اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2012/10/03 البقرة: (26-40) 26.{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ}: من كان يريد معرفة الله من تجلي الأكوان، معرفة كلمات من مجمل القرآن، فعليه أن لا يتجاوز شيئا مما يعرض له، بما تعطيه قياسات العقول القاصرة. وضرب الله مثلا لما لا يأبه له الناس بالبعوضة، أو ما فوقها من الصغر؛ حتى يُعلم أنه لا صغير في الموجودات وإن كانت مما يُنعت به عرفا؛ بل كل صورة هي كلمة إلهية ضمن كتاب الوجود لها دلالتها على المعاني العلوية. وقد اعتبرها الله الذي خلقها، إن غاب قدرها عند من جهلها. فأما الذين آمنوا إيمانا خالصا، فيعلمون أن كل مشهود لهم هو الحق؛ من ربهم الذي أعطى كل شيء خلقه. فهم على نور في مشاهدتهم العالم. وأما الذين كفروا، الذين لا يشهدون من العالم إلا العدم، فهم لا يعلمون الأسرار الكامنة في المخلوقات؛ لذلك هم ينظرون بعين الاحتقار إلى ما لا يرون له حكمة. وقد يختلف هذا من شخص إلى شخص من الكافرين؛ لكن الصفة عندهم مشتركة. يضل به: أي بالمثل؛ كثيرا، ممن لا يعقلون معناه؛ ويهدي به كثيرا: ممن يخبره عن مولاه. وما يضل به إلا الفاسقين: والفسق الخروج، من فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرتها. وهو هنا الخروج عن الصراط المعرفي المستقيم. 27.{ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }: الفاسقون ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، لما خرجوا إلى الوجود. هذا العهد تم في عالم الحقائق إبرامه، ولولاه ما خرج شيء من العدم. فلما انحجب الفاسقون عن الحق، صاروا قاطعين لرحم الرحمن التي أمر الله أن تراعى وتوصل. ويفسدون في الأرض: بمخالفتهم ما تعطي الحقائق في نظر أنفسهم؛ وإلا فإنهم لا يخالفونها في واقع الأمر. أولئك هم الخاسرون: الذين خسروا معرفة حقيقتهم، فلم يضروا إلا أنفسهم. 28.{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }: يُنكر الله على الكافرين كفرهم الذي يخالفون به النسق الوجودي العام، وهم من جملته. [كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا]: موت العدم؛ [فأحياكم]: بالإيجاد؛ [ثم يميتكم]: الموت الطبيعي؛ [ثم يحييكم]: حياة البعث. أو: [وكنتم أمواتا]: موت الجهل الأصلي؛ [فأحياكم]: بالعلم الموحى إليكم؛ [ثم يميتكم]: عن العلم فلا تشهدون نسبته إليكم؛ [ثم يحييكم]: بشهود قيامكم به سبحانه. [ثم إليه ترجعون]: من أنفسكم وتوهم مغايرتكم. 29:{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }: [هو]: أي الله من حيث الغيب الذاتي؛ [الذي خلق لكم]: من أجلكم؛ [ما في الأرض جميعا]: حتى تعلموا ما أودع في كل شيء من أسرار. [ثم استوى إلى السماء]: من السمو وهو الارتفاع. فالسماء محل من ارتفع من الخلق، إما أصلا كالملائكة، أو بعد التزكية فيما يرجع إلى الإنس والجن. [فسواهن سبع سماوات]: سبعة مُستَوَيات من الارتفاع. وهي المقامات الأساسية من الطريق. وهي: التوبة، والتوكل، والزهد، والصبر، والشكر، والخوف والرجاء، والتسليم. الخوف والرجاء منها مقام واحد لا مقامان. فبنزول الإنسان في هذه المقامات يسمو ويرتفع عن الأرض. وإذا سما، صار روحانيا. وأئمة هذه المقامات من محمد صلى الله عليه وآله وسلم هم: آدم، ويحيى وعيسى، ويوسف، وإدريس، وهارون، وموسى، وإبراهيم؛ عليهم السلام جميعا. [وهو]: من غيبه؛ بكل شيء عليم. فعلمه بالأشياء سبحانه من علمه بنفسه. 30.{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}: فلما كان خلق الخلق يدور حول المعرفة، فقد جعل الله عليهم خليفة، يكون واسطة بينهم وبين الصورة الأصلية التي هي الحقيقة المحمدية. والخلافة بالأصالة هي لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهي بالنيابة لغيره من الخلفاء. وهذا الخليفة مزدوج الحقيقة: فهو من جهةٍ مظهرٌ للربوبية على العالم، ومن جهة أخرى جامع لعبودية العالم. وقد فتح الله وجود هذا الإنسان في العالم بخلق أول خليفة نيابي، وهو آدم عليه السلام. وأخبر عنه ملائكته في مشهد علمي قبل خلقه. [وإذ قال ربك]: الخطاب للخليفة الأصلي؛ لأنه الغاية والمراد. [للملائكة]: الأرواح السماوية؛ [إني جاعل في الأرض خليفة]: ليكون مظهرا إلهيا في الأرض التي هي السفل، بعكس ما يعطيه التنزيه العقلي. [قالوا]: بحسب علمهم؛ [أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟]: لأن نشأتهم لا تعطي المعصية والفساد، فقاسوا على أنفسهم؛ وظنوا أن نشأتهم ترفعهم عن آدم. وذكرهم لأنفسهم وصفاتها بعد ذكر عيوب آدم، هو تصدّ منهم لطلب هذه المرتبة لأنفسهم. وما حكموا إلا بما علموا. فهم صادقون فيما حكموا به من منطلق علمهم، مخطئون، لأنهم لم يحيطوا بهذا المخلوق علما. من أجل هذا قال الله لهم: [إني أعلم ما لا تعلمون]: أي، عندي من العلم بآدم ما يجعلني أختاره خليفة دونكم. 31.{ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }: علم الله آدم الأسماء الإلهية كلها، أي من كل صنف؛ وليس المقصود أفراد الأسماء غير المتناهية. فعلمه أسماء الذات وأسماء الصفات وأسماء الأفعال؛ وعلمه من أسماء الصفات والأفعال أسماء الجمال التي كانت معلومة للملائكة، وأسماء الجلال التي كانت غائبة عنهم. [ثم عرضهم على الملائكة]: عرض الأسماء، على هيئة مشاهد. وهذا يحدث في الطريق للسالكين، يعلمهم الله ما شاء بمشاهدات صورية يبلُغون بها علم حقيقة ما يشاهدون. وذلك لأن من المعاني، ما يعسر على العقول تصوره من غير صورة محسوسة. ومن هذا الباب تنزل المعاني في الرؤى. [فقال أنبئوني]: ابتلاهم سبحانه بالسؤال، لأنهم سبقوا إلى الحكم من غير إعطاء الأمر ما يستحقه من الأناة. لكنهم ما تعدوا بسؤالهم السابق الاستفسار؛ وإلا كانوا خرجوا إلى المخالفة، وهو ما لا تعطيه نشأتهم. [إن كنتم صادقين]: في أهليتكم للحكم على آدم؛ لأن الحاكم أعلى درجة من المحكوم عليه عقلا، محيط به ولو من الوجه المحكوم عليه فيه فقط. 32.{ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }: فلما علمت الملائكة أنهم غاب عنهم علم صنف من الأسماء، رجعوا على أنفسهم وأقروا بعجزهم. من هنا كان السلف إذا حكموا على شيء أو أفتوا، يقولون: والله أعلم؛ أدبا مع الله فيما لم يطلعهم عليه من علم في تلك المسألة الخاصة. [إنك أنت العليم]: الذي إن حكمت يكون حكمك حقا لا معقب له، من كون علمك محيطا. [الحكيم]: في إطلاعك من تشاء على ما تشاء، وحجبك له عما تشاء. 33.{ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}: ولما أراد الله أن يُظهر فضل آدم عليه السلام من هذا الوجه، أمره سبحانه بإعلام الملائكة بالأسماء التي ظهرت لهم تجلياتها في المشاهد السابق ذكرها. فلما أخبرهم بها، قال الله: [ألم أقل لكم إني أعلم]: علم إحاطة؛ [غيب السماوات]: التي هي مستقركم، [والأرض]: التي هي مستقر هذا الخليفة. [وأعلم ما تبدون]: من أقوالكم ومن أحوالكم، [وما كنتم تكتمون]: منها أيضا. وهذه هي الإحاطة التي ذكرناها. وهذا التعليم من الله للملائكة، ليس محصورا فيهم، وإنما هو يتعداهم إلى المنزِّهين من بني آدم فيما بعد؛ الذين سيُنكرون على الخليفة مرتبته في كل زمان. ينبههم سبحانه أنهم مهما بلغوا من علم، فإن الخليفة خارج دائرة علمهم، ولا ينفعهم حياله إلا الإيمان والتسليم. وإن أغلب من يقع فيما وقعت فيه الملائكة، العلماء بالشريعة؛ إذا رأوا مدعي الخلافة أقل منهم رتبة في الظاهر. ولو رجعوا إلى ما وقع للملائكة، ونزّلوه على أنفسهم لنفعهم رجوعهم؛ ولكن الله يهدي من يشاء. 34.{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ }: لما ظهر فضل آدم في العلم على الملائكة، أمرهم الله بإظهار الخضوع له؛ في مقابل توقفهم الأول؛ فسجدوا. [إلا إبليس]: لأنه لم يكن من الملائكة المفطورين على الطاعة، بل كان من الجن المشتركين مع آدم في إمكان ظهور المعصية منهم. فخرج منه الإنكار والاعتراض. [أبى]: امتنع عن السجود. [واستكبر]: رأى نفسه أشرف من آدم، بسبب شهوده شرف النار على التراب. [وكان من الكافرين]: الحاجبين لأنفسهم عن معرفة الحق. من هنا قيل: لا بد للخليفة من فريقين: فريق موافق، وفريق معاند. لكن الخليفة له الهيمنة عليهما معا، وهيمنته على المطيعين ظاهرة، أما هيمنته على العاصين فباطنة. ومن لم يكن هذا حاله، فما هو خليفة. والفريقان كان استمدادهم فيما ظهر منهم من الخليفة نفسه. فأهل الإقرار، تجلى عليهم بأسماء الجمال، وأهل الإنكار تجلى عليهم بأسماء الجلال. ولكنهم جميعا لا يشعرون، وإنما يجدون في بواطنهم ما يدعوهم إلى فعل مخصوص، ولا يعلمون أصله. 35.{ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ }: ثم يخبرنا الله عن هذا الخليفة وحاله؛ فيقول سبحانه: [وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة]: القول هنا أمر بكن، فيكون. وجعل الله لهذا الخليفة زوجا، أي مخلوقا على صورته يصيران معا به زوجين. وذلك، لما كان هذا الخليفة على الصورة الإلهية، فإنه قد أعطته حقائقها أن يكون زوجا. والمقصود هنا أن صورة آدم أحدية، فكان لا بد من ظهور صورة واحدية نظير الحقيقة المحمدية التي يكون عنها العالم؛ فكانت حواء التي هي محل التكوين والتي عنها تكون الولادة. وهذا المشهد يعطي الحقائق حقها، حتى لا تختلط المراتب على الناظر. ومن هنا كان للرجال درجة على النساء، كما ذكر الله ذلك في قوله تعالى: { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ }[ البقرة آية : 228]. فظهر الفاعل من المنفعل، والمتولد عنهما. وجعل الله آدم وحواء في جنة يتربيان فيها بأسماء الملائكة تربية ذوقية لا علمية مجردة. وهو قوله سبحانه: [وكلا منها رغدا حيث شئتما]؛ فكانا في سعة من العيش لا ينغصه عليهما شيء. [ولا تقربا هذه الشجرة]: فجعل الله لأوان انتهاء التربية الأولى، علامة؛ وهي أن تظهر من آدم المخالفة لأمر ربه. فكان لا بد من أمر واحد بالحجر على الأقل، يكون هو مناط المعصية؛ فكان النهي عن الأكل من الشجرة. وحقيقة الشجرة هي الأسماء الجلالية المقابلة لتلك التي كان عليها. [فتكونا من الظالمين]: أي فتتصفا بالظلم الذي لا يعود إلى الصنف الأول من الأسماء، بل هو من الطائفة المقابلة. 36.{ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ }: الشيطان هنا خادم لآدم من حيث لا يشعر، وهو حقيقة من حقائقه؛ لما كمل استعداده تحرك شيطانه فأزله عن الطاعة وأخرجه إلى المعصية. ولا يخرج العبد إلى المعصية إلا بظهور آثار الربوبية عليه. وهذا لا يكون إلا لمن كان على الصورة الإلهية، لأن الربوبية وحدها هي التي لا تقبل الحجر. وأوامر التكليف كلها حجر، إما بالفعل وإما بالترك. وحواء ملحقة بآدم في الحكم لأنها فرع عنه. [فأخرجهما مما كانا فيه]: من تربية خاصة، إلى مجال أوسع في الحال والفعل؛ فقد خرجا من ضيق إلى سعة. [وقلنا اهبطوا]: الكلام عن آدم وزوجه وإبليس. وهبوطهم سيكون إلى أرض التكليف بعد أن كانوا في سماء التشريف. ومن ذرياتهم ستظهر آثار شجرة النهي، فتتم المعرفة بضم الشق الشمال إلى اليمين من الصورة. [ولكم في الأرض]: محل التجلي الكمالي؛ [مستقر ومتاع إلى حين]: إلى حين تطلع شمس الحقيقة الأحدية الطامسة لمعالم الصور العدمية، المسماة بالخلق. والمتاع المذكور، هو استلذاذ المخلوقات وجودها عند نفسها. وهو لا يكون إلا مع الحجاب، والحجاب عرضي ولا شك. فالحين: هو يوم هذا التجلي المخصوص. 37.{ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }: [فتلقى آدم من ربه] الذي هو صاحب ربوبية نفسه التي ظهرت بالمعصية، [كلمات]: تعليمية؛ [فتاب عليه]: أي فرجع سبحانه بنسبة فعل المعصية إليه، إلى حكمه الأصلي الذي يُنسب فيه الفعل لربه. وإذا حدثت التوبة من الله، فقد رُفع اسم الذنب عن الفعل. [إنه هو]: من حيث غيب المرتبة، في إشارة إلى حكم الذات؛ [التواب]: العائد بالأحكام العرضية إلى أصلها؛ [الرحيم]: بالتوبة للتائبين من حمل ما لا طاقة لهم به من أحكام، وهم العاجزون بالأصالة عن حمل أي شيء. فالتوبة إخراج من القيد إلى الإطلاق؛ ورفع لثقل نسبة الأفعال إلى العباد. وهذه التوبة هي أول ما يقع للمصطفين السالكين لطريق التخصيص. 38.{ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }: [قلنا اهبطوا منها جميعا]: تأكيد على الخروج من جنة التشريف، حتى يُعطوا التكليف ما يستحقه من التيقظ. والتكليف أمره خطير لمن يعقل؛ وتعلقه يكون بالربوبية الكامنة في نفوس العباد. فلولا هذه الربوبية، ما صح التكليف؛ لأن وجود الربوبية يعطي العبد نوع استقلال في الوجدان؛ وهذا هو عينه مناط التكليف. فالتكليف ابتلاء جاء بعد دعوى، ولم يكن ابتداء. [فإما يأتينكم مني هدى]: هذا هو مسمى التكليف. فمن تبع هداي: بأن وافق الأمر على التمام؛ وهذا لا يكون لعبد أبدا، وإنما هو حكم افتراضي. [فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون]: يخرجون من تبعات التكليف أبرياء. كل هذا بسبب دعواهم القدرة منهم على الفعل والترك، وعدم بقائهم على حكم أصلهم من العجز. وقد تغير عليهم الحال، بتغير الحال؛ لما خرجوا من العدم إلى الوجود؛ نعني من الوجود الثبوتي، إلى التعين. وهذا يبين أثر الحال في صاحبه، وإن كان من حيث الوجود ما تغير شيء. وما اختلاف الأحكام في الوجود إجمالا وتفصيلا، إلا من اختلاف الأحوال. فعلم الأحوال من أشرف العلوم. 39.{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }: [والذين كفروا]: حجبوا بشهود أنفسهم عن الحق؛ [وكذبوا بآياتنا]: التي هي الهدى المذكور في الآية السابقة؛ [أولئك أصحاب النار]: المستحقون لها بالتمادي في دعواهم؛ فما أُخِذوا إلا بشهادتهم على أنفسهم. [هم فيها خالدون]: أي لا يتغير عليهم الوجدان، من كونهم لم يتغير عليهم الشهود. فالأمور مرتبطة ببعضها في إحكام عجيب. ومن أراد الخلوص من أمر، فليتخلص من أسبابه؛ وإلا كان من الجاهلين. 40.{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ }: بعد أن ذكر الله أحكاما عامة، تتعلق بذرية الإنس والجن؛ خص بالكلام بني إسرائيل. وتخصيصهم جاء من كونهم من ذرية أنبياء الله الهادين. فهم بهذه المثابة أقرب من غيرهم في معرفة الحقائق؛ أو هذا ما ينبغي أن يكونوا عليه. [اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم]: وهو ما ذكرناه من خصوصيتهم. يذكرهم الله بها، حتى يعرفوا قدرها، ويعملوا بما تقتضيه من شكر. [وأوفوا بعهدي]: وهو ما ذكر آنفا من تكليف وما يرتبط به من جزاء. [وإياي فارهبون]: أي خافوني، وارعوا مقامي. وهذا من حضرة الفرق. وهو من الشؤون الإلهية، قبل أن يكون من الأحوال العبدية. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.