اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2020/10/26 الحوار الغائب (ج3) -11- المرحلة المكّيّة (2) (تابع...) [ولكن رأي النجاشي أنه لا بد من تمحيص القضية، وسماع أطرافها جميعًا؛ فأرسل إلى المسلمين، ودعاهم، فحضروا، وكانوا قد أجمعوا على الصدق كائنا ما كان. فقال لهم النجاشي: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني ولا دين أحد من هذه الملل؟... قال جعفر بن أبي طالب، وكان هو المتكلم عن المسلمين: أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل منا القوي الضعيف؛ فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه؛ فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان؛ وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء؛ ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكْل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرَنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئا؛ وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام (فعدد عليه أمور الإسلام)؛ فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاءنا به من دين الله؛ فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحرَّمنا ما حرَّم علينا، وأحللنا ما أحل لنا؛ فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى؛ وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث! فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نُظلم عندك أيها الملك!... فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال له جعفر: نعم. فقال له النجاشي: فاقرأه عليّ. فقرأ عليه صدرا من: {كهيعص} فبكى والله النجاشي، حتى اخضلت لحيته؛ وبكت أساقفته حتى أخْضَلُوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى لَيخرج من مشكاة واحدة! انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون (يخاطب عمرو بن العاص وصاحبه) فخرجا؛ فلما خرجا قال عمرو بن العاص لعبد الله بن أبي ربيعة: والله لآتينه غدا عنهم بما أستأصل به خضراءهم. فقال له عبد الله بن أبي ربيعة: لا تفعل، فإن لهم أرحاما، وإن كانوا قد خالفونا؛ ولكن أصر عمرو على رأيه. فلما كان الغد قال للنجاشي: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم النجاشي يسألهم عن قولهم في المسيح ففزعوا؛ ولكن أجمعوا على الصدق، كائنا ما كان؛ فلما دخلوا عليه وسألهم، قال له جعفر: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البَتُول. فأخذ النجاشي عودا من الأرض ثم قال: والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقته. فقال: وإن نَخَرْتُم والله! ثم قال للمسلمين: اذهبوا فأنتم شُيُومٌ بأرضي (والشيوم: الآمنون بلسان الحبشة) من سَبَّكم غَرِم، من سبكم غرم، من سبكم غرم! ما أحب أن لي دَبْراً من ذهب، وإني آذيت رجلا منكم! (والدبر: الجبل بلسان الحبشة). ثم قال لحاشيته: ردّوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها. فوالله ما أخذ الله منـي الرشـوة حين رد عليّ ملكي، فآخذ الرشـوة فيــه، وما أطاع الناس فيّ فأطيعـهم فيه!... قالت أم سلمة التي تروي هذه القصة: فخرجا من عنده مقبوحيْن مردودا عليهما ما جاءا به؛ وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار. هذه رواية ابن إسحاق، وذكر غيره أن وفادة عمرو بن العاص إلى النجاشي كانت بعد بدر، وجمع بعضهم بأن الوفادة كانت مرتين. ولكن الأسئلة والأجوبة التي ذكروا أنها دارت بين النجاشي وبين جعفر بن أبي طالب في الوفادة الثانية، هي الأسئلة والأجوبة نفسها، التي ذكرها ابن إسحاق هنا؛ ثم إن تلك الأسئلة تدل بفحواها أنها كانت في أول مرافعة قدمت إلى النجاشي][1]. إن عرض عقيدة المسلمين في عيسى عليه السلام، على النجاشيّ، ترد الدين إلى أصله؛ وإن إقرار النجاشي لها، يدل على أنه كان على علم بالمسيحية؛ ولم يكن نصرانيا مقلدا. ولقد عنيْنا برد الدين إلى أصله، إبراز تكميل الدين من حيث تركه عيسى؛ لأننا قد قلنا مرارا، إن الدين واحد. وبهذا يُعتبر النجاشي، من النقط التي وقع فيها اتصال اللاحق بالسابق، ليصح التكميل. ولولا أن الله هيأ النجاشي من غيبه، ليكون سببا من أسباب نُصرة الدعوة المحمدية الجامعة، ما كان ليُوفَّق إلى ما رأى وإلى ما قال. والدليل على ما نقول، هو أن بطارقته، الذين كانوا على غير حاله في الحسم؛ لم يتوافر لديهم الاستعداد للترقي، كما توافر له؛ إما مراعاة للمواقف السياسية التي لا يريدون أن تفوتهم دون أن يفيدوا منها، وإما لجمودهم على العقيدة النصرانية التي تحمل في طيّاتها متناقضات كثيرة؛ خصوصا بعد إيراد المبعوثيْن القريشييْن، الذي قد ينشأ عنه خلاف بين العرب والأحباش. وهو ما يُشبه الحفاظ على العلاقات الدولية في ديبلوماسية اليوم. وأما بكاء النجاشي في المرة الأولى، وبكاء البطارقة، فهو لأنهم ذكروا تعاليم عيسى عليه السلام؛ ولم يكونوا يتوقعون أن يسمعوها من عرب جاهليين. وهذا، لأن صلب الدعوات النبوية واحد، لا يصادم آخره أوله. ومن أجل هذا المعنى الذي يُختص به النصارى، يقول الله عنهم: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ . وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 82، 83]. وهذا أمر قهري، لا يتمكن من عرفه مع النبي السابق، أن يُنكره مع النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم. ويظهر لنا من هذا المقطع من القصة، أن الحكام أحيانا يكونون أفضل إيمانا من الفقهاء الرسميين؛ لأن الحاكم هو من هذه الناحية كآحاد الناس، يُدلي برأيه، بحسب ما يظهر له؛ ومكانته تخوّله مزيد حرية في إبداء رأيه؛ أما أهل الدين المترسمون، الذين هم الفريسيون والرهبان والفقهاء، فإنهم يكونون في الغالب معتادين على تحقيق الموازنات والخضوع للمساومات؛ لذلك فهم يميلون إلى ما يجلب لهم نفعا عاجلا في الغالب. ولن يزال المترسمون على هذه الصفة، إلى أن تقوم القيامة!... ولما أخفق المشركون في مكيدتهم، وفشلوا في استرداد المهاجرين، استشاطوا غضبا، وكادوا يتميزون غيظا؛ فاشتدت ضراوتهم وانقضوا على بقية المسلمين، ومدوا أيديهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسوء، وظهرت منهم تصرفات تدل على أنهم أرادوا القضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليستأصلوا جذور الفتنة التي أقضت مضاجعهم، بحسب زعمهم. أما بالنظر إلى المسلمين، فإن الباقين منهم في مكة كانوا قليلين جدا، وكانوا إما ذوي شرف ومنعة، أو محتمين بجوار أحد؛ ومع ذلك كانوا يخفون إسلامهم ويبتعدون عن أعين الطغاة بقدر الإمكان. ولكنهم مع هذه الحيطة والحذر، لم يسلموا كل السلامة من الأذى والعسف والجور. وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يصلي ويعبد الله أمام أعين الطغاة، ويدعو إلى الله سرا وجهرا؛ لا يمنعه عن ذلك مانع، ولا يصرفه عنه شيء؛ إذ كان ذلك من جملة تبليغ رسالة الله منذ أمره الله سبحانه وتعالى بقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94]. وبذلك كان يمكن للمشركين أن يتعرضوا له إذا أرادوا، ولم يكن في الظاهر ما يحول بينهم وبين ما يريدون، إلا ما كان له صلى الله عليه وسلم من الحشمة والوقار، وما كان لأبي طالب من الذمة والاحترام، وما كانوا يخافونه من مغبة سوء تصرفاتهم، ومن اجتماع بني هاشم عليهم. غير أن كل ذلك لم يعد له أثره المطلوب في نفوسهم؛ إذ بدأوا يستخِفّون به منذ شعروا بانهيار كيانهم الوثني، وزعامتهم الدينية، أمام دعوته صلى الله عليه وسلم. والمنعة التي كان فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هي التي تكون لمن حاز الأسماء الإلهية، وعلى رأسها "الله". وهذا يعني أن مظاهر الأسماء كلها، لا تتمكن من التسلُّط عليه، لكون أسمائها واقعة تحت حكم الاسم "الله". ومن هذا الباب قالوا إن من يكون خليفة، ثم يُصيبه أذى، فهذا يدل على أنه هو من أراده لنفسه؛ ولو أنه لم يُرده، لم يكن. ولو علم علماء الدين هذا الأمر، لأعادوا النظر في كل كلامهم، في مسألة استشهاد الخلفاء، كعمر وعثمان وعلي، عليهم السلام. ولعرفوا حقيقة ما وقع للحسيْن عليه السلام، وسائر الأئمة من أهل البيت عليهم السلام. ولسنا نعني إلا أنهم قد وقع لهم ما وقع بإرادتهم. وأما من يسأل: كيف يمكن للمرء أن يريد بنفسه هلاكا؟ قلنا: هذا لا يكون إلا للكبار من الأولياء، أصحاب المحبة الكبرى. فهذا الصنف، من حبه لله، يريد أن يُقتل فيه؛ ولن يهدأ له بال حتى يتم له ذلك!... والدليل من السنة، هو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ وَدِدْتُ أَنِّي أُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ!»[2]؛ وأما الدليل من الكتاب، فقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]. والاتباع المراد هنا حاليّ، وليس كما تفهمه العامة. ولما كان حال أهل المحبة من حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لم يهنأ الحسين عليه السلام، حتى وقع له ما وقع، ليقدم على الله وقد فني الفناءيْن فيه سبحانه. ولقد أصاب هذا الحال الحلاج، فكان يسأل المسلمين وهو يصيح: "اقتلوني!"، فلم يكونوا يفهمون عنه، وإن تأثروا لكلامه؛ إلى أن أجاب الله دعاءه، فحكم عليه بقِتلة مشهودة؛ بها يُعرف في الآخرة بين المحبّين. وعلى العموم، فإن هذا باب من الباطن، لا خبر للناس عنه؛ ولا يُطيق سماعه إلا من كان على شيء من المحبّة؛ لأن حاله معاكس لأحوال عوام المؤمنين، الذين يعبدون الله ليسألوه حفظ أنفسهم وأهليهم وأموالهم!... وشتان ما بين أولئك وهؤلاء!... ومما روت لنا كتب السنة والسيرة من الأحداث التي تشهد القرائن بأنها وقعت في هذه الفترة: أن عتيبة بن أبي لهب أتى يوما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنا أكفر بـ {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1] وبالذي {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم:8]؛ ثم تسلط عليه بالأذى، وشق قميصه، وتفل في وجهه صلى الله عليه وسلم؛ إلا أن البزاق لم يقع عليه؛ وحينئذ دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: «اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلابِكَ!»[3]. وقد استجيب دعاؤه صلى الله عليه وسلم، فقد خرج عتيبة إثر ذلك في نفر من قريش، فلما نزلوا بالزرقاء من الشام، طاف بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول: يا ويل أخي، هو والله آكلي كما دعا محمد عليّ! قتلني وهو بمكة، وأنا بالشام! ثم جعلوه بينهم، وناموا من حوله، ولكن جاء الأسد وتخطاهم إليه، فضغم رأسه.][4]. ودعاء النبي الذي هو دعاء في الظاهر، هو حكم منه صلى الله عليه وآله وسلم على المدعو عليه؛ لأن له من الأسماء الله؛ وما يشاءه الله في العالم يكون!... يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ!»[5]. فلما شاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أن ابن أبي لهب يأكله أسد؛ انفعلت السماء والأرض لمشيئته، وأُدرج هذا الفعل ضمن الأقدار النازلة إلى الأرض، بالحكمة المناسبة لها؛ فكانت القصة كما رواها أهل السيرة. وكل الخلفاء الإلهيين لهم هذا التصرف إذا شاءوا، فيكون الأمر بحسب المشيئة لا غيرها. وقد يختلف الحال في الشخص الواحد، فيعفو مرة، ويؤاخذ أخرى؛ ويلين مرة ويشتد أخرى. وهذا من الحظوظ المختلفة بين الناس، في القسمة الأزلية. ونحن لا نذكر هذا هنا، إلا ليقع به العلم لمن طالع الكتاب، لعله يجتنب ما به يهلك هلاكا مبرما. وقد وقع لنا مع عدة أشخاص، منذ مدة، أنهم آذونا أو أغضبونا، فأخذهم الله عن قريب؛ والكلام في ذلك يطول، ونحن إنما أردنا التنبيه فحسب. 5. إسلام حمزة عليه السلام: [خلال هذا الجو الملبد بغيوم الظلم والعدوان ظهر برق أضاء الطريق، وهو إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه؛ أسلم في أواخر السنة السادسة من النبوة، والأغلب أنه أسلم في شهر ذي الحجة. وسبب إسلامه: أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم يوما عند الصفا فآذاه ونال منه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يكلمه، ثم ضربه أبو جهل بحجر في رأسه فَشَجَّهُ، حتى نزف منه الدم؛ ثم انصرف عنه إلى نادي قريش عند الكعبة، فجلس معهم -وكانت مولاة لعبد الله بن جُدْعَان في مسكن لها على الصفا ترى ذلك- وأقبل حمزة من القَنص مُتَوَشِّحًا قوسه، فأخبرته المولاة بما رأت من أبي جهل، فغضب حمزة -وكان أعز فتى في قريش وأشده شكيمة- فخرج يسعى، لم يقف لأحد؛ مُعدّا لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به؛ فلما دخل المسجد قام على رأسه، وقال له: يا مُصَفِّرَ اسْتَه، تشتم ابن أخي وأنا على دينه؟! ثم ضربه بالقوس فشجه شجة منكرة، فثار رجال من بني مخزوم (حي أبي جهل) وثار بنو هاشم (حي حمزة)، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإني سببت ابن أخيه سبا قبيحا. وكان إسلام حمزة أول الأمر أنفة رجل، أبى أن يهان مولاه؛ ثم شرح الله صدره، فاستمسك بالعروة الوثقى، واعتز به المسلمون أيما اعتزاز.][6]. وإننا لو تأملنا القصة، فإننا سنعلم منها أن الله إذا أراد بعبد خيرا، جعل له أسبابا قد لا تكون موصولةً بالخير من طريق مباشرة. ونعني من هذا، أن حمية حمزة عليه السلام، كانت سببا له في معرفة الإسلام وفي الإقبال عليه، بعد نفض غبار الجاهلية عن بصيرته. وهكذا في كل زمان، فإن الله يهدي إليه كثيرا ممن لم يكونوا يقصدونه، ولا كانوا يتحرّون الدين. وهذا يعني في النهاية، أن أمر العباد موكول إلى ربهم؛ فمن شاء له سبحانه الهداية، فلا تسل عن أسبابها؛ ومن شاء له الضلال، فلن ينفع معه أن يكون على أغلظ أسبابها. وما حال أبي لهب -عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم- عنا ببعيد!... ويتفرع عن هذه المسألة، مؤاخذة الداعي بحال أقاربه؛ كأن يُقال في زمن النبوة: لو كان محمد على حق، لصدّقه أقرب الناس إليه!... أو كأن يقال عن أحد الورثة من بعده صلى الله عليه وآله وسلم: لو كان فلان، كما يقول، لما كان ابنه -مثلا- على هذا الفسق المعلوم!... إلى غير ذلك، من الحجج الواهية التي يُلقي بها إبليس في قلوب من لا تمييز لهم. وعلى كل حال، فإن من يتدبر أمر الهداية والضلال، فإنه سيجده من وراء الأسباب، متعلقا بمحض المشيئة الإلهية؛ وإنما تأتي الأسباب بعد تعيُّن الحكم، خادمة لها، ومُظهرة للحكمة الإلهية!... وهذه مسألة، لم تنل ما تستحقه من عناية لدى المتكلمين والفقهاء جميعا!... وقد يسأل سائل: فإن كان أبو جهل قد آذى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كل هذا الإيذاء، فلم لم يدع الله عليه وشاء هلاكه، كما فعل مع ابن أبي لهب؟... فنقول: إن المسألة، ليست كما تظن العقول الضعيفة، التي تحسب نفسها على منطق؛ ولكنها متعلقة بالغيوب. ولقد سبق أن علّقنا هذه الأمور التي تظهر عن الخليفة الإلهي، بالمشيئة مطلقا؛ والمشيئة لا منطق لها. وهذا هو ما يُعبّر عنه بكونها غير معلولة، لأنها لو كانت على منطق مخصوص، لكانت معلولة. وهذا يعني أن عاقبة الأمور، أو عاقبة الأشخاص، لا يعلمها إلا الله؛ وليست هي جزاءات مناسبة لأعمالها. نعم، إن الجزاءات تناسب الأعمال، لكن بعد ظهور حكم المشيئة. لذلك فمن شاء الله أن يرحمه نُظر في أعماله الحسنة، وهدي قبل ذلك إليها؛ ومن لم يشأ لم يُنظر له في أعماله، وهدي إلى ما يُحبطها كلها. والأسباب -كما نقول دائما- تأتي خادمة لحكم المشيئة، لا العكس. 6. إسلام عمر عليه السلام: [وخلال هذا الجو الملبد بغيوم الظلم والعدوان، أضاء برق آخر، ألا وهو إسلام عمر بن الخطاب. أسلم في ذي الحجـة سـنة سـت مـن النبـوة، بعد ثلاثة أيام من إسلام حمزة رضي الله عنه؛ وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا الله تعالى لإسلامه. فقد أخرج الترمذي عن ابن عمر، وصححه، وأخرج الطبراني عن ابن مسعود وأنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ: بِأَبِي جَهْلٍ، أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ!» فكان أحبهما إلى الله عمر رضي الله عنه.][7]. وينبغي لنا هنا، أن نتوقف عند دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لنعلمه من وجهيْ الظاهر والباطن. فأما من جهة الظاهر، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قد دعا بإسلام أحب الرجليْن إلى الله؛ وهذا من أدبه مع ربه سبحانه. فهو صلى الله عليه وآله وسلم، لا خيار له، في نفسه ولا في غيره؛ لكونه على العبودية المطلقة، التي لا خبر لأحد عنها غيره. ومن هذه العبودية، فإنه لا يدعو إلا بما كان ابتداؤه منها. ولما كان اختيار أحد الرجليْن، من جهة الظاهر، مـُنقصا من أدب العبودية بحسبه عليه السلام، فإنه دعا بما لا رأي له فيه؛ وإنما بما هو من مصلحة الدعوة وحدها، بحسب علم الله في ذلك كله. وأما من جهة الباطن، فإن قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قد عيّن عند الدعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فكانت مشيئته صلى الله عليه وآله وسلم مشيئة الله؛ لقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا . يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان: 30، 31]. فلما علم الله مشيئة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، استجاب لها منه عليه السلام؛ فكان الله مجيب خليفته الأعظم، والمتصرفِ في المملكة بالإذن الأفخم. نقول هذا، حتى لا يبقى المؤمنون، مع شركهم وفرقهم؛ وحتى يهتدوا بإذن الله إلى حسن معاملة الخلفاء في أزمنتهم، إن هم جالسوهم، أو علموا بأمرهم؛ لأن معاملتهم من معاملة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ علم من علم وجهل من جهل. ومن وُفّق إلى الأدب مع ورثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المكانة، فإنه يكون في أمان من مشيئتهم، التي هي مشيئة الله عينها. ونعني من هذا، أن الأدب مع الخلفاء الأغواث، ينفع ولو من غير تعيين؛ أو كان عن بعد. وذلك لأنهم بتحققهم بالأسماء الإلهية، يعلمون من جهة غيبهم، كل من يُصدق بهم، وكل من يُكذّب. والمصدقون، لا يكون لهم منهم إلا كل خير، وإن لم يعلموا طريقة إصابته لهم فيما بعد؛ لأنهم عليهم السلام، على صفة ربهم عاملون. يقول الله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ؟!} [الرحمن: 60]. فلا يحرمِ المسلمون أنفسهم، من هذا الباب العظيم للخير؛ وليجهدوا أن يكونوا على أدب مع الله ورسوله، ثم مع الوارثين. ألم يقل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]؛ فإن لم يكن الورثة هم أولي الأمر منا، فمن يا ترى؟!... [وبعد إدارة النظر في جميع الروايات التي رويت في إسلامه يبدو أن نزول الإسلام في قلبه كان تدريجيّا، ولكن قبل أن نسوق خلاصتها نرى أن نشير إلى ما كان يتمتع به رضي الله عنه من صفات: كان رضي الله عنه معروفا بحدة الطبع وقوة الشكيمة، وطالما لقى المسلمون منه ألوان الأذى؛ والظاهر أنه كانت تصطرع في نفسه مشاعر متناقضة: احترامه للتقاليد التي سنها الآباء والأجداد وتحمسه لها، ثم إعجابه بصلابة المسلمين، وباحتمالهم البلاء في سبيل العقيدة، ثم الشكوك التي كانت تساوره -كأي عاقل- في أن ما يدعو إليه الإسلام قد يكون أجل وأزكى من غيره، ولهذا ما إن يَثُور حتى يَخُور.][8]. وإن محاولة الكاتب لتفسير ظاهر باطن عمر رضي الله عنه، لا تبلغ حقيقة ما نريد أن نبرزه نحن من هذا الكتاب. وما قصدُنا، إلا أن عمر (وجميع من أسلم)، قد اختارهم الله في الأزل، ليكونوا بطانة لحبيبه صلى الله عليه وآله وسلم، قبل أن يولدوا. فكما اختار الله نبيّه، من بين جميع المخلوقين، كذلك اختار له أصحابه وأتباعه، رضي الله عنهم أجمعين؛ ليكونوا أهلا لنسبته لديه، وأهلا لظهور كرامته سبحانه عليهم. وعلى المسلمين أن يتجاوزوا هذه التفسيرات العقلية السطحية، التي تحجب عما ذكرنا نحن من سابق الفضل. وتتفرع عن هذه المسألة مسألة معاملة الصحب والأتباع جميعا، من كل الأزمنة؛ ولسنا نعني إلا أن من يسيء الأدب مع الصحابة أو مع الأتباع، فإنه من دون أن يشعر، يدخل في مواجهة لمصحوبهم ومتبوعهم، صلى الله عليه وآله وسلم. ولا قِبل لأحد بمواجهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فليحذر المسلمون على أنفسهم هذا الباب العظيم من البلاء!... وعلى العكس من ذلك، فإن من يعظم الصاحب والتابع، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هو من يتولى عند الله مكافأته؛ مع أن الفضل من الله ابتداء بالهداية والتوفيق. فما أوسع فضل الله، وصدق ربنا إذ يقول: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]؛ هذا بالنظر إلى كل نفس نفس!... ولعل بعض الشيعة قد يتساءلون على عادتهم: وأين ذكر أهل بيت النبوة من هذا الفضل العميم؟ فنقول: إن معاملة أهل بيت النبوة، لا تنفصل عن معاملة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في خاصة نفسه؛ ومن لا يُدرك هذا من الوحي، فليعلم أن بينه وبينه حجابا. ألم يقل الله لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، فيما حكاه من أمر المباهلة: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61]. ونساء النبي عليهن السلام معلومات، والأبناء معلومون؛ وهم الحسن والحسين عليهما السلام وجميع ذريتهما المباركة؛ والأنفس محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومعه علي. وأما فاطمة عليها السلام، فهي سويداء النفس النبوية. ولو علم الناس معنى كنيتها عليها السلام بـ "أم أبيها"، في عالم الحقيقة، لعجبوا! وهنا ينبغي أن نذكر أن التفريق بين الأنفس والأبناء، هو من باب التفصيل لا غير؛ لأن كل أفراد الذرية الطاهرة، داخلون في معنى نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بقدر ما. لذلك، فإن من لا يُراعي مرتبة أهل البيت عليهم السلام، فإنه يكون مغامرا بنفسه. وإن أغلب من يُعاديهم ممن يكونون على ظاهر الإسلام، لا يكونون مسلمين عند الله؛ لذلك لا يخرجون من هذه الدار إلا وقد فارقوه، إلى ملة الكفر التي كانت مكنونة في أنفسهم. ولقد انجرت عن عدم معرفة حق أهل بيت النبوة، في الأمة، على مر العصور، مصائب؛ وترتبت عليه أحكام لله في الناس، ما تزال بادية إلى أن يقوم الناس لرب العالمين. لذلك، فلا يخطرنّ في الأذهان أن قتلة الحسين عليه السلام، سيُفلتون من نقمة الله التي -من عظم الذنب- ستصيب ذرياتهم إلى ما شاء الله. ومن كان ذا فراسة، وتابع آثار غضب الله على كل من يؤذي أحد المنتسبين إلى بيت النبوة، فإنه سيراها عيانا بيانا!... [وخلاصة الروايات -مع الجمع بينها- في إسلامه رضي الله عنه: أنه التجأ ليلة إلى المبيت خارج بيته، فجاء إلى الحرم، ودخل في ستر الكعبة، والنبي صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، وقد استفتح سورة {الْحَاقَّةُ}، فجعل عمر يستمع إلى القرآن، ويعجب من تأليفه، قال: فقلت -أي في نفسي-: هذا والله شاعر، كما قالت قريش! قال: فقرأ {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة:40، 41] قال: قلت: كاهن! قال:{وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} إلى آخر السورة [الحاقة:42، 43]. قال: فوقع الإسلام في قلبي. كان هذا أول وقوع نواة الإسلام في قلبه، رضي الله عنه؛ لكن كانت قشرة النزعات الجاهلية، وعصبية التقليد، والتعاظم بدين الآباء هي غالبـة على مخ الحقيقة التي كان يتهمس بها قلبه، فبقي مجدّا في عمله ضد الإسلام، غير مكترث بالشعور الذي يكمن وراء هذه القشرة. وكان من حدة طبعه وفرط عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه خرج يوما متوشحا سيفه يريد القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيه نعيم بن عبد الله النحام العدوي، أو رجل من بني زهرة، أو رجل من بني مخزوم فقال: أين تعمد يا عمر؟ قال: أريد أن أقتل محمدا. قال: كيف تأمن من بني هاشم ومن بني زهرة وقد قتلت محمدا؟ فقال له عمر: ما أراك إلا قد صبوت، وتركت دينك الذي كنت عليه! قال: أفلا أدلك على العجب يا عمر! إن أختك وخَتَنَكَ قد صبوا، وتركا دينك الذي أنت عليه، فمشى عمر دامِرا حتى أتاهما، وعندهما خباب بن الأرتّ، معه صحيفة فيها: "طه" (السورة) يقرئهما إياها، وكان يختلف إليهما ويقرئهما القرآن؛ فلما سمع خباب حس عمر توارى في البيت، وسترت فاطمة -أخت عمر- الصحيفة. وكان قد سمع عمر حين دنا من البيت قراءة خباب إليهما، فلما دخل عليهما قال: ما هذه الهينمة التي سمعتها عندكم؟ فقالا: ما عدا حديثا تحدثناه بيننا. قال: فلعلكما قد صبوتما. فقال له ختنه: يا عمر، أرأيت إن كان الحق في غير دينك؟ فوثب عمر على ختنه فوطئه وطأ شديدا. فجاءت أخته فرفعته عن زوجها، فنفحها نفحة بيده، فدمى وجهها -وفي رواية ابن إسحاق أنه ضربها فشجها- فقالت، وهي غضْبَى: يا عمر، إن كان الحق في غير دينك، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.][9]. ونستخلص نحن من هذه الواقعة، أن الله إذا أراد بعبد خيرا، فإنه قد يجعل المعصية طريقه إليه!... وهذا من أعجب ما يقع للمعتنى بهم، لأن المعصية في نفسها وخيمة. ولكن الله يرى ما لا يراه العباد، فيجعل عبده يقع فيما لا يُخلِّص من الندم عليه، إلا التوبة النصوح. وكأنه سبحانه يُسلط على طبقات الكفر من قلب عبده، نارا تُذيبها؛ بل إن هذا، هو ما يُمكن أن نفهمه من باطن قوله سبحانه: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ . الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} [الهمزة: 6، 7]. وهي بشارة لمن كان على مثل حال عمر من أهل الضلال، ولأهل النار أنفسهم في الآخرة. وذلك لأن اطلاع النار على الأفئدة، يُحرق منها الحجب التي كانت مانعة لها عن معرفة الحق. ولن نستفيض في هذا الباب، لأنه من وراء العقول؛ وسنكتفي بهذه الإشارة إليه ليعتبرها أولو الألباب. وأما حال صهر عمر وأخته، رضي الله عنها، فلا يدل إلا على نفاسة جوهر المؤمنين الأوّلين؛ وأنهم كانوا لا يفوق محبتهم الخيرَ لقومهم، إلا محبتهم لله ورسوله. فإنهم كانوا -رضي الله عنهم- لا يأبهون لما يمكن أن يصيبهم جراء إيمانهم، وكانوا يسترخصون نفوسهم، وهي التي لم يكن كثيرون منهم يملكون سواها، من دون أن يروا لها اعتبارا في الحق. وإن ما سيصدم عمر -رضي الله عنه- وهو من هو في رجاحة العقل ونفاسة الجوهر، هو ما وجده من أخته ومن صهره، مع خبرته بهما. فما أروعه من مشهد، هذا الذي سيُذيب جبل الثلج الجاثم على صدر عمر!... رضي الله عن عمر، وعن مُحبّي عمر في الناس، إلى يوم الدين!... [فلما يئس عمر، ورأى ما بأخته من الدم ندم واستحيا، وقال: أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرؤه، فقالت أخته: إنك رجس، ولا يمسه إلا المطهرون، فقم فاغتسل! فقام فاغتسل، ثم أخذ الكتاب، فقرأ: {بسم الله الرحمن الرحيم} فقال: أسماء طيبة طاهرة. ثم قرأ "طه" حتى انتهى إلى قوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] فقال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه؟ دلوني على محمد.][10]. لقد ظهر إسلام عمر في باطنه، منذ رؤيته لصلابة أخته في الحق؛ ثم ظهر على ظاهره، عندما أمرته -رضي الله عنها- بالاغتسال، فأطاعها. وهل الإسلام إلا الطاعة؟!... وأما بعد أن قرأ الصحيفة، فإنه ارتقى إلى ذُرى الإسلام، بفضل الله؛ ولم يعد يكفيه شيء في الوجود، إلا أن ينحني بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ وقد ظهر له عِظم مرتبته. فإن كانت هذه بداية عمر رضي الله عنه، فما الظن بنهايته؛ ولا نهاية؟!... [فلما سمع خباب قول عمر خرج من البيت، فقال: أبشر يا عمر، فإني أرجو أن تكون دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لك ليلة الخميس: «اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ: بِأَبِي جَهْلٍ، أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ!»، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار التي في أصل الصفا. فأخذ عمر سيفه، فتوشحه، ثم انطلق حتى أتى الدار، فضرب الباب؛ فقام رجل ينظر من خلل الباب، فرآه متوشحا السيف، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستجمع القوم، فقال لهم حمزة: ما لكم؟ قالوا: عمر؟ فقال: وعمر؟ افتحوا له الباب، فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له؛ وإن كان جاء يريد شرا قتلناه بسيفه؛ ورسول الله صلى الله عليه وسلم داخل يوحى إليه. فخرج إلى عمر حتى لقيه في الحجرة، فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف، ثم جبذه جبذة شديدة فقال: «أَمَا أَنْتَ مُنْتَهِيًا يَا عُمَرُ حَتَّى يُنْزِلَ اللَّهُ بِكَ مِنَ الْخِزْي وَالنَّكَالِ مَا أَنْزَلَ بِالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ؟ اللَّهُمَّ هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ! اللَّهُمَّ أَعِزَّ الدِّينَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ!»[11]، فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. وأسلم، فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد.][12]. يظهر من هذا المقطع، ما ذكرناه عن مشيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، التي اختارت عمر بن الخطاب. ومن اختارته المشيئة، فلا مناص له من تلبية دعوة ربه له. ولقد كان صلى الله عليه وآله وسلم، يعلم من باطن عمر، ما لا يعلمه الصحابة المجتمعون في دار الأرقم؛ لأنهم لو كانوا يعلمون، ما توجسوا منه خيفة، وهو ممتشق سيفه!... أما النبي صلى الله عليه وآله وسلم، المطلع على حاله، اطلاع المربي على تلميذه، فإنه خرج إليه، يُزيح عن قلبه آخر ما علق به من آثار الجاهلية. وقد ظهر ذلك، في أخذه صلى الله عليه وآله وسلم بتلابيبه، ونهْره عما هو فيه، وفي تخويفه له بسوء عاقبة أمره، إن هو تمادى في غيّه؛ فسجد قلب عمر لربه، وشهد له بألوهيته؛ وشهد للمظهر المحمدي الأعلى بالرسالة؛ فانزاح عن المؤمنين ما كان يُثقلهم من أمر الدعوة، فها قد جاء رجلها الصلب، الذي سيُغيّر الله به تاريخ البشرية جمعاء؛ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. يقول الله تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 4]؛ وما أصدق قول الله في عمر ومن هم على شاكلته: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ . إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ . وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 54 - 56]. [كان عمر رضي الله عنه ذا شكيمة لا يرام، وقد أثار إسلامه ضجة بين المشركين، وشعورا لهم بالذلة والهوان، وكسا المسلمين عزة وشرفا وسرورا... روى ابن إسحاق بسنده عن عمر قال: لما أسلمت تذكرت أي أهل مكة أشد لرسول الله صلى الله عليه وسلم عداوة، قال: قلت: أبو جهل! فأتيت حتى ضربت عليه بابه، فخرج إليّ، وقال: أهلًا وسهلًا، ما جاء بك؟ قال: جئت لأخبرك إني قد آمنت بالله وبرسوله محمد، وصدقت بما جاء به. قال: فضرب الباب في وجهي، وقال: قبحك الله، وقبح ما جئت به. وذكر ابن الجوزي أن عمر رضي الله عنه قال: كان الرجل إذا أسلم تعلق به الرجال، فيضربونه ويضربهم، فجئت -أي حين أسلمت- إلى خالي (وهو العاصي بن هاشم) فأعلمته فدخل البيت؛ قال: وذهبت إلى رجل من كبراء قريش -لعله أبو جهل- فأعلمته فدخل البيت. وفي رواية لابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال: لما أسلم عمر بن الخطاب لم تعلم قريش بإسلامه، فقال: أي أهل مكة أنشأ للحديث؟ فقالوا: جميل بن معمر الجمحي. فخرج إليه وأنا معه، أعقل ما أرى وأسمع، فأتاه، فقال: يا جميل، إني قد أسلمت، قال: فو الله ما رد عليه كلمة حتى قام عامدا إلى المسجد فنادى (بأعلى صوته) أن: يا قريش، إن ابن الخطاب قد صبأ. فقال عمر، وهو خلفه: "كذب، ولكني قد أسلمت! [وآمنت بالله وصدقت رسوله]، فثاروا إليه فما زال يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم، وطَلَح -أي أعيا- عمر، فقعد؛ وقاموا على رأسه، وهو يقول: "افعلوا ما بدا لكم! فأحلف بالله، أن لو كنا ثلاثمائة رجل، لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا.". وبعد ذلك زحف المشركون إلى بيته يريدون قتله. روى البخاري عن عبد الله بن عمر قال: بينما هو -أي عمر- في الدار خائفا إذ جاءه العاص بن وائل السهمي أبو عمرو، وعليه حلة حبرة وقميص مكفوف بحرير -وهو من بني سهم، وهم حلفاؤنا في الجاهلية- فقال له: ما لك؟ قال: زعم قومك أنهم سيقتلوني إن أسلمت! قال: لا سبيل إليك! (بعد أن قالها أمنت). فخرج العاص، فلقي الناس قد سال بهم الوادي، فقال: أين تريدون؟ فقالوا: هذا ابن الخطاب الذي قد صبأ، قال: لا سبيل إليه، فَكَرَّ الناس. وفي لفظ في رواية ابن إسحاق: والله، لكأنما كانوا ثوبا كُشِطَ عنه. هذا بالنسبة إلى المشركين، أما بالنسبة إلى المسلمين فروى مجاهد عن ابن عباس قال: سألت عمر بن الخطاب: لأي شيء سميت الفاروق؟ قال: أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام، ثم قص عليه قصة إسلامه. وقال في آخره: قلت، أي حين أسلمت: يا رسول الله، ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال: «بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّكُمْ لَعَلَى الْحَقِّ إِنْ مُتُّمْ وَإِنْ حَيِيتُمْ»[13]، قال: قلت: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لنخرجن! فأخرجناه في صفين، حمزة في أحدهما، وأنا في الآخر، له كديد ككديد الطحين، حتى دخلنا المسجد؛ قال: فنظرت إليّ قريش وإلى حمزة، فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها؛ فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم (الفاروق) يومئذ. وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر. وعن صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه قال: لما أسلم عمر ظهر الإسلام، ودُعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حِلقا، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتي به. وعن عبد الله بن مسعود قال: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر.][14]. اللهم ارض عن عمر وأرضه!... لقد لقّب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، رجُليْن من أتباعه: الأول أبو بكر، عندما صدّقه فيما توقف فيه غيره؛ فكان بذلك "صِدّيق" هذه الأمة. والثاني عمر، عندما أظهر الله به الدين، وأعز به المسلمين؛ فكان "فاروق" هذه الأمة. وشاء الله لهذين الرجليْن المرضييْن، أن يكونا وزيريْ نبينا صلى الله عليه وآله وسلم في حياته، وخليفتيْه بعد مماته. ولم يكن لأحد غيرهما هذه المرتبة. ومرة أخرى، فإننا لا نفاضل بين الشّيْخيْن وعليّ عليه السلام؛ لأن عليّا محسوب على نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما بيّنّا من قبل. وكل مقارنة في هذه المسألة، سواء أكانت من أهل السنة أم من الشيعة، فهي جهل محض؛ وتفضيل حيث لا سبيل إلى التفضيل. يشهد لما نقول، ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه بقوله: "بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِـ "بَرَاءَةٌ" (السورة) مَعَ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ دَعَاهُ، فَقَالَ: «لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُبَلِّغَ هَذَا، إِلَّا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي؛ فَدَعَا عَلِيًّا فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا.»[15]. والمفاضلة بين كبار الصحابة، التي وقع فيها المتطفلون من المنتسبين إلى العلم، هي كالمفاضلة بين أعضاء الذات النبوية الشريفة وحواسها. فهل يجرؤ أحد أن يقول إن بصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من سمعه؟! أو أن يده الشريفة أفضل من قدمه؟!... ما للناس ولهذا المـُرتقى الذي تخاف الملائكة أن تخوض فيه!... وأما نحن، فبحمد الله، فقد منّ الله علينا بتعظيم الصحابة جميعا؛ حتى إننا نرى مجرد خطور التفضيل بينهم -رضي الله عنهم- في أذهاننا، من الذنوب الكبيرة؛ بل إنه ليُحال بيننا وبين ذلك!... ولو صدر عنّا مثل ذلك، لعددنا أنفسنا من مسيئي الأدب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قبل إساءته مع الصحابة. نعوذ بالله من الخذلان!... 7. مفاوضة قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: [حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: حُدِّثْتُ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَكَانَ سَيِّدًا، قَالَ يَوْمًا وَهُوَ جَالِسٌ فِي نَادِي قُرَيْشٍ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَحْدَهُ: "يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَلَا أَقُومُ إِلَى مُحَمَّدٍ فَأُكَلِّمَهُ وَأَعْرِضَ عَلَيْهِ أُمُورًا، لَعَلَّهُ يَقْبَلُ بَعْضَهَا فَنُعْطِيَهُ أَيَّهَا شَاءَ، وَيَكُفَّ عَنَّا؟". وَذَلِكَ حِينَ أَسْلَمَ حَمْزَةُ، وَرَأَوْا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْثُرُونَ وَيَزِيدُونَ؛ فَقَالُوا: بَلَى يَا أَبَا الْوَلِيدِ، فَقُمْ إِلَيْهِ فَكَلِّمْهُ! فَقَامَ إِلَيْهِ عُتْبَةُ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَا بْنَ أَخِي، إِنَّكَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ مِنَ السُّلْطَةِ فِي الْعَشِيرَةِ، وَالْمَكَانِ فِي النَّسَبِ؛ وَإِنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ قَوْمَكَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، فَرَّقْتَ بِهِ جَمَاعَتَهُمْ، وَسَفَّهْتَ بِهِ أَحْلامَهُمْ، وَعِبْتَ بِهِ آلِهَتَهُمْ وَدِينَهُمْ، وَكَفَّرْتَ بِهِ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ؛ فَاسْمَعْ مِنِّي، أَعْرِضْ عَلَيْكَ أُمُورًا تَنْظُرُ فِيهَا، لَعَلَّكَ تَقْبَلُ مِنَّا بَعْضَهَا؟" قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ أَسْمَعْ!» قَالَ: "يَابْنَ أَخِي، إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تُرِيدُ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ هَذَا الأَمْرِ مَالاً، جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالاً؛ وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ شَرَفًا، سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا حَتَّى لا نَقْطَعَ أَمْراً دُونَكَ؛ وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مُلْكاً، مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا؛ وَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ رَئِيًّا تَرَاهُ، لا تَسْتَطِيعُ رَدَّهُ عَنْ نَفْسِكَ، طَلَبْنَا لَكَ الطِّبَّ وَبَذَلْنَا فِيهِ أَمْوَالَنَا حَتَّى نُبْرِئَكَ مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ رُبَّمَا غَلَبَ التَّابِعُ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُدَاوَى مِنْهُ." (أَوْ كَمَا قَالَ لَهُ) حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُ عُتْبَةُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُ مِنْهُ، قَالَ: «أَقَدْ فَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟» قَالَ: "نَعَمْ!" قَالَ: «فَاسْمَعْ مِنِّي!» قَالَ: "أَفْعَلُ!" قَالَ: {بسم الله الرحمن الرحيم حم . تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [فصلت: 1 - 4]. ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا يَقْرَؤُهَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا سَمِعَهَا عُتْبَةُ مِنْهُ أَنْصَتَ لَهَا، وَأَلْقَى يَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهَا يَسْمَعُ مِنْهُ، ثُمَّ انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّجْدَةِ مِنْهَا فَسَجَدَ، ثُمَّ قَالَ: «قَدْ سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْتَ، فَأَنْتَ وَذَاكَ!» فَقَامَ عُتْبَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: نَحْلِفُ بِاللَّهِ، لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ. فَلَمَّا جَلَسَ إِلَيْهِمْ، قَالُوا: مَا وَرَاءَكَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟ قَالَ: "وَرَائِي أَنِّي سَمِعْتُ قَوْلا وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ! وَاللَّهِ مَا هُوَ بِالشِّعْرِ وَلا بِالسِّحْرِ وَلا بِالْكِهَانَةِ! يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ: أَطِيعُونِي وَاجْعَلُوهَا بِي، خَلُّوا بَيْنَ هَذَا الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ، فَاعْتَزِلُوهُ؛ فَوَاللَّهِ لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْهُ نَبَأٌ؛ فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ؛ وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ، وَعِزُّهُ عِزُّكُمْ، وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ." قَالُوا: سَحَرَكَ وَاللَّهِ يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ! قَالَ: "هَذَا رَأْيِي فِيهِ، فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ."]. ولنلاحظ بعد هذه الرواية، أن عتبة بن ربيعة، قد عرض أمرا على قريش وعلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، هو أقصى ما يُمكن بلوغه من الإعذار والإنصاف، من جهة العقل؛ لو كان الأمر عائدا إلى العقل. وقد غلط في هذه المسألة، ويغلط من كل زمان، كثيرون؛ لأنهم يظنّون أنه قد كان في مقدور النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أو في مقدور أتباعه من بعده) أن يصدر عن عقله ورأيه، وهو لم يكن إلا عبدا مأمورا، يفعل ويقول ما يأمره ربه به، لا ما يراه، وحاشاه! وأما عتبة، فنحن نتفهم موقفه، لكونه يتكلم وهو على الشرك. والمـُشرك لا يعقل ما هو من خصائص الوحي، ومن توابع الإيمان. لذلك، فقد عرض كل الاحتمالات التي قد تُفسّر حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجعل لها في المقابل حلولا؛ ما كان أعقل الناس ليجد أفضل منها: - فهو في البداية، افترض أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مريدا للمال؛ وهو قد لجأ إلى التضييق على قومه بهذه الطريقة، ليبلغ غايته منهم. فإن كان الأمر كذلك، فليُمنح النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ما يُريد من المال؛ ولتُكف قُريش هذه المحنة التي ما لها بها من قِبل. - ثم افترض أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يريد شرفا (جاها ومكانة) على قومه؛ فليُقرَّ له بهذه السيادة على قومه، وليُكفوا هم هذا العناء. - ثم افترض أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يُريد ملكا؛ على غرار ما كانت تعرف الروم والفرس. ورغم أن العرب لم يكونوا يعرفون نظام حكم كالذي كان لغيرهم، إلا أنهم صاروا قابلين له، إن كان يعود بهم إلى الاستقرار الذي كانوا فيه. ولكن هيهات!... وما أحسن رد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، على كل هذه العروض المؤسَّسة على العقل المجرد؛ لأنه لم يُكلف نفسه الشريفة مؤنة الرد، بل قرأ على الرجل كلام الله؛ ليكون له جواب عليه، إن استطاع. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لم يدفع عن نفسه -من باب العبودية- شيئا، وترك ربه يتولّى ذلك عنه. فلما سمع عتبة كلام الله، سقط في يده، ولم يجد جوابا عن عقلانيته؛ لكون القرآن، يُخاطب العقل من خارج مجاله. وهذا، هو ما لا نفتأ نُذكّر به المسلمين، الذين تستهويهم الفلسفة والنظر العقلي. نعني من هذا، أنهم عند توسُّلهم العقل، فإنهم ينزلون عن مرتبة التعليم الإلهي لهم؛ إلى عالم السُّفل، وإن رأوه علوا بحكم الارتكاس الذي هم فيه. ونحن قد عصمنا الله، منذ شبابنا من الأخذ عن العقل؛ وسلك بنا سبحانه -فضلا منه- مسلك نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم؛ فصرنا نتلقّى العلم عنه، ونعجب (ولا عجب!) كيف أن الناس منصرفون إلى طريق غيره!... فلما كان مجيب عتبة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الله، فإنه رجع مقهورا بالسطوة الإلهية، التي لا يقوم لها مخلوق. ومن شدة ظهور الأمر عليه، عرف قومه ذلك منه، وهو بعدُ في الطريق إليهم. لكنه، رغم كل شيء، قد حافظ على رجاحة عقله؛ وهذه المرة، فيما يتعلّق بمقترحاته على قريش، والتي هي: التخلية بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبين ما يُريد؛ فإن سُلِّطت عليه القبائل، كُفيت قريش مؤنة التصدي الذي لا تضمن عواقبه؛ وإن انتصر هو -صلى الله عليه وآله وسلم- على العرب، فإن عزَّه، سيُصيب قومه؛ وسيكون ذلك نفعا لهم، ولو عن غير قصد. وهذا أقصى ما يكون من الحصافة (البراغماتية)!... ونحن إن تأمّلنا مسار الدعوة الإسلامية، من بدايتها إلى يوم أن أظهرها الله على العالمين؛ فإننا سنجد عتبة مستشرفا جيدا لمآلات الأمور، عندما نرى قريشا تدخل في الإسلام كلها، حيث لم يبق لها من مسلك عقلاني غير الإسلام. ونعني بذلك، ما وقع يوم فتح مكة، وإعزاز الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وللمؤمنين. وإن نحن نظرنا إلى قول الله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ . فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} [السجدة: 28 - 30]؛ ولقد تكلم في معنى الآية المفسرون، وصرف أكثرهم معنى الفتح إلى يوم القيامة؛ مع أن المعنى ينطبق على "فتح مكة" قبل غيره، لكونه اليوم الذي ظهر فيه الإسلام على الشرك، إجابة من الله لدعاء المؤمنين فيما قبل عند قولهم: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89]؛ وهي دعوة متكررة في جميع الأزمنة التشريعية، من جميع الأنبياء ومن جميع المؤمنين. نقول هذا، حتى لا يحصر قوم معنى الآية، في قوم شعيب الذين وردت فيهم. ودليلنا على استمرار الدعوة في الأزمنة، هو قوله تعالى: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ}؛ وهذه صفة إلهية لا تنفك عن الذات، وبالتالي فإنها عامة الحكم، بالمعنى المتكرر المستغرق للزمان، الذي نريده هنا؛ وبجميع المعاني الأخرى. وقد ذهب إلى القول بأن المراد بالفتح "فتح مكة" مجاهد والحسن، رضي الله عنهما؛ وقال بقولهما الفراء والقُتَبيّ. وأما من قال إن يوم الفتح هو يوم بدر كالسُّدّيّ، فإنه يُرد عليه بأن هذا المعنى مـُضمّن في معنى "فتح مكة"؛ وإن سبقت بدر في الزمان. وما صرف المفسرين عن القول بأن الفتح فتح مكة، إلا قول الله تعالى عقبه: {لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}؛ ظنا منهم أن الإسلام قد ثبت لكل من أظهره من أهل مكة يوم فتحها. والحقيقة هي أن قول الله بعدم قبول الإيمان من الكافرين يوم الفتح، يُقصد منه، من أدركه الفتح وبقي باطنه على حاله من إباية الإسلام. ولا شك في أن من أهل مكة مَن كان من هذا الصنف، وإن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أقرهم على ظاهر الإسلام، كما كان يُقر قبلاً المنافقين من الصحابة. وهذه مسألة عويصة في الفقه، لكونها متعلقة بالباطن وبالظاهر معا؛ ولكون التشريع يُغلّب حكم الظاهر، رفعا للمشقة عن المؤمنين. ولقد نتج عن اختلاط الحال من أهل مكة عند الفتح، كثير من الفتن التي شقّت صف المسلمين شقا، يخرج عما يُعطيه الإيمان لو كان مـُشتركا. وأول ما وقع من ذلك، من غير تعيين منا لأحد (لكون المسألة شائكة كما نبّهنا)، الاقتتال الحاصل في موقعتيْ صِفّين والجمل. ونحن عند إبدائنا لرأينا على سبيل الإجمال في المسألة، لا يغيب عنا بناء شطر من المسلمين (أهل السنة) على أحد الرأييْن؛ وبناء الشيعة على الرأي الآخر المخالف. ونعني بحكمنا، على أحد الرأييْن بمخالفته للأصل، أننا نقرّ بوجود صنف نافَق؛ لكننا لا نقبل بتنزيل الحكم على رجال فُتنوا في دينهم، فكانوا في الصف الخطأ، أو كانوا متوقّفين؛ لأن مواقف الصحابة والتابعين، لم تخرج عن هذه الثلاثة. وهكذا، فإننا رغم كل ما سبق، نميل إلى القول بأن يوم الفتح هو يوم فتح مكة، لا غيره. وأما من ذهب من المفسرين إلى القول بأن يوم الفتح هو يوم القيامة، فإننا نرده بقول الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ}؛ لأنه لا انتظار بعد مجيء القيامة!... ولعل أقوال المفسرين في الآية، لم تخل من تغليب للمذهب منهم؛ وهذا باب عظيم من أبواب الدراسة المنهجية لمختلف الأقوال، إن تعلق الأمر بالكلام والفقه؛ أو تعلق بالاختلاف في الحكم على الأحاديث، فيما يرجع إلى علم الحديث. ولقد رجونا كثيرا، أن يتصدى للتمحيصيْن رجال، يفتح الله بهم الإشكالات العلمية الكثيرة التي يزخر بها تراثنا الديني... ويبقى علينا، أن نبيّن وجه تغليب الله ورسوله، لحكم الظاهر، والحكم بإسلام أهل مكة في مـُجملهم؛ فنقول: إن الله ورسوله أرحم بعباده من عباده بأنفسهم؛ ومن رحمته سبحانه، أنه يُمهلهم. فلعل من أسلم كارها أو خائفا (مع تأمين النبي صلى الله عليه وآله وسلم للناس)، أن يهتدي إلى الإيمان الصحيح مع مرور الوقت، ووثوقه من ذمة الله ورسوله. ولا شك أن هذا، قد وقع لكثيرين؛ والغاية إسلام الناس، لا محاسبتهم. وأما من سيبقى على شركه، رغم كل شيء (وهؤلاء لا شك منهم جماعة)، فإنهم سيكونون مخاطبين بقول الله تعالى: {لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}؛ وسيكون معنى لفظ "إيمانهم" هنا: تظاهرهم بالإيمان. وهكذا سيعم حكم هذه الآيات، جميع أصناف الناس الموجودين في مكة بعد الفتح. ويؤكد ما نذهب إليه، قول الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10]؛ فهو وإن كان متعلقا بالمؤمنين في زمنيْن مختلفيْ الحكم، باعتبار الفتح ذاته؛ فإن فيه رائحة إشارة، إلى حال ما قبل الفتح العام، وما بعده. فإن اعتبر هذا، فإنه سيكون إشارة خفية، إلى من بقي على حاله الأول بعد الفتح، وبهذا سيكون خارجا عن موعود الحسنى، المتعلّق بمن كان على إيمان صحيح في الزمنيْن. ونحن نقول هذا، لأن الشريعة، لا تظلم أحدا، ولا تعمم حكما أبدا، مع ثبوت اختلاف الحال. ولا شك، أننا سنعود إلى "فتح مكة"، في أوانه، إن شاء الله... 8. استئناف المفاوضات: [وكأن رجاء قريش لم ينقطع بما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم عتبة على اقتراحاته؛ لأنه لم يكن صريحا في الرفض أو القبول، بل تلا عليه النبي صلى الله عليه وسلم آيات لم يفهمها عتبة، ورجع من حيث جاء. فتشاور رؤساء قريش فيما بينهم، وفكروا في كل جوانب القضية، ودرسوا كل المواقف بروية وتريث، ثم اجتمعوا يوما عند ظهر الكعبة بعد غروب الشمس، وأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يدعونه، فجاء مسرعا يرجو خيرا؛ فلما جلس إليهم قالوا له مثل ما قال عتبة، وعرضوا عليه المطالب نفسها التي عرضها عتبة. وكأنهم ظنوا أنه لم يثق بجدية هذا العرض، حين عرضه عتبة وحده، فإذا عرضوا هم أجمعون يثق ويقبل؛ ولكن قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بي ما تَقُولُون، ما جِئْتُكُم بما جِئْتُكُم بِه أَطْلُب أَمْوَالكُم ولا الشَّرف فيكم، ولا المـُلْكَ عليكم؛ ولكنّ الله بَعَثَنِي إلَيْكُم رَسُولًا، وَأَنْزَلَ عليَّ كِتابا، وأَمَرَنِي أنْ أَكُونَ لَكُم بَشِيرا وَنَذِيرا؛ فَبَلَّغْتُكُم رِسَالاتِ ربي، وَنَصَحْتُ لَكُمْ. فإِنْ تَقْبَلُوا مِنّي ما جِئْتُكُم بِه، فَهُوَ حَظُّكُم في الدُنيا والآخرة؛ وإنْ تَرُدُّوا عليّ، أَصْبِر لأمْرِ الله ِحتّى يَحْكُم الله ُبَيْنِي وَبَيْـنَكُم.»[16]. أو كما قال. فانتقلوا إلى نقطة أخرى، وطلبوا منه أن يسأل ربه أن يسيّر عنهم الجبال، ويبسط لهم البلاد، ويفجر فيها الأنهار، ويحيي لهم الموتى -ولا سيما قصي بن كلاب- فإن صدقوه يؤمنون به. فأجاب بما سبق من الجواب. فانتقلوا إلى نقطة ثالثة، وطلبوا منه أن يسأل ربه أن يبعث له ملَكا يصدقه، ويراجعونه فيه؛ وأن يجعل له جنات وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة، فأجابهم بالجواب نفسه. فانتقلوا إلى نقطة رابعة، وطلبوا منه العذاب: أن يسقط عليهم السماء كسفا، كما يقول ويتوعد، فقال: «ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ فَعَلَ بِكُمْ ذَلِكَ.»[17]. فقالوا: أما علم ربك أنا سنجلس معك، ونسألك ونطلب منك، حتى يعلمك ما تُراجِعنا به، وما هو صانع بنا إذا لم نقبل. وأخيرا هددوه أشد التهديد، وقالوا:أما والله لا نتركك وما فعلت بنا، حتى نهلكك أو تهلكنا! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وانصرف إلى أهله حزينا أسفا، لما فاته ما طمع من قومه.][18]. ولا بد هنا من أن نذكر أن كل اعتراضات قريش وإيراداتهم، هي في نظر الغافلين مما يؤيده العقل، ويشهد له المنطق؛ لكنّ ما يفوت الناس، هو أن معاملة الله الغني، ليست كمعاملة العباد الفقراء. ونعني من هذا، أن العبد، مهما بلغت مكانته، فإنه إن طلب أمرا، فإنما هو يطلبه من جهة فقره (وإن كان أكبر ملوك الأرض)؛ لذلك يُمكن لمـُخاطَبه أن يشترط عليه، بحسب الحال. وأما الله سبحانه، فهو عندما يُخاطب الناس على ألسنة رُسُله، فإنما يأمرهم أمر غنيّ عنهم. فإن أجابوا الداعي، فهو لخيرهم؛ وإن أبوا، فإنما يُعِدّون أنفسهم للعذاب فحسب. ويبقى الله في غناه، وكأنه لم يستجب أحد، ولم يعص أحد. يقول الله في الحديث القدسي: «... يَا عِبَادِي: إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي؛ يَا عِبَادِي: لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا؛ يَا عِبَادِي: لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا ...»[19] ويغلط الغافلون مرة أخرى، عندما يخلطون بين الله ورسوله؛ فيظنون أن من يُخاطبهم هو صاحب الأمر، ويُعرضون عن الله ربه وربهم، لغلبة الحس عليهم. وإن كل إجابات النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم، ما كانت تدل إلا على أنه مبلِّغ فحسب. ولقد كان في مـُستطاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أن يأتيهم بما طلبوا، من جهة خلافته عن الله؛ ولكنه لتمام عبوديته عليه السلام، أبى إلا أن يُعيد الأمر كله إلى ربه؛ تجنيبا لهم من الوقوع في الضلال. وهذا كله من أثر العزة الإلهية، التي تمنع أن يُهدى الظالمون. يقول الله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]. وهذا باب من العلم متعلق بمعاملات الأسماء، لا يُدخَل إلا بإذن من الله؛ لأن أسرار الأسماء مفاتيح الوجود بأسره، فلا يؤتيها الله إلا خواص الخواص من عباده. ونعني من هذا، أن هذا العلم، فوق ما يكون لعلماء الدين المترسمين؛ لذلك فلا يطمعن أحد منهم أن يناله بمطالعة كتابنا، أو كتب غيرنا. ولا يجوز لمن لم يُدرك ما نشير إليه، أن يُنكره؛ وكأنه يقول: لا علم إلا علمي! لأن هذا سيكون دليلا منه على سوء الحال فحسب. ونحن ما نقول هذا، إلا من باب النصيحة!... 9. مساومات وتنازلات: [ولما فشلت قريش في مفاوضتهم المبنية على الإغراء والترغيب، والتهديد والترهيب؛ وخاب أبو جهل فيما أبداه من الرعونة وقصد الفتك؛ تيقظت فيهم رغبة الوصول إلى حل حصيف ينقذهم مما هم فيه. ولم يكونوا يجزمون أن النبي صلى الله عليه وسلم على باطل، بل كانوا -كما قال الله تعالى-: {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى:14]. فرأوا أن يساوموه صلى الله عليه وسلم في أمور الدين، ويلتقوا به في منتصف الطريق، فيتركوا بعض ما هم عليه، ويطالبوا النبي صلى الله عليه وسلم بترك بعض ما هو عليه؛ وظنوا أنهم بهذا الطريق سيصيبون الحق، إن كان ما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلم حقا. روى ابن إسحاق بسنده، قال: اعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو يطوف بالكعبة- الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل السهمي (وكانوا ذوي أسنان في قومهم) فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر؛ فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد، كنا قد أخذنا بحظنا منه؛ وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد، كنت قد أخذت بحظك منه؛ فأنزل الله تعالى فيهم: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} السورة كلها. وأخرج عَبْدُ بن حُمَـيْد وغيره عن ابن عباس أن قريشا قالت: لو استلمت آلهتنا لعبدنا إلهك. فأنزل الله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} السورة كلها. وأخرج ابن جرير وغيره عنه أن قريشا قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة؛ فأنزل الله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ!} [الزمر:64]. ولما حسم الله تعالى هذه المفاوضة المضحكة بهذه المفاصلة الجازمة، لم تيأس قريش كل اليأس؛ بل أبدوا مزيدا من التنازل، بشرط أن يجري النبي صلى الله عليه وسلم بعض التعديل فيما جاء به من التعليمات؛ فقالوا: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ}، فقطع الله هذا السبيل أيضا، بإنزال ما يردّ به النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، فقال: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس:15] ونبه سبحانه، على عظم خطورة هذا العمل بقوله:{ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:73: 75].][20] لقد سبق أن ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لم يكن له رأي شخصي فيما يبلّغه للناس؛ ولم يكن له غرض، حتى يقبل المفاوضة عليه؛ وإنما كان عبدا رسولا، يبلّغ ما يُؤمر به، ولا يملك من النتائج شيئا. ولكن الكافرين، بما أنهم لا يؤمنون بالله، فإنهم لا يتمكنون من اعتبار حقيقة الدين، كما هي في نفسها؛ ولكن ينظرون إلى الأمر كأنه اختلاف بين رأييْن، ينبغي أن يُحتكم فيه إلى منطق المساومة. وقد طلبوا ذلك، في عدة صور -كما هو مذكور- لكن النتيجة، التي كانت إصرارا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم على موقفه، كان ينبغي أن تُنبّه الخصوم إلى حقيقة الدين. وهي إن لم تنبههم كلهم وفي الوقت، فإنه من المؤكد أن يتنبه لها بعض القوم، بعد حين. وهكذا سيبدأ منطق الدين في التأسُّس، ليُصبح بعد انتشاره منطقا عاما، يحكم الأمة الإسلامية كلها؛ وليخالف ما كان معروفا بـ "المنطق الديني" عندما كان الدين نفسه، عقائد اصطناعية، وحمية جاهلية. ونحن نذكر هنا هذه المقابلة بين المنطقيْن، لندل على حال الأمة، بعد أن فقدت التديّن السليم، وأصبحت تقبل المساومات، التي لم تكن ليُنظر إليها مع وجود الربانيّة فيهم. وإن كثيرا من العامة في عصرنا، لا يعلمون مواطن الضعف التي حدثت فينا؛ وعندما يحنون إلى العزة الماضية، يتوهمون أن الأمر غير منوط بنمط التديّن؛ ويبقون لقصورهم عاجزين... لذلك فقد عاد كثير منهم إلى الأيديولوجيا، يجمع الناس عليها؛ منتظرا أن يصير هذا الصنف من الاجتماع قوة، بالقياس إلى ما يُرى لدى مختلف الأمم الكافرة. وهيهات!... ومن هذا الأصل، كنا نحن، نخالف الجماعات الحركية، التي تعتمد أسلوبا جاهليا في العمل للإسلام، بحسب الزعم. فلم تكن نتائجها إلا توغلا في الفتن، وفقدا لإيمان كثير من أتباعها. ورغم بدوّ النتائج، التي لا يتمكن أحد من إنكارها، فإن القيادات السائرة على غير هدى، ما تزال مصرة على ما هي عليه؛ وكأن هذا الهوان لم يكفهم، أو كأنهم في النهاية ما عادوا يكترثون لما سوى مآربهم الشخصية الضيقة!... [أظلمت أمام المشركين السبل بعد فشلهم في هذه المفاوضات والمساومات والتنازلات، واحتاروا فيما يفعلون، حتى قام أحد شياطينهم: النضر بن الحارث، فنصحهم قائلًا: يا معشر قريش، والله لقد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، و جاءكم بما جاءكم به، قلتم: ساحر؛ لا والله ما هو بساحر! لقد رأينا السحرة ونَفْثَهم وعَقْدَهم، وقلتم: كاهن؛ لا والله ما هو بكاهن! قد رأينا الكهنة وتَخَالُجَهم وسمعنا سَجَعَهُم، وقلتم: شاعر؛ لا والله ما هو بشاعر! قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هَزَجَه ورَجَزَه، وقلتم: مجنون؛ لا والله ما هو بمجنون! لقد رأينا الجنون، فما هو بخنقه، ولا وسوسته، ولا تخليطه. يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم. وكأنهم لما رأوا صموده صلى الله عليه وسلم في وجه كل التحديات، ورفضه كل المغريات، وصلابته في كل مرحلة -مع ما كان يتمتع به من الصدق والعفاف ومكارم الأخلاق- قويت شبهتهم في كونه رسولا حقا، فقرروا أن يتصلوا باليهود حتى يتأكدوا من أمره صلى الله عليه وسلم. فلما نصحهم النضر بن الحارث بما سبق، كلفوه مع آخر أو آخرين، ليذهب إلى يهود المدينة، فأتاهم فقال أحبارهم: سلوه عن ثلاث، فإن أخبر فهو نبي مرسل، وإلا فهو متقوِّل؛ سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان أمرهم؟ فإن لهم حديثا عجبا؛ وسلوه عن رجل طوّاف، بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح، ما هي؟ فلما قدم مكة قال: جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، وأخبرهم بما قاله اليهود؛ فسألت قريش رسول صلى الله عليه وسلم عن الأمور الثلاثة، فنزلت بعد أيام سورة الكهف، فيها قصة أولئك الفتية، وهم أصحاب الكهف، وقصة الرجل الطواف، وهو ذو القرنين، ونزل الجواب عن الروح في سورة الإسراء. وتبين لقريش أنه صلى الله عليه وسلم على حق وصدق، ولكن أبى الظالمون إلا كفورا. هذه نبذة خفيفة مما واجه به المشركون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقد مارسوا كل ذلك جنبا إلى جنب، متنقلين من طور إلى طور، ومن دور إلى دور. فمن شدة إلى لين، ومن لين إلى شدة، ومن جدال إلى مساومة، ومن مساومة إلى جدال، ومن تهديد إلى ترغيب، ومن ترغيب إلى تهديد. كانوا يثورون ثم يخورون، ويجادلون ثم يجاملون، وينازلون ثم يتنازلون، ويوعدون ثم يرغبون، كأنهم كانوا يتقدمون ويتأخرون، لا يقر لهم قرار، ولا يعجبهم الفرار؛ وكان الغرض من كل ذلك هو إحباط الدعوة الإسلامية، ولَمَّ شَعْثِ الكفر، ولكنهم بعد بذل كل الجهود واختبار كل الحيل عادوا خائبين، ولم يبق أمامهم إلا السيف، والسيف لا يزيد الفرقة إلا شدة، ولا ينتج إلا عن تناحر يستأصل الشأفة، فاحتاروا ماذا يفعلون.][21]. إن الصراع بين الحق والباطل، هذا شأنه؛ وهو في الحقيقة ناشئ عن صراع الأسماء الإلهية فيما بينها. ولولا أن الكفار كانت لهم أسماء تمدهم، ما كانوا يجدون القوة على المواجهة. يقول الله تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20]. وليس معنى كون المدد من الله، أن الطريق المسلوك حق، أو أن أصحابه ربانيّون؛ لأن المحدد لذلك كله، هو الشريعة وحدها. فمن شهدت له الشريعة، بأنه على الحق، فهو ذاك؛ ونعني من هذا، أن الشريعة حاكمة على مظاهر الأسماء الإلهية، لا على الأسماء نفسها. وذلك لأن الأسماء منزهة عن التكليف، الذي هو منوط بالعباد المـُكلفين وحدهم. وهذا يعني أن كثيرا من المظاهر الاسمية، غير مكلفة، كالملائكة والحيوانات والنباتات والجمادات. وعلى الناس أن يُدركوا هذه المعاني، حتى يفهموا معنى التكليف؛ لأن من لا يفقه معنى التكليف، فإنه لن يعمل بحسبه؛ وقد يخرج بذلك من طريق الشريعة إلى طريق الفسوق، كما أخبرْنا عن الجماعات الحركية في فقرة سابقة... (يُتبع...) [1] . الرحيق المختوم، للمباركفوري. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.