اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2012/10/06 البقرة: (81-100) 81. { بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }: [بلى]: أي ستمسكم النار التي منها تفرون. وقد كانت النار في حق هذا الصنف عذابا، لمخالفتهم أصلها. نعني أن النور إذا دخل على الظلمة كان عذابا، أما إذا دخل على النور فهو نور على نور. فالأمر متعلق بالمجانسة وعدمها. [من كسب سيئة]: وليست إلا نفسه؛ [وأحاطت به خطيئاته]: وهو ما يتعلق بها من صفات وأفعال. وذلك لأن النفس إذا تعينت في الوهم، فلا بد أن تكون على الصورة الإلهية. نعني أنها تكون ذاتا لها صفات وأفعال. [أولئك أصحاب النار]: أي هؤلاء هم المستدعون للنار بأحوالهم، كما يستدعي المرض العلاج. [هم فيها خالدون]: لانقلاب النار نورا عندما تتعدل استعداداتهم؛ فيجدون أنفسهم ما خرجوا عن النور. 82. { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }: [والذين آمنوا]: أنهم نور، ولم يتحققوا بعد به؛ [وعملوا الصالحات]: بما يوافق هذا الأصل؛ [أولئك أصحاب الجنة]: أصحاب الحجاب، الذين لا يحول بينهم وبين ربهم إلا حجاب العزة. [هم فيها خالدون]: أي في الجنة؛ لأن الحجاب (من جن إذا ستر) لازم أبدا. غير أن حجاب النور ليس كحجاب الظلمة. لا يستويان! 83. { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ }: [وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل]: الميثاق العهد الوجودي الذي أخذ على أهل النسبة؛ [لا تعبدون إلا الله]: بعلمكم أنكم عبيد له، مملوكون له لا لأنفسكم أو لسواكم من المخلوقين. هذا هو ما يوافق الحقيقة، أما غيره فمجانب؛ لذلك طلب التصحيح بالحال. [وبالوالدين]: وهو كل ما تولد عنه العبد، حسا ومعنى، جسما وروحا. وقد أوصى الله بالإحسان إلى الوالدين، حتى لا يعبدا من دونه سبحانه. ومن عبادة الوالدين كانت عبادة من يعبد الأجرام السماوية، وكانت عبادة من يعبد الحجارة. والإحسان المعاملة بالموافقة؛ والموافقة تقتضي العلم ولا بد. [وذي القربى]: القربى هي القرابة من الرحم؛ والمقصود كل صورة إمكانية. [واليتامى]: وهم من فقدوا صلتهم بالحق عند أنفسهم، وليسوا إلا الكفار. [والمساكين]: وهم أهل الكثافة عبدة الأسباب؛ كل هؤلاء، العبدُ مطالب بالإحسان إليهم. فذوو القربى، إحسانه إليهم أن يصلهم بتفقدهم وإعانتم بما يحتاجون إليه؛ واليتامى، إحسانه إليهم بأن يكون خليفة للحق لديهم إن كان من القادرين؛ والمساكين، إحسانه إليهم برفعهم من الذلة لما سوى الله إلى الذلة لله. [وقولوا للناس حسنا]: أي بشروهم بلقاء الله، لكن مع مراعاة حصول النفع لا الضرر؛ فإن هذه العلاجات تحتاج إلى دقة في التركيب لا يحسنها إلا الشيوخ الربانيون بعد الأنبياء عليهم السلام. [وأقيموا الصلاة]: أي حققوا نسبتكم إلى الله في أنفسكم، ولا تكتفوا بالنسبة العامة. [وآتوا الزكاة]: ونمّوا النور الذي في بواطنكم، حتى يعود الحكم للروح منكم. [ثم توليتم]: بعد نصيحة ربكم، إلى ظلمة طبعكم؛ [إلا قليلا منكم]: وهم صفوة الله من العباد، يكونون دائما أقلية؛ [وأنتم معرضون]: صفة لمن تولى؛ والإعراض عن الحق إهلاك للنفس بلا شك. 84. { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ }: [وإذ أخذنا ميثاقكم]: هذا تفصيل للميثاق الأول؛ [لا تسفكون دماءكم]: أي لا يسفك بعضكم دم بعض. والمقصود أن لا يتسبب بعضكم في موت بعض بقطعه عن ذكر ربه. ونعني بالذكر هنا معنى الذكر وحقيقته؛ لأن ظاهر الذكر قد يكون أحيانا من أسباب الغفلة المورثة للموت. [ولا تخرجون أنفسكم]: أي لا يخرج بعضكم بعضا؛ [من دياركم]: وهي المقامات الخاصة بكل منهم. وهذا يقع كثيرا من الناس، فتجد كل واحد يسعى لأن يجعل غيره نسخة عنه. وإلى جانب أن هذا لا يمكن تحقيقه، فهو شاق على من تدعوه إلى الخروج من مقامه. والأولى إن كان المرء من الحكماء، أن يدعو غيره من مقامه نفسه. وهذا باب عظيم من أبواب علوم التربية. [ثم أقررتم]: أي قبلتم الالتزام بما أمرتم؛ [وأنتم تشهدون]: عاقبة ما نهيناكم عنه عيانا. فالواقع معين لكم على حسن الإدراك. وقد جاء النهي للجماعة في صورة نهي لكل فرد عن سفك دمه وطرد نفسه من بلده، حتى تظهر الوحدة في الجماعة التي لا ينبغي أن يغفل الأفراد عنها. 85. { ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }: [ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم]: أي يقتل بعضكم بعضا. [وتخرجون فريقا منكم من ديارهم] : أي يخرج بعضكم بعضا من الديار بغير وجه حق. [تظاهرون عليهم]: بل صرتم تتعاونون على فعل ذلك مع نفوسهم؛ وهو مبالغة في المخالفة منكم؛ [بالإثم]: وهو الذنب؛ [والعدوان]: وهو الاعتداء؛ ولا يكون إلا على الغير. [وإن يأتوكم أسارى]: وإن وقع بعضكم أسرى لدى غيركم؛ والمقصود أسارى مقاماتهم. [تفادوهم]: تبغون فداءهم منهم. وهذا من الربوبية التي فيهم، فهم يحبون أن يكونوا المتصرفين فيمن معهم ولا يراعون في ذلك أمرا ولا نهيا؛ لكن إن تصرف غيرهم فيمن تصرفوا هم فيه قبلاً، لم يقبلوا وذادوا عنهم. [وهو محرم عليكم إخراجهم]: إخراجهم محرم عليكم، كما حرم عليكم تركهم في الأسر. هذا من منطلق القياس، لكنهم يتصرفون من منطلق الهوى. [أفتؤمنون ببعض الكتاب]: وهي ربوبية أنفسكم؛ [وتكفرون ببعض]: وهي ربوبية ربكم لمـّا نهاكم، والربوبية واحدة لا تتجزأ؛ فكان الأولى أن يعرفوا ربوبية ربهم من ربوبية أنفسهم، ولكن غلب عليهم الفرق حتى أسقطهم فيما لا يستقيم، بأي منطق تناولوه. [فما جزاء من يفعل ذلك منكم]: فمن تكن هذه حاله، فلا نتيجة له؛ [إلا خزي في الحياة الدنيا]: أي فضيحة، تلحق به في حال رؤية نفسه، فلا يمكن أن يقال عنه إلا أنه أحمق لا يميّز. [ويوم القيامة]: يوم يعلمون الحقيقة؛ [يردون إلى أشد العذاب]: على قدر بعدهم؛ لأنهم لا يجدون ظنهم مطابقا لما بدا لهم. [وما الله بغافل]: منكم؛ [عما تعملون]: لأنه العامل. والعذاب يأتيهم من كونهم رأوا أنفسهم عاملة وليس الله؛ لذلك بعدت عليهم الشقة عند طلوع شمس الحقيقة. 86. { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ }: [أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة]: أي بذلوا كل جهدهم ليحظوا بحياة نفسية بدلا عن حياة بالله؛ [فلا يخفف عنهم العذاب]: بسبب سوء اختيارهم؛ والاختيار هنا للاستعداد الذي هو أصل الاختيار الظاهر. والعذاب كما مر، جاءهم من البعد بين الحقيقة وما هم عليه من الوهم. [ولا هم ينصرون]: بأن يصير وهمهم حقيقة. هذا مع أن وهمهم حقيقة، لكنهم أتوها من غير بابها. لذلك، فعذابهم أيضا وهم؛ جزاء لهم عما كانوا عليه. وهذا من أعجب ما يكون. 87. { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ }: [ولقد آتينا موسى الكتاب]: وهو نزول السر في مقام الروح، مطابقا لصورة الحق؛ [وقفينا من بعده بالرسل]: وهو ما وصل إلى الإدراك من دلالات الآيات الكونية؛ [وآتينا عيسى ابن مريم]: الروح المنفوخ الذي من جهة هو لا أب له، من كونه إلهيا؛ ومن جهة أخرى له أم وهي الطينة المزاجية. [وأيدناه بروح القدس]: وهو السر المنزه عن الكونية. [أفكلما جاءكم]: يا معشر التعينات الخلقية؛ [رسول]: وسيط مبلِّغ؛ [بما لا تهوى أنفسكم]: من محوٍ لنسبتها في الأمور؛ [استكبرتم]: استخرجتم الربوبية الكامنة في بواطنكم لتواجهوا بها الحق؟ [ففريقا]: من الرسل؛ [كذبتم]: ولم تأخذوا بما أدّوا إليكم مع إقراركم بنسبتهم إلى الحق؛ [وفريقا تقتلون]: بإنكار نسبتهم إلى الحق من الأصل. 88. { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ }: [وقالوا قلوبنا غلف]: مفرده أغلف، وهو الذي عليه غلاف محيط لا يترك شيئا يصل إليه. والمعنى أن قلوبنا لم تع ما ذُكر آنفا. يفرون بقولهم هذا من تبعات ما هم عليه. [بل لعنهم الله]: أبعدهم؛ [بكفرهم]: تغطيتهم للحق بأنفسهم. وهذا اعتذار خفي من الحق عنهم، ليعلمهم أنه محيط بهم، من أمام ومن خلف. [فقليلا ما يؤمنون]: بهذه الإحاطة. فما أشد ظلمة نفوسهم، وما أعمى بصائرهم! 89. { وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ }: [ولما جاءهم كتاب من عند الله]: لما واجههم وجه الله؛ [مصدق لما معهم]: مطابق لما يعرفونه من أنفسهم؛ [وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا]: أي منهم. كانوا يقولون في أنفسهم لأنفسهم، لو وجدنا من يكون حقا يدلنا على الحق، اتبعناه وأسلمنا له أمرنا، حتى يريحنا منك؛ [فلما جاءهم ما عرفوا]: أنه هو؛ [كفروا به]: وما وفوا بما كانوا عقدوا العزم عليه. [فلعنة الله]: ثابتة؛ [على الكافرين]: من كانت صفتهم الكفر اللازم. 90. { بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ }: [بئسما اشتروا به أنفسهم]: ما أقبح ما أكسبوا أنفسهم؛ [أن يكفروا بما أنزل الله]: في كتاب النفوس؛ [بغيا]: ظلما؛ [أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده]: لأن كفرهم بعد أن واجههم الحق، لم يكن إلا حسدا أن يأتيهم في صورة عبد. [فباؤوا بغضب على غضب]: أي انتهوا إلى أن راكموا الغضب المتعلق بالكفر الأول على الغضب المتعلق بالكفر الثاني. [وللكافرين عذاب مهين]: مهين لأنهم ما رعوا قدر الحق لما واجههم. فعذابهم أشد من عموم الكافرين. 91. { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }: [وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله]: على وجه العموم؛ [قالوا]: [نؤمن بما أنزل علينا]: وهو ما وجدناه في أنفسنا. [ويكفرون بما وراءه]: مما اختص الله به غيرهم. [وهو]: الله، [الحق]: عينه؛ [مصدقا لما معهم]: لا اختلاف في النسبة بينهم وبين غيرهم. [قل]: أيها الوجه الحقاني: [لم تقتلون أنبياء الله]: من أتاكم بالأخبار الإلهية؛ [من قبل]: قبل أن يأتيكم هذا الخطاب الجامع؟ [إن كنتم مؤمنين]: بما أنزل عليكم حقيقة؟ هذا يثبت أن التصديق بالحق لا يتجزأ، حتى يقول القائل أنا مصدق بما معي، غير مصدق بما مع غيري. فهو قول مردود على قائله، لا قيام له بشيء من الحجج والأدلة. 92. { وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ }: [ولقد جاءكم موسى]: النبي منكم؛ [بالبينات]: بما لا تتمكنون من إنكاره؛ [ثم اتخذتم العجل]: صورة استعجالكم؛ [من بعده]: أي من بعد إنبائه لكم؛ اتخذتم العجل إلها؛ [وأنتم ظالمون]: بتقييد الحق بصورة مخصوصة. فما وافقتم ما جاءكم من عند الله بما فعلتم. 93. { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }: [وإذ أخذنا ميثاقكم]: وهو العهد الأول؛ [ورفعنا فوقكم الطور]: وهو جبل النفس ابتلاء لكم. [خذوا ما آتيناكم]: اقبلوه عقيدة وعملا؛ [بقوة]: لا تتوانون فيه، أدبا مع الربوبية. [واسمعوا]: أي استجيبوا لما دعوناكم. [قالوا]: ولم يقل: قلتم؛ لأنهم غائبون عن الحق، ولولا ذلك ما استطاعوا قول: [سمعنا وعصينا]: وهو منتهى العناد والربوبية. [وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم]: وابتلوا بمحبة العجل محبة شديدة، جزاء لهم على سوء أدبهم؛ لأن محبة الصورة المقيدة تعطي الاستيحاش من غيرها، فتَحرم بذلك من محبة الحق الذي لا يتقيد. فهذه المحبة كالسجن للقلوب. [قل بئسما يأمركم به إيمانكم]: إن كان ما عندكم إيمانا، فبئسما أوصلكم إليه من تقييد. وحقيقة الإيمان لا تعطي التقييد، بل الإطلاق؛ ولولا هذا ما دخل الغيب في متعلَّقه. هذا يبين أنهم لا إيمان لهم حقيقة؛ وهو معنى: [إن كنتم مؤمنين]. 94. { قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }: [قل إن كانت لكم الدار الآخرة]: قل إن كان لكم مقام التحقق؛ [عند الله]: حقيقة؛ [خالصة من دون الناس]: أي إن كنتم تزعمون أن ذلك لكم من دون غيركم من أمثالكم؛ [فتمنوا الموت]: فاطلبوه لأنفسكم؛ [إن كنتم صادقين]: صدقا لا مدّعين. هذا لأن التحقق لا يكون إلا بعد موت النفوس؛ غير هذا لا يكون. 95. { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ }: [ولن يتمنوه أبدا]: لأن حالهم لا يعطي ذلك؛ [بما قدمت أيديهم]: بما ظهر عليهم من رشحات ما بطن لديهم. [والله عليم]: من حيث لا يعلمون؛ [بالظالمين]: فصفتهم اللازمة هي الظلم. والظلم لا يوصل إلى النتائج الحسنة، لأنه مخالف لمنهاج الحق. 96. { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }: [ولتجدنهم أحرص الناس على حياة]: المقصود الحياة النفسية؛ هم أشد الناس حرصا عليها. فكيف يزعمون التحقق بالإيمان؟! [ومن الذين أشركوا]: أحرص على حياتهم النفسية حتى من الذين أشركوا؛ الذين يعطي مقامهم ذلك الحرص، وهم خليقون به. [يود أحدهم]: أحد هؤلاء المدعين للإيمان؛ [لو يعمر ألف سنة]: المعنى أن أحدهم يريد لو يبقى على ما هو عليه إلى الأبد؛ من كراهته للموت في الله. [وما هو بمزحزحه]: بمنجيه؛ [من العذاب]: الناتج عن البعد بين ما هم عليه من وهم وبين الحق؛ [أن يعمر]: لأنه لا بد من فناء العبد آجلا إن لم يكن عاجلا. هذا عند نظر نفسه، أما في الحقيقة فهو فان في كلتا الحالتين. [والله]: من حيث الاسم الجامع؛ [بصير]: لا تغيب عنه صورة؛ [بما يعملون]: ما يبدو منهم. والعمل منهم يشمل عمل الباطن والظاهر. 97. { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ }: [قل]: أيها الوجه الإلهي العام؛ [من كان عدوا لجبريل]: جبريل صورة للروح القدس؛ زعموا أن جبريل عدوهم، وقصة اليهود في هذه الواقعة معروفة. والمغزى أن من كان يعادي الحق، قد لا تكون له الجرأة على إعلان ذلك لسبب من الأسباب؛ فيلجأ إلى من يُجري الله على لسانه الحق فيعاديه؛ حتى يجد العذر عند نفسه أو عند من يعتبر نظره إليه في معاداة الحق. أما الحق في هذا: [فإنه نزله على قلبك]: أي جبريل نزل القرآن على قلبك من سرك؛ [بإذن الله]: لأنه لا يُعرف الله إلا بإذنه. [مصدقا لما بين يديه]: جاء الشهود مصدقا لما سبقه من الإيمان بالأخبار. [وهدى]: يهدي في الحق إليه، لأنه لا يقع الضلال إلا في الحق. [وبشرى للمؤمنين]: بشارة لمن سيلحق بك، ممن لا زالوا على الإيمان، ولم يصلوا إلى العيان. 98. { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ }: [من كان عدوا لله]: الحقيقة أن المعاداة، هي معادة لله؛ [وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل]: بالتبع لا بالأصالة. والمقصود بالملائكة القوى الروحانية، وبالرسل الصور الكونية. وقد خص بالذكر جبريل وميكائيل من كون الأول مختص بتبليغ الوحي، والثاني بإبلاغ الأرزاق؛ حتى لا يتهمها أحد من الضالين بتقصير فيما أوكل إليهما. وأشد ما يكون الاتهام في العلم والرزق. [فإن الله عدو]: الحقيقة هي أن الله هو العدو لهم، قبل أن يزعموا عداوته سبحانه؛ لأن الأمر منه لا منهم. [للكافرين]: الذين لا خبر لهم عما هو الأمر عليه. 99. { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ }: [ولقد أنزلنا إليك آيات بينات]: لا يمكن إنكارها؛ [وما يكفر بها]: وما ينكرها؛ [إلا الفاسقون]: الذين تاهوا عن طريق الحق. وهؤلاء لا عبرة بهم. 100. { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ }: الكلام عن أولئك الذين عاهدوا الله عند أخذه سبحانه الميثاق عليهم في كل مرة. فهم كل مرة تخرج منهم جماعة تخلف ما عاهدت عليه. [بل أكثرهم لا يؤمنون]: بل ليس الأمر أن جماعات منهم هي التي كانت تخرج عن سواء الصراط، وإنما القليل منهم هم من كانوا يوفون بالعهد. وهذا حال الناس عموما مع الحق، سواء أظهروا عند أنفسهم بمظهر التدين، أم كانوا ظاهري الفسق. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.