اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]() «السابقالتالي»
2020/08/18 الحوار الغائب (ج3) -1- مقدمة إننا في الجزءيْن الأول والثاني من هذا الكتاب، قد عرضنا إلى الطوريْن الأوليْن من الدين، وهما ما يناسب الشريعة الموسوية والتعليم العيسوي معا. ولقد عرّفنا بشيء من التفصيل معالم الطوريْن، وعرَفنا العقائد المختلفة التي انبثقت عنها، بحق أو بغيره. وشدّدنا في تناولنا لكل ذلك، على وحدة الدين، التي إن كانت قد بدأت مع الطوريْن المذكوريْن، فإنها لن تكتمل إلا مع الطور الثالث المناسب للتشريع المحمدي الخاتم. وعندما نتكلم عن التشريع المحمدي وخصوصياته، فإنه ينبغي أن نعلم أنه يختلف عن التكميل العيسوي للتشريع الموسوي فيما قبل. فنحن قد عرفنا أن عيسى عليه السلام، قد أقر التوراة والعمل بها ظاهرا، وأضاف إلى ما كان يعلمه الموسويّون، الدلالة على باطنها؛ وفتح بابا إلى مرتبة الإيمان، التي كانت من قبل مجهولة. ولا ينبغي لنا هنا، أن نتصوّر، أن التشريع المحمدي هو دلالة على مرتبة الإحسان، من طريق موسى عليه السلام، وأنه تكميل لما جاء به عيسى من طريقه عليه السلام؛ ولكنه دلالة على الدين بأكمله إسلاما وإيمانا وإحسانا، من طريق محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا الذي نقوله، له أصله، الذي ينبغي أن نبيّنه. وعلينا أن نعلم أصل هذه الخصوصية، التي قد يعتبر بعض الكتابيين أننا نُثبتها من باب التعصب للقومية، أو للشريعة المحمدية بالمعنى العام؛ والأمر على غير ذلك، كما سنبيّن بإذن الله. لقد عرفنا من المسيحيين كلامهم عن اللوغوس أو الكلمة فيما قبل، وعرفنا أنها مرتبة الحقيقة المحمدية عندنا، والتي هي أول مخلوق، كانت عنه جميع المخلوقات التي تلته فيما بعد (البَعد هنا غير زماني)، والتي منها موسى وعيسى، وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام. وعرفنا أن الأنبياء والرسل (الخلفاء منهم خاصة)، كانوا مظاهر للألوهية المتعينة من باطن الحقيقة المحمدية، ثم عرفنا تبعا لذلك أن المظاهر الربانية متفاوتة في ظهورها بالصورة الإلهية التي كانت هي الأمانة التي حملها الإنسان، والتي دل عليها قول الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]. ولما كان التفاوت في الظهور بين مختلف المظاهر حاصلا، فإنه كان لا بد أن ينتهي إلى واحد، يكون مطابقا للحقيقة المحمدية على التمام؛ ولم يكن إلا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم. ومن هذه المرتبة، فإنه عندما يُبعث بالدين والشريعة، فإنهما لا بد أن يكونا على أصالتهما وكمالهما، لا بمعنى التكميل المعهود. وهذا هو ما يمنع أن يكون إكمال الدين منه صلى الله عليه وآله وسلم، من باب التسلسل التاريخي في الدين، أو من باب التفرُّع عما قبله. وهذا يعني أن التشريع المحمدي، سيدعو إلى مراتب الدين الثلاث بدلالة محمدية أصلية، لا بدلالة موسوية عيسوية محمدية، كما سبق أن نبّهنا. ويدل على هذا المعنى، قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا، مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي!»[1]. وأما قول الله تعالى في القرآن: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، والذي هو أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، باتباع هدي الأنبياء من قبله، فله وجهان: - الأول: وهو باعتبار ظاهر الأمر، والذي يكون فيه شخص محمد صلى الله عليه وآله وسلم، نبيا من بين الأنبياء، لاحقا عليهم في الزمان، وهم له سابقون. وهذا من أثر الحكمة الإلهية، الساري حكمها في الوجود. - الثاني: وهو باعتبار أن كل التشريعات السابقة، تشريع له هو صلى الله عليه وآله وسلم؛ من كونه الممد للأنبياء الأولين بها، من مرتبة حقيقته. وبهذا الاعتبار، فإن التشريعات كلها تكون تشريعات له بالأصالة، قبل أن تكون منسوبة إلى نبي من الأنبياء، عليهم السلام. وهذا يعني، أن جميع الأنبياء السابقين له في الزمان، صلى الله عليه وآله وسلم، لم يكونوا إلا نوابا عنه. وعندما جاء أوان بعثته صلى الله عليه وآله وسلم، فإن الأمور رجعت إلى نصابها، واستلم النبي (بـ"الـ" العهدية) مقاليد النبوة، وهيمن على التشريع كله، فأبقى على ما شاء من أوله، وأضاف إليه ما شاء، مما هو مُختص به صلى الله عليه وآله وسلم. ونعني من هذا، أن تصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شرائع من سبق، هو تصرف في شرعه، لا في شرع غيره. ولقد سبق لنا أن ذكرنا عن عيسى عليه السلام، أنه عندما كان يُشير إلى "الآب" الذي في السماوات، كان يُشير إلى أصله الذي صدر عنه، والذي ليس إلا الحقيقة المحمدية. ولقد عقل المسيحيون من الكلام العيسوي، أن "الكلمة" أو "اللوغوس" الذي كان يُشير إليه عيسى كان هو الله نفسه؛ وهو صحيح من وجه. وذلك لأن الذات لم تتعيّن بمرتبة ألوهيتها للخلق، إلا من الحقيقة المحمدية، التي هي أول ممكن خلقه الله تعالى. وبما أن الممكن له وجه وجودي وله وجه عدمي، فإن هذه الحقيقة الجامعة، من وجه وجودها، هي "الله" الذي يعبده العابدون، من جهة حقها؛ وأما من وجهها العدمي (جهة خلقها)، فإنها محمد، الصورة العدمية الكاملة، والمتضمنة لحقائق الخلق على صورة الإجمال. وحتى نزيد الأمر وضوحا، لمن كان على تديُّن تقليدي، فإننا نقول لمن يستبعد أن يكون المعبود هو المرتبة المتعيّنة من الحقيقة المحمدية: إن الذات لا تُعبد من كونها ذاتا، لأن لها من هذا الوجه الإحاطة بالوجود والعدم، أي بالحق والخلق. وكل من يتصور أنه يعبد الذات، فإنه يكون مشركا من حيث لا يدري. وذلك لأن المعبود إن كان الذات، فينبغي أن يكون العابد ذاتا أخرى؛ وهذا محال. فبقي أن العابد مرتبة إمكانية وأن المعبود مرتبة وجودية لا تتعدد. وإلى هذا المعنى الإشارة بقول الله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]؛ والمقام هو المرتبة هنا. وهذا يؤكد أن المـَخوف منه، هو المرتبة لا الذات. أما إن خطر للقارئ قول الله تعالى في مقابل ما نقول: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28]؛ فليعلم أنه ينطبق من وجه على معنى المرتبة هو أيضا، وهو الذي كنا بصدده؛ وينطبق من وجه آخر على الذات، لكن لا بالمعنى المنطبق على المرتبة؛ وإنما بمعنى الحق الماحق والطامس، الذي كانت الذات عليه قبل خلق الخلق. وقولنا "قبل"، هو من أجل الترتيب، لا باعتبار الزمان؛ لأنه لا زمان هنا. ومعنى "كانت" الذات عليه، هو لا بمعنى الزمان أيضا؛ بحيث يكون شأن الذات بعد خلق الخلق غير ما هي عليه قبل الخلق. وهذا يعني أننا ندل على ما دل عليه الحديث الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ.»[2]؛ وهذا مع خلق الخلق أو بدونه، لا كما يتبادر إلى العقول الضعيفة المشركة. ولما كان تعيُّن المرتبة، من تعيّن الحق بالصورة المحمدية العليا، فإنه كان تعيُّن الشخص المحمدي في العالم السفلي أكمل مظهر إلهي ولا بد؛ وكانت خلافته عن الله، خلافة أصلية لا نيابية، كما هي خلافة الخلفاء من قبله أو من بعده، صلى الله عليه وآله وسلم. ومن هذا الاعتبار، كان لا بد لكل مريد لوجه الله، كما أخبر سبحانه في قوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]، أن يتوجه إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، إن كان صادقا في إرادته. وهذا يعني لو أن الناس وُجدوا في الدنيا في صعيد واحد، كما وُجدوا في عالم الذرّ، أو كما سيكونون في الآخرة، فإنهم سيشهدون توجه كل الربانيين، وعلى رأسهم كل الأنبياء عليهم السلام، إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ توجها بدهيا وسجيّة، يشبه انجذاب الحديد إلى المغناطيس. وهذا يعني أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى خصوصا، لو كانوا على صدق في اتباعهم لموسى وعيسى؛ ولو أنهم كانوا يريدون وجه الله من اتباعهم ذاك، لوجدوا اتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد بعثته، في قلوبهم، وجودا ضروريا، لا يحتاجون معه إلى تكلف. وإلى هذا المعنى يُشير قول الله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]. وحتى نستخرج بعض الأحكام من هذه الآية، فلا بد من أن نتناولها بالتفصيل: - قول الله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ}: الخطاب، لكل من كان على شريعة إلهية، يتبع فيها رسولا من عند الله، بالمعنى النيابي لا بالمعنى الأصلي. فهؤلاء، عند بعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وحتى يكون حالهم مطابقا لدعواهم، ينبغي أن يتبعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من دون إبطاء، ليشهد لهم اتباعهم له على الفور، بصدقهم في اتباعهم الأول؛ وإلا سيكونون مخالفين بحالهم لما يدّعون، سواء علموا بذلك أم لم يعلموا. ونقول هذا، لأن علم المرء بحقيقة حاله، لا يكون لكل أحد؛ بل هو لمن كان على نور كاشف وهداية ربانية كُبرى. وعلى هذا، فإن كل كتابي، لا يُسارع إلى تلبية دعوة الله له من الصورة المحمدية الكاملة، فإنه يكون شاهدا على نفسه بالكذب. - وأما قوله تعالى: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}: فهو دعوة إلهية عامة، تجمع في ثناياها كل الدعوات الإلهية الفرعية السابقة في الزمان. ومعنى السواء هنا: العموم. وهذه الدعوة الإلهية عامة، لأنها صادرة من الصورة الجامعة؛ وإلا لم يصح العموم منها. وإشراك النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنفسه في إجابة هذه الدعوة، هو من أحكام "قل" في بداية الكلام، والذي هو أمر من الله، لا من غيره. ونعني من هذا، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كان داعيا من وجه حقه، فهو ملبٍّ من حقيقة عبوديته. وهو أولنا تلبية من مقام الاشتراك في "نا" (الدالة على الفاعل)؛ ويبقى المخاطَبون من "كُم" (أنتم) مخصوصا بالكتابيين. وإن اشتراكنا بصفتنا مسلمين في علم الله، مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يجعل لعموم أمتنا مرتبة في الدعوة والإجابة من جهة الظاهر، لا تكون لغيرها؛ فضلا من الله ونعمة. أما من جهة الظاهر والباطن معا، فذلك يكون متحققا للورثة منا وحدهم؛ وهو مقام رفيع، تمنى الأنبياء السابقون أن ينالوه، بعد علمهم به، كما ورد في بعض الأحاديث التي لم تصح من جهة السند عند أهل الحديث. ولن نستطرد في هذا المعنى، فإنه يخرج بنا عن الغرض الآن. - وقول الله تعالى: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا}: هو تأكيد على وحدة الدين، القائم على عبادة الله وحده. وهذا يعني أن أهل الكتاب، لو كانوا حريصين على عبادة الله وحده، لأجابوا دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنها لا تقوم إلا على ذلك. وهنا ينبغي أن نفرق بين العبادة الصورية، والعبادة الحق؛ لأن أهل الكتاب، لا ينبذون العبادة الصورية؛ بل يجعلونها أساسا يقوم عليه دينهم، حتى لا تنكشف حقيقة تديّنهم. والإشراك بالله، يعمّ في تعلقه كل شيء قد يتخذه المرء معبودا له مع الله؛ ويدخل في ذلك هوى النفس، ورضى المخلوقين الذي قد يكون عن رغبة أو عن رهبة؛ كما تدخل صورة النبي السابق المعبود من دون الله، ومن دون إذنه سبحانه. يقول الله تعالى لعيسى يوم القيامة: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ . مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ . إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 116 - 118]. - وأما قول الله تعالى: {وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}: فهو يتعلق بالقصد والتوجه، لا بالحقيقة. وذلك لأنه ليس مع الله أحد، حتى يُتّخذ ربا من دونه؛ ولكن العبد إن كانت نيته عبادة ما سوى الله، فإن ذلك يُعدّ في حقه إشراكا. ومعنى من دون الله، أي حيث لا يوجد أمر الله؛ أو حيث يُظن وجود غير الله. وهذا يعود إما إلى المخالفين لشريعة الله، في زمن نسخ الشريعة السابقة؛ أو يعود إلى من ينسب الوجود الحق إلى ما سوى الله، ويعبده تبعا لذلك. فالفعل الأول هو مما تصح نسبته إلى اليهود، والثاني هو مما تصح نسبته إلى النصارى؛ من حيث الإجمال، وعند إرادة الاختزال. نقول هذا، لأن اليهود والنصارى جميعا، لا أحد منهم يقر على نفسه بعبادة أرباب من دون الله، من جهة القول. وهذا يعني أنه لا اعتبار لقول القائل عن نفسه، إلا ببرهان خارجي رباني: هو إما نبي الزمان، وإما الوحي الثابت عن الله، وإن كان سابقا عن الزمان. وهذا كقول الله تعالى لأهل الكتاب: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [المائدة: 68]. وهذا لأنهم لو أقاموا (عملوا بما فيهما) التوراة والإنجيل، لاتبعوا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، ما دامت الدلالة على نبوته واردة فيهما. يقول الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]. - ويختم الله الآية بقوله سبحانه: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}: أي فإن أعرض أهل الكتاب عن دعوة الله لهم من الصورة المحمدية وعلى لسانه صلى الله عليه وآله وسلم، فلا تشتغلوا بهم شغلا يُنسيكم قيامكم بعبادة ربكم في أنفسكم؛ وقولوا بلسان حالكم قبل مقالكم لأهل الكتاب: {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}. وذلك لأن الشهود عند الله يوم القيامة صنفان: صنف بالموافقة، وعلى رأس هؤلاء الشهداء الأنبياء والورثة؛ وصنف بالمعاكسة، وعلى رأسهم الشيطان وكبار العصاة. وشهادة أهل الموافقة تكون بالمقال تأكيدا للحال؛ وأما شهادة أهل المعاكسة، فقد تكون بالحال وحده. ولقد سبق لنا فيما مضى من الكتاب، أن بيّنّا أن اليهود قد أصبحوا يهودا، بعد أن كانوا موسويين، عند تحقق انحرافهم عن الصراط المستقيم. وهذا الأمر، قد وقع منهم إما داخل الزمن التشريعي الموسوي، وإما خارجه. ففي الزمن الموسوي، قد أصبح شطر منهم يهودا (بإقرارهم على أنفسهم)، بعد العودة من السبي البابلي، وعند مخالفتهم للمجددين منهم. وأما بانتهاء الزمن الموسوي، فإنهم يكفرون تلقائيا؛ لأنهم صاروا ملزمين باتباع عيسى عليه السلام. والنصارى أيضا قد أصبحوا نصارى بعد أن كانوا مسيحيين، إما داخل الزمن التشريعي العيسوي، عند خروجهم عن تعاليم عيسى من جهة الإيمان ومن جهة العمل؛ وإما بعد انتهاء الزمن العيسوي، عند بعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، إن هم لم يؤمنوا به. وبما أن اليهود والنصارى جميعا من بني إسرائيل في أصلهم، فإنهم بعد كفرهم قد صاروا يُنظِّرون لذلك بتنظيرات تنطلي على من لا عقل؛ ومن ذلك أنهم متبعون في شؤونهم ليعقوب عليه السلام، الذي هو متبع لإبراهيم عليه السلام؛ وكأن النسب وحده ضامن لأن يكون المرء على الحق، والله يقول: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]. ولقد طعن بنو إسرائيل في نسب إسماعيل عليه السلام إلى يعقوب وإبراهيم، من جهة أمه غير الإسرائيلية؛ وعدوه لا يبلغ في المرتبة إسحاق عليه السلام، ظنا منهم أن ذلك يرخِّص لهم، في عدم اتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لكونه إسماعيليا. وهذه عنصرية لا خلاف عليها من وجهيْن: الأول من جهة عدم مراعاة إبراهيم الذي يزعمون أنهم يعظمونه، وهم يطعنون في ابنه، من غير اعتبار لرأيه؛ والثاني وهو الأسبق في الاعتبار، وهو من جهة عدم مراعاة حكم الله في العباد. ونعني أن الله إذا شاء أن يصطفي عبدا من عباده، فله الحكم المطلق في ذلك؛ بغض النظر عن رأي سائر العباد في العبد المصطفى. يقول الله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]، ويقول سبحانه ردا على من طعن في نبوة محمد صلى الله عليه وآله سلم من قومه: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ . أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 31، 32]. ونحن نقول هنا، على شرف إسحاق عليه السلام، وبالرغم من اصطفاء الله ذريته وجعلهم أنبياء؛ فإن مكانة إسماعيل أشرف بلا أدنى ريب، لأن الله جعل من ذريته محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، الذي هو من جهة الحقيقة أصل الجميع. وبما أن اليهود والنصارى ينتسبون إلى إبراهيم عليه السلام، فإنهم قد جعلوه بالأثر الرجعي إما يهوديا وإما نصرانيا، ليُغلقوا الباب أمام العامة منهم، وحتى لا يتبعوا الحق حيثما لاح. وهذا أسلوب، يلجأ إليه المـُضلون كثيرا، ليضمنوا بقاء أتباعهم معهم؛ في الغالب من أجل أغراض دنيوية صرف. وقد رد الله عليهم بقوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67]. وذلك لأن اليهودية نسبة في الموسوية، والنصرانية نسبة في المسيحية، وموسى وعيسى ما خُلقا إلا بعد إبراهيم بأزمنة. فكيف يُنسب المتقدم إلى المتأخر، فيما الأصل هو نسبة المتأخر إلى المتقدم؛ خصوصا وأن إبراهيم كان مسلما، على الدين الأصلي، ولم يكن يهوديا ولا نصرانيا؛ أي قبل ظهور النسبتيْن. ويقول الله بعد ذلك: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68]. والذين اتبعوا إبراهيم المذكورون في الآية، الذين هم أحق بالنسبة الإبراهيمية وشرفها، هم موسى وعيسى وأتباعهما على الحقيقة، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأتباعه بالصدق. فهؤلاء كلهم حزب واحد، هو حزب الله؛ وغيرهم لا ينتسبون إلى الأنبياء عليهم السلام، وإنما هم من أتباع الشيطان، وإن زعموا لأنفسهم أنهم كذا أو كذا... ويقول الله بعد ذلك مباشرة: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [آل عمران: 69]؛ والطائفة من أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، كما أسلفنا؛ الذين خالفوا ما دعا إليه موسى وعيسى. وإن القول من اليهود والنصارى، والذي كانوا يرومون منه إضلال الناس عن الحق، قد عاد عليهم؛ فأصبحوا هم الضالين، بانقطاعهم عن إبراهيم وموسى وعيسى، وإن كانوا لا يشعرون. وهذا لأن علم المرء بحال نفسه -كما أسلفنا- لا يكون إلا بإذن من الله. ومن لم يأذن الله له في معرفة حقيقة حال نفسه، فإنه سيذهب في طريق الهلاك، وهو لا يشعر؛ بل قد يكون فرحا بما هو عليه، ومصرا عليه. ثم يلوم الله أهل الكتاب على إنكارهم للحق، مع ورود النصوص لديهم بما يضمن هدايتهم لو أنهم كانوا موفَّقين، فيقول سبحانه: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ . يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 70، 71]. ومعنى تشهدون هنا: أي تشهدون على أنفسكم بالكفر؛ ومعنى لبسهم للحق بالباطل على علم، هو مخالفتهم للوحي الذي معهم؛ لا علمهم بحالهم كما سبق أن ذكرنا. وذلك، لأن العلم بالحال، يقتضي العلم بالقول المخالف، وهو هنا الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ وهو أمر محال في حقهم، ما دام حكم الله فيهم الضلال. ونعني من هذا أن الخطاب لهم في الآيتيْن شرعي، يُلزمهم بما التزموا به، عند زعمهم اتباع موسى وعيسى عليهما السلام. ولعل القارئ، قد بدأ يعرف معنا، أن لكل مسألة وجوها مختلفة؛ عليه أن يعلم في كل مرة أيَّها نقصد. وسنعرف من فصول هذا الجزء الثالث -بعون من الله- خصائص الدعوة المحمدية، ونعرف كيف قوبلت من كل قوم، ولم اختلف الناس في ذلك إلى اليوم؛ لأن هذه الدعوة الأصلية الجامعة الكاملة، لا بد أن يكون شأنها خطيرا؛ وأن تكون تبعاتها مصيرية بالنظر إلى الأمم وإلى الأفراد... [1] . أخرجه أحمد، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.