اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2012/10/05 البقرة: (61-80) 61. { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ }: [وإذ قلتم يا موسى]: الإخبار من الله عما كان حال القوى مع القلب، من عدم اكتفاء كل قوة بغذائها الوهبي الخاص؛ وهو قولها: [لن نصبر على طعام واحد]. [فادع لنا ربك]: الذي هو سرك وصاحب الأمر فيك؛ [يخرج لنا مما تنبت الأرض]: من العلوم الكسبية؛ [من بقلها]: والبقل هو كل نبتة في أول نبتها، وهو إشارة إلى المعقولات الأولية المشتركة بين كل أصناف العقول. [وقثائها]: وهو الخيار؛ وفيه إشارة إلى العلوم الكسبية التخصصية، كما هو معروف عند الناس. [وفومها]: والفوم الزرع، وهو في الإشارة العلوم الفكرية الزائدة على الأصول والقواعد من كل علم. [وعدسها]: والعدْس شدة الوطء على الأرض والذهابُ فيها. وهو إشارة إلى استنباط النظريات من وراء التفكر. [وبصلها]: وهو ما تراكم من العلوم الكونية والنظرية بعضه فوق بعض، حتى غطى على عين القلب وانفصل بذلك عن العلم الفطري الإلهي وثبت له الحجاب. وفي رائحة البصل إشارة إلى خبث هذه العلوم رغم ما قد يبدو فيها من صلاح عاجل. وقد جاء في الحديث عن معاوية بن قرة عن أبيه أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هاتين الشجرتين الخبيثتين وقال: «من أكلهما فلا يقربن مسجدنا» [أخرجه أحمد في مسنده]: يعني البصل والثوم. [قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟]: القول للقلب مخاطبا جميع القوى: أتستبدلون العلوم الكسبية القاصرة والمشوبة، بالعلوم الوهبية الخالصة والتي لا حد لنمائها؟ [اهبطوا]: جزاء لكم بانكفائكم عن مرتبة النسبة الإلهية إلى نسبة الأكوان؛ [مصرا]: من المِصر الذي هو قلة اللبن، أي اهبطوا محل التقييد وقلة العلم. [فإن لكم ما سألتم]: السؤال كان سؤال حال بلسان الاستعدادات لما قصرت عن الكمال. [وضربت عليهم الذلة]: بأخذهم عن الأكوان واضطرارهم إليها. [والمسكنة]: وقد قيل هي أسوأ من الفقر، وهو الصحيح؛ لأن الفقر عام للشريف والوضيع؛ أما المسكنة فهي فقر وحقارة. وجاءت من الافتقار إلى ما سوى الله. ومعنى ضربت: أي صارت لهم مقاما. [وباءوا بغضب من الله]: من باء أي رجع. معناه أنهم ما عادوا من أخذهم عن الأكوان واكتفائهم بها، إلا بغضب من الله، إذ لم يقدروه حق قدره سبحانه. [ذلك]: أي سوء عاقبتهم تلك؛ [بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله]: وهو انقطاعهم مع الصور الكونية، وعدم إدراكهم لدلالتها على الله بالأصالة. [ويقتلون النبيئين]: ما يدلهم من الأشياء على الله، وقتلهم عدم الانتفاع بأنبائهم. [بغير الحق]: فأداة القتل عندهم ليست الحق، حتى نلحقهم بالمحققين من عباد الله، الذين إن كفروا بالآيات كان كفرهم بالحق. وهو عند بعض العارفين مقام، وعند أهل الكمال حال. فهؤلاء المغضوب عليهم، قتلوا العلم الصحيح بالباطل الذي عندهم، مما تنتجه أفكارهم السقيمة، أو مما يقلدون فيه العمي من أمثالهم. [ذلك بما عصوا]: أي بمخالفتهم لمنهج الحق في أخذ العلم؛ ومنهج الحق يقتضي أن يأخذ العبد علمه عن ربه كما يأخذ كل شيء. ولا محل للاستثناء في الأخذ حتى يقول القائل: آخذ هذا من الله، وذاك من المخلوق الفلاني. و[كانوا يعتدون]: بتجاوز مناط الأخذ الذي هو الله وحده. وأقل الأخذ من الله أن يعتقد بوجوده سبحانه خلف كل صورة كونية. وهذا هو أخذ المؤمنين. أما أخذ عباد الله، فهو من الله حقيقة. وهو للأنبياء عليهم السلام وللورثة من بعدهم. ونعني بالبَعد المكانة لا الزمان فحسب. 62. { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }: [إن الذين آمنوا]: أن الله من وراء الأسباب؛ [والذين هادوا]: من الهاد الذي هو الحركة. والمعنى: الذين تحركوا في طلب العلم عن أمر إلهي؛ [والنصارى]: المنسوبين إلى المقام، كما نسبت النصارى إلى الناصرة؛ فلا يتعدونه في الأخذ. [والصابئين]: وهم الخارجون من علم إلى علم، إذا خرجوا من مقام إلى مقام. [من آمن بالله]: لأن كل ما سبق هي أحوال للمؤمنين، فمن خرج عن الإيمان فقد استُثني من الكلام. [واليوم الآخر]: إما اعتقادا عاما بوجود المآل، أو استشرافا إلى الخروج من الحكم الأول إلى الحكم الآخر. [وعمل صالحا]: بعلمه، بما يناسب الاستعداد للآخرة، أو بما يناسب الخروج من الحكم الأول عند العبد. [فلهم أجرهم]: فهؤلاء لهم جزاء، كل بحسبه؛ [عند ربهم]: عند الاسم الذي يربيهم في الحال. [ولا خوف عليهم]: أن تدخل عليهم الظلمة في علمهم؛ [ولا هم يحزنون]: بوجود ما لم يتوقعوه مما لا يسر. 63. { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }: [وإذ أخذنا ميثاقكم]: الكلام لبني إسرائيل، أهل النسب الإلهي؛ وما في الوجود إلا هم. أخذ الله ميثاقهم لما خلقهم له دالين عليه من كونهم آيات وكلمات. وكلهم أوفى بميثاق الله، ما فيهم من خالف. [ورفعنا فوقكم الطور]: أي وجعلنا على عيون قلوبكم صور أنفسكم ترونها فوق حقيقتكم. والرفع هنا الظهور. فأنتم محجوبون بأنفسكم عنا، في الوقت الذي أنتم موفون بعهدكم لنا. هذا، حتى تعلموا أنكم تحت قهرنا في كل أحوالكم. [خذوا ما آتيناكم بقوة]: تمسكوا بقوة بما جاءكم من عندنا من أسباب العلم. [واذكروا ما فيه]: أي فيما جاءكم، حتى لا تشتغلوا بالأخذ، عن المأخوذ؛ لأن النفوس كثيرا ما تكتفي بصورة الفعل عن حقيقته. [لعلكم تتقون]: شر نفوسكم التي تبقيكم خلف ستار العزة؛ أي تمنعها الحقيقة عن دخول الحضرة. 64. { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ }: [ثم توليتم]: أي أعرضتم؛ [من بعد ذلك]: من بعد وصيتنا لكم. [فلولا فضل الله عليكم]: بأن حكم عليكم بحقيقتكم التي تثبت لكم الفناء في جميع أحوالكم عنده؛ [ورحمته]: بأن خلقكم له لا لأنفسكم؛ [لكنتم من الخاسرين]: لكنتم ممن يستحق أن يحرم بلوغ الحق بمخالفتكم لما دُعيتم إليه. 65. { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ }: [ولقد علمتم]: علم ذوق لأنكم منهم؛ [الذين اعتدوا منكم في السبت]: ويوم السبت هو يوم فراغ الله من خلق الخلق، فكان ينبغي أن يتفرغ الخلق له فيه ويمتنعوا عن الحركة النفسية. فلما لم يفعلوا، واعتدوا في السبت بجعله لأنفسهم؛ [فقلنا لهم كونوا]: حكمنا عليهم وأثبتناهم في مقام: [قردة خاسئين]: القَرَد، نفاية الصوف؛ وخسأ: طرد. ومعناه: كونوا نفاية من خلقنا، مبعَدين عنا، وإن كنتم معنا. وهذا أشد ما يقع من الحرمان. 66. { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ }: [فجعلناها]: أي المسخة من الآدمية إلى القردية؛ [نكالا]: أي عقوبة لمن حلت به. [لما بين يديها]: ممن سبق هذه الأمة في المقام؛ [وما خلفها]: ولمن تأخر عنها؛ حتى لا يقول قوم أنهم في منأى عما أصيب به هؤلاء. لذلك، هؤلاء القردة لا تخلو منهم أمة. [وموعظة للمتقين]: الذين لم يخالفوا ما دعاهم الله إليه، حتى لا يغتروا به سبحانه، ويقولوا قد حيل بيننا وبينها إلى الأبد. والأدب يقتضي أن يكون العبد متهيبا لربه على الدوام مهما بلغت رفعته عنده. 67. { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ }: [وإذ قال موسى]: الذي هو رسول السر من القلب؛ [لقومه]: كل القوى المدرِكة منه القائمة به. [إن الله يأمركم]: أمر وجوب من الحق. [أن تذبحوا]: أن تغيبوا عن شهود؛ [بقرة]: من البقْر الذي هو الشق، وهي النفس. وقد كانت النفس بقرة، لأنها خرجت في وهم الناظر من الصور الوجودية، كأنها تشققت عنها. وجاء ذكر البقرة بالإفراد، ولم يقل أبقارا، من أجل وحدة حقيقة النفس عند كل شاهد. وهذا الأمر الحقاني، جاءت به ألسنة الحقائق إلى كل صورة خلقية؛ وهو محور الرسالات، وعليه مدار التزكية في الشرائع. ولما كانت هذه السورة قد تسمت باسم البقرة، علمنا أن الكلام الإلهي فيها قد جاء عن النفس، من حيث حقيقتها، وما يلحق بها من أحوال ومقامات. وقد جاءت سورة البقرة أول سورة بعد الفاتحة، لتدل على أهمية مجاهدة النفس في طريق الحق. [قالوا: أتتخذنا هزؤا؟]: استبعدوا أن يكون المطلوب منهم إفناء أنفسهم، وهم يرونها عين وجودهم! [قال أعوذ بالله]: أحتمي به؛ [أن أكون من الجاهلين]: أن أتكلم بما لا يوافق الحق. 68. { قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ }: [قالوا]: من منطلق مختلف التعينات؛ [ادع لنا ربك]: وهو الحق الواحد، من مظاهر الكثرة؛ [يبيّن لنا ما هي]: لأنهم ما زالوا لا يميزون بين الحق والنفس منهم. فبسؤالهم عن الماهية، يريدون أن يفرقوا بينها وبين الحق، حتى يستطيعوا أن يفعلوا ما أمروا به من الذبح حسب زعمهم. [قال إنه يقول]: [إنها بقرة لا فارض ولا بكر]: أي لا هرمة ولا صغيرة في السن؛ والمعنى: لا قديمة من مرتبة وجوب الوجود، ولا هي من مرتبة المحال الذي أصله العدم من كل وجه؛ لأن هاتين المرتبتين لا يمكن التصرف فيهما. [عوان بين ذلك]: أي وسط؛ وهي مرتبة الإمكان. [فافعلوا ما تؤمرون]: لأنه في هذه المرتبة، يمكن أن يكون لكم فعل. 69. { قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ }: [قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها]: بعد أن سألوا عن الماهية، وعرفوا مرتبتها؛ يسألون الآن عن صفاتها الإمكانية بعد أن عقلوا مرتبة الإمكان. ولون الشيء في اللغة، ما فصل بينه وبين غيره؛ وهو ما يسميه المناطقة الحد. وهم يريدون اكتساب العلم بالنفس من حيث التفصيل؛ لأنه من علم نفسه علم ربه، عند أهل الفرق وعند أهل الجمع معا. [قال إنه يقول إنها بقرة صفراء]: الصفرة السواد؛ وقد قال الفراء في قول الله تعالى: { كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ } [المرسلات: 33]: الصفر سود الإبل. والصِّفر الخلو؛ فكان السواد هنا هو أدنى ما يتميز به السواد عند الرائي، وكأنه يشم رائحة اللونية فحسب. [فاقع لونها]: خالص لا شائبة فيه؛ وهو خلوص النفس من الوجود، وإنما أصابها منه رائحة توهم فقط. هذا، حتى لا يظن ظان أن الصور العدمية قد حلت في الوجود بعد أن كانت في العدم؛ لأن الحقائق لا تنقلب، وإنما هو تجل شمت منه المعدومات رائحة الوجود، فاكتست منه حالا يسمى الإمكان. فالإمكان حال لا مقام. [تسر الناظرين]: أي تفرحهم؛ والمخلوقات لما شاهدت أنفسها فرحت بهذا الشهود بعد أن لم تكن مذكورة. 70. { قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ }: [قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي]: فعادوا يسألون عن الماهية، بعد أن زادهم ذكر صفات النفس حيرة. [إن البقر]: فجاءوا بصيغة الجمع، بعد أن كان الكلام بصيغة الإفراد؛ لأن التفصيل أعطاهم أن النفوس تختلف عن بعضها فيما ذكر عنها من صفات. [تشابه علينا]: أي، اختلطت صفاته، وشابه بعضه بعضا؛ حتى لا نستطيع التمييز بينه. وهم هنا قد حجبوا بالأشخاص عن المعنى العام؛ وهو قد كان المقصود بصيغة الإفراد سابقا. [وإنا إن شاء الله]: علموا أن الاهتداء إلى حقيقة النفس من الله لا منهم. [لمهتدون]: عارفون. وحقيقة النفس لا يعرفها إلا العارفون؛ أما غيرهم من عوام الصوفية أو غيرهم من عوام الناس، فما يتكلمون إلا عن آثارها. وهي الصفات بالمعنى العام لا الخاص. وإنا: تدل على أن الكلام صادر من كل صورة كونية من صور المكلفين على الخصوص. 71. { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ }: [قال إنه]: من غيب الذات؛ [يقول]: [إنها بقرة]: أحدية المعنى لا كثرة فيها. وأحالهم مرة أخرى على صفاتها. [لا ذلول]: لا هي منقادة مستسلمة من الذلة؛ [تثير الأرض]، بسبب التصاقها بها. والأرض هنا البدن. [ولا تسقي الحرث]: والحرث في اللغة الفعل. أي ليس لها مدد من نفسها، لما يظهر عنها من فعل. فهي أقرب إلى الشك منها إلى اليقين. [قالوا الآن جئت بالحق]: لأنهم يجدون هذه الصفات من أنفسهم ذوقا. يجدون عدم انقياد واستسلام من جهة، ومن الجهة المقابلة يجدون عجزا عن التصرف أحيانا، يعلمون منه عدم قدرتهم. فلا هم منقادون كباقي الموجودات من غير المكلفين، فيستريحون؛ ولا هم مالكون لأمرهم فيرتاحون. فلما وافق الإخبار الذوق، لم يبق مجال للشك. [فذبحوها]: بالعلم، لما ألحقوها بحقيقتها. [وما كادوا يفعلون]: للمقاربة الدالة على أنه ما كان يحجبهم عن الحق إلا الوهم؛ ولا أضعف منه. 72. { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }: [وإذ قتلتم نفسا]: في الظاهر رجلا؛ والمعنى في الباطن السر. قُتل حكما بسبب ما غطى عليه من حكم النفس المذكورة في الآيات السابقة. [فادارأتم فيها]: تدافعت مختلف القوى تهمة القتل فيه. كل واحدة تلقيها على غيرها. [والله مخرج ما كنتم تكتمون]: من السر رغم إرادتكم كتمه. وهذه بشارة عامة لكل نفس بظهور حقيقتها ولو بعد حين. 73. { فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }: [فقلنا اضربوه]: حتى تحصل المماسة؛ [ببعضها]: ببعض البقرة الذبيحة؛ لأنه من موت النفس يحيى الروح بظهور السر. [كذلك يحيي الله]: به؛ [الموتى]: بأنفسهم وقت غفلتهم. وقد ورد في الحديث عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه، مثل الحي والميت» [أخرجه البخاري في صحيحه] . [ويريكم]: أيها المدعوون إلى قتل أنفسكم بالحق في كل زمان؛ هذا، لأن أوامر الله متوجهة على الخلق خلفا بعد سلف؛ فلا يقل أحد إن الأمر الفلاني خاص ببني إسرائيل في زمن مخصوص ويتجاوزه. فإنه لا بد أن يكون له وجه يواجهه منه. فإن علمه فهو ذاك، وإلا فليرجع باللائمة على نفسه. هكذا ينبغي أخذ القرآن. [آياته]: الدالة على الحق منكم؛ [لعلكم تعقلون]: تعقلونها، لأنها من معرفتكم أنفسكم، ولا أقرب إليكم منها. 74. { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }: [ثم قست قلوبكم]: الكلام عن صنف مخصوص من بني إسرائيل؛ فجاء الخطاب عاما لكونهم أغلبية. والمعنى: تصلبت قلوبكم وعادت إلى ما اعتادته من حالها. [من بعد ذلك]: بعد هبوب رَوْح الرّوح عليها. [فهي كالحجارة]: صلابة؛ [أو أشد قسوة]: منها. [وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار]: وهو الماء الغزير؛ [وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء]: وهو أقل مما سبقه غزارة. [وإن منها لما يهبط]: ينزل إلى أسفل أو ينقص؛ [من خشية الله]: من معرفته بذلة نفسه وعزة ربه ذاتيا. فإذا كان هذا حال الحجارة في صلابتها، فقلوبكم التي لم تلن لما جاءها من قِبل الروح، لا شك أنها أشد قسوة. كيف لا وما خاطبها من سرها إلا ربها. هذا يدل على أنه لا شيء يثبت أمام الربوبية الظاهرة إلا الربوبية الباطنة. ولولا أن الإنسان عنده الربوبية كامنة في نفسه، ما عاند ربه ولا جادله. [وما الله بغافل عما تعملون]: لأنه هو العامل من وراء نفوسكم، وإن كنتم أنتم لا تعلمون. 75. { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }: [أفتطمعون]: أيها المؤمنون الخاشعون لله؛ [أن يؤمنوا لكم]: الكلام عن بني إسرائيل وأضرابهم؛ بعد ما علمتم حالهم مع ربهم. يعلّم الله عباده أن هذا الصنف من الناس لا أشد منه عنادا وصلابة، حتى لا يتعبوا أنفسهم في محاولة إيصال النفع إليهم. [وقد كان فريق منهم]: طائفة من أعتاهم؛ [يسمعون كلام الله]: من الله، ومع ذلك؛ [ثم يحرفونه]: يحرفون معناه وإن حافظوا على لفظه. [من بعد ما عقلوه]: حتى لا يقال إن تحريفهم كان عن عدم فهم. [وهم يعلمون]: متعمدون للتحريف. وكل هذا من صفات الربوبية التي ظهرت عليهم. وسبب الذم لهم بذكر هذه الصفات، هو وجود النفس التي أمروا أن يذبحوها، لا نفس الصفات؛ لأن الصفات هي صفات الحق، لا تعدد فيها. 76. { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ }: [وإذا لقوا الذين آمنوا]: وإذا لقوا الذين يصدقون بوجوب قتل النفس؛ [قالوا آمنا]: بمثل ما تؤمنون. [وإذا خلا بعضهم إلى بعض]: وكانوا مع الموافقين لهم من حيث المقام؛ [قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم]: مما علمتم من كلام الله وفهمتم معناه؛ [ليحاجوكم به]: ليلزموكم بما علمتم؛ [عند ربكم]: المعاندة عندهم لربهم لا لأمثالهم من العباد. [أفلا تعقلون]: لأن من يتقي العباد، وينسى الله، فقد عكس الأمر، وأخل بالمراتب. 77. { أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ }: [أولا يعلمون]: تعجب من حالهم كيف يستخفون من الله وهو يعلم منهم ما يعلنون وما يسرون؛ [أن الله يعلم]: من حيث علمه بنفسه سبحانه؛ [ما يسرون وما يعلنون]: وأسبق في الذكر ما يسرون حتى يؤكد على علمه سبحانه بما يعلنون بحسب نظرهم، رغم أنه يستوي عنده سبحانه العلمان. لكن أحوال العباد معتبرة في كلام الله من باب الحكمة. 78. { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ }: [ومنهم]: من أصحاب النسب الإلهي العام، [أميون]؛ [لا يعلمون الكتاب]: وهم الذين لا يحسنون قراءة الكتاب الوجودي؛ [إلا أماني]: يتمنونها لا حقيقة لها في أنفسهم. فهم استبدلوا الأماني بالقراءة. [وإن هم إلا يظنون]: ظنا غير معتبر، بسبب غلبة صفات عدمهم. 79. { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ }: [فويل]: الويل الهلاك لمن استحقه، والويلة الفضيحة؛ ولا أشد منهما لمن هذه حاله؛ [للذين يكتبون الكتاب بأيديهم]: وهم كل من ادعى أنه متكلم (مخبر) عن الله كذبا، سواء أكتب ذلك كتابة أم نطق به؛ [ثم يقولون هذا من عند الله]: ليوهموا المستمع أنهم على الحق. [ليشتروا به ثمنا قليلا]: وهو رضى الناس عنهم، ونيل المنزلة لديهم. [فويل]: للتأكيد وبيان سوء حالهم؛ [مما كتبت أيديهم]: لأنهم لن يجدوا مستندا وجوديا لقولهم، فيحارون فيه. والأيدي محل الفعل منهم؛ [وويل لهم مما يكسبون]: لأنه يفترض أن يطلب المرء لنفسه النفع والراحة، وهؤلاء يزيدونها عنتا. 80. { وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }: [وقالوا لن تمسنا النار]: المس المباشرة، والنار أصلها النور؛ يظهر ذلك من تصغيرها بقولنا نويرة؛ ومما جاء في التنزيل: { فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } [النمل: 8]، قيل النار هنا نور الله. فهؤلاء المتقولون على الله، إنما يفرون من النور أن يصيبهم، لظنهم أن بقاء نفوسهم حسب زعمهم مشروط بالاحتماء منه. [قل أتخذتم عند الله عهدا]: بأن يبقيكم على وهمكم؛ [أم تقولون على الله ما لا تعلمون]: لأنكم لا تعلمون ما يريد أن يفعل بكم. ومنتهى علمكم أن تعلموا ما أنتم عليه الآن فحسب؛ أما الآتي فهو مغيب عنكم. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.