اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2020/11/19 الحوار الغائب (ج3) -12- المرحلة المكّيّة (3) (تابع...) 10. حصار قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن معه: قال ابن إسحاق: [لما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلداً أصابوا به أمناً وقراراً، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عمر قد أسلم؛ فكان هو وحمزة بن عبد المطلب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجعل الإسلام يفشو في القبائل، اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب على أن لا ينكحوا إليهم ولا يُنكحوهم، ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم. فلما اجتمعوا لذلك كتبوا في صحيفة، ثـم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم. فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو عبد المطلب إلى أبي طالب بن عبد المطلب فدخلوا معه في شِعْبه فاجتمعوا إليه؛ فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثاً حتى جهدوا؛ لا يصل إليهم شيء إلا سراً، متخفياً به من أراد صلتهم من قريش.]. وإن مقاطعة قريش للمسلمين ومن معهم، أسلوب يلجأ إليه دائما أهل الباطل في مواجهة أهل الحق؛ من أجل كسر عزيمتهم وثنيهم عن طريقهم. وقد يأتي الحصار في صور متعددة، كالطرد من العمل في زماننا، أو التضييق على الأقارب؛ إلى غير ذلك مما هو معروف من عيش الناس. وعلى الناس أن يُوطِّنوا أنفسهم على تحمل تبعات اختيار طريق الحق، لا أن ينتظروا الجمع بين الحسْنييْن دائما. وإن كل من يظن أن اجتناب الأذى، قد يكون عذرا شرعيّا، يُسوّغ لصاحبه التنازل عن الحق، فإنه يكون جاهلا بالأمر. وإننا رأينا جُلّ المسلمين على هذا النهج الفاسد، يُربّي كبيرهم صغيرهم، وينصح عالمهم جاهلهم؛ مع أن النتائج التي يحصدون لا تكون إلا ذُلّا وهوانا. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا... فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ؛ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ. وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ. فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ.»[1]. وحب الدنيا وكراهية الموت، هما أصل كل الأسباب التي تجعل المرء يتنازل عن دينه؛ فلينظر المسلمون من أين أُتوا!... وفي الآيات التاليات، يبيّن الله حكمه فيمن قعد عن مناصرة الله ورسوله، واعتذر في ذلك بما ليس هو عذرا عند الله؛ فيقول سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ [ليلاحظ القارئ أن الكلام هنا عن كفر المنافقين، لا عن كفر الكافرين] وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا [من الحط من قدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم] وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ [الفضل هنا خاص بالمؤمنين، وبما أن المنافقين موجودون بينهم فإن الخطاب قد عمهم، لو أنهم ستروا أنفسهم] فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ [باب التوبة دائما مفتوح برحمة الله لجميع المسيئين] وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [جزاء السيئة بمثلها] وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [لأن ظنهم موالاة الأشرار لهم، توهم منهم؛ ما دام الخلق كلهم تحت قهر الله]. وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ . فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [وهذا مخصوص بمن وعد بإحسان العمل، إن هو أصابه من نعم الله ما يرجوه]. فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [لأن الله سبحانه يُحاسب عباده عن وعدهم له، ولا يحب منهم أن يُخلفوه]. أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [وهذا، لأن عملهم بعد إنعام الله عليهم، يدل على أنهم غير موقنين بأن الله يعلم منهم ظاهرهم وباطنهم]. الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [والسخرية من المؤمنين، ملحقة بعدم شكر المنعم؛ لأن من يرى فضل الله عليه، لا يستأثر به دون الناس]. اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [والكلام هنا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، من كونه أصل حقائق المنافقين؛ والحكم هو من الله الغيور على حرماته] ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [خلف الوعد لله، ومحبة الأذى لرسول الله، واحتقار المؤمنين، هي ما حكم الله عليهم فيه بالكفر؛ لأن هذه الخصال لا تكون إلا لكافر، وإن تظاهر بالإيمان]. فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [وينبغي هنا التفريق بين الجهاد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو الجهاد مع أحد الخلفاء، وما يزعمه الجاهلون في زماننا من "الجهاد" المنفلت، الذي يُظلم فيه الناس كلهم، مؤمنهم وكافرهم. ونعني من هذا، أن ما يُسمّى جهادا اليوم، هو من النفاق لا من الإيمان، بعكس الحكم الأصلي. وذلك لأن الحكم منوط بمعية النبي صلى الله عليه وآله وسلم على وجه التقييد.]. فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الضحك القليل، هو ما سيتمتعون به من دنياهم؛ والبكاء الكثير، هو ما سيجدونه أمامهم في الآخرة]. فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا [يحكم الله بحرمان المنافقين من الخروج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأن قعودهم أول مرة لم يُغفر لهم] إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ [وهذا يعني أن الله قد أثبتهم في مقام المخلفين، ومنع عنهم التوبة منه؛ وما ذلك إلا لأن النفاق أسوأ عنده سبحانه من الكفر] . وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [لأن صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقيامه على قبورهم، شفاعة لهم، وشفاعته صلى الله عليه وآله وسلم لا تُردّ؛ والله لا يريد أن يغفر لهم.] إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [الكفر بالله ورسوله هنا، هو عدم توقير النبي صلى الله عليه وآله وسلم. نقول هذا، لأن كثيرين من متأخري المنافقين، يظنون أنهم إن واظبوا على شعائر الإسلام وحدها، فإن ذلك يؤدي عنهم حق الله]. وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ [وذلك لأن نعم الدنيا لا يُعتد بها، إن لم تكن مع إيمان] إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا [تعذيب الله للمنافقين بنعم الدنيا، هو بتعليق قلوبهم بها؛ حتى إذا جاءهم الموت، ماتوا مـُدبرين] وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ . وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ [الإيمان لا يترك صاحبه يتخلف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والاستئذان في ذلك لا يكون إلا مع النفاق؛ وإن كان المنافقون لا يعلمون ذلك، ويظنون أنهم إن أذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنهم مـُعفَوْن من المؤاخذة. وهذه الأحكام مستمرة مع الورثة، فلا يغتر أحد بتساهلهم معه في الظاهر.]. رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ [أي لا يفقهون ما يتعلق بالمعاملات، بسبب عمى بصائرهم.]. لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المؤمن يسترخص في معية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، نفسه وماله من دون تكلّف؛ لأن الإيمان يحكم عليه من جهة باطنه بذلك.]. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [وهذا، لأن الله أنعم عليهم بالإيمان، وأثبت لهم حكمه في الدنيا والآخرة.]. وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [قيل: المـُعذِّرون، هم المعتذرون؛ ولما كان اعتذارهم بالباطل، فإن الله لم يعذرهم. وأما القاعدون، فهم من قعد ولم يعتذر.] سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [ولقد جاء الله بحرف "من" الدال على التبعيض، ليُعلمنا أنه سبحانه أعلم بعباده فردا فردا؛ ولعل المعتذرين كانت منهم قلة على عذر معتبر.] . لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ [وحتى لا يظن المؤمنون بأنفسهم السوء، فإن الله سبحانه فصل القول في أهل الأعذار المعتبرة عنده: وهي الضعف والمرض والفاقة؛ مع صدق العبد مع نفسه في حاله. والضعف هنا يشمل من كان مستحقرا في قومه، بحيث يخاف الأذى منهم إن هو خالفهم.] مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المحسنون هنا، هم من أحسن الحكم على حاله؛ بحيث لا تبقى بعد ذلك مطالبة عليه من قِبل الأسماء الإلهية، وبالأخص "الحسيب"]. وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ [وهؤلاء حالهم أوضح من أن يُبيّن؛ لكن الله ذكرهم إخراجا لهم من حكم الظاهر.]. إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ [والغنى هنا، هو خلاف ما ذُكر من الأعذار كلها؛ لأن الصحة -مثلا- صنف من أصناف الغنى.] رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ [والرضى هنا، حال قلبي مخالف لأحوال الإيمان.] وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الطبع على القلب، هو الختم. والمنافقون قد استحقّوا هذا الحكم من الله، بسبب نفاقهم.]. يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ [وهذا أيضا من أثر النفاق] قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ [أي قد أنزل الله فيكم آيات تفضحكم.] وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ [أي في الدنيا] ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [في الآخرة]. سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ [أي لتتجاوزوا عنهم فلا تؤاخذوهم] فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ [فافعلوا ذلك، ترفعا عنهم.] إِنَّهُمْ رِجْسٌ [لأنهم رجس ونجاسة] وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ . يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ [وحتى إن صدقتم بعضهم بسبب جهلكم بأحوالهم.] فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [لأنه سبحانه لا يخفى عليه أحد منهم.]. الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا [من أهل الحواضر، بسبب غلظتهم.] وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [فهم أبعد في الفهم عن الله ورسوله] وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ [وهذا لأنهم لا يعملون لله، بسبب كثافة حجابهم.] عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ [لأن نتائج معاملتهم ستعود عليهم.] وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ [يستثني الله كعادته سبحانه، المحسنين؛ حتى لا يعم الحكم كل الأعراب.] أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ [أي هي معتبرة عند الله.] سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ [جزاء أعمالهم] إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [وليست الأمة إلا هؤلاء.] وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ [يُحذر الله المؤمنين منافقي الأعراب] وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ [ويحذرهم منافقي المدينة] مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ [أي تشربوه] لَا تَعْلَمُهُمْ [من جهة ظاهرك.] نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [أي من جهة باطنك.] سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ [عذابيْن في الدنيا: وأحدهما لهم ملازم، بسبب كراهيتهم للإسلام مع تظاهرهم به؛ أما الثاني، فهو فضح النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم وهو يخطب الجمعة، فصار ينادي على أحدهم ويأمره بالخروج أمام الأنظار. ويدخل في الفضح أيضا تعليم حذيفة رضي الله عنه بأسمائهم.] ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ [وهو عذاب الآخرة.]. وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا [العمل الصالح: موافقة بواطنهم، والعمل السيء، مخالفة ظواهرهم.] عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [وهو ترجية من الله لهم، ولا يُرجّي الله عبدا في شيء إلا آتاه إياه سبحانه.] إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [جعل الله صدقة هؤلاء الخالطين كفارة لهم.] وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [استغفر لهم] إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [إن استغفارك من كونك غفورا رحيما، يوجب لهم مني المغفرة. ومعنى سكن لهم: أي طمأنينة.] وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [أثبت الله لنفسه صفة قبول التوبة عن عباده، وقبول صدقاتهم التي قصدوا منها التكفير عن ذنوبهم، ليعلم الخطاؤون دائما، أن لهم بابا إلى الرحمة، ما لم يُغلِقوه من جهتهم.]. وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [أي بعد توبتكم.] وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [حقيقة]. وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ [وهم من تخلّفوا وندموا، ولكنهم لم يعتذروا إلى الخليفة؛ فهذا الصنف يعود الحكم فيه إلى مطلق المشيئة، من جهة غيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.] إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ [بحسب سبق العلم فيهم.] وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ .} [التوبة: 73 -106]. وحتى يُدرك العبد الأحكام الواردة في الآيات، فينبغي عليه أن يعلم أن أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مع أمته، سواء؛ أتعلق الأمر بتواجده عليه السلام بين الصحابة، أم بما بعد وفاته. ومع اعتبار هذا الأصل، على ما يظن أغلب المسلمين، فإن كثيرا من القرآن سيُصبح تاريخا، لا تشريعا؛ والحال أنه تشريع. وقد جهل هذا الأصلَ كثير من الفقهاء، فغابت عنهم كثير من أحكام الشريعة المنوطة بالمتأخرين بسبب ذلك. ورغم أن سورة التوبة مدنية، ونحن ما زلنا في المرحلة المكية، فإننا أوردنا شطرا منها هنا، ليعلم أهل زماننا أحكام راكبي الأعذار والمتخلفين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأحكام المنافقين؛ وهذه الأصناف موجودة دائما في صفوف الأمة؛ علم من علم وجهل من جهل. ومع أن هذا العلم دقيق، ويصعب على المتأخرين العمل به، مع اختلاط الأحوال؛ فإنه من أصول التشريع في مقابل ذلك، التي لا يُمكن إغفالها من قِبل العلماء. ولعلنا سنعود إلى سورة التوبة بتفصيل أكبر -إن شاء الله- عند بلوغنا "المرحلة المدنية"، من زمن النبوة. ويقول ابن إسحاق: [ثم إنه قام في نقض تلك الصحيفة التي تكاتبت فيها قريش على بني هاشـم وبني المطلب نفر من قريش، ولم يَبْلُ فيها أحد أحسن من بلاء هشام بن عمرو؛ وذلك أنه ابـن أخ نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه، وكان هشام لبني هاشم واصلاً، وكان ذا شرف في قومه فكان يأتي بالبعير وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب ليلاً، قد أوقره طعاماً حتى إذا أقبل به فم الشّعب، خلع خطامه من رأسه ثم ضرب على جنبه فيدخل الشعب عليهم، ثم يأتي به قد أوقره بـزاً فيفعل به مثل ذلك… ثم إنه مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم -وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب- فقال: يا زهير! أقد رضيت أن تأكل الطـعـام وتلبس الثياب وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت لا يباعون ولا يبتاع منهم ولا ينكحون ولا ينكح إليهم؟ أما إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته إلى ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبداً. قال: ويحك يا هشام! فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد! والله، لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها حتى أنقضها. قال: وقد وجدتُ رجلاً. قال: من هو؟ قال أنا. قال له زهير: ابغنا رجلاً ثالثاً. فذهب إلى الـمُطعِم بن عــدي، فقال له: يا مطعم! أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف وأنت شاهد على ذلـك مـوافـق لقريش فيه؟ أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنها إليها منكم سراعاً. قال: ويحك! فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد. قال: قد وجدتُ ثانياً، قال: من هو؟ قال: أنا! قال ابغنا ثالثاً، قال: قد فعلتُ؛ قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، قال: ابغنا رابعاً. فذهب إلى أبـي البختري بن هشام، فقال له نحواً مما قال لمطعم بن عدي، فقال: ابغنا خامساً. فذهب إلـى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه، وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم! ثم سمى له القوم. فاتَّعدوا خطم الحجون ليلاً بأعلى مكة فاجتمعوا هنالك، فأجمعوا أمرهم وتعاقدوا على القيام في نقض الصحيفة حتى ينقضوها، قال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم. فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم وغدا زهير بن أبي أمية وعليه حلة فطاف بالبيت سبعاً، ثم أقبل على الناس، فقال: يا أهل مكة! أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم لا يباعون ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تُشَقَّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. قال أبو جهل -وكان في ناحية المسجد-: كذبت، والله! لا تشق. قال زمعة بن الأسـود: أنت والله أكذب! ما رضينا كتابتها حين كتبت. قال أبو البختري: صدق زمعة لا نرضى ما كتب والله فيها، ولا نقر به. قال المطعم بن عدي: صدقتما، وكذب من قال غير ذلك؛ نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها. وقال هشام بن عمرو نحواً من ذلك، قال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، تُشُووِر فيه بغير هذا المكان. وأبو طالب جالس في ناحية المسجد فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقها فوجد الأَرضة قد أكلتها إلا: "باسمك اللهم"؛ وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة، فَشُلَّت يده (فيما يروُون). قال ابن هشام: وقد ذكر بـعـض أهل العلـم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي طالب: «يَا عَمِّ، إِنَّ رَبِي قَدْ سَلَّطَ الأَرَضَةَ عَلَى صَحِيفَةِ قُرَيْشٍ، فَلَمْ تَدَعْ فِيهَا اسْمًا لِلَّهِ إِلَّا أَثْبَتَتْهُ، وَنَفَتْ مِنْهَا الْقَطِيعَةَ وَالظُّلْمَ وَالْبُهْتَانَ.». فقال: أربُّك أخبرك بهذا؟ قال: «نعم.» قال: فوالله! ما يدخل عليك أحد. ثم خرج إلى قريش، فقال: يا معشر قريش! إن ابن أخي أخبرني بكذا وكذا فهلمَّ صحيفتَكم، فإن كانت كما قال ابن أخي فانتهوا عن قطيعتنا وانزلوا عما فيها، وإن كان كاذباً دفعت إليكم ابن أخي؛ فقال القوم: رضينا. فتعاقدوا على ذلك، ثم نظروا فإذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزادهم ذلك شراً. فعند ذلك، صنع الرهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا.]. ويُقال إن الحصار قد دام ثلاث سنوات، لسبعٍ خلوْن من البعثة. إن الله عندما يبتلي عباده المؤمنين، فلا يعني ذلك أنه سبحانه قد أهملهم؛ ولكن هو يهديهم بإيمانهم إلى صحيح معاملته. وإن التراجع عن الحق، في حق من يجهلون حكمة الله في الابتلاء، لا ينبغي أن يؤثر على غيرهم؛ لأن الأمور لا تُقاس هنا بما تبلغه العقول من إدراكٍ لمصالحها المعاشية، بقدر ما هي منوطة بتحقيق صدق المعاملة لله. ولقد قرن الله الابتلاء مع الإيمان، لأن هذا الأخير دعوى؛ والدعوى ينبغي أن تُمحَّص، حتى يثبت حكم تحققها لصاحبها. يقول الله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2، 3]. ويقول تعالى في موضع آخر: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]؛ ورغم أن الآية قيل قد نزلت في غزوة الأحزاب (أو أحد على أحد الأقوال)، إلا أنها تصدق أيضا على حال المؤمنين في حصار الشِّعب. وهي تعني أن البلاء لا بد منه للمؤمنين؛ بل لا بد أن يبلغوا فيه حالا من الشدة، يجعلهم يتطلعون إلى نصر الله تطلُّع المضطر. وهو ما عبّر عنه القرآن بـ {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}. والقول هنا قول حال، لا قول مقال؛ لأن الحال هو الأصل؛ وإدخال الرسول في الحال مع المؤمنين، هو من مشاركته لهم في ذوقهم. وقد غلط أُناس، عندما ظنوا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان لا يحس بالآلام والشدائد، بسبب خصوصيته (وهذا يقع فيه عوام الصوفية)؛ والحقيقة هي أنه لا بد له من وجدان ذلك. وأما الفرق، بينه صلى الله عليه وآله وسلم وبين أتباعه، فهو يقينه المناسب للنبوة. ونعني من هذا، أن يقين النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ليس من مرتبة يقين أهل الإحسان من أصحابه؛ ولكنه صنف خاص بالنبوة. هذا من أحد الوجوه، ويبقى الوجه الذي يُعطيه علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والذي قد يُعطي من الخوف، ما لا يبلغه خوف الأصحاب، خارج ما يعلمه العلماء. وعلى كل حال، فالأسباب واحدة، ولكن الحال يختلف. ونعني أن الزلزلة مشتركة من جهة اللفظ، متنوعة من جهة الحال. وأما لمَ كان ذلك كله يقع للعباد؟ فالجواب عنه، هو أن نفوس العباد أصلها عدم؛ فلما أدخلها الله بقدرته، إلى عالم الإمكان الذوقي، استصحبت معها ذوق العدم. فكانت عند الابتلاء، تعود إلى حال الشك الطبيعي في الأمور؛ ما دام الوجود ليس لها بالأصالة. فهذا هو ما يجعلها -على تفاوت فيما بينها من جهة الوجود- تتزلزل وتترقب النصر الموعود. والنصر يكون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ملازما، لكونه وجودا خالصا؛ ليس له من العدم إلا الصورة؛ ويكون للأتباع بالتبع منه صلى الله عليه وآله وسلم، من قبيل المدد. وقد أشار البوصيري رضي الله عنه إلى هذا المعنى في قوله: وَمَنْ تَكُنْ بِرَسُولِ اللهِ نُصْرَتُهُ إِنْ تَلْقَهُ الْأُسْد فِي آجَامِهَا تَجِمِ وهذا يعني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هو من جهة، مشارك لأصحابه في الوقوع تحت أثر أسماء الجلال، ومن جهة أخرى، هو المتصرف فيهم بها وبغيرها. وكونه تحت أثر أسماء الجلال، لا يعني أن التصرف بها ليس منه؛ ولكن يعني أن التصرف يختلف من حيث أصله من ظاهره الشريف أو من الباطن. ونعني بالظاهر هنا ظاهر القلب الشريف، وبالباطن باطنه. والجلال في الغالب يكون من باطن القلب النبوي، لأنه أدخل في معنى الذات. ومن حقق النظر، فإنه سيجد أسماء الجلال ذاتية، وإن كانت من مرتبة الصفات أو الأفعال. ونحن هنا نتناول المسألة من وجه واحد، ولا نريد أن نتمادى فيها من الوجه الآخر، بسبب غموضها. والعبد المؤمن، عليه أن يكون في جميع أحواله موقنا بوعد الله، وإن كان في بلاء؛ لأن من جاد عليه بالإيجاد، لن يبخل عليه بالإمداد، لو كان يعلم؛ ومن أجابه قبل أن يُلقَّن السؤال، كيف لا يُجيبه بعد السؤال؟!... وإنما هو امتحان، يستخلص به الله عباده المؤمنين، ويفضح به المدعين. ولا ينبغي لأحد أن يفهم من قول الله: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}، أنه سبحانه لم يكن يعلمهم؛ وإنما المراد أن يعلموا هم أنفسهم على حقيقتها، لتكون لله الحجة عليهم. غير أن هذا العلم الثاني الحادث، هو أيضا لله بالأصالة، لا لهم. وقد أشار إلى هذه الحقيقة شيخنا الأكبر عليه السلام في كتبه مرات عديدة. فليحترس العباد من فهم كلام الله، على غير ما يليق به سبحانه!... وأما تسليط الله الأرضة على الصحيفة الجائرة، فهو من باطن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بعد انتهاء زمن البلاء. نقول هذا، حتى لا يقول جاهل: إن كان في مقدور النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يفعل ما يشاء، فلمَ صبر هو على الشدة وصبر أصحابه؟ والجواب هو أن المسألة ليس لها وجه واحد؛ ولكن لها وجوها متعددة، منها: ابتلاء المؤمنين، وابتلاء الكافرين (الذين يتوهمون أنهم يتصرفون في المؤمنين عن قدرة)؛ ويترتب على هذا، استخراج الأحوال القلبية من هؤلاء ومن هؤلاء؛ ويترتب على الأحوال الأعمال، التي تترتب عليها كلها الجزاءات. وهذا كله، داخل تحت صفة الحكمة الإلهية. والمقصود من وجود الخليفة عن الله بين الناس، بلوغهم مقاماتهم التفصيلية؛ وليس الأمر كما يظن الجاهلون، مفاصلة بين المؤمنين والكافرين فحسب. وهذا يعني، أن وجود الكافرين ضروري، وليس كما يظن الجاهلون؛ لأن الله يُربّي المؤمنين بهم ويؤدِّبهم، مع أن نهايتهم إلى عذاب وغضب. ولا يتمكن من علم ما نذكره هنا، إلا من ذاق سلوك الطريق، وعرف كيف يكون إيذاء الخلق للخواص رحمة ونعمة؛ على خلاف مظنون الجاهلين من عوام المؤمنين. ومن باب كون الكفار مظاهر للأسماء الإلهية، سينالون شفاعتها في جهنم، بعد انقضاء أمد الغضب؛ مع التأكيد على عدم خروجهم من النار. وهذا، لأن بعض من شم رائحة هذه الحقائق، من وراء عقله، قد زعم أن النار تفنى؛ وهو خلاف صريح القرآن. فلا ينبغي للعبد أن يستنتج بعقله، ما لم يرد به نص. وأما من يقيس كلامنا عن شفاعة الأسماء، على ما نذكر هنا؛ فإننا نقول: ما ذكرناه يستند إلى نص؛ وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ شَفَعَ النَّبِيُّ لأُمَّتِهِ، وَالشَّهِيدُ لأَهْلِ بَيْتِهِ، وَالْمُؤْمِنُ لأَهْلِ بَيْتِهِ؛ وَيَبْقَى شَفَاعَةُ الرَّحْمَنِ، يُخْرِجُ اللَّهُ أَقْوَامًا مِنَ النَّارِ، قَدِ احْتَرَقُوا فِيهَا وَصَارُوا فَحْمًا. فَيُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى نَهْرٍ فِي الْجَنَّةِ، يُقَالُ لَهُ: الْحَيَاةُ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْغُثَاءُ فِي بَطْنِ السَّيْلِ؛ ثُمَّ يَقُومُونَ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَهُمْ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولا وَأَدْنَاهُمْ مَنْزِلَةً.»[2]. فإن قال قائل: فالحديث يُثبت خروج من شفع لهم "الرحمن" من النار، ودخولهم الجنة؛ وهو مخالف لما تقول؟ قلنا: ينبغي التفريق هنا، بين شفاعة "الرحمن" من وجه جمعيته، ومن كونه خليفة على الأسماء، وبين شفاعته من حيث تفاصيل الأسماء الجلالية، التي هي شطره. ونعني من هذا، أن شفاعة الاسم التفصيلي -بعد انقضاء أمد الغضب الإلهي- تغيّر من حال المعذَّبين، لكن لا تُخرجهم من النار. ولم نر أحدا من خواص الأمة، تكلم عن هذا التفصيل؛ فهو من العلم الذي يُخرجه الله إلى عباده في هذا الزمان على وجه التخصيص. وصدق شيخنا الأكبر الذي قال، عند تفريقه بين السابقين من هذه الأمة وبين متأخريها (والنقل هنا بالمعنى إن لم يكن باللفظ): «إن الأولين فاقوا الآخرين في العمل، والآخرين فاقوا الأولين في العلم!». ويشهد لهذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ، لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ!»[3]. ونعني من هذا، أن التسوية بين أول الأمة وآخرها، لا تكون من وجه واحد؛ لأن ذلك يخالف الحكمة وينافر الواقع!... فليُتدبّر هذا في الأصول، فإنه نافع جدا. 11. آخر وفد إلى أبي طالب: [خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشعب، وجعل يعمل على شاكلته، وقريش وإن كانوا قد تركوا القطيعة، لكنهم لم يزالوا عاملين على شاكلتهم من الضغط على المسلمين والصد عن سبيل الله؛ وأما أبو طالب فهو لم يزل يحوط ابن أخيه، لكنه كان قد جاوز الثمانين من سنه، وكانت الآلام والحوادث الضخمة المتوالية منذ سنوات -لاسيما حصار الشعب- قد وهّنت وضعّفت مفاصله وكسرت صلبه؛ فلم يمض على خروجه من الشعب إلا أشهر معدودات، وإذا هو يلاحقه المرض ويلح به. وحينئذ خاف المشركون سوء سمعتهم في العرب، إن أتوا بعد وفاته بمنكر على ابن أخيه، فحاولوا مرة أخرى أن يفاوضوا النبي صلى الله عليه وسلم بين يديه، ويعطوا بعض ما لم يرضوا إعطاءه قبل ذلك. فقاموا بوفادة هي آخر وفادتهم إلى أبي طالب. قال ابن إسحاق وغيره: لما اشتكى أبو طالب، وبلغ قريشا ثقله، قالت قريش بعضها لبعض: إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فانطلِقوا بنا إلى أبي طالب، فليأخذ على ابن أخيه، وليعطه منا؛ والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا، وفي لفظ: فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون إليه شيء، فتعيرنا به العرب؛ يقولون: تركوه حتى إذا مات عمه تناولوه.!... مشوا إلى أبي طالب فكلموه، وهم أشراف قومه؛ عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب، في رجال من أشرافهم -وهم خمسة وعشرون تقريبا- فقالوا: يا أبا طالب، إنك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى، وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ له منا، وخذ لنا منه؛ ليكف عنا ونكف عنه، وليدعـنا وديننا وندعه ودينه. فبعث أبو طالب، فجاءه، فقال: يا ابن أخي، هؤلاء أشراف قومك، قد اجتمعوا لك ليعطوك، وليأخذوا منك؛ ثم أخبـره بالذي قالوا له وعرضوا عليه، من عدم تعرض كل فريق للآخر. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَعْطَيْتُكُمْ هَذِهِ، هَلْ أَنْتُمْ مُعْطِيَّ كَلِمَةً إِنْ أَنْتُمْ تَكَلَّمْتُمْ بِهَا مَلَكْتُمْ بِهَا الْعَرَبَ وَدَانَتْ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ؟»[4] فلما قال هذه المقالة توقفوا وتحيروا، ولم يعرفوا كيف يرفضون هذه الكلمة الواحدة النافعة إلى هذه الغاية والحد. ثم قال أبو جهل: ما هي؟ وأبيك لنعطينكها وعشر أمثالها! قال: «قُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ!» (وتخلعون ما تعبدون من دونه). فصفقوا بأيديهم، ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلها واحدا؟ إن أمرك لعجب. ثم قال بعضهم لبعض: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون، فانطلِقوا وامضوا على دين آبائكم، حتى يحكم الله بينكم وبينه؛ ثم تفرقوا. وفي هؤلاء نزل قوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص:1: 7]][5]. وأما تعجب المشركين، من جعل الآلهة إلها واحدا، فهو من بعض علم لهم بمعاني الأسماء. وهذا، لأنه لا معلوم في الوجود إلا الله، وإن اختلفت الأديان والعقائد والعبارات. وعندما كان المشركون يعقلون معاني الأسماء، وكانوا يجدون أن بعضها يُقابل بعضا، لم يخطر ببالهم أن المتسمِّي بها واحد. وهذا، لأنهم قاسوا الحق على الخلق؛ فهم مثلا يعلمون أن فلانا الكريم، هو غير فلان البخيل؛ ومحال عندهم أن يكون الرجل الواحد كريما بخيلا. ولكنهم إلى جانب هذا العلم، جهلوا ما يكون لهم من تغيُّر الأحوال في الشخص الواحد، بحيث قد يُقدم أحدهم في وقت، ويجبُن في آخر؛ وهكذا... والظاهر أنهم كانوا يُنزّهون الله عن تغيُّر شؤونه، وإن أثبتوا تغيّر الحال لأنفسهم؛ لأن التغيُّر عند العقول الضعيفة نقص، لا يليق بمن ينبغي أن يكون على صفات الكمال. وهذا كله تحكم من العقل، في غير محله. والله يقول عن شؤونه سبحانه: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29]؛ وهذا يعني أن تغيُّر الشؤون، هو من تغيُّر أحوال العباد؛ وأن تغيُّر الأحوال، هو من تغيُّر الشؤون. وبما أن العباد لهم في كل حال سؤال، كانت إجابة الله لسؤال العباد بحسب ذلك. وأما عودة الأسماء المختلفة إلى مسمى واحد، فهي تتعلق أولا بوحدة المرتبة (حضرة الواحدية)؛ وهذا هو معنى التوحيد في الشرائع. ونعني من هذا، أن المتسمِّي بجميع الأسماء هو الاسم "الله" ومن بعده الاسم "الرحمن"، كما أخبر الله تعالى في قوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]. ثم تأتي بعد ذلك نسبة الأسماء إلى الذات، التي يبدو أنها أقرب في التعقُّل الظني، وإن كانت أبعد من جهة التحقُّق. وذلك لأن الذات غيب، لا يتعلّق بها علم العباد. ولقد قلنا مع هذا، بقرب تعقلها من جهة الظن، لأن أغلب الناس يتوهمون أن مرتبة الألوهية هي الذات؛ ومن هنا جاء الخلط. وعلى كل حال، فإن علم هذه التفاصيل، هو فوق طور عوام المؤمنين... وهذا الذي كان عليه المشركون، من اعتقاد اختلاف الذوات باختلاف معاني الأسماء، هو ما عليه كثير من المفكرين في زماننا. وهم يحسبون بذلك، أنهم قد أدركوا ما غاب عن عقول المؤمنين؛ خصوصا عند وجودهم لعوامهم، دون مرتبتهم الفكرية. مع أنهم لو تمعنوا في أقوالهم، لوجدوها تُنقض عليهم بسهولة. وخوفهم من هذا النقض، هو ما يجعلهم لا يواصلون التفكر، ويقنعون بالاستنتاجات التي خلصوا إليها بادئ الأمر. وأما العامة من المسلمين، فإنه لا ينبغي لهم الخوض في مثل هذه المسائل، لأنها فوق طورهم؛ ولأنهم سيُفتنون في دينهم بها، من غير أن يكون لهم علم بالمخارج من فتنتهم تلك. وربما قد يعلقون في منتصف الطريق، بإحدى المقولات الفكرية، فيضلون عن الطريق، ويصيرون تابعين لأهل الشقاء. وهذا الصنف في زماننا كثير، بسبب انتشار التعليم على الطريقة الكفرية، وبسبب اشتغال المتعلمين بالمقولات الفكرية المختلفة. ونعني من كلامنا هذا، أن المسلم، الذي يكون على إيمان مجمل، ويكون على الفطرة لا يتعداها، يكون على الصراط المستقيم، وإن بدا أنه أقل رتبة من غيره. ولقد كان يحدث هذا كثيرا، بين الأبناء المتعلمين والآباء الأميين؛ فكان الآباء على إيمان، بينما نزل الأبناء في الغالب عنه إلى الحد الأدنى، إن لم يكفروا. ولقد عرفنا في سنوات ماضية أشخاصا على هذه الشاكلة، ورأينا ميل الرأي الجمعي للمجتمع، إلى تعظيم ضعفاء الإيمان عن جهل بهذه الحقائق. وأما مساومة المشركين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهي من باب محاضرة الأسماء (المحاورة فيما بينها)؛ وذلك لأن أسماء الجلال حريصة على بقاء مظاهرها، كحرص أسماء الجمال؛ غير أن أسماء الجمال لها مـُستند من الشريعة في معاملاتها، بخلاف أسماء الجلال التي مـُستندها في الغالب الحقيقة. ولو أمعن الناس النظر في صراع الأسماء فيما بينها، لوجدوه يرجع إلى الاسميْن الظاهر والباطن فحسب؛ أي إلى تقابلهما؛ وليس صراعا وجوديا، كما يتوهم الجاهلون من الجانبيْن. ومسألة اختلاف الأسماء، من الأبواب الخاصة في العلم؛ فلا يجوز أن نتمادى فيها. 12. عام الحزن: ا. وفاة أبي طالب: [ألح المرض بأبي طالب، فلم يلبث أن وافته المنية، وكانت وفاته في رجب سنة عشر من النبوة، بعد الخروج من الشعب بستة أشهر. وقيل: توفي في رمضان قبل وفاة خديجة رضي الله عنها بثلاثة أيام. وفي الصحيح عن المسيب عن أبيه: أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل، فقال: «أَيْ عَمِّ، قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ!»[6] فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يَا أَبَا طَالِبٍ تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ! فَلَمْ يَزَالَا يُكَلِّمَانِهِ حَتَّى قَالَ: آخِرَ شَيْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ.»، فـنزلت:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] ونزلت: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]. ولا حاجة إلى بيان ما كان عليه أبو طالب من الحياطة والمنع، فقد كان الحصن الذي احتمت به الدعوة الإسلامية من هجمات الكبراء والسفهاء، ولكنه بقي على ملة الأشياخ من أجداده، فلم يفلح كل الفلاح. ففي الصحيح عن العباس بن عبد المطلب، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ؟ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟" قَالَ: «هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّار!»[7] وعن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم -وذكر عنده عمه- فقال: «لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ.»[8].][9]. يظهر من النصوص السابقة، أن خليفة الله، لا سلطان له فيما هو مـُختص بمعاملة الله؛ لذلك، لا يقدر النبي أن يشفع لعمه، وإن كان يحب ذلك من جهة بشريته، صلى الله عليه وآله وسلم. ولقد جهل هذه المسألة كثير من أقارب الخواص، وظنّوا أن مرتبة قريبهم تُغني عما ذكرنا. ولقد خسر من هذا الوجه، كثير من أزواج الأنبياء والأصفياء وأبنائهم. وأما إن نطق العبد بكلمة التوحيد، التي هي مفتاح المعاملة، فإنه يُمكن للعبد المصطفى أن يشفع لأقاربه في كل ما عداها. ومع أن الشافع -بحسب مرتبته- لا يشفع فيمن لم يُسلم، فإنه يستطيع أن يشفع له داخل النار؛ كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن عمه. وكل الذي قدّمناه، يعني أن العبد المـُسلم الذي حق عليه دُخول النار، يُمكن أن يُجنّب ذلك بشفاعة الشفيع. ومن رُزق مفتاح الخير، الذي هو النطق بكلمة التوحيد، فقد رُزق الخير كلّه؛ فلا يحرم نفسه من الدخول في شفاعة الشافعين، إن لم يبلغ أن يكون هو ذاته شفيعا!... ب. وفاة خديجة عليها السلام: [وبعد وفاة أبي طالب بنحو شهرين أو بثلاثة أيام -على اختلاف القولين- توفيت أم المؤمنين خديجة الكبرى رضي الله عنها، وكانت وفاتها في شهر رمضان في السنة العاشرة من النبوة، ولها خمس وستون سنة على أشهر الأقوال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك في الخمسين من عمره. إن خديجة كانت من نعم الله الجليلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقيت معه ربع قرن تحن عليه ساعة قلقه، وتؤازره في أحرج أوقاته، وتعينه على إبلاغ رسالته، وتشاركه في مغارم الجهاد المر، وتواسيه بنفسها ومالها. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ آمَنَتْ بِي حِينَ كَفَرَ النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي حِينَ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَأَشْرَكَتْنِي فِي مَالِهَا حِينَ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ وَلَدَهَا وَحَرَمَنِي وَلَدَ غَيْرِهَا.»[10] وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: «أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وِسِلَّمَ فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ، مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ."»[11]. ولقد نالت السيدة خديجة عليها السلام، هذه المرتبة، من رضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها. فمن باطنه الشريف جاءها السلام من ربها في الظاهر، بوساطة جبريل الذي هو واسطة بين باطن النبي وظاهره. وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان خلال أيام معدودة، فاهتزت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم تزل تتوالى عليه المصائب من قومه. فإنهم تجرأوا عليه وكاشفوه بالنكال والأذى بعد موت أبي طالب، فازداد غما على غم، حتى يئس منهم، وخرج إلى الطائف رجـاء أن يستجيبوا لدعوتـه، أو يؤووه وينصـروه على قومــه؛ فلم يـر مـن يؤوي ولم يـر ناصرا، بل آذوه أشد الأذى، ونالوا منه ما لم ينله قومـه. وكما اشتدت وطأة أهل مكة على النبي صلى الله عليه وسلم، اشتدت على أصحابه حتى التجأ رفيقه أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى الهجرة عن مكة، فخرج حتى بلغ بَرْك الغِمَاد، يريد الحبشة، فأرجعه ابن الدُّغُنَّة في جواره. قال ابن إسحاق: لما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى، ما لم تطمع به في حياة أبي طالب؛ حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابا، ودخل بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها: «لا تَبْكِي يَا بُنَيَّةُ، فَإِنَّ اللَّهَ مَانِعٌ أَبَاكِ.»[12]. قال: ويقول بين ذلك: «مَا نَالَتْ مِنِّي قُرَيْشٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ.». ولأجل توالي مثل هذه الآلام في هذا العام سمي بعام الحزن، وعرف به في السيرة والتاريخ.][13]. إن الإنسان في حياته الدنيا، بين تجليات جلال وتجليات جمال؛ لأن الدنيا دار امتزاج. وأما في الآخرة، فإما إلى جنة وإما إلى نار؛ ليفترق أهل الجلال عن أهل الجمال بالدار. وهذا مما ينبغي أن يُراعى، حتى لا يتمنى العبد ما لا يصح له هنا. وإن ذوق المؤمنين للجلال في دنياهم، هو مما يُطهرهم الله به، ويرفع درجاتهم؛ فإذا أعقبهم نعيم الآخرة، وجدوا له ذوقا في اللذة مضاعفا. وهذا كله داخل في الإنعام، وإن سبقت فيه المرارة؛ لأن العذاب المنقلب، يصير نعيما في نفسه، من غير اعتبار زيادة. ولسنا نعني بالانقلاب هنا، إلا التوقُّف عن كونه عذابا. لهذا المعنى، يقول الله تعالى امتنانا على عباده: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185]؛ فيذكر سبحانه الزحزحة عن النار من باب الإنعام السابق على نعيم الجنة. فلا ينبغي للعبد المؤمن، أن يغفل هذا الفضل؛ وليشكر عليه ربه شكرا خاصا به. وأما النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلقد ناله من ذلك ما ناله، ليكون أول المؤمنين، وليكون قُدوة للعالمين. فإنه لولا ابتلاء الله له -عليه السلام- بصنوف الجلال، ما عرف المؤمنون بعده كيف يعاملون ربهم في المحن. وإنّ حزنه صلى الله عليه وآله وسلم على عمه وعلى زوجه عليها السلام، لم يكن إلا حزنا على مظاهر ربانية، كان يجد منها العناية والمحبة الخالصة. وإن الله (الظاهر بكل المظاهر) لمعوض نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في مصيبته خيرا، وإن كان الأمر سيتفاقم بخروجه إلى الطائف وقتيا. وما اشتداد المحن إلا إيذان بالفرج لمن كان يعقل عن الله، لأن العسر مقرون باليُسر حيث كان. يقول الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5، 6]. ولما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أعلم الناس بالله وبتجلياته، فإنه وهو في أشد المحنة، يُبشر ابنته عليها السلام بأن الله سيمنعه. ولقد ترك صلى الله عليه وآله وسلم هذا الإرث من معاملة الله لأتباعه من أهل الإحسان، فكان الوليّ من هذه الأمة يرى الجمال من وراء الجلال، ويرى الجلال من وراء الجمال، لعلمه باتصاف الله بهما معا، وإن جاءا على التوالي. ومن هذا الباب، قول القائل: "الخواصُّ إذا رُجُّوا خافوا، وإذا خُوِّفوا رجَوْا". وهذا الذوق من أعجب الأذواق، عند أصحابه؛ لأنهم يظهرون به مخالفين لما يُعطيه الحال من جهة الأسباب. فإن كان الأمر على هذه الحال في الدنيا، فإنه من أكبر الجهل أن يتمنى فيها المؤمنون النعيم الخالص. وكل من يكون على ذلك، فإنه سيُضاعِف من محنه فيها، وإن لم يشعر؛ ومن عامل المواطن بحسبها، فإنه يُؤتى خيرها كلّه. وأهم ما ينبغي إدراكه هنا، هو أن البلاء في الدنيا ليس دليلا على الجفاء من الحق دائما، بشرط أن يكون قلب العبد عند مقاساته متعلِّقا بربه. يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى . وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى . وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 3 - 5]. فعلى العبد المؤمن أن يعلم أنه مخلوق للآخرة، لا للدنيا؛ وأن يحزن على ما يفوته من طاعة ربه هنا، لا على ما يفوته من النعيم الزائل!... ولقد عرفنا بحسب التجربة، أن أكثر الناس، لا يتمكنون من مجاوزة النظر إلى الدنيا، إلا قلة من أصحاب مرتبة الإيمان. ولقد عرفنا بمدينة وجدة، رجلا كان من الفقهاء المصاحبين لشيخنا، كانت له القدم الراسخة في التجافي عن دار الغرور؛ فكان لا يُرى إلا راضيا، مع استهداف صنوف البلاء له في عمره كله، رحمه الله. 13. الزواج بسودة رضي الله عنها: [وفي شوال من هذه السنة -سنة 10 من النبوة- تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة. كانت ممن أسلم قديما، وهاجرت الهجرة الثانية إلى الحبشة؛ وكان زوجها السكران بن عمرو، وكان قد أسلم وهاجر معها؛ فمات بأرض الحبشة، أو بعد الرجوع إلى مكة. فلما حلّت، خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتزوجها؛ وكانت أول امرأة تزوجها بعد وفاة خديجة. وكانت قد وهبت نوبتها لعائشة رضي الله عنها أخيرا.][14]. وهنا لا بد من أن نذكر شيئا تعلق به العامة، فيقولون: لم لا يقيم المسلمون لزوجاتهم وزنا، فيُسارعون إلى الزواج بعد وفاتهن، وكأنهم كانوا ينتظرون ذلك؟... وهذا قول، لا يصدر إلا عن جاهل!... وأما النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن هو على قدمه، فإنهم لا يُعاملون الأزواج من حيث هن أزواج، وإنما يعاملون الله فيهن؛ فإن ماتت الزوج، ذهب المظهر وبقي الظاهر؛ لذلك يُسارعون إلى الزواج من مظهر جديد. وتبقى المحبة للمظهر الأول غير ممسوسة، ولكنها لا تتعدّى حدها. وأما من يسأل السؤال الذي أوردناه، فهو في الغالب متأثر بعقائد الكافرين، الذين يُعاملون المظاهر، من غير معاملة للظاهر. فإذا تعلق الزوج بزوجه، كان ذلك بكليّة القلب؛ بحيث إن هي ماتت، حزن عليها، وربما لم يتزوج بعدها... ويظنون أن هذا من الوفاء، ومما يرفع درجة المرء في نظر العباد؛ بينما الأمر على غير ذلك، كما بيّنّا. وعلى العبد أن ينظر إلى نفسه، ليعلم هل هو من أتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أم هو من أتباع الكافرين... وأما المؤمنون الذين يحرصون على السنة، فيُسارعون إلى الزواج بعد وفاة أزواجهن؛ فإنهم ينالون بركة السنة وأجر الاستنان؛ وأما علم ما أسلفناه، فلا يكون من طورهم. وهذا يعني أن بعضهم قد يكون به قلة تقدير لزوجه المتوفاة، ظنا منه أن الشرع لم يدل على المسارعة في الزواج إلا لذلك. وقد يقع في هذه الآفة كثير من الفقهاء، الذين لا خبر لهم عن باطن الشريعة!... 14. الخروج إلى الطائف: [في شوال سنة عشر من النبوة (في أواخر مايو أو أوائل يونيو سنة 619 م) خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وهي تبعد عن مكة نحو ستين ميلا، سارها ماشيا على قدميه جيئة وذهابا؛ ومعه مولاه زيد بن حارثة. وكان كلما مر على قبيلة في الطريق دعاهم إلى الإسلام، فلم تجب إليه واحدة منها. فلما انتهى إلى الطائف، عمد إلى ثلاثة إخوة من رؤساء ثقيف، وهم: عبد ياليل، ومسعود، وحبيب؛ أبناء عمرو بن عمير الثقفي؛ فجلس إليهم ودعاهم إلى الله، وإلى نصرة الإسلام. فقال أحدهم: هو يَمْرُط ثياب الكعبة (أي يمزقها) إن كان الله أرسلك! وقال الآخر: أما وَجَدَ الله أحدًا غيرك؟ وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدا! إن كنت رسولا، لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام؛ ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي أن أكلمك. فقام عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم: «إِذْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ فَاكْتُمُوا عَنِّي». وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أهل الطائف عشرة أيام، لا يدع أحدا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه، فقالوا: اخرج من بلادنا! وأغروا به سفهاءهم. فلما أراد الخروج تبعه سفهاؤهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، فوقفوا له سِمَاطَيْن (صفين) وجعلوا يرمونه بالحجارة، وبكلمات من السفه، ورجموا عراقيبه، حتى اختضب نعلاه بالدماء. وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه، حتى أصابه شِجَاج في رأسه؛ ولم يزل به السفهاء كذلك، حتى ألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة على ثلاثة أميال من الطائف. فلما التجأ إليه رجعوا عنه، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حُبْلَة من عنب فجلس تحت ظلها إلى جدار. فلما جلس إليه واطمأن، دعا بالدعاء المشهور الذي يدل على امتلاء قلبه كآبة وحزنا مما لقي من الشدة، وأسفا على أنه لم يؤمن به أحد؛ قال: «اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفِي وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ! إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إِلَى قَرِيبٍ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي! فَإِنْ لَمْ تَكُنْ سَاخِطًا عَلَيَّ فَلا أُبَالِي! أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الْكَرِيمِ الَّذِي أَضَاءَتْ لَهُ السَّمَاوَاتُ، وَأَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيَّ غَضَبُكَ، أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ سَخَطُكَ. لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِكَ!»[15]. فلما رآه ابنا ربيعة تحركت له رحمهما، فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له: عَدَّاس؛ وقالا له: خذ قطفا من هذا العنب، واذهب به إلى هذا الرجل. فلما وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، مد يده إليه قائلا: «باسم الله!» ثم أكل. فقال عداس: إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد؟! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مِنْ أَيِّ الْبِلادِ أَنْتَ؟ وَمَا دِينُكَ؟»[16] قال: أنا نصراني من أهل نِينَوَى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مِنْ قَرْيَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتَّى!». قال له: وما يدريك ما يونس بن متى؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذاكَ أَخِي، كانَ نَبِيّاً، وَأَنَا نَبِيٌّ!»، فأكب عداس على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويديه ورجليه يقبلها. فقال ابنا ربيعة أحدهما للآخر: أما غلامك فقد أفسده عليك. فلما جاء عداس قالا له: ويحك ما هذا؟ قال: يا سيدى، ما في الأرض شيء خير من هذا الرجل! لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي! قالا له: ويحك يا عداس، لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مكة بعد خروجه من الحائط كئيبا محزونا كسير القلب، فلما بلغ قرن المنازل بعث الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال، يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة.][17]. ما أرسل الله رسولا، إلا وانقسم الناس في حقه شطريْن، على ما يكون بينهما من تفاوت: شطر مؤمن، يُلحقه الله في الحكم بالملائكة الذين سجدوا لآدم عند ورود الأمر الإلهي لهم بالسجود؛ كما أخبر سبحانه عن ذلك في قوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} [البقرة: 34]؛ وشطر يُلحقه الله في الحكم، بإبليس الذي أبى، كما أخبر سبحانه عنه: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34]. فهذا هو أصل انقسام الناس، بحسب موقفهم من الخلافة الإلهية. ولقد كان أهل الطائف، كأهل مكة من صنف المستكبرين؛ وأما عداس النصراني، فإنه آمن وكان من الساجدين. وفي لقاء عداس النصراني برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ربط للمسيحية مرة أخرى بالإسلام، في حلته المحمدية؛ كما حدث بكيفية غير مباشرة مع النجاشي؛ ليكون ذلك مواصلة للمسار الديني الإنساني. ولقد ورد ذكر "يونس" عليه السلام، للإشارة إلى أن سلسلة النبوة واحدة؛ تتصل كل حلقة منها بالتي تليها، إلى أن بلغت إلى خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم. وإن كل من كان له علم بالنبوة وأهلها، وبتاريخ البشرية الديني، لا بد من أن يعثر على المنطق الناظم لذلك كله؛ بدل أن يبقى مع تفسيرات جزئية، وكأن الأمر منوط بمرحلة زمنية مخصوصة!... ونعني من هذا، أن الله عندما نصّب آدم خليفة، وأمر المخلوقات بالسجود له؛ قد جعل كل ما سيأتي بعد هذا المشهد، من أمر الخليقة، امتدادا له؛ يميز الله به الخبيث من الطيّب، وليَحق القول على الكافرين. وذلك يعود إلى حكم المشيئة الإلهية الأول في الذرية الآدمية، عندما قال الله لهم: «هَؤُلاءِ إِلَى الْجَنَّةِ وَلا أُبَالِي، وَهَؤُلاءِ إِلَى النَّارِ وَلا أُبَالِي»[18]. فلما حكمت المشيئة، كان لا بد من تعلُّق الأسباب من جهة الحكمة، ليظهر في عالم الشهادة من العباد، ما كانوا عليه في عالم الغيب. وهذه المسألة -كما هو باد- لها تعلق بسر القدر، ولكن الكتاب لا يتسع لها هنا؛ فلنُحجم عنها. وأما الدعاء النبوي المبارك، فإنه لا بد من تناوله بشيء من التفصيل، من أجل إماطة اللثام عما به من الأسرار: يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: - «اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفِي»: وصفة الضعف، صفة المخلوق؛ وهي صفة الفقر الذاتي، الذي يكون العبد به غير قادر على دفع الأذى عن نفسه. وفي الشكوى إلى الله من الضعف، استجارة بقدرته، وهي ما يمنع به سبحانه عبده؛ وفيها استشفاع بعلمه، ليجيب سؤال عبده. ومذهب أهل الله، أن من تحقق بالضعف، فقد حاز كل القدرة... - «وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ»: الضعف الأول، هو في مقابل القدرة الإلهية؛ وأما هذا الهوان، فهو في مقابلة نيْل الناس، الذين هم مظاهر الأسماء. فهذه شكوى المظاهر إلى الظاهر، حتى يكف تسلُّطها على العبد المخصوص. وبما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هو الخليفة الإلهي، فإن شكواه تكون منه وإليه، من وجهيْن مختلفين فحسب. ومن ذاق سلوك الطريق، فإنه سيعلم شيئا مما يقاسيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والسالكون يعلمون أن مقارعة الأسماء، هي أصعب مراحل السلوك وأشدها على النفس. - «يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ»: المتوجَّه إليه بالدعاء، هو أرحم الراحمين الذي هو الله. ويأتي التفضيل في الرحمة، من جهة مظاهرها، لا من جهتها هي، من حيث كونها صفة إلهية. وهكذا يكون معنى "الراحمين" هو كل اسم من الأسماء، باعتبار كونه وجها من الرحمن؛ سواء أظهرت رحمته أم بطنت. لكن النداء على أرحم الراحمين، يسأل الرحمن أن يستخلص للعبد الداعي رحمته، لتؤول إلى رحمة "الرحيم" وحدها. كل هذا، من علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخاص، بربه. - «إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟»: وهذا توسل بعلم الله، لأن الله يعلم قبل عبده، أنه لا منجي إلا هو؛ ولا مـُستعاذ منه إلا هو أيضا. وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في حديث آخر: «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ!»[19]. - «إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي»: البعيد، هو غير الموافق؛ والتجهم، هو النظر المتوعِّد. وهذه إشارة إلى أسماء الجلال المتربصة بالعبد. - «أَمْ إِلَى قَرِيبٍ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي»: والقريب، هو الموافق؛ وهي أسماء الجمال. وتمليكها أمر العبد الخاص، هو تحكيمها فيه، لتأخذه إلى الخير الذي يُريده ربه به. وهذا يعني أن العبد من جهة كونه عبدا، هو مقهور في الحاليْن. وكأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يشكو ربه إلى ربه، من طرف خفيّ؛ ليُحافظ على الأدب بين يديه. وهذا، لأن العلم وحده في حضرة الله لا يكفي؛ بل ينبغي للعبد أن يتأدب فيما يقول. والأدب يتطلب علما خاصا، يتعلّق بما ينبغي قوله وبما لا ينبغي. فكم من حق، إذا قيل هلك صاحبه!... وفي العبارة أيضا، إشارة إلى عدم إرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، البقاء مع الأسماء؛ لأنه يريد أن يلحق بالمـُسمّى (وهو مقامه عليه الصلاة والسلام). وهذا المستوى، تنقطع فيه الإشارة، فكيف بالكلام!... والورثة لهذا المقام، هم المسمَّوْن عند أهل الله بالذاتيّين، في مقابل الصفاتيّين من الأولياء. - «فَإِنْ لَمْ تَكُنْ سَاخِطًا عَلَيَّ فَلا أُبَالِي»: هذا الكلام يُفهم منه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قد تأذّى في نفسه الشريفة أذى كبيرا؛ ولكنه يسأل ربه، أن يرفع عنه الأذى بأدب، كما أسلفنا؛ فهو يربط الأذى والسوء بسخط الله. فكأنه -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: إن لم يكن بك سخط عليّ (وهو ما يُهمني)، فلا أبالي بالأذى، وإن كان فوق احتمالي؛ لأن ما منك، أسبق في نظري مما هو من حالي. وهذا لا يكون إلا من العبد الفاني بمحبة ربه عن نفسه، ولا يُمكن أن يُتصوَّر لأهل العقول. ومن لم يسمع في هذه العبارة الترجمة عن المحبة بأدب، فما سمع!... فما أعظم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من معلّم!... - «أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الْكَرِيمِ الَّذِي أَضَاءَتْ لَهُ السَّمَاوَاتُ، وَأَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيَّ غَضَبُكَ»: يحتمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تناول الأسماء الجلالية، بنور وجه الله، الذي هو معنى الذات؛ لأن معنى الذات أعلى في الاعتبار من كل الأسماء. ومعنى الذات، هو الذي استنارت به السماوات، من كونها مـُدبِّرات علوية؛ وأشرقت به الظلمات، التي هي صور المظاهر الاسمية، صاحبة التدبير في عالم السفل. وعلى المعنى المشار إليه، صلح أمر الدنيا والآخرة؛ أي صح لهما معنياهما اللذان كانت بهما السماوات سماوات، وكانت الأرض أرضا. وهذا كله، هو الخير بالمعنى العام الأعم، الذي لا يقابله شر. وأما المدعو به في موازاته، فهو أن لا ينزل غضب الله عليه صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا الغضب، هو الصفة الذاتية، التي هي أصل فعل الغضب. ولا يخاف هذا الغضب إلا العباد الذاتيون؛ ونبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم أصلهم في ذلك. وكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم العبد الذاتي، يدل على أنه لا أحد يعلم معاملة الحق في جميع الحضرات، وفي جميع الأسماء إلا هو. ولهذا السبب كانت الشفاعة الكبرى يوم القيامة منوطة به، من كونه سيعلم عندئذ أسماء مخصوصة يدعو الله بها. يقول صلى الله عليه وآله وسلم: «"... وَلَكِنْ أَرَأَيْتُمْ لَوْ كَانَ مَتَاعٌ (الكلام هنا من عيسى عليه السلام) فِي وِعَاءٍ مَخْتُومٍ عَلَيْهِ، أَكَانَ يُقْدَرُ عَلَى مَا فِي جَوْفِهِ حَتَّى يُفَضَّ الْخَاتَمُ؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: لَا. قَالَ: فَيَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ؛ وَقَدْ حَضَرَ الْيَوْمَ، وَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيَأْتُونِي فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا! فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا، حَتَّى يَأْذَنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَنْ شَاءَ وَيَرْضَى. فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يَصْدَعَ بَيْنَ خَلْقِهِ نَادَى مُنَادٍ: أَيْنَ أَحْمَدُ وَأُمَّتُهُ؟ فَنَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ، نَحْنُ آخِرُ الْأُمَمِ، وَأَوَّلُ مَنْ يُحَاسَبُ؛ فَتُفْرَجُ لَنَا الْأُمَمُ عَنْ طَرِيقِنَا، فَنَمْضِي غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الطُّهُورِ، فَتَقُولُ الْأُمَمُ: كَادَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَنْ تَكُونَ أَنْبِيَاءَ كُلُّهَا! فَنَأْتِي بَابَ الْجَنَّةِ، فَآخُذُ بِحَلْقَةِ الْبَابِ، فَأَقْرَعُ الْبَابَ، فَيُقَالُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: أَنَا مُحَمَّدٌ، فَيُفْتَحُ لِي، فَآتِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ عَلَى كُرْسِيِّهِ أَوْ سَرِيرِهِ (شَكَّ حَمَّادٌ) فَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَمْ يَحْمَدْهُ بِهَا أَحَدٌ كَانَ قَبْلِي، وَلَيْسَ يَحْمَدُهُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِي! فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَسَلْ تُعْطَهْ؛ وَقُلْ تُسْمَعْ؛ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ؛ فَأَرْفَعُ رَأْسِي...»[20]. فهذه المحامد التي يعلّمها الله نبيّه، هي مخصوصة به وحده، من كونه عبدا ذاتيّا. وهذه مرتبة مخصوصة به، وأسماؤها مشتقة من اسمه، صلى الله عليه وآله وسلم. - «لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى»: وهذا الكلام استعتاب لله، أي استرضاء. فكأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يقول لربه: إن كانت بك مؤاخذة عليّ، وملامة لي، فأنا أسترضيك منها بما يُرضيك منّي، حتى ترضى. وفي هذا الكلام إشارة -من باب الأدب- إلى طلب أسماء الانتقام للعبد، مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ لأن المرتبة الذاتية يُمنح العبد منها هذه المغفرة التامة العامة؛ لكنّ الأدب يبقى أدبا. ومن جهة الأدب، يجهل كثير من الناس مرتبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ عند قياسهم لمعاني الكلام على ما يعلمون منها في أنفسهم. فهم مثلا لا يفهمون استغفارا إلا من مـُذنب، ولا مذنب إلا وقد خالف الأمر، وهكذا... بينما قد تصدر عن العبد الخاص العبارات الموحية بذلك من غير ذلك؛ ولكن من مراعاة الأدب مع المقام فحسب. وهذا علم غريب، يتعلّق بمرتبة المتكلّم، لا بمرتبة الكلام... - «وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِكَ»: ومعنى لا حول، هو أنه لا يُخرَج من حال إلى حال إلا بك؛ ومعنى لا قوة، هو أنه لا يُقدر على ذلك التحوّل إلا بك. وهذا تبرؤ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، متعلِّق بكل ما يُنسب إليه؛ ورجوع في كل ذلك إلى ربه وحده. وهذا المعنى لا يتم إلا لمن كان عبدا محضا، لا يقوم في شيء من مراتب عبوديته إلا بربه. وهو معنى الولاية الخاصة الموروثة منه صلى الله عليه وآله وسلم، والتي تكون للورثة من بعده. [وقد روى البخاري تفصيل القصة -بسنده- عن عروة بن الزبير، أن عائشة رضي الله عنها حدثته أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: «لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ: إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ؛ فَانْطَلَقْتُ، وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي؛ فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي. فَنَظَرْتُ، فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ؛ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ. فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ؛ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا.».] إن في هذه الحادثة، ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم -لِما له من المكانة عند الله- لا يرضى ربه بما يؤذيه. وإن في بعث ملك الجبال إليه، يستأمره في أمر المـُعرضين، ما يدل على أن الحكم عاد فيهم من الله إلى المشيئة الأولى. ولو شاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أن يُفني القوم لفعل؛ ولأبدله الله بهم قوما آخرين. ولكنه -صلى الله عليه وآله وسلم- من علمه الخاص، ومن انتساب جميع أصناف الناس إليه انتساب المظاهر إلى الظاهر بها (وهي البنوة المعنوية)؛ آثر أن يُبقي عليهم، وأن يخرج من ذرياتهم مَن يؤمن به وتتحقق فيه العبودية التكليفية، كما هي متحققة العبودية القهرية. وكل عبد لا يُبقي على بعض أعدائه، إن هو أهلك البعض، فليس بخليفة عن الله!... [ثم تقدم في طريق مكة حتى بلغ وادي نخلة، وأقام فيه أياما. وفي وادى نخلة موضعان يصلحان للإقامة -السَّيْل الكبير والزَّيْمَة- لما بهما من الماء والخصب؛ ولم نقف على مصدر يعيّن موضع إقامته صلى الله عليه وسلم فيه. وخلال إقامته صلى الله عليه وسلم هناك، بعث الله إليه نفرا من الجن، ذكرهم الله في موضعين من القرآن: في سورة الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ . قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ . يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:29: 31]. وفي سورة الجن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا . يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} إلـى تمـام الآيــة الخامـسة عشـر [ الجن: 1: 15]. ومن سياق هذه الآيات -وكذا من سياق الروايات التي وردت في تفسير هذا الحادث- يتبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم حضور ذلك النفر من الجن حين حضروا وسمعوا، وإنما علم بعد ذلك حين أطلعه الله عليه بهذه الآيات، وأن حضورهم هذا كان لأول مرة؛ ويقتضي سياق الروايات، أنهم وفدوا بعد ذلك مرارا. وحقا كان هذا الحادث نصرا آخر، أمده الله من كنوز غيبه المكنون بجنوده التي لا يعلمها إلا هو؛ ثم إن الآيات التي نزلت بصدد هذا الحادث كانت في طيها بشارات بنجاح دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن أي قوة من قوات الكون لا تستطيع أن تحول بينها وبين نجاحها: {وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الأحقاف:32]، {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا} [الجن:12]][21]. الجن هم الصنف الآخر من المكلفين على الأرض، ونعني بالأرض، من باطنها إلى أعلى طبقة جوية فيها. وهم مخلوقات غيبية نارية، على أنواع كثيرة؛ مختلفة الأحجام والألوان والقوى. ولقد كان منهم مشركون وكتابيّون، وصار منهم مسلمون بعد البعثة المحمدية الشريفة. ويظهر من آيات سورة الأحقاف، أن جماعة الجن كانت من اليهود، ثم أسلموا. وأما إخبار المؤلف بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لم يكن يعلم باجتماع الجن إليه إلا بعد إنزال الله الآيات في ذلك؛ فلا يُؤخذ على إطلاقه، إلا إن ورد على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مخصوصا بوقت دون وقت؛ لكون الكشف النبوي تاما؛ خصوصا وأن الجن قد انصرفوا بعد ذلك إلى قومهم منذرين. والإنذار للقوم، لا يكون إلا بإذن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الشريعة. وعلى كل حال، فإن الأمر من غير شك، كان موكولا إلى إرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك؛ إما من جهة غيبه، وهذا لا بد منه؛ وإما من جهة الغيب والشهادة معا. ويمكن أن نستخلص من هذه الحادثة: - أن الله عوّض النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن إدبار قومه، وإدبار أهل الطائف، بإقبال الجن وإيمانهم جماعات بما أُنزل إليه. والجن من جهة الظاهر، وبسبب طول أعمار بعضهم، هم أكثر خبرة بأحداث التاريخ وبخصوصيات الأقوام؛ وهم (بعضهم) أشد قوة من الآدميين بما لا يُقارن. لذلك فإن إيمانهم يكون أشد اعتبارا من إيمان الآدميين، من هذه الجهة؛ لولا أن الآدميين هم أكمل صورة. وكمال الصورة في الآدميين (بالمعنى العام)، ومماثلتهم فيها (لا في كمالها) للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، من جهة الظاهر، من جهة أخرى، هما من أسباب كفر بني آدم؛ عند انحجابهم بالمماثلة التي ذكرها القرآن في عدة مواضع، والتي منها قوله تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا . أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان: 7، 8]؛ بخلاف الجن، الذين يكون كفرهم في الغالب عن كبر، كما كان كفر إبليس؛ لأن المضاهاة بينهم وبين الآدمي غير تامة، من جهة الظاهر على الأقل. - أن الجن بعد إسلامهم، سيكونون من المناصرين للمسلمين من جهة الغيب؛ ليكونوا جيشا إسلاميا، إلى جنب جيوش الملائكة الخادمة لمرتبة الخلافة الإلهية، والتي هي لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأصالة، ولآدم بالنيابة. - أن التكليف غير مقصور على الآدميين، كما هو الغالب على أذهان الآدميين من الغافلين؛ ولكن هو شامل لعالم الجن الموازي لعالم الإنس أيضا. وإننا نقصد بالموازي، ما يقصده الفيزيائيّون في نظرية "العوالم المتوازية". وذلك لأن الجن يعيشون على الأرض، لكن في عالم غير عالم الإنس؛ مع إمكان الالتقاء بين بعض الأفراد من العالميْن، بدخول أحد الصنفيْن في مجال الصنف الثاني، بشروط. - أن الرسل الآدميين، هم رسل إلى الإنس والجن معا؛ بسبب كون الآدمي وحده على الصورة الإلهية، دون الجنيّ. ولقد كان لبعض فرق الجن وطوائفهم، اتصال ببعض مريدينا، ومنهم من أخذ أورادنا عنهم. وهذا يعني -جوابا عن سؤال متوارد كثيرا- أن الأنبياء كلهم عليهم السلام، من الإنس، لا من الجن؛ وأن الخلفاء الإلهيين من الورثة، هم أيضا من الآدميين دونهم. [أمام هذه النصرة، وأمام هذه البشارات، أقشعت سحابة الكآبة والحزن واليأس التي كانت مطبقة عليه منذ أن خرج من الطائف مطرودا مدحورا، حتى صمم على العود إلى مكة، وعلى القيام باستئناف خطته الأولى في عرض الإسلام وإبلاغ رسالة الله الخالدة بنشاط جديد وبجد وحماس. وحينئذ قال له زيد بن حارثة: كَيْفَ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ -يَعْنِي قُرَيْشًا- وَهُمْ أَخْرَجُوكَ؟ فَقَالَ: «يَا زَيْدُ إِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرٌ دِينَهُ وَمُظْهِرٌ نَبِيَّهُ.»[22]. وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا دنا من مكة مكث بحِرَاء، وبعث رجلا من خزاعة إلى الأخنس بن شَرِيق ليجيره، فقال: أنا حليف، والحليف لا يجير! فبعث إلى سهيل بن عمرو، فقال سهيل: إن بني عامر لا تجير على بني كعب! فبعث إلى المطعم بن عدي، فقال المطعم: نعم! ثم تسلح ودعا بنيه وقومه، فقال: البسوا السلاح، وكونوا عند أركان البيت، فإني قد أجرت محمدا! ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنُ ادخل؛ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه زيد بن حارثة، حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى: يا معشر قريش، إني قد أجرت محمدا فلا يهجه أحد منكم! وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركن فاستلمه، وطاف بالبيت، وصلى ركعتين، وانصرف إلى بيته؛ ومطعم بن عدي وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته. وقيل: إن أبا جهل سأل مطعما: أمجير أنت أم متابع (مسلم)؟ قال: بل مجير! قال: قد أجرنا من أجرت. وقد حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم للمطعم هذا الصنيع، فقال في أسارى بدر: «لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى، لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ!»[23].][24]. ونستخلص من هذا: - أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان على علم بعدم إسلام الله له إلى أعدائه؛ وهو ما دل عليه الرد النبوي على زيد، عند استغرابه قرار العودة إلى مكة، وهي التي منها خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أول الأمر. - إن استجارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، التي كانت في ظاهرها، بشخصيات مشركة معتبرة في القوم آنذاك، كانت استجارة بالاسم الإلهي "المجير"، الذي استجاب له من مظهر "المطعم بن عدي"، لا من سواه؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم، منزه في نفسه، عن معاملة سوى الله. وإن هذا الأمر لهو مما ينبغي أن يعلمه علماء الإسلام، ليوفوا نبيّهم صلى الله عليه وآله وسلم حقه، فيما ينسبونه إليه من الصفات والأفعال. - أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من كونه الخليفة الإلهي بالأصالة، يشكر من الاسم الإلهي الشكور، كل من أسدى إليه صنيعا من مظاهر المخلوقين؛ لذلك ذكر المطعم بن عدي عند أسره للمشركين في معركة بدر الكبرى، رغم موته؛ وأخبر أنْ لو كان المطعم حيّا وسأله إطلاق الأسرى، لتركهم له؛ جزاء له على صنيعه معه. وهذا يدل، على أن المطعم سينال جزاءه في الآخرة، بحسب ما تعطيه الحكمة الإلهية، من غير شك. وهذا الباب من العلم، يُعطي فقه المعاملة الإلهية من مرتبة الألوهية، ومن مرتبة الخلافة؛ ويعلم صاحبه الفرق بين المعاملتيْن، مع كونهما في الحاليْن مع الأسماء الإلهية ذاتها. وهذا علم غريب، لا يكون إلا للذاتيين من العباد أيضا. (يُتبع...) [1] . أخرجه أبو داود، عن ثوبان رضي الله عنه. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.