْ صَمَتَ فَعَلَيْهِ الْوَقَارُ، وَإِنْ تَكَلَّمَ سَمَاهُ وَعَلاهُ الْبَهَاءُ، أَجْمَلُ النَّاسِ وَأَبْهَاهُ مِنْ بَعِيدٍ، وَأَحْسَنُهُ وَأَجْمَلُهُ مِنْ قَرِيبٍ؛ حُلْوُ الْمَنْطِقِ فَصْلا، لا نَزْرٌ وَلا هَذْرٌ، كَأَنَّ مَنْطِقَهُ خَرَزَاتُ نَظْمٍ يَتَحَدَّرْنَ؛ رَبْعَةٌ لا تَشْنَأَهُ مِنْ طُولٍ، وَلا تَقْتَحِمُهُ عَيْنٌ مِنْ قِصَرٍ، غُصْنٌ بَيْنَ غُصْنَيْنِ؛ فَهُوَ أَنْضَرُ الثَّلاثَةِ مَنْظَرًا، وَأَحْسَنُهُمْ قَدْرًا؛ لَهُ رُفَقَاءُ يَحُفُّونَ بِهِ، إِنْ قَالَ سَمِعُوا لِقَوْلِهِ، وَإِنْ أَمَرَ تَبَادَرُوا إِلَى أَمْرِهِ، مَحْفُودٌ مَحْشُودٌ لا عَابِسٌ وَلا مُفَنَّدٌ... قَالَ أَبُو مَعْبَدٍ: هَذَا وَاللَّهِ صَاحِبُ قُرَيْشٍ، الَّذِي ذُكِرَ لَنَا مِنْ أَمْرِهِ مَا ذُكِرَ؛ وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَصْحَبَهُ، وَلأَفْعَلَنَّ إِنْ وَجَدْتُ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلا. وَأَصْبَحَ صَوْتٌ بِمَكَّةَ عَالِيًا يَسْمَعُونَ الصَّوْتَ، وَلا يَدْرُونَ مَنْ صَاحِبُهُ، وَهُوَ يَقُولُ: جَزَى اللَّهُ رَبُّ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ رَفِيقَيْنِ حَلّا خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبـــــــــــــدِ قالت أسماء: ما درينا أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة فأنشد هذه الأبيات، والناس يتبعونه ويسمعون صوته ولا يرونه، حتى خرج من أعلاها. قالت: فلما سمعنا قوله، عرفنا حيث توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن وجهه إلى المدينة. وفي رواية عن أبي بكر قال: ارتحلنا والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا منهم أحد غير سراقة بن مالك بن جُعْشُم، على فرس له؛ فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله! فقال: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]. (...) ورجع سراقة فوجد الناس في الطلب فجعل يقول: قد استبرأت لكم الخبر، قد كُفيتم ما ها هنا. وكان أول النهار جاهدا عليهما، وآخره حارسا لهما. ه. وفي الطريق لقي النبي صلى الله عليه وسلم بُريْدَة بن الحُصَيْب الأسلمي ومعه نحو ثمانين بيتا، فأسلم وأسلموا، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة فصلوا خلفه، وأقام بريدة بأرض قومه حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أُحُد. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عن أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَفَاءَلُ وَلا يَتَطَيَّرُ؛ فَرَكِبَ بُرَيْدَةُ فِي سَبْعِينَ رَاكِبًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ مِنْ بَنِي سَهْمٍ، فَلَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: «مِمَّنْ أَنْتَ؟» قَالَ: مِنْ أَسْلَمَ! فَقَالَ لأَبِي بَكْرٍ: «سَلِمْنَا!» ثُمَّ قَالَ: «مِنْ بَنِي مَنْ؟» قَالَ: مِنْ بَنِي سَهْمٍ! قَالَ: «خَرَجَ سَهْمُكَ!»[8]. و. ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي أوْس تميم بن حَجَر أو بأبي تميم أوس بن حجر الأسلمى، بقحداوات بين الجُحْفَة وهَرْشَى -بالعرج- وكان قد أبطأ عليه بعض ظهره، فكان هو وأبو بكر على جمل واحد، فحمله أوس على فحل من إبله، وبعث معهما غلاما له اسمه مسعود، وقال: اسلك بهما حيث تعلم من محارم الطريق ولا تفارقهما، فسلك بهما الطريق حتى أدخلهما المدينة، ثم رد رسول الله صلى الله عليه وسلم مسعودا إلى سيده، وأمره أن يأمر أوسا أن يسم إبله في أعناقها قيد الفرس، وهو حلقتان، ومد بينهما مدا؛ فهي سمتهم. ولما أتى المشركون يوم أحد أرسل أوس غلامه مسعود بن هُنَيْدَة من العَرْج على قدميه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بهم. ذكره ابن مَاكُولا عن الطبري. وقد أسلم بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان يسكن العرج. ز. وفي الطريق -في بطن رِئْم- لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير، وهو في ركب من المسلمين، كانوا تجارا قافلين من الشام؛ فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابا بياضا. وفي يوم الاثنين 8 ربيع الأول سنة 14 من النبوة -وهي السنة الأولى من الهجرة- الموافق 23 سبتمبر سنة 622م نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء. قال عروة بن الزبير: سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحَرَّة، فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة. فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم، أَوْفَى رجل من يهود على أُطُم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مُبَيَّضِين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح. وتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة. قيل: وسُمِعت الوَجْبَةُ والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبر المسلمون فرحا بقدومه، وخرجوا للقائه، فتلقوه وحيوه بتحية النبوة، فأحدقوا به مطيفين حوله، والسكينة تغشاه، والوحي ينزل عليه: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4]. قال عروة بن الزبير: فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول. فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحيِّي -وفي نسخة: يجيء- أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك. وكانت المدينة كلها قد زحفت للاستقبال، وكان يوما مشهودا، لم تشهد المدينة مثله في تاريخها. وقد رأى اليهود صدق بشارة حَبْقُوق النبي: "الله جاء من تيمان، والقدوس من جبل فاران."[9] ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء على كلثوم بن الهدم، وقيل: بل على سعد بن خَيْثَمَة، والأول أثبت. ومكث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بمكة ثلاثًا حتى أدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، ثم هاجر ماشيا على قدميه حتى لحقهما بقباء، ونزل على كلثوم بن الهَدْم. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء أربعة أيام: الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس. وأسس مسجد قباء وصلى فيه، وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة، فلما كان اليوم الخامس (يوم الجمعة) ركب بأمر الله له، وأبو بكر رِدفه، وأرسل إلى بني النجار (أخواله) فجاءوا متقلدين سيوفهم، فسار نحو المدينة وهم حوله، وأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي، وكانوا مائة رجل.][10]. ولنستخرج بعض ما في هذا الجزء من أسرار: ا. إن ما حدث لشاة أم معبد، على يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هو من تصرفه -عليه السلام- بالعالم، من مرتبة الخلافة عن الله؛ فهو عليه السلام من هذه المرتبة يقول للشيء كن فيكون، من غير اعتبار للأسباب. وهذا، لأن الأسباب -بعكس ما يتوهم الناس من العادة- لا فعل لها؛ وإنما هي من الحكمة الساترة للقدرة فحسب. وقد قصُر المتكلمون من المسلمين، عند خوضهم في مسألة الأفعال، عندما ظنوا الأثر للأسباب، وعندما نفوه عنها، في كلا الأمريْن؛ لأن الفعل لله يكون من مرتبة الإرادة، من دون اعتبار للأسباب، في وجودها وعند انعدامها. يقول الله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]. ونعني من كلامنا هذا، أن الأشاعرة أيضا عند اعتبارهم للأسباب، قد جهلوا؛ لأنهم يُثبتونها وينفونها في الوقت ذاته، غير أن الفرق بين وجود الأسباب وعدمها، معتبر في الحكمة لا غير. ولسنا نعني أن الحكمة تقتضي دائما ظهور الأسباب، ولكن نعني أنها كما تقتضي في الغالب ظهور الأسباب، فإنها أحيانا تقتضي عدم ظهورها؛ كما هو الشأن هنا، وفي المعجزات عموما. فالمعجزات هي فعل الله المتجاوز للأسباب، المـُظهر للقدرة وحدها. والله سبحانه يؤيد بالمعجزات رُسُلَه، ليعلم المحجوبون أنهم صادقون في دعواهم الرسالة. وأما غير المحجوبين، فلا فرق عندهم بين وجود المعجزة وعدمها؛ لأنهم يرون الفعل من الله في جميع الأحوال. ب. إن إخبار الجنّي لأهل مكة بشأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يُشبه نشرة الأخبار في وسائل الإعلام الحديثة؛ ليتابعها المهتمون. وهو هنا اعتناء من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الذي بعث الجني بالخبر، بالأقارب؛ حتى لا يبقوا عُرضة للهواجس. وهذا يعني أن الخليفة النبوي، لا يخرج شيء عن علمه وتدبيره. والقرب والبعد المعهودان في عالم الحس، حكمهما حكم عدمهما في حق الخليفة؛ ومن كان فعله بالله، فإن العالم ينفعل له انفعالا ذاتيا. وهذا الانفعال هو المـُعبّر عنه بـ "كن فيكون". ورغم أن الفاء في العبارة عند النحويين، هي للاستئناف؛ إلا أنها لا تخلو من معنى الفورية، المقتضي لسرعة الانفعال. لذلك فلا يُتصور زمان بين "كن" و"يكون"، وإن أُدرك التراتب بينهما من جهة العقل. ج. وأما لحوق سراقة بن مالك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، بنية الفوز بالدية، مع صرفه لغيره؛ مما يبدو وكأنه استئثار منه بالجائزة؛ فهو من مكر الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم (أي من مكر غيب النبي). وإن عدم تمكنه من مواصلة سيره بفرسه، هو من منع النبي صلى الله عليه وآله وسلم له، وقهره إياه. وردّه صلى الله عليه وآله وسلم على أبي بكر عند إيقانه بإدراك العدو لهما، بقوله عليه السلام: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}، هو كقوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} [طه: 14]، من جهة التعريف. ونعني أن هذا، كان تعريفا لأبي بكر رضي الله عنه -الذي كانت هجرته سلوكا مكثّفا قطع فيه الطريق من الإيمان إلى المعاينة في أقرب مدة- بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهة الحقيقة هو الحق عينه؛ ليبلغ ببركة صحبته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم نهاية الإحسان قبل دخوله المدينة. وهذه ميزة لأبي بكر عليه السلام، ستؤهّله للخلافة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما بعد. ولقد خرج سراقة أيضا فائزا من هذا الابتلاء، بتصديقه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبنيله لصك الأمان النبوي، الذي سيجد أثره في الدنيا والآخرة. د. إن بعث بريدة لغلامه مسعود مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ليسلك به الطرق المأمونة، إلى أن يبلغ به المدينة، بعد إسلام قومه؛ هو من الإسعاد، ومن النُّصرة الإلهييْن. ولم يشأ الله سبحانه أن يدخل نبيّه المدينة كدخول الناس؛ بل جعل دخوله -عليه السلام- منتظرا ومرتقبا لأيام، كما يليق بمرتبته المنيفة، لينتفع بمَقدمه المستقبلون من أول وهلة؛ وهو من كرم النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأما اختلاط أمره عليه السلام، على الناس، حتى ظنوه أبا بكر؛ فهو من دهشة اللقاء، ومن هيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فنوره صلى الله عليه وآله وسلم باهر، لا تُدركه الأبصار إلا إن أمدها الله بقوة من عنده. والنفوس في بادئ أمرها، تأنس إلى نظرائها، ولا تطيق النور الفائق. وأما عندما نظروا خدمة أبي بكر لصاحبه صلى الله عليه وآله وسلم، فإنهم علموا من هو بالقرينة. وهذا أدنى ما يكون من العلم، لمن لا قدم له في الباطن. ولقد دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة في يوم الجمعة بعد الصلاة، في ساعة الاستجابة، ليكون ذلك إعلانا بالجمع الإلهي المطابق لمرتبة الحقيقة المحمدية، في عالم السفل، بعد تحقُّقه في عالم الجبروت قبل خلق الخلق. وإن هذا الأمر، هو ما خُلقت من أجله السماوات والأرض، وخُلق من أجله آدم. لذلك، فهو أعظم حدث في تاريخ البشرية بأسره. ولقد وفّق الله عمر بن الخطاب الخليفة الرباني، إلى جعله مبدأ التأريخ لدى المسلمين، للسر الذي ذكرناه. ونعني من هذا، أن المرحلة المدنية هي تنزُّلٌ إلى واحدية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، بعد أحدية مكة. ولهذا كان "الكوثر" الذي بُشر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ . فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ . إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 1 - 3]، إيذانا بدخول المرحلة المدنية من التجلّي. ورغم أن مِن المفسرين مَن جعل سورة الكوثر مكية، فنحن نوافق ابن كثير على أنها مدنية، من جهة مدلولها. وإن كانت قد نزلت بمكة، فإنها تكون قريبة من الانقلاب إلى المدينة ولا بد. وسنعود -إن شاء الله- إلى تجلي مكة والمدينة فيما بعد، لنكمل الكلام فيه. [ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم بعد الجمعة حتى دخل المدينة -ومن ذلك اليوم سميت بلدة يثرب بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعبر عنها بالمدينة مختصرا- وكان يوما مشهودا أغر؛ فقد ارتجت البيوت والسكك بأصوات الحمد والتسبيح، وتغنت بنات الأنصار بغاية الفرح والسرور: طـلـع الــبـدر عـلـــــــــــــــــــينا مـن ثـنيـــــــــــــات الـوداع والأنصار وإن لم يكونوا أصحاب ثروات طائلة، إلا أن كل واحد منهم كان يتمنى أن ينزل الرسول صلى الله عليه وسلم عليه. فكان لا يمر بدار من دور الأنصار إلا أخذوا خطام راحلته: هلُمَّ إلى العدد والعدة والسلاح والمنعة! فكان يقول لهم: «خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ!»[11]، فلم تزل سائرة به حتى وصلت إلى موضع المسجد النبوي اليوم فبركت؛ ولم ينزل عنها حتى نهضت وسارت قليلا، ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول، فنزل عنها؛ وذلك في بني النجار -أخواله صلى الله عليه وسلم- وكان من توفيق الله لها، فإنه أحب أن ينزل على أخواله، يكرمهم بذلك. فجعل الناس يكلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في النزول عليهم، وبادر أبو أيوب الأنصاري إلى رحـله، فأدخله بيته، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الْمَرْءُ مَعَ رَحْلِهِ!»، وجـاء أسعد بن زرارة فأخـذ بزمام راحلته، فكانت عنــده. وفي رواية أنس عند البخاري، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «أَيُّ بُيُوتِ أَهْلِنَا أَقْرَبُ؟» فقال أبو أيوب: أنا يا رسول الله، هذه داري! وهذا بابي! قال: «فَانْطَلِقْ فَهَيِّئْ لَنَا مَقِيلًا!»، قال: قوما على بركة الله. وبعد أيام وصلت إليه زوجته سَوْدَة، وبنتاه فاطمة وأم كلثوم، وأسامة بن زيد، وأم أيمن؛ وخرج معهم عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر، ومنهم عائشة. وبقيت زينب عند أبي العاص، لم يمكّنها من الخروج حتى هاجرت بعد بدر. قالت عائشة: "وَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ؛ قَالَتْ: فَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِي نَجْلًا تَعْنِي مَاءً آجِنًا."[12]. وقالت: "لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ، وَبِلَالٌ." قَالَتْ: "فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا، فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ وَيَا بِلَالُ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَتْ: فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ: كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِه وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أَقْلَعَ عَنْهُ الْحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ وَيَقُولُ: أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَـــــةً بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيــــــــلُ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ.»"[13].وقد استجاب الله دعاءه صلى الله عليه وسلم، فأري في المنام أن امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى نزلت بالمِهْيَعَة، وهي الجحفة؛ وبذلك استراح المهاجرون عما كانوا يعانونه من شدة مناخ المدينة.][14]. ولقد كان دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة فتْحاً من الله، قبل فتح مكة، وهو صنوه؛ وإن لم يُصطلح عليه بالفتح. وكان نزوله صلى الله عليه وآله وسلم على الأنصار، استبدالا لمحيط الموالاة والموافقة بمحيط العداء والمنافرة. وهذا إيذان من الله، بتحول جلال مكة المناسب لمرتبة الحق المشار إليها ببيت الله، إلى جمال المدينة، التي بها الإشارة إلى مرتبة الواحدية أو الحقيقة المحمدية. وهذا يعني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بدخوله المدينة، سيكون في بيته الذي به يقر قراره، والذي يناسب مرتبته من الحق. ومن هذه المرتبة، ستظهر تفاصيل الحقائق التي تضمنتها حقيقته عليه السلام، في العالم على مر الأزمان؛ وسيكون لأصحابه وراثة مقامات الأنبياء السابقين، كما سنرى في حينه؛ تشريفا لأمته على سائر الأمم. وأما الحمى التي أصابت الصحابة رضي الله عنهم، فكانت طهورا لهم، يُشبه الطهور الذي يسبق الصلاة من جهة الحس؛ حتى يتم إيمانهم، ويترقوا بفضل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلى حيث يجدون ثمرات اليقين العلمية والأخلاقية عن قريب. ولولا هذا الترقي، ما كانوا -رضي الله عنهم- ليطيقوا التكاليف التي تنتظرهم بحسب مرتبتهم، التي يكونون منها أئمة لكل من يأتي بعدهم من المؤمنين. ونعني من هذا، أن الله اختارهم ليكونوا قدوة في السلوك لكل من سيأتي بعدهم من المؤمنين إلى قيام الساعة؛ وإن لم يعلم هذا، إلا من سار كما ساروا. لذلك كنا دائما نقول: إن السالك الذي لا يجد أحد الصحابة أمامه في سلوكه، لا يَعدُّ نفسه من أهل الطريق بالمعنى الخاص. وأما دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم -وهو إرادته- بتحول الحمى إلى الجحفة، فهو ليفوز الصحابة بالنور والأجر، مع مفارقة البلاء لهم عند انتهاء زمان ذوقه لديهم. وهذا يعني أن البلاء المسلط على المؤمنين، لا يكون إلا على قدر الوقت الضروري لاستخراج الكمالات القلبية، فضلا من الله؛ فإن دام، فإنه يكون لرفع الدرجات إلى حيث قُسم للعبد الوصول، وإلى حيث لا يبلغ به العمل. وأما البلاء الصرف، الذي هو صنف من العذاب المعجّل، فلا يكون إلا لأهل الشقاء، كما هو عذاب الآخرة. لكن تمييزه لا يكون إلا كشفا، بسبب اشتراك الناس في أحوال الدنيا، وبسبب انقلاب البلاء حَسَناً، في حق من شاء الله له الهداية بعده. وبعد انتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، سينتهي زمن تجلٍّ مخصوص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه الشريفة؛ كان الله يهيئه به لتولّي الخلافة عنه بالفعل، بعد أن كانت فيه بالقوة؛ وإن كانت خلافته -عليه السلام- الفعلية قد بدأت بمكة. والتفريق منّا هنا، هو للإشارة إلى أصل التجليّات فحسب، لا إنكارا منّا لما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من خلافة لله بمكة قبل المدينة، عياذا بالله. وعلى العموم، فإن أحوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا يتكلم فيها كل أحد؛ لأنها من شؤون الحق ذاته. ومن لا يعلم هذه النسبة الحقّيّة في النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مِن قبل أن يُخلق، فالسكوت أفضل له. وعلى كل حال، فنحن بكلامنا، نعني أن المرحلة المكية في عمومها، ومن جهة التغليب، كانت سلوكا خاصا، للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحق. ومن هنا سيختلف القرآن المكي عن القرآن المدنيّ في الدلالة، كما سنرى عند تناولنا لتجليات القرآن بعد فراغنا -بإذن الله- من المرحلة المدنيّة، التي هي الفصل المقبل من فصول هذا الجزء... [1] . الرحيق المختوم للمباركفوري. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.