اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2020/12/06 الحوار الغائب (ج3) -13- المرحلة المكّيّة (4) (تابع...) 15. عرض الإسلام على القبائل والأفراد: [في ذي القعدة سنة عشر من النبوة -في أواخر يونيو أو أوائل يوليو سنة 619 م- عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة؛ ليستأنف عرض الإسلام على القبائل والأفراد، ولاقتراب الموسم كان الناس يأتون إلى مكة رجالا، وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق لأداء فريضة الحج، وليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات؛ فانتهز رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الفرصة، فأتاهم قبيلة قبيلة، يعرض عليهم الإسلام ويدعوهم إليه، كما كان يدعوهم منذ السنة الرابعة من النبوة. وقد بدأ يطلب منهم من هذه السنة (العاشرة) أن يؤووه وينصروه ويمنعوه حتى يبلِّغ ما بعثه الله به.][1]. إن عرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه على الناس، هو من أجل السير بهم في سُبلهم الفردية والجماعية. ونعني بالسُّبل الجماعية سبيليْ الإيمان والكفر؛ وبالسبل الفردية، طريقة كل عبد في الإيمان أو الكفر. فلا المؤمنون سواء، ولا الكافرون سواء. وأما النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في نفسه، فهو غير محتاج إلى أحد من الناس؛ كما قد يتوهم الجاهلون. هذا فيما يتعلق به عليه السلام في نفسه؛ وأما من جهة تكليف الله له بالتبليغ، فإنه يكون مـُجبرا في ذلك؛ لا يلتفت إلى استجابة المستجيبين ولا إلى إعراض المـُعرضين؛ لأنه عليه السلام ليس صاحب مشروع أيديولوجي، كما يتوهم كثير من الإسلاميّين. ونعني بهذا، أنه عليه السلام، لم يكن يقصد إلى إنشاء الدولة الإسلامية؛ لأن إنشاء الدولة كان من اكتمال التشريع الإسلامي، لا كما يفهم فلاسفة السياسة. ومن هذا الباب قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء: 84]؛ أي هو عليه السلام أول من يجب عليه اتباع الأمر الإلهي، فإن تابعه على ذلك أحد فهو زيادة خير؛ وإن لم يتابعه أحد، فهو غير محاسب على ذلك. وهذا الأصل، هو ما يجعل الأنبياء عليهم السلام، لا يقبلون المساومة على الدين. وهذا أصل من الأصول، نجده غائبا عند أكثر علماء الدين، بله غيرهم. 16. القبائل التي عرض عليها الإسلام: [قال الزهري: وكان ممن يسمَّى لنا من القبائل الذين أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم وعرض نفسه عليهم: بنو عامر بن صَعْصَعَة، ومُحَارِب بن خَصَفَة، وفزارة، وغسان، ومُرة، وحنيفة، وسليم، وعَبْس، وبنو نصر، وبنو البَكَّاء، وكِندة، وكلب، والحارث بن كعب، وعُذْرَة، والحضارمة، فلم يستجب منهم أحد. وهذه القبائل التي سماها الزهري لم يكن عرض الإسلام عليها في سنة واحدة، ولا في موسم واحد؛ بل إنما كان ما بين السنة الرابعة من النبوة إلى آخر موسم قبل الهجرة. ولا يمكن تسمية سنة معينة لعرض الإسلام على قبيلة معينة، ولكن الأكثر كان في السنة العاشرة. أما كيفية عرض الإسلام على هذه القبائل، وكيف كانت ردودهم على هذا العرض فقد ذكرها ابن إسحاق، ونلخصها فيما يلي: ا. بنو كلب: أتى النبي صلى الله عليه وسلم إلى بطن منهم يقال لهم: بنو عبد الله، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، حتى إنه ليقول لهم: «يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ اسْمَ أَبِيكُمْ!»[2]، فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم. [نقول: نبههم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلى سابق فضل الله عليهم، عند تسمِّيهم ببني عبد الله، ليكون ذلك حافزا لهم على طلب استكمال الفضل بتحقيق إسلامهم لله؛ وذلك حتى لا تبقى تسميتهم من غير معنى. وهذا باب من العلم معتبر، ينبغي أن يحوزه علماء الدين الدالين عليه.] ب. بنو حنيفة: أتاهم في منازلهم فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فلم يكن أحد من العرب أقبح عليه ردا منهم. [نقول: إن قبح الرد، يكون من عدم قبول الاستعدادات لما يُعرض عليها. ونعني على الخصوص، قبول أصل الإسلام، لا غيره؛ لأن من قبل الإسلام، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مؤهَّل بعد ذلك ليُزكيه (يرقيه)، فيكمل استعداده بعد أن كان ناقصا. وهذا يعني أن الاستعداد يُقصد منه المفتاح الأول الذي هو "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، ويُقصد منه ما هو من تفاصيل أحوال القلوب ومقامات الإيمان.]. ج. وأتى إلى بني عامر بن صعصعة: فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فقال بَيْحَرَة بن فِرَاس (رجل منهم): والله، لو إني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب! ثم قال: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: «الأَمْرُ إِلَى اللَّهِ، يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ!»[3]، فقال له: أفَتُهْدَفُ نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك! فأبوا عليه. [نقول: إن نظر بني عامر إلى الدعوة النبوية، كان مصلحيا، كحال السياسيين البراغماتيّين في زماننا. وهذا يعني أن هذا الصنف من الاعتبار، هو واحد من الاعتبارات العقلية، وليس هو كل ما يدل عليه العقل؛ بخلاف ما تظنه العامة. ونعني من هذا، أن أكابر العقلاء، تكون المصلحة لديهم أوسع مما ذُكر؛ بل قد تتجاوز ما قد يعترض الأبدان من الأضرار، في سبيل تحقيق الكمالات العقلية وحدها، كما يحدث ذلك مع كبار الفلاسفة. وأما من يؤمن بالآخرة، ويعتبرها أثناء عرض الدعوة عليه، فإنه يكون من أرقى الأصناف كلها.]. ولما رجعت بنو عامر تحدثوا إلى شيخ لهم لم يواف الموسم لكبَر سنّه، وقالوا له: جاءنا فتى من قريش من بني عبد المطلب يزعم أنه نبي، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه، ونخرج به إلى بلادنا، فوضع الشيخ يديه على رأسه ثم قال: يَا بَنِي عَامِرٍ، هَلْ لَهَا مِنْ تَلافٍ؟ هَلْ لِذَنَابَاهَا مِنْ مُطَّلِبٍ؟ وَالَّذِي نَفْسُ فُلانٍ بِيَدِهِ مَا تَقَوَّلَهَا إِسْمَاعِيلِيٌّ قَطُّ، وَإِنَّهَا لَحَقٌّ؛ فَأَيْنَ كَانَ رَأْيُكُمْ عَنْكُمْ؟][4]. [نقول: إن أسف شيخ بني عامر، كان من إدراكه لما هو أبعد مما أدركه قومه من المصلحة. ولقد أدرك ذلك بسبب حنكته وتجربته في طول عمره. وهذا يعني أن اكتفاء الناس في الرأي بالشباب وحدهم، هو من الجهل بكفاءات الشيوخ العقلية. وهذا ينبغي أن يُعتبر مع الإسلام، أو من دونه؛ وإن كان مع الإسلام أقوى في الاعتبار. وإن كل ما يُدعى إليه اليوم في السياسة العالمية، من تشبيب المناصب، من غير تفصيل؛ لا يكون إلا من قبيل اللبس على الناس، بُغية التحكم فيهم بغير حق. ومن المؤسف أن نرى هذا المنطق المعوجّ معمولا به لدى المسلمين أنفسهم، في أزمنة الضلال هذه.]. وهكذا يظهر أن من ردّوا دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لم يكن ردّهم عن عزة منهم، أو عن غنى لهم عنها؛ وإنما كان عن خذلان من الله لهم، وصرف منه سبحانه لهم، بما يشاء من الحُجُب. وهذا المعنى، هو ما يُشير إليه قول الله تعالى صراحة: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يونس: 65]. ومعنى الآية: لا يُحزنك قولهم من جهة ظاهر قلبك، لأن العزة كلها لله الذي أنت مظهره. وهو سميع لما يقولون منك، وعليم بهم؛ وهذا يكفيك!... وإن هذا الحكم الذي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، يشمل الخلفاء من ورثته من هذه الأمة، عند تجديدهم للدعوة النبوية في القرون المختلفة؛ لذلك فإن من يُعرِض عنهم، لا يَخذل بإعراضه إلا نفسه؛ وإن من يعرف لهم بعض مرتبتهم، يكون ممن اجتباه الله من أهل زمانهم. ولا يكون الأمر إلا هكذا!... ومما يحز في النفس، غياب هذا الأصل من الدين، لدى علماء المسلمين؛ وكأن الدعوة المحمدية قد انتهت بوفاته صلى الله عليه وآله وسلم، وهي التي أخبر عنها صاحبها، أنها باقية على أصالتها وطراوتها إلى قيام الساعة. يقول الله تعالى في هذا المعنى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 2، 3]. وهذا يعني أن تعليم النبي وتزكيته، لا يتغير منهما شيء بوفاته عليه السلام؛ لأن الأمر مستمر مع "الآخرين الذين لما يلحقوا بالصحابة" إلى قيام الساعة، بسبب عموم الزمان التشريعي المحمدي لكل المدة التي بين البعثة وفناء الدنيا. وأما مظاهر الدعوة، بالنظر إلى جميع المراتب (التزكية)، فهم الورثة، الذين لا يكاد علماء الدين يَميزون مرتبتهم. وإن الجهل بما ذكرنا، قد أضر بالأمة غاية الإضرار؛ وهذا يعني أن عودة الأمة إلى حال السواء في تديُّنها، لن يتأتّى إلا بالعودة إلى تقديم الورثة الربانيّين في الإمامة الدعوية العامة. غير هذا، لا يكون!... 17. المؤمنون من غير أهل مكة: [وكما عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام على القبائل والوفود، عرض على الأفراد والأشخاص، وحصل من بعضهم على ردود صالحة، وآمن به عدة رجال بعد هذا الموسم بقليل، وهاك نبذة منهم: ا. سويد بن الصامت: كان شاعرًا لبيبا، من سكان يثرب، يسميه قومه (الكامل) لجَلَده وشعره وشرفه ونسبه. جاء مكة حاجا أو معتمرا، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فقال: لَعَلَّ الَّذِي مَعَكَ مِثْلُ الَّذِي مَعِي. فَقَالَ رَسُول اللَّهِ: «وَمَا الَّذِي مَعَكَ؟» قَالَ: مَجَلَّةُ لُقْمَانَ (يَعْنِي حِكْمَةَ لُقْمَانَ) فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اعْرِضْهَا عَلَيَّ!» فَعَرَضَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا لَكَلامٌ حَسَنٌ، وَالَّذِي مَعِي أَفْضَلُ مِنْهُ: قُرْآنٌ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيَّ، وَهُوَ هُدًى وَنُورٌ!»[5] فَتَلا عَلَيْهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَاهُ إِلَى الإِسْلامِ، فَلَمْ يَبْعُدْ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَقَوْلٌ حَسَنٌ! ثُمَّ انْصَرَفَ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ عَلَى قَوْمِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ قَتَلَتْهُ الْخَزْرَجُ، فَكَانَ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ يَقُولُونَ: إِنَّا لَنَرَاهُ مَاتَ مُسْلِمًا، وَكَانَ قَتْلُهُ يَوْمَ بُعَاثٍ. والأغلب أنه أسلم في أوائل السنة الحادية عشرة من النبوة. [نقول: إن الشعراء في العادة، لهم إدراك عقلي أعلى من الفلاسفة؛ لذلك هم يفرقون بين صنوف الكلام، من هذه الجهة. لكن الانتقال من تمييز الكلام، إلى الإيمان به (والكلام هنا القرآن) لا يكون إلا بالإذن الإلهي وحده؛ وهذا حتى لا يقول أحد إن لعقله فضلا في إيمانه، بل الفضل لله وحده في ذلك. يقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [يونس: 100]. وأما من يخطر في ذهنه: بما أن الإيمان لا يكون إلا بالإذن، فلم كان العبد عليه محاسبا وكأن ذلك يكون باختياره؟... فنقول له: أولا: إن اختيار الإيمان، لا يُناقض الإذن الإلهي؛ لكون الأول من العبد، والثاني من الله. ومثل العبد في هذا، كالواقف بباب الملك؛ فهو وإن كان راغبا في الدخول، إلا أن أمر دخوله أو صرفه، يعود للملك لا إليه. وهذا من مقتضيات العزة!... ثانيا: إن للمسألة صلة بسر القدر، وبما قضت به المشيئة الإلهية في سائر العباد؛ وهذا علم خاص، لا تحتمله العقول. وقد أشرنا إليه هنا، لئلا يُقال بانحصار المسألة في المعلوم منها لدى الناس فحسب؛ ولترتفع الهمم من العلماء إلى طلب العلوم الخاصة من الله ورسوله. ب. إياس بن معاذ: كان غلاما حدثا من سكان يثرب، قدم في وفد من الأوس، جاءوا يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، وذلك قبيل حـرب بعاث في أوائل سنة 11 من النبوة؛ إذ كانت نيران العداوة متقدة في يثرب بين القبيلتين -وكان الأوس أقل عددا من الخزرج- فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقدمهم جاءهم، فجلس إليهم، وقال لهم: «هَلْ لَكُمْ إِلَى خَيْرٍ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ؟»[6] فقالوا: وما ذاك؟ قال: «أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، بَعَثَنِي اللَّهُ إِلَى الْعِبَادِ أَدْعُوَهُمْ إِلَى أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ الْكِتَابَ.»، ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. فقال إياس بن معاذ: أي قوم، هذا والله خير مما جئتم له، فأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع -رجل من الوفد- حفنة من تراب البطحاء فرمى بها وجه إياس، وقال: دعنا فلعمري لقد جئنا لغير هذا. فصمت إياس، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرفوا إلى المدينة من غير أن ينجحوا في عقد حلف مع قريش. وبعد رجوعهم إلى يثرب لم يلبث إياس أن هلك، وكان يهلل ويكبر ويحمد ويسبح عند موته، فلا يشكون أنه مات مسلما. [نقول: وهذا نموذج آخر من الاستعدادات؛ وهو نموذج الشباب. والشباب يكونون أكثر إدراكا للمعاني التي يدعو إليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من غيرهم؛ لأنهم أقرب إلى الفطرة من ذلك الغير. والمسألة هنا تعود إلى قلة الحجب، بالنظر إلى من تراكمت على بصائرهم الحجب عبر السنين. وفي هذا المعنى ورد حديث: «أُوصِيكُمْ بِالشُّبَّانِ خَيْراً (ثلاثاً) فَإِنَّهُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً؛ أَلا وَإِنَّ اللهَ أَرْسَلَنِي شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، فَخَالَصَنِي الشُّبَّانُ وَخَالَفَنِي الشُّيُوخُ؛ وَقَرَأَ: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16]»[7]. ورغم اختلاف الشيعة وأهل السنة في الحديث، إلا أنه عندنا صحيح المعنى على جهة التغليب، لا على جهة التعميم؛ لأن الله يصطفي من الشيوخ كما يصطفي من الشبان مَن يشاء.]. ج. أبو ذر الغفاري: وكان من سكان نواحي يثرب، ولعله لما بلغ إلى يثرب خبر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بسويد بن الصامت وإياس بن معاذ، وقع في أذن أبي ذر أيضا، وصار سببا لإسلامه. روى البخاري عن ابن عباس قال: قال أبو ذر: كنت رجلا من غفار، فبلغنا أن رجلا قد خرج بمكة يزعم أنه نبي، فقلت لأخي: انطلق إلى هذا الرجل وكلمه، وائتني بخبره! فانطلق فلقيه، ثم رجع، فقلت: ما عندك؟ فقال: والله، لقد رأيت رجلا يأمر بالخير، وينهى عن الشر، فقلت له: لم تشفني من الخبر! فأخذت جرابا وعصا، ثم أقبلت إلى مكة، فجعلت لا أعرفه، وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد. قال: فمر بي عليّ، فقال: كأن الرجل غريب؟ قال: قلت: نعم. فقال: فانطلق إلى المنزل، فانطلقت معه لا يسألني عن شيء ولا أسأله ولا أخبره. فلما أصبحت غدوت إلى المسجد لأسأل عنه، وليس أحد يخبرني عنه بشيء. قال: فمر بي عليّ فقال: أما نال للرجل يعرف منزله بعد؟ قال: قلت: لا. قال: فانطلق معي، قال: فقال: ما أمرك؟ وما أقدمك هذه البلدة؟ قال: قلت له: إن كتمت عليّ أخبرتك، قال: فإني أفعل. قال: قلت له: بلغَنا أنه قد خرج هاهنا رجل يزعم أنه نبي الله، فأرسلت أخي يكلمه فرجع ولم يشفني من الخبر، فأردت أن ألقاه. فقال له: أما إنك قد رشدت. هذا وجهي إليه، ادخل حيث أدخل فإني إن رأيت أحدا أخافُه عليك، قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي، وامض أنت. فمضى، ومضيت معه حتى دخل، ودخلت معه على النبي صلى الله عليه وسلم. فقلت له:اعرض عليّ الإسلام. فعرضه، فأسلمت مكاني، فقال لي: «يَا أَبَا ذَرٍّ، اكْتُمْ هَذَا الْأَمْرَ؛ وَارْجِعْ إِلَى بَلَدِكَ، فَإِذَا بَلَغَكَ ظُهُورُنَا فَأَقْبِلْ.»[8]. فقلت: والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين أظهرهم، فجئت إلى المسجد، وقريش فيه، فقلت: يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله! فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ. فقاموا، فضُربت لأموت، فأدركني العباس فأكب عليّ، ثم أقبل عليهم فقال: ويلكم تقتلون رجلا من غفار؟ ومتجركم وممركم على غفار، فأقلعوا عني. فلما أن أصبحت الغد، رجعت، فقلت مثل ما قلت بالأمس. فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ، فصنع بي ما صنع بالأمس، فأدركني العباس، فأكب عليّ وقال مثل مقالته بالأمس. [نقول: إن أبا ذر نموذج لذوي الاستعدادات الخاصة؛ ونعني بهم الذين يكون لهم ميل إلى الحق، بحيث لا يأبهون لغيره معه؛ وهؤلاء من خواص أهل الدعوة، من غير شك. وسيأتي إن شاء الله ذكر باقي النماذج من صنف الخواص، في حينه بإذن الله.]. د. طُفَيْل بن عمرو الدَّوْسي: كان رجلا شريفا، شاعرا لبيبا، رئيس قبيلة دوس، وكانت لقبيلته إمارة أو شبه إمارة في بعض نواحي اليمن. قدم مكة في عام 11 من النبوة، فاستقبله أهلها قبل وصوله إليها، وبذلوا له أجل تحية وأكرم تقدير، وقالوا له: يا طفيل، إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، وقد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر، يفرق بين الرجل وأبيه، وبين الرجل وأخيه، وبين الرجل وزوجـه، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمه ولا تسمعن منه شيئا. يقول طفيل: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئا، ولا أكلمه، حتى حشوت أذني حين غدوت إلى المسجد كُرْسُفًا؛ فَرقًا من أن يبلغني شيء من قوله، قال: فغدوت إلى المسجد فإذا هو قائم يصلي عند الكعبة؛ فقمت قريبا منه، فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله؛ فسمعت كلاما حسنا، فقلت في نفسي: واثكل أمي، والله إني رجل لبيب شاعر؛ ما يخفى عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته. فمكثت حتى انصرف إلى بيته فاتبعته، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه، فعرضت عليه قصة مقدمي، وتخويف الناس إياي، وسد الأذن بالكرسف، ثم سماع بعض كلامه، وقلت له: اعرض عليّ أمرك، فعرض عليّ الإسلام، وتلا عليّ القرآن. فوالله ما سمعت قولا قط أحسن منه، ولا أمرا أعدل منه؛ فأسلمت وشهدت شهادة الحق، وقلت له: إني مطاع في قومي، وراجع إليهم، وداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لي آية، فدعا. وكانت آيته أنه لما دنا من قومه جعل الله نورا في وجهه مثل المصباح، فقال: اللهم في غير وجهي. أخشى أن يقولوا: هذه مثلة، فتحول النور إلى سوطه؛ فدعا أباه وزوجته إلى الإسلام فأسلما، وأبطأ عليه قومه في الإسلام، لكن لم يزل بهم حتى هاجر بعد الخندق، ومعه سبعون أو ثمانون بيتا من قومه، وقد أبلى في الإسلام بلاء حسنا، وقتل شهيدا يوم اليمامة. [نقول: وهذا الصحابيّ -رضي الله عنه- يلحق بصنف الشعراء المذكور آنفا]. ه. ضِمَاد الأزدي: كان من أزْدِ شَنُوءَة من اليمن، وكان يرقي من هذه الريح (يعالج من المس)، قدم مكة فسمع سفهاءها يقولون: إن محمدا مجنون، فقال: لو إني أتيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي! فلقيه، فقال: يا محمد، إني أرقي من هذا الريح، فهل لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ. مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. أَمَّا بَعْدُ:»[9]. فقال: أعد عليّ كلماتك هؤلاء! فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات. فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء؛ فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن قاموس البحر، هات يدك أبايعك على الإسلام، فبايعه.][10]. [نقول: وهذا الصحابي -رضي الله عنه- يلحق أيضا بذوي الخبرة من أهل الشعر والكهانة.]. 18. أول المبايعين من يثرب: [وفي موسم الحج من سنة 11 من النبوة -يوليو سنة 620م- وجدت الدعوة الإسلامية بذورا صالحة، سرعان ما تحولت إلى شجرات باسقات، اتقى المسلمون في ظلالها الوارفة لفحات الظلم والعدوان حتى تغيُّر مجرى الأحداث وتحول خط التاريخ. وكان من حكمته صلى الله عليه وسلم إزاء ما كان يلقى من أهل مكة من التكذيب والصد عن سبيل الله، أنه كان يخرج إلى القبائل في ظلام الليل، حتى لا يحول بينه وبينهم أحد من أهل مكة المشركين. فخرج ليلة ومعه أبو بكر وعلي، فمر على منازل ذُهْل وشيبان بن ثعلبة، وكلمهم في الإسلام. وقد دارت بين أبي بكر وبين رجل من ذهل أسئلة وردود طريفة، وأجاب بنو شيبان بأرجى الأجوبة، غير أنهم توقفوا في قبول الإسلام. ثم مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقبة مِنى، فسمع أصوات رجال يتكلمون فعمدهم حتى لحقهم، وكانوا ستة نفر من شباب يثرب كلهم من الخزرج، وهم: أسعد بن زُرَارة (من بني النجار)، وعوف بن الحارث بن رفاعة ابن عَفْراء (من بني النجار)، ورافع بن مالك بن العَجْلان (من بني زُرَيْق)، وقُطْبَة بن عامر بن حديدة (من بني سلمة)، وعُقْبَة بن عامر بن نابي (من بني حَرَام بن كعب)، وجابر بن عبد الله بن رِئاب (من بني عبيد بن غَنْم). (...) فلما لحقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: «مَنْ أَنْتُمْ؟» قَالُوا: نَحْنُ الْخَزْرَجُ. قَالَ: أَمِنْ مَوَالِي الْيَهُودِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: أَفَلا تَجْلِسُونَ حَتَّى أُكَلِّمَكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى! قَالَ: فَجَلَسُوا مَعَهُ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الإِسْلامَ وَتَلا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ. قَالَ: وَكَانَ مِمَّا صَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ فِي الإِسْلامِ، أَنَّ يَهُودَ كَانُوا مَعَهُمْ فِي بِلادِهِمْ، وَكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَعِلْمٍ؛ وَكَانُوا أَهْلَ شِرْكٍ أَصْحَابَ أَوْثَانٍ، وَكَانَتِ الأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ قَدْ عَزُّوهُمْ بِبِلادِهِمْ. وَكَانُوا إِذَا كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ، قَالُوا لَهُمْ: إِنَّ نَبِيًّا مَبْعُوثٌ الآنَ قَدْ أَظَلَّ زَمَانُهُ، نَتَّبِعُهُ فَنَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ. قَالَ: فَلَمَّا كَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُولَئِكَ النَّفَرَ وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: يَا قَوْمِ، تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَلنَّبِيُّ الَّذِي تَوَعَّدُكُمْ بِهِ الْيَهُودُ، فَلا تَسْبِقَنَّكُمْ إِلَيْهِ. فَأَجَابُوهُ فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ وَصَدَّقُوهُ وَقَبِلُوا مِنْهُ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنَ الإِسْلامِ، وَقَالُوا لَهُ: إِنَّا كُنَّا قَدْ تَرَكْنَا قَوْمَنَا، وَلا قَوْمَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالشَّرِّ مَا بَيْنَهُمْ، وَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْمَعَهُمْ لَكَ، فَسَنَقْدَمُ عَلَيْهِمْ فَنَدْعُوهُمْ إِلَى أَمْرِكَ وَنَعْرِضُ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَجَبْنَاكَ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الدِّينِ؛ فَإِنْ يَجْمَعْهُمُ اللَّهُ، فَلا رَجُلَ أَعَزُّ مِنْكَ! ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعِينَ إِلَى بِلادِهِمْ، قَدْ آمَنُوا وَصَدَّقُوا. (...) فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ عَلَى قَوْمِهِمْ، ذَكَرُوا لَهُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَعَوْهُمْ إِلَى الإِسْلامِ، حَتَّى فَشَا فِيهِمْ. فَلَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الأَنْصَارِ إِلا وَفِيهَا ذِكْرٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ حَتَّى إِذَا كَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ، وَافَى الْمَوْسِمَ مِنَ الأَنْصَارِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلا، فَلَقُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَقَبَةِ، وَهِيَ الْعَقَبَةُ الأُولَى، فَبَايَعُوهُ عَلَى بَيْعَةِ النِّسَاءِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِضَ عَلَيْهِمُ الْحَرْبَ...»[11]][12]. إن توعُّد اليهود أهل المدينة بالنبيّ المبعوث، يدل على أنهم كانوا على علم بأن الدين لم يكن قد اكتمل بعد؛ وأن الله باعث من يُكمله مِن بعد موسى عليه السلام. ونحن إذ نقول هذا، لا نجزم بأنهم كانوا على علم بتفاصيل ما نقول؛ ولكن لا بد من أن يكون لهم حد أدنى من ذلك، في صورة أقوال موروثة وإرهاصات مرصودة. وهذا، لأن اليهود في أصلهم لا يُجاوزون المرتبة الأولى من الدين؛ وأهل هذه المرتبة في العادة، لا يُدركون من الدين إلا ظاهره وحده. وهذا السبب هو ما جعل اليهود أبعد عن إدراك الإسلام من النصارى، الذين يُفترض أن يكونوا على إيمان (المرتبة). ولقد ذكر الله هذه الحقيقة في قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة: 82]. وعبارة "لتجدن" تدل على الصفة اللازمة والغالبة على القوم المذكورين، وهي توحي بأن أهل الإسلام المحمدي سيكونون على إحسان، وأن ترتيب الأمم الأخرى سيكون بالنظر إلى مرتبتهم العليا. وأما من يتوهم أن الترتيب عائد إلى السبق في الزمان وإلى التأخُّر فيه، فإنه يكون جاهلا بحقيقة الأمر؛ وإن كان اعتبار الزمان ثانويا في تطور الدين واكتماله. ونعني أن الزمان لا ينبغي أن يُهمل اعتباره، لكن مع التفطن إلى ما هو أولى منه في الاعتبار هنا. ولقد اختار الله النفر الستة من الخزرج ليكونوا أسعد سفراء الدعوة الإسلامية في البشرية كلها، وليفتح بهم العالم كله للنور. وإن الستة في العدد يدل على التمام، لهذا سيُتم الله لهم الأمر، وسيُنجح سعيهم. وإن مسارعة أهل المدينة إلى الإسلام بمجرد بلوغ الدعوة إليهم، يدل على كمال استعداداتهم، وعلى اصطفاء الله لهم من بين خلقه، ليكونوا حاضنة الإسلام العالمي. ولقد ذكرنا أن المدينة، من كونها منسوبة في علم الله إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ستكون مظهر "الكوثر" الإيماني النوري ومُنطلقَه إلى العالم. ولا نعني من هذا إلا أن المدينة هي بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، المقابل لبيت الله في مكة. وهذا من مُطابقة الحقائق العلوية للتجليات الأرضية، التي تكون فيها مكة من تجلي الأحدية، وتكون المدينة من تجلي الواحدية. وإن هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه من مكة إلى المدينة، والتي أخبرنا أنه يكون فيها إماما لكل المهاجرين، من جيل الصحابة المرضيين وإلى آخر مهاجر من المتأخِّرين، هي بالنظر إليه صلى الله عليه وآله وسلم تنزُّل للحق من مرتبة أحديته إلى مرتبة واحديته. وهذا هو الأصل الذي يرجع إليه كل لفظ قرآني مشتق من النزول والتنزل، كقول الله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64]، وكقوله سبحانه: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106]. وذلك لأن معنى النزول، لا يكون إلا في المراتب، من الأعلى إلى الأدنى؛ وليس الأمر محصورا فيما تُدركه العامة -وإن كان له أصل مما ذكرنا- من الحركة التي بين السماء والأرض في عالم الطبيعة وحده. وإن قول الله تعالى عن الأنصار المرضيين: {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} [الأنفال: 72]، يجعل منهم مظاهر لأسماء القوة والمنع والنصر، التي تحف الاسم الهادي الذي هو مظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من مرتبة رسالته، لا من مرتبة خلافته. وإن وصف الله للقرآن في آية سابقة بأنه "هدى"، يدل على الرسالة التي هي الدلالة على الحق المـُختلَف فيه، بين الكتابيّين خصوصا، وبين الناس عموما؛ لأنه لا مقولة في العالم، إلا وهي في الحق؛ سواء أعلم أصحابها، أم لم يعلموا. ولهذا السبب كنا نقول: إن جميع المقولات لها اعتبار في العلم الحق، وإن صدرت عن الكافرين والمـُشركين بجميع صنوفهم. وهذا من العلم الغريب بين علماء الإسلام. ولقد أشار الله إلى الحق المـُضمَّن في كل المقولات، بقوله سبحانه: {قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21]؛ فإنطاق الله للجلود في الآخرة، يندرج في أصل هو إنطاقه سبحانه لكل شيء. وإنطاق الله للأشياء شامل للدنيا والآخرة، وأهل الشرك والكفر يكونون بهذا ممن أنطقهم الله في كل مقولاتهم، وإن ردّها الظاهر. ولهذا يستخرج أهل الله، من المقولات الكفرية علوما لا يعلمها الناطقون بها، ولا يعلمها أهل علم الشريعة الظاهر. وهذه السعة العلمية التي ندل عليها هنا، هي اللائقة بالله ورسوله، ما دام الإنطاق منسوبا إلى الله. وإذا كان الإنطاق من الله، فإن المنطوق لا يكون إلا إخبارا عن الله، بما هو في العُرف معدودا من الهداية، أو بما يكون في ظاهره من الضلال. وعندما نحصر الضلال في الظاهر، فإن هذا يدل حتما على أن الهداية بخصوصه تُصبح باطنة (لا منتفية)؛ لأن معاني الحقائق منتقلة بين الظاهر والباطن بحسب التجلّي. ومن كان من أهل الحق الراعين لها، فإنه لا يفقدها ما دام نظره متعلقا بها، من غير انحجاب بالظاهر عن الباطن أو بالباطن عن الظاهر. وأما من كان من طبقة أدنى، فإنه لا يقوى على متابعة الحق، بل يكون تارة حاكما بأن الأمر حق، وتارة أخرى يحكم بأنه باطل. وطالما العبد من جهة علمه، هو بين حق وباطل، فلا يعدد نفسه من أهل الله وخاصته، الذين سماهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم "أهل القرآن" (الجمع). يقول صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ!»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: «هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ!»[13]. 19. بيعة العقبة الأولى: [قد ذكرنا أن ستة نفر من أهل يثرب أسلموا في موسم الحج سنة 11 من النبوة، ووعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبلاغ رسالته في قومهم. وكان من جراء ذلك أن جاء في الموسم التالي (موسم الحج سنة 12 من النبوة، يوليو سنة 621م) اثنا عشر رجلا، فيهم خمسة من الستة الذين كانوا قد التقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في العام السابق، والسادس الذي لم يحضر هو جابر بن عبد الله بن رِئاب، وسبعة سواهم، وهم: معاذ بن الحارث، ابن عفراء من بني النجار (من الخزرج)؛ وذَكْوَان بن عبد القيس من بني زُرَيْق (من الخزرج)؛ وعبادة بن الصامت من بني غَنْم (من الخزرج)؛ ويزيد بن ثعلبة من حلفاء بني غنم (من الخزرج)؛ والعباس بن عُبَادة بن نَضْلَة من بني سالم (من الخزرج)؛ وأبو الهَيْثَم بن التَّيَّهَان من بني عبد الأشهل (من الأوس)؛ وعُوَيْم بن ساعدة من بني عمرو بن عَوْف (من الأوس). الأخيران من الأوس، والبقية كلهم من الخزرج. التقى هؤلاء برسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة بمنى، فبايعوه بيعة النساء، أي وفق بيعتهن التي نزلت بعد الحديبية. روى البخاري عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « تَعَالَوْا بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ. فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ، فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ.»، قَالَ: فَبَايَعْتُهُ عَلَى ذَلِكَ؛ وفي نسخة: فبايعناه على ذلك.][14]. ورغم أن قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10]، قد نزل في بيعة الرضوان (الحديبيّة)؛ يشهد لذلك أن سورة الفتح مدنية؛ فإن المعنى -كما هي عادة كلام الله في عدة مواضع- يدل على العموم، ويشمل كل بيعة لله ورسوله في الموطنيْن المذكوريْن، وفي كل موطن وكل زمان بعد ذلك. وتدخل ضمن هذه البيعةِ البيعةُ التي تكون للخلفاء بالمعنى الأكبر، وبمعنى التربية والإرشاد. والآية من كونها واردة بأسلوب الحصر، فإنها تدل دلالة صريحة على أن المـُبايَع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هو الله لا غيره. وهذا هو مقتضى التوحيد، الذي عليه تدور كل معاني الوحي. وعلى هذا، فإن كل من يفهم الآية وكأنها تقول: "إن الذين يبايعونك كأنما يبايعون الله"، فإنه يكون على معنى غير المعنى الشرعي للآية، ويكون متأوِّلا لا عالما ولا مـُفوِّضا؛ كما يقتضي ذلك مذهب السلف. وهذا المعنى التوحيدي في البيعة، هو عينه الدليل على معنى الخلافة عن الله؛ لأن الخلافة في أصلها هي خلافة المظهر عن الظاهر لا غير. وإن هذه البيعة العامة متحققة لكل من نطق بالشهادتيْن في كل زمن، وإن لم يُبايع مظهرا للخلافة؛ لأن الأمر لو بقي محصورا في المظاهر، لضاقت الرحمة الخاصة ضيقا شديدا، والله شاء للرحمة أن تتسع اتساعا لا يخطر على بال. وما نقصده من كلامنا، هو أن كل مسلم، يكون داخلا بفضل الله، في معنى المبايعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولكنه لا يُدرك منزلة الصحابة المبايعين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم البيعة المباشرة، كما لا يُدرك منزلة من يُبايع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مظاهر ورثته في الأزمنة التي تأتي بعد القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية. ونعني من هذا، أن أهل القرون الثلاثة، كانوا مـُلحَقين في الحكم بالصحابة المرضيين، وإن لم يُدركوا شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولقد سُمّوا "تابعين" بالمعنى الاصطلاحي لهذه الخصيصة. ولم تكن للتابعين هذه المرتبة إلا ببركة النور النبوي المـُدرك لديهم في مظاهر الصحابة، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فليتأمل العبد مراتب النور النبوي، في المظاهر المتعاقبة في الزمان، لأن اعتبارها يُنتج للعالِم علما بمراتب البيعة؛ وبالتالي بعدم انقطاعها في الزمان، من زمن بيعة المهاجرين الأولين ثم بيعة العقبة التي كانت للأنصار؛ مرورا ببيعة الرضوان، وانتهاء إلى بيعة المظاهر الوراثية، إلى قيام الساعة. فإذا علم العبد هذا، ظهر له عموم الرحمة الخاصة لهذه الأمة، من بين جميع الأمم؛ وظهر له معنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أمته المشرفة: «مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ، لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ!»[15]. 20. بعث مصعب بن عمير: [وبعد أن تمت البيعة وانتهى الموسم بعث النبي صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء المبايعين أول سفير في يثرب؛ ليعلم المسلمين فيها شرائع الإسلام، ويفقههم في الدين، وليقوم بنشر الإسلام بين الذين لم يزالوا على الشرك؛ واختار لهذه السفارة شابا من شباب الإسلام من السابقين الأولين، وهو مُصْعَب بن عُمَيْر العبدري رضي الله عنه. نزل مصعب بن عمير على أسعد بن زُرَارة، وأخذا يبثان الإسلام في أهل يثرب بجد وحماس، وكان مصعب يُعْرَف بالمقرئ. ومن أروع ما يروى من نجاحه في الدعوة أن أسعد بن زرارة خرج به يوما يريد دار بني عبد الأشهل ودار بني ظَفَر، فدخلا في حائط من حوائط بني ظفر، وجلسا على بئر يقال لها: بئر مَرَق، واجتمع إليهما رجال من المسلمين، وسعد بن معاذ وأُسَيْد بن حُضَيْر سيدا قومهما من بني عبد الأشهل يومئذ على الشرك؛ فلما سمعا بذلك قال سعد لأسيد: اذهب إلى هذين اللذين قد أتيا ليسفّها ضعفاءنا فازجرهما، وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإن أسعد بن زرارة ابن خالتي، ولولا ذلك لكفيتك هذا. فأخذ أسيد حربته وأقبل إليهما، فلما رآه أسعد قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه، قال مصعب: إن يجلس أكلمه. وجاء أسيد فوقف عليهما متشتما، وقال: ما جاء بكما إلينا؟ تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة! فقال له مصعب: أوْ تجلس فتسمع؛ فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره. فقال: أنصفت! ثم ركز حربته وجلس؛ فكلمه مصعب بالإسلام، وتلا عليه القرآن. قال: فو الله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتهلله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله؟ كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل، وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين. فقام واغتسل، وطهر ثوبه وتشهد وصلى ركعتين، ثم قال: إن ورائي رجلا إن تبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرشده إليكما الآن (سعد بن معاذ). ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد في قومه، وهم جلوس في ناديهم؛ فقال سعد: أحلف بالله لقد جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم. فلما وقف أسيد على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ فقال: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأسا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت. وقد حُدّثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه -وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك- لِيُخْفِرُوك. فقام سعد مغضبا للذي ذكر له، فأخذ حربته، وخرج إليهما، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدا إنما أراد منه أن يسمع منهما. فوقف عليهما متشتما، ثم قال لأسعد بن زرارة: والله يا أبا أمامة، لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رُمْتَ هذا مني، تغشانا في دارنا بما نكره؟ وقـد كان أسعد قال لمصعب: جاءك والله سيد من ورائه قومه، إن يتبعك لم يتخلف عنك منهم أحد. فقال مصعب لسعد بن معاذ: أو تقعد فتسمع؟ فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره! قال: قد أنصفت! ثم ركز حربته فجلس. فعـرض عليــه الإسلام، وقـرأ علـيه القـرآن، قـال: فعرفنـا والله في وجهـه الإسلام قبـل أن يتكلم، في إشـراقه وتهلّله، ثـم قـال: كيـف تصنـعون إذا أسلمتـم؟ قالا: تغتسل، وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين. ففعل ذلك. ثم أخذ حربته فأقبل إلى نادي قومه، فلما رأوه قالوا: نحلف بالله لقد رجع بغير الوجه الذي ذهب به. فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا، وأفضلنا رأيا، وأيمننا نقيبة! قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله. فما أمسى فيهم رجل ولا امرأة إلا مسلما ومسلمة، إلا رجل واحد -وهو الأُصَيْرِم- تأخر إسلامه إلى يوم أُحد، فأسلم ذلك اليوم وقاتل وقتل، ولم يسجد لله سجدة؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عَمِلَ قَلِيلًا، وَأُجِرَ كَثِيرًا!»[16]. وأقام مصعب في بيت أسعد بن زرارة يدعو الناس إلى الإسلام، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخَطْمَة ووائل. كان فيهم قيس بن الأسلت الشاعر -وكانوا يطيعونه- فوقف بهم عن الإسلام، حتى كان عام الخندق سنة خمس من الهجرة. وقبل حلول موسم الحج التالي -أي حج السنة الثالثة عشرة- عاد مصعب بن عمير إلى مكة يحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشائر الفوز، ويقص عليه خبر قبائل يثرب، وما فيها من مواهب الخير، وما لها من قوة ومنعة.][17]. وما ينبغي أن نعلمه عن الأنصار، رضي الله عنهم؛ هو أنهم قوم هيأهم الله للإسلام باستعداداتهم. فكانوا على رجاحة عقل، وكانوا ميّالين إلى الخير، بحسب ما كانوا يعلمون؛ فلما عُرض عليهم الإسلام، عرفوا قيمته من أول مرة، فلم يتمكنوا من مخالفة بواطنهم الداعية إليه. والسبب هو ما ذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: «أَلَا إِنَّ الْإِيمَانَ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةَ يَمَانِيَةٌ، وَأَجِدُ نَفَسَ رَبِّكُمْ مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ...»[18]؛ قيل: كان يعني الأنصار (علم هذا من إشارته بيده الشريفة). ومعنى "أجد" من جهة ظاهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هو "أوجد" من جهة باطنه الشريف. وقد جاء في رواية: «نَفَسَ الرَّحْمَنِ»؛ وهذا يعني أن الأنصار -كما يدل على ذلك اسمهم الذي سماهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم- هم من سيؤيّد الله بهم خليفته، لا قومه الذين هو منهم. يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72]؛ وهذا يعني أنه إن كان فضل للمهاجرين بهجرتهم، وبانقلاعهم من منبتهم؛ فإن فضل الأنصار هو في كونهم المـُهاجَر إليهم. فهم بمثابة الأرض الصالحة، التي استقبلت شتائل الإيمان وأنمتها. وإن هذه الصلة بين الهجرة والإيواء، والتي هي كالصلة بين الأرض الصالحة والنبتة الصالحة، لا يُستغنى عن طرفيْها مدى الدهر؛ وهي أصل الولاية المتبادلة بين المهاجرين والأنصار، وهي الخميرة التي نشأ عنها المجتمع المسلم حيث كان من الأرض. ومن تحرّى، فإنه لا يجد مجتمعا مسلما، لا يكون به مهاجرون وأنصار؛ من جهة المعنى، إن لم يكن من جهة النسب الدموي؛ بهم تقوم الأمة وتستمر حياتها. 21. بيعة العقبة الثانية: [في موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من النبوة -يونيو سنة 622م- حضر لأداء مناسك الحج بضع وسبعون نفسا من المسلمين من أهل يثرب، جاءوا ضمن حجاج قومهم من المشركين، وقد تساءل هؤلاء المسلمون فيما بينهم، وهم لم يزالوا في يثرب أو كانوا في الطريق: حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فلما قدموا مكة جرت بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم اتصالات سرية أدت إلى اتفاق الفريقين على أن يجتمعوا في أوسط أيام التشريق في الشعب الذي عند العقبة حيث الجمرة الأولى من منى، وأن يتم الاجتماع في سرية تامة في ظلام الليل. ولنترك أحد قادة الأنصار يصف لنا هذا الاجتماع التاريخي الذي حول مجرى الأيام في صراع الوثنية والإسلام. يقول كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه: خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج، وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حَرَام أبو جابر، سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، أخذناه معنا -وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا- فكلمناه وقلنا له: يا أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا. ثم دعوناه إلى الإسلام، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيانا العقبة، قال: فأسلم وشهد معنا العقبة وكان نقيبا. قال كعب: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل، خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نتسلل تسلل القَطَا، مستخفين؛ حتى اجتمعنا في الشِّعْب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا، وامرأتان من نسائنا؛ نُسَيْبَة بنت كعب -أم عُمَارة- من بني مازن بن النجار، وأسماء بنت عمرو -أم منيع- من بني سلمة. فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا، ومعه عمه: العباس بن عبد المطلب -وهو يومئذ على دين قومه- إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، ويتوثق له، وكان أول متكلم. وبعد أن تكامل المجلس بدأت المحادثات لإبرام التحالف الديني والعسكري، وكان أول المتكلمين هو العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، تكلم ليشرح لهم -بكل صراحة- خطورة المسؤولية التي ستلقى على كواهلهم نتيجة هذا التحالف. قال: يا معشر الخزرج (وكان العرب يسمون الأنصار خزرجـا، خزرجـها وأوسـها كليهما) إن محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه ومنعة في بلده. وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك؛ وإن كنتم ترون أنكم مُسْلِمُوه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده. قال كعب: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. وهذا الجواب يدل على ما كانوا عليه من عزم صميم، وشجاعة مؤمنة، وإخلاص كامل في تحمل هذه المسؤولية العظيمة، وتحمل عواقبها الخطيرة. وألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بيانه، ثم تمت البيعة. وقد روى ذلك الإمام أحمد عن جابر مفصلا. قال جابر: قلنا: يا رسول الله، علام نبايعك؟ قال: «تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي اللَّهِ لَا تَأْخُذُكُمْ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ يَثْرِبَ، فَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ، وَأَزْوَاجَكُمْ، وَأَبْنَاءَكُمْ، وَلَكُمُ الْجَنَّةُ.». وفي رواية كعب -التي رواها ابن إسحاق- البند الأخير فقط من هذه البنود، ففيه: قال كعب: فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغّب في الإسلام، ثم قال: «أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ.». فأخذ البراء ابن مَعْرُور بيده ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق نبيا، لنمنعنك مما نمنع أُزُرَنا منه؛ فبايِعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب وأهل الْحَلْقَة، ورثناها كابرا عن كابر. قال: فاعترض القول -والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم- أبو الهيثم بن التَّيَّهَان، فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالا، وإنا قاطعوها -يعني اليهود- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «بَلْ الدَّمَ الدَّمَ، وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ! أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي! أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ، وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ!»[19]. وبعد أن تمت المحادثة حول شروط البيعة، وأجمعوا على الـشروع في عقدها قام رجلان من الرعيل الأول ممن أسلموا في مواسم سنتي 11 و12 من النبوة، قام أحدهما تلو الآخر؛ ليؤكدا للقوم خطورة المسؤولية، حتى لا يبايعوه إلا على جلية من الأمر، وليعرفا مدى استعداد القوم للتضحية، ويتأكدا من ذلك. قال ابن إسحاق: لما اجتمعوا للبيعة قال العباس بن عبادة بن نَضْلَة: هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم! قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس. فإن كنتم ترون أنكم إذا نَهَكَتْ أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلا أسلمتموه؛ فمن الآن! فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة. وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نَهْكَة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخـرة. قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟ قال: «اَلْجَنَّةُ!». قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه. وفي رواية جابر [قال]: فقمنا نبايعه، فأخذ بيده أسعد بن زرارة -وهو أصغر السبعين- فقال: رويدا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف؛ فإما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه، وأجركم على الله؛ وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة، فذروه؛ فهو أعذر لكم عند الله. وبعد إقرار بنود البيعة، وبعد هذا التأكيد والتأكد، بدأ عقد البيعة بالمصافحة. قال جابر -بعد أن حكى قول أسعد بن زرارة- قال: فقالوا: يا أسعد، أمِطْ عنا يدك. فوالله لا نذر هذه البيعة، ولا نستقيلها. وحينئذ عرف أسعد مدى استعداد القوم للتضحية في هذا السبيل وتأكد منه -وكان هو الداعية الكبير مع مصعب بن عمير- فكان هو السابق إلى هذه البيعة. قال ابن إسحاق: فبنو النجار يزعمون أن أبا أمامة أسعد بن زرارة كان أول من ضرب على يده. وبعد ذلك بدأت البيعة العامة، قال جابر: فقمنا إليه رجلا رجلا، فأخذ علينا البيعة، يعطينا بذلك الجنة. وأما بيعة المرأتين اللتين شهدتا الوقعة فكانت قولا. ما صافح رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أجنبية قط. وبعد أن تمت البيعة طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختاروا اثنيْ عشر زعيما يكونون نقباء على قومهم، يكفلون المسؤولية عنهم في تنفيذ بنود هذه البيعة، فقال للقوم: أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا ليكونوا على قومهم بما فيهم. فتم اختيارهم في الحال، وكانوا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس؛ وهذه أسماؤهم: ا. نقباء الخزرج: أسعد بن زُرَارَة بن عدس. سعد بن الرَّبِيع بن عمرو. عبد الله بن رواحة بن ثعلبة. رافع بن مالك بن العَجْلان. البراء بن مَعْرُور بن صَخْر. عبد الله بن عمرو بن حَرَام. عبادة بن الصامت بن قيس. سعد بن عبادة بن دُلَيْم. المنذر بن عمرو بن خُنَيْس. ب. نقباء الأوس: أُسَيْد بن حُضَيْر بن سِمَاك. سعد بن خَيْثَمَة بن الحارث. رفاعة بن عبد المنذر بن زبير. ولما تم اختيار هؤلاء النقباء أخذ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ميثاقا آخر بصفتهم رؤساء مسؤولين. قال لهم: «[20]أَنْتُمْ عَلَى قَوْمِكُمْ بِمَا فِيهِمْ كُفَلاءُ، كَكِفَالَةِ الْحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ؛ وَأَنَا كَفِيلٌ عَلَى قَوْمِي (يعني المسلمين من أهل مكة)، قَالُوا: نَعَمْ.»][21]. يظهر من حال الأنصار رضي الله عنهم، عند البيعة، أن الإيمان قد تغلغل في قلوبهم؛ ونعني من هذا، أنهم رُفعوا ببركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أعلى مرتبة الإيمان من البداية؛ ولم يبقوا على إيمان مرتبة الإسلام المـُجمل. وهذا، لأن فداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنفس والمال، لا يكون إلا لمن كمل إيمانه. وإنّ ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لمشابهة نقباء الأنصار لنقباء عيسى -عليه السلام- على قومه، هو من تأكيد أركان الدين المستمرة من عهد موسى، إلى العهد المحمدي الشريف. يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ} [المائدة: 12]؛ ومعنى قوله سبحانه: {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ}، هو ما دللنا عليه آنفا، من حفظ الله للقوم بالنقباء. ولا يكون النقباء إلا اثني عشر في القوم، كما أشرنا إلى ذلك من جهة العدد. وأما النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان في الكفة الأخرى المقابلة للنقباء، يحفظ بواحديته المسلمين الذين معه. وهذا الحفظ، كله، من جهة الغيب؛ لأن عالم الشهادة، لا يدخل فيه من معنى الحفظ إلا جمع الكلمة والرئاسة المعهودة. 22. انكشاف الاجتماع: [ولما تم إبرام المعاهدة، وكان القوم على وشك الارفضاض، اكتشفها أحد الشياطين؛ وحيث إن هذا الاكتشاف جاء في اللحظة الأخيرة، ولم يكن يمكن إبلاغ زعماء قريش هذا الخبر سرا، ليباغتوا المجتمعين وهم في الشعب، قام ذلك الشيطان على مرتفع من الأرض، وصاح بأنفذ صوت سُمع قط: يا أهل الجَبَاجب (المنازل) هل لكم في مُذَمَّم والصباة معه؟ قد اجتمعوا على حربكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَذَا أَزَبُّ الْعَقَبَةِ، هَذَا ابْنُ أَزْيَبَ؛ اسْمَعْ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ، أَمَا وَاللَّهِ لَأَفْرُغَنَّ لَكَ!»، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ارْفَعُوا إِلَى رِحَالِكُمْ!»[22]. وعند سماع صوت هذا الشيطان قال العباس بن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَمْ أُؤمَرْ بِذَلِكَ.»، فرجعوا وناموا حتى أصبحوا.][23] والظاهر أن "أزب"، هو شيطان من الجن، محله هناك. وأنه عندما علم باجتماع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مع الأنصار، لم يُطق ذلك؛ وأراد أن يُبلغ المشركين، غير أنه لم يُفلح في ذلك. وهذا يعني، أن شياطين الجن والإنس يعين بعضهم بعضا على محاربة الحق وأهله. وإن كثيرا من المؤمنين يغفلون عن هذه الحقيقة، ويظنون أن العداوة محصورة في شياطين الإنس وحدهم. وهذا خلل في العلم، ينبغي أن يُتفادى... 23. استيثاق قريش من الأمر ومطاردتها للمبايعين: [لما قـرع هذا الخبر آذان قريش وقعت فيهم ضجة، وساورتهم القلاقل والأحزان؛ لأنهم كانوا على معرفة تامة بعواقب مثل هذه البيعة ونتائجها بالنسبة إلى أنفسهم وأموالهم، فما أن أصبحوا حتى توجه وفد كبير من زعماء مكة وأكابر مجرميها إلى أهل يثرب؛ ليقدم احتجاجه الشديد على هذه المعاهدة، قال الوفد: "يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا من أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم.". ولما كان مشركو الخزرج لا يعرفون شيئا عن هذه البيعة؛ لأنها تمت في سرية تامة في ظلام الليل، انبعث هؤلاء المشركون يحلفون بالله: ما كان من شيء وما علمناه، حتى أتوا عبد الله بن أبيّ بن سلول، فجعل يقول: هذا باطل، وما كان هذا، وما كان قومي ليفتاتوا علي بمثل هذا! ولو كنت بيثرب ما صنع قومي هذا حتى يؤامروني! أما المسلمون فنظر بعضهم إلى بعض، ثم لاذوا بالصمت، فلم يتحدث أحد منهم بنفي أو إثبات. ومال زعماء قريش إلى تصديق المشركين، فرجعوا خائبين. عاد زعماء مكة وهم على شبه اليقين من كذب هذا الخبر، لكنهم لم يزالوا يَتَنَطَّسُونه (يكثرون البحث عنه ويدققون النظر فيه) حتى تأكد لديهم أن الخبر صحيح، والبيعة قد تمت فعلا. وذلك بعد ما نفر الحجيج إلى أوطانهم، فسارع فرسانهم بمطاردة اليثربيّين، ولكن بعد فوات الأوان؛ إلا أنهم تمكنوا من رؤية سعد بن عبادة والمنذر ابن عمرو فطاردوهما، فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد فألقوا القبض عليه، فربطوا يديه إلى عنقه بنِسْع رَحْلِه، وجعلوا يضربونه ويجرونه ويجرون شعره حتى أدخلوه مكة؛ فجاء المطعم بن عدي والحارث بن حرب بن أمية فخلصاه من أيديهم، إذ كان سعد يجير لهما قوافلهما المارة بالمدينة؛ وتشاورت الأنصار حين فقدوه أن يكروا إليه، فإذا هو قد طلع عليهم، فوصل القوم جميعا إلى المدينة. هذه هي بيعة العقبة الثانية -التي تعرف ببيعة العقبة الكبرى- وقد تمت في جو تعلوه عواطف الحب والولاء، والتناصر بين أشتات المؤمنين، والثقة والشجاعة والاستبسال في هذا السبيل. فمؤمن من أهل يثرب يحنو على أخيه المستضعف في مكة، ويتعصب له، ويغضب من ظالمه، وتجيش في حناياه مشاعر الود لهذا الأخ الذي أحبه بالغيب في ذات الله. ولم تكن هذه المشاعر والعواطف نتيجة نزعة عابرة تزول على مر الأيام، بل كان مصدرها هو الإيمان بالله وبرسوله وبكتابه، إيمان لا يزول أمام أي قوة من قوات الظلم والعدوان، إيمان إذا هبت ريحه جاءت بالعجائب في العقيدة والعمل، وبهذا الإيمان استطاع المسلمون أن يسجلوا على أوراق الدهر أعمالا، ويتركوا عليها آثارا خلا عن نظائرها الغابر والحاضر، وسوف يخلو المستقبل.][24]. نعم، إن الصحابة لم يوجد في الإسلام جيل أفضل منهم: صدقوا الله ورسوله، وآمنوا حق الإيمان، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، ورغبوا عن الدنيا، وكرهوا أن يعودوا في الكفر بعد أن هداهم الله للإيمان. ونحن دائما نقول: إن على أجيال المؤمنين المتعاقبة كلها، أن تعود في العلم بالدين إيمانا وثمارا، إلى جيل الصحابة؛ لأنه المعيار وحده، المصنوع بهمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى عينه. وكل سالك إلى الله، لا يجد قبله قدم أحد الصحابة، فلا يعدد نفسه على الطريق القويم. نقول هذا، لأن الناس قد ابتدعوا في الدين، وزعموا لأنفسهم ثمارا للإيمان ما أنزل الله بها من سلطان؛ ففشا الضلال بعد الهدى، وحلّت الظلمات بعد النور. ولقد أهمل العلماء -على عناية بعضهم بذلك- شأن الصحابة، وظنوا أن عقولهم تُغني عن النظر في أحوالهم؛ فضعف العلم، وانفصل تديُّن المتأخرين عن تديّن السابقين. ولن ينصلح أمر هذه الأمة، إلا بالعودة إلى مثل ما كان عليه الصحابة، عاجلا أم آجلا. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ؛ حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلَانِيَةً، لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ؛ وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً. قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي!»[25]. ومعنى "ما أنا عليه وأصحابي"، هو أن تكون الجماعة في الزمان، تابعة لرباني من خلفاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ تلتف عليه كما كان الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتسمع له وتطيع. أما ما نراه من أمتنا في عمومها اليوم، فهو خلاف هذه الصفة؛ لأن الربانيّين ما عاد أحد يعرف لهم مكانتهم؛ واستغنى السفهاء من الناس بآرائهم أو باتباع من هم أضل منهم. ولو كان علماء الدين المترسمين، على علم معتبر، لكان أول نظرهم في صفة الجماعة الشرعية، والشرط الذي اشترطه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها. ولا يغُرَّن أحدا أن يسمع إمام ضلال يزعم أنه على الكتاب والسنة؛ لأن الكتاب والسنة، لا يُفهمان إلا بفهم رباني. وما ضل ضال في الإسلام، إلا بفهم خاطئ في القرآن أو في السنة؛ فليُعتبر هذا. بل إن بعض أشد الناس ضلالا، يكونون على صفات تشتبه على من لا علم له؛ وقد بيّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بقوله: «يَخْرُجُ فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ، وَيَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ؛ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ: يَنْظُرُ فِي النَّصْلِ فَلَا يَرَى شَيْئًا، وَيَنْظُرُ فِي الْقِدْحِ فَلَا يَرَى شَيْئًا، وَيَنْظُرُ فِي الرِّيشِ فَلَا يَرَى شَيْئًا، وَيَتَمَارَى فِي الْفُوقِ.»[26]. فليعتصم المرء بكلام النبوة، ولا يستغن عنه ببنات عقله؛ فإن العقل في زمن الفتن لا يُؤتمن. وكيف يؤتمن، وقد جاء في الحديث القدسي: يقول الله عز وجل: «لَقَدْ خَلَقْتُ خَلْقًا أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَقُلُوبُهُمْ أَمَرُّ مِنَ الصِّبْرِ؛ فَبِي حَلَفْتُ لَأُتِيحَنَّهُمْ فِتْنَةً تَدَعُ الْحَلِيمَ مِنْهُمْ حَيْرَانًا! فَبِي يَغْتَرُّونَ أَمْ عَلَيَّ يَجْتَرِئُونَ؟!»[27]. ومعنى "لَأُتِيحَنَّهُمْ فِتْنَةً تَدَعُ الْحَلِيمَ مِنْهُمْ حَيْرَانًا": أي لأذيقنهم فتنة تدع اللبيب لا يَميز طريقه فيها. ومعنى "فَبِي يَغْتَرُّونَ أَمْ عَلَيَّ يَجْتَرِئُونَ؟!": أي ما سبب اطمئنانهم إلى أحوالهم مع فسادها؟ فهل غرهم مني أنهم مسلمون عند أنفسهم، يقرأون القرآن ويُصلون؟ أم هم على ذلك من جراءتهم عليّ، وعدم توقيرهم لمقامي (ربوبيتي)؟!... وهذا يعني أن كلا الأمريْن واقعان؛ فشطر من هؤلاء الضُّلّال مغترون بما وجدوا أسلافهم عليه من ظاهر الدين، وشطر منهم اجترأوا على الله، عندما طغى عليهم الجهل، وتسللت إليهم الفلسفات... 24. طلائع الهجرة: [وبعد أن تمت بيعة العقبة الثانية ونجح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة -وهو أخطر كسب حصل عليه الإسلام منذ بداية دعوته- أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى هذا الوطن. ولم يكن معنى الهجرة إلا إهدار المصالح، والتضحية بالأموال، والنجاة بالشخص فحسب، مع الإشعار بأنه مستباح منهوب قد يهلك في أوائل الطريق أو نهايتها، وبأنه يسير نحو مستقبل مبهم، لا يدري ما يتمخض عنه من قلاقل وأحزان. وبدأ المسلمون يهاجرون وهم يعرفون كل ذلك، وأخذ المشركون يحولون بينهم وبين خروجهم؛ لما كانوا يحسون به من الخطر، وهاك نماذج من ذلك: ا. كان من أول المهاجرين أبو سلمة (هاجر قبل العقبة الكبرى بسنة على ما قاله ابن إسحاق) وزوجته وابنه، فلما أجمع على الخروج قال له أصهاره: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟ فأخذوا منه زوجته، وغضب آل أبي سلمة لرجلهم، فقالوا: لا نترك ابننا معها إذ نزعتموها من صاحبنا، وتجاذبوا الغلام بينهم فخلعوا يده، وذهبوا به. وانطلق أبو سلمة وحده إلى المدينة. وكانت أم سلمة رضي الله عنها وبعد ذهاب زوجها وضياع ابنها تخرج كل غداة بالأبطح تبكي حتى تمسي، ومضى على ذلك نحو سنة، فرق لها أحد ذويها وقال: ألا تخرجون هذه المسكينة؟ فرقتم بينها وبين زوجها وولدها، فقالوا لها: الحقي بزوجك إن شئت، فاسترجعت ابنها من عصبته، وخرجت تريد المدينة (رحلة تبلغ حوالي خمسمائة كيلو متر تمر بين شواهق الجبال ومهالك الأودية) وليس معها أحد من خلق الله. حتى إذا كانت بالتَّنْعِيم لقيها عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، وبعد أن عرف حالها شيعها، حتى أقدمها إلى المدينة، فلما نظر إلى قباء، قال: زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعا إلى مكة. ب. وهاجر صُهَيْب بن سِنان الرومي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أراد الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك. فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم، قال: فأني قد جعلت لكم مالي! فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «رَبِحَ صُهَيْبٌ، رَبِحَ صُهَيْبٌ!»[28]. ج. وتواعد عمر بن الخطاب، وعَيَّاش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل موضعا اسمه التَّنَاضُب فوق سَرِف يصبحون عنده، ثم يهاجرون إلى المدينة، فاجتمع عمر وعياش، وحبس عنهما هشام. ولما قدما المدينة ونزلا بقباء قدم أبو جهل وأخوه الحارث إلى عياش (وأم الثلاثة واحدة، وهي أسماء بنت مُخَرِّبَة) فقالا له: إن أمك قد نذرت ألا يمس رأسها مشط، ولا تستظل بشمس حتى تراك، فَرَقَّ لها. فقال له عمر: يا عياش، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فوالله لو آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت؛ فأبى عياش إلا الخروج معهما ليبر قسم أمه، فقال له عمر: أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها. فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا ابن أمي، والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟ قال: بلى، فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه وربطاه، ثم دخلا به مكة نهارا موثقا، وقالا: يا أهل مكة، هكذا فافعلوا بسفهائكم، كما فعلنا بسفيهنا هذا. روى البخاري عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين: «إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ!» (وهما الحرتان) فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى رِسْلِكَ! فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي.»، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ؟ قَالَ: «نَعَمْ.»؛ فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَصْحَبَهُ، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ (وَهُوَ الْخَبَطُ) أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.][29]. ولا بد هنا، من أن نذكر معنى الهجرة، ليتصل منها الظاهر بالباطن، وليكتمل علمها عند المسلمين، فنقول: 1. إن الهجرة هي الرحيل من مكان إلى آخر، في عالم الحس؛ وهي الانتقال من مكانة إلى أخرى في عالم المعنى. 2. إن المقصود الأول من الهجرة، هو الخروج عن أحكام النفس، إلى أحكام التحقق بالحق. وهذا، لأن العباد عند شهودهم أنفسهم بعد خلقهم، انحجبوا بذلك الشهود عن الحق؛ فصار لزاما عليهم العودة إليه سبحانه عبر السبيل المشروع. ولقد عبّرنا بالعودة إلى الحق، لأن العباد أصلهم الحق من حيث النسبة؛ لأنهم ليسوا إلا آثارا لأسمائه تعالى. وكل من يتوهم استقلالا للخلق عن الحق، فهو ممن بقي تحت حكم طبيعته وظلمته الأصلية لا ممن تحققت لهم الهجرة. 3. لا تكون الهجرة إلا إلى الله، من حيث هو الحق؛ أو لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم من حيث هو مظهره (خليفة الله). والهجرة إلى الشيخ الدال على الطريق، لا تكون بهذا المعنى إلا مندرجة في الهجرة إلى الله ورسوله؛ إن كان الشيخ ربانيا؛ وإلا خرجت عن المعنى الشرعي، وبقيت في أحسن أحوالها على ما يكون عليه عوام المؤمنين من موالاة العلماء والصالحين، إن كان الشرع محكَّما. وأما إن كان الشيخ دالا على نفسه، مع اتباع هواه؛ فإن هذا يجعل الهجرة معه ممتنعة، ويصير حجابا لغيره طالما هو يقبل توارد الناس عليه. وهذا الصنف في النهاية يلحق بالشيطان، لاشتراكه معه في الصدود عن سبيل الله. يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 167]؛ والكفر هنا هو الحجب عن الحق، سواء أفضى بصاحبه إلى الكفر الأكبر، أم أبقى الله عليه الإسلام في الظاهر. وهذا، لأن ظاهرا لا يشهد له الباطن، هو بعيد من أن يكون معتبرا عند الله. 4. إن الهجرة المكانية، لم يبق منها اليوم إلا انتقال المريدين إلى حيث يجدون الشيخ المـُرشد؛ وأما غير هذا، فقد انتهى بهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، من مكة إلى المدينة. وتبقى الهجرة القلبية المعنوية، مطلوبة للعبد، حتى يتحقق بمقامات الدين ومراتبه ما دامت السماوات والأرض. وإن كل من لا يُقرّ في نفسه بوجوب الهجرة المعنوية عليه، يكون مخالفا لروح التشريع، متبعا لهواه وشيطانه؛ وإن كان من أكبر علماء الرسوم. وذلك لأن للدين روحا، كما لكل شيء روح؛ ومن فرّط في أرواح الصور، فإنها تعود في حقه موتا وانقطاعا عن أصلها. ولا شك أن أمتنا الإسلامية في هذا الزمان، محتاجة إلى فقه الهجرة، وإلى العودة بها إلى أصلها، بدل أن يُحتفل بها الاحتفال البدعي، الذي صار يُشبه احتفال الكتابيّين بأعيادهم، بعد أن فسقوا. وإن علماء الدين يأثمون كثيرا، بعدم دلالتهم على المعاني التي أشرنا إليها؛ ولا يظن أحد منهم أنه غير مكلف بما ذكرنا، أو أن اشتغاله بظاهر الأمر بحسب رأيه، يُعفيه من التبعات. وأما من كان منكرا للهجرة المعنوية مطلقا، فإنه يكون فاسقا مبتدعا؛ عليه أن يتوب من سوء حاله قبل أن يُدركه الموت وهو على مخالفة الأصول. وعلى كل حال، فإن تفاصيل ما يتعلق بالهجرة القلبية لا تكاد تنحصر؛ ونحن سنذكر منها -إن شاء الله- ما يكون مناسبا للأحداث التي سنمر بها في كل مرة؛ ليكتمل النسق الديني في أذهان القراء، وليخرجوا عن التقليد المقيت الموروث عبر الأجيال... (يُتبع...) [1] . الرحيق المختوم. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.