اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2012/11/20 البقرة: (161-180) 161. { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }: [إن الذين كفروا]: الذين كفروا الحق وكانوا من أهل البعد؛ [وماتوا]: انحل تركيبهم الطبيعي؛ [وهم كفار]: وهم على تلك الحال؛ [أولئك عليهم لعنة الله]: لازمة لهم؛ [والملائكة]: المكلفين بتدبير شؤونهم؛ [والناس أجمعين]: لأن الناس منهم متحقق بالحق، وراج لذلك، وعارف بالحقيقة إذا كان من الأموات. وهؤلاء كلهم ليس منهم من يقر الكافر على ما مات عليه، وإن كانوا هم كافرين في أنفسهم. وهذا من أكبر الأدلة على الحق، لو علم الناس. 162. { خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ }: [خالدين فيها]: في اللعنة، لا تزول عنهم؛ [لا يخفف عنهم العذاب]: لكون العذاب مرتبطا بالحال؛ وحالهم مقيم؛ [ولا هم ينظرون]: أي لا ينتظر منهم أن يتغير حالهم فيما بعد. والمعنى أن الله غني عنهم، فلا ينتظر منهم سبحانه أن يغيروا حالهم منه؛ بل يعاملهم بما هم عليه عدلا منه تعالى. 163. { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ }: [وإلهكم إله واحد]: إليه يرجع كل واحد من المختلفين؛ حتى لا يظن قوم أن الإله إلههم وحدهم بسبب موافقتهم لأمره، دون غيرهم من المخالفين. وقد قال بذلك قوم منهم اليهود، فجانبوا الحق بقولهم. [لا إله إلا هو]: من حيث هوية الذات، ومعقولية المرتبة، ليس إلا هو؛ [الرحمن الرحيم]: هو في الرحمة كالاسم الأول والآخر، محيط بكل شيء. هذا، حتى لا يظن ظان قطيعة بعض العباد عن ربهم بالكلية؛ فإن ذلك من حيث الحقيقة لا يصح. وإن كثيرا من عامة المسلمين، ومنهم الفقهاء، يقعون في هذا. ولا يعلمون أنهم بظنهم ذلك يجهلون. 164. {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }: [إن في خلق]: إن الإبراز من الثبوت العلمي إلى التعين الشهودي؛ [السماوات والأرض]: للمظاهر العلوية والسفلية. وقد جاء التعدد في العلويات دون السفليات، لأن العلويات مراتبها معتبرة؛ أما السفليات فهي في مرتبة واحدة، لعدم اعتبارها. [واختلاف]: وإن عدم وحدة المعايير في: [الليل والنهار]: الباطن والظاهر للكائنات؛ [والفلك]: الشرائع الحاملة للعباد؛ [التي تجري في البحر]: تسير بهم في بحر الحقيقة الوجودية الذي لا ساحل له؛ [بما ينفع الناس]: بما يُبقي عليهم وجود أنفسهم، من دون توهم الربوبية فيها؛ [وما أنزل الله من السماء]: وهي مرتبة الحق العلية؛ [من ماء]: من علم بالحقائق؛ [فأحيى به الأرض]: فأحيى بالعلم به سبحانه أرض النفوس والأبدان. [وبث فيها]: نشر من الأبدان؛ [من كل دابة]: أسرارها التي تسير بحقائقها إلى ربها على طرق مختلفة؛ [وتصريف الرياح]: وهي جريان رياح الأحوال، بما يوافق أو يخالف؛ [والسحاب]: أي وتصريف السحاب، وهو ما يحجب النور عن الظهور أحيانا؛ [المسخر]: لا يخرج عما جُعل له؛ [بين السماء والأرض]: بين سماء الربوبية وأرض العبودية؛ بما يعطي تارة انحجابا وتارة شهودا أو إيمانا؛ [لآيات]: لدلائل على الحق، لا على سواه؛ [لقوم]: مخصوصين؛ [يعقلون]: عن ربهم خطابه لهم بالآيات، فيزدادون بجنابه معرفة ومن حضرته قربا. 165. { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ }: [ومن الناس]: فئة منهم؛ [من يتخذ من دون الله]: يجعل من الصور العدمية المشهودة له؛ [أندادا]: مساوين للحق في الوجود؛ [يحبونهم]: ينجذبون إليهم؛ [كحب الله]: لأنهم لا يفقدونه من أنفسهم، من وجه حقيقتهم، وإن غفلوا عنه من حيث نظر عقولهم؛ [والذين آمنوا]: أن الوجود لله وحده لا شريك له فيه؛ [أشد حبا لله]: يحبون الله حبا أشد من السابقين، لأن حبهم مجموع غير منقسم. [ولو يرى الذين ظلموا]: ممن يتخذون لله أندادا؛ [إذ يرون العذاب]: الناتج عن البعد الذي هم فيه؛ [أن القوة]: في الحب؛ [لله جميعا]: لأنه لا موجود معه سبحانه حتى يُحب؛ [وأن الله شديد العذاب]: على قدر تلك القوة إذا لم يتصف بها العبد. وهذا الأمر يذوقه المريدون في الطريق، ويكون سببا لتجاوزهم لكل العوائق التي يمكن أن تعترضهم فيه. 166. { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ }: [إذ تبرأ الذين اتُّبعوا]: من الصور العدمية، بلسان حالها ومقالها؛ [من الذين اتَّبعوا]: ممن تعلق بهم؛ [ورأوا العذاب]: أي الذين اتَّبعوا؛ [وتقطعت بهم الأسباب]: وهي في الأصل مقطوعة، لكنهم كانوا يتوهمون؛ فكأنها تقطعت في الوقت الذي أبصروا فيه الحقيقة. 167. { وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ }: [وقال الذين اتبعوا]: وهم الظالمون؛ [لو أن لنا كرة]: لو لنا عودة إلى أول الأمر، بعد أن جربوا الغلط؛ [فنتبرأ منهم]: ممن جعلوهم أندادا لله في اعتبارهم؛ [كما تبرأوا منا]: بلسان حقيقتهم عند انكشاف الغطاء؛ [كذلك يريهم الله أعمالهم]: يريهم معاملتهم له سبحانه؛ [حسرات عليهم]: عندما يظهر لهم سوء ما كانوا عليه. [وما هم بخارجين من النار]: لأنها دارهم، ومددها من حالهم وأعمالهم. 168. { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ }: [يا أيها الناس]: الخطاب لجميع مراتب المكلفين؛ [كلوا]: انتفعوا؛ [مما في الأرض]: والمقصود منها الأبدان؛ وذلك لأن الأبدان وسيلة إلى تحصيل كثير من الخيرات، لا تحصل إلا بها. هذا، حتى لا يقول قوم بالتروحن الذي يكون سببا في الحرمان؛ بل التروحن من منطلق اللفظ هو إكساب البدن قوى الروح، وليس إسقاطه من الحساب. [حلالا]: مما يحل لكم بحسب الشرع؛ [طيبا]: لا تخافون أن يعود عليكم بما يُذم. [ولا تتبعوا خطوات الشيطان]: في استعمالكم لأبدانكم؛ لأن الشيطان يريد أن يفسد عليكم مآخذكم، فيسبقكم في الطريق الذي تأخذون منه، حتى يكون أخذكم عنه لا عن ربكم. [فاحذروا]. إنه: من حيث حقيقته؛ [لكم]: جميعا من دون تخصيص؛ [عدو]: يريد هلاككم بكل الوسائل والأسباب؛ [مبين]: لا يخفي عداوته لكم، ولكنكم أنتم من تركنون إليه؛ لذلك قال فيما حكى القرآن عنه: { فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ } [إبراهيم: 22]. 169. { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }: [إنما يأمركم بالسوء]: وهو سوء معاملتكم ربكم بما لا يليق بالجناب الأعز؛ [والفحشاء]: وهو إبداء ذلك لغيركم إمعانا في الجرأة على ربكم؛ لأنكم لو تركتم الأمر بينكم وبين ربكم، فإنه سيكون أخف في الحكم؛ [وأن تقولوا على الله]: ويأمركم أن تتكلموا عن الله ذاتا وصفات وأفعالا؛ [ما لا تعلمون]: أنه حق؛ فتتكلمون بالأهواء والظنون في الله، فتهلكون أنفسكم بأسرع طريق. وأغلب من يقع منهم هذا أصحاب العقائد الفكرية. وقوله سبحانه: يأمركم؛ يدل على أن الشيطان يتسلط على من لم يكن معصوما منه؛ حتى يبلغ به الأمر منه أن يأمره فينصاع. ولو تتبع المرء أفعال العباد، لرأى من هذا الأمر العجب. كل ذلك، والناس غافلون عما هم فيه. 170. { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ }: [وإذا قيل لهم]: إذا قيل لهؤلاء الذين يتبعون الشيطان؛ [اتبعوا ما أنزل الله]: من أمر يُبلّغكم رشدكم؛ [قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا]: كل هذا لأنهم كارهون للحق؛ فهم يفرون من كون إلى كون؛ هذا أهون عليهم من أن يتوجهوا إلى الله ربهم ورب الكون؛ والمقصود بالآباء، الأجيال السابقة لهم في الغفلة؛ [أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا]: من الحقائق الإلهية التي ينبني عليها الكون؛ ولا يهتدون في أنفسهم؟ فكيف سيكون الجاهل الذي لا يهتدي إماما يُقتدى به عند أي عاقل؟! ولو تتبعنا تأثير الآباء (السلف) في الأبناء من حيث العقائد، لوجدنا العجب. وقد يظن بعض الأبناء أنهم معذورون في الأخذ عن الآباء، بل ويجعلون ذلك من صميم الدين؛ والحقيقة أن العبد ينبغي أن يأخذ عن ربه وحده، حتى يضمن السلامة لنفسه من الضلال. 171. { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ }: [ومثل الذين كفروا]: يضرب الله مثلا للذين كفروا مع الوحي الإلهي؛ [كمثل الذي ينعق]: النعيق دعاء الراعي الشاء؛ والكافرون على هذا، الوحيُ عندهم أصوات مسموعة، أو حروف مقروءة؛ [بما لا يسمع]: وهي الدواب؛ [إلا دعاء ونداء]: صوتا تعرف منه معنى بسيطا تفهم منه الإقبال أو الإدبار فحسب. [صم]: الكافرون على هذا، صم لا يسمعون؛ [بكم]: لا ينطقون فيعربون؛ [عمي]: لا يبصرون تجليات الحق في كل صورة كونية؛ وبالتبع [فهم لا يعقلون]: لأن العقل يستمد إدراكه من الحواس الظاهرة، وأرواحها الباطنة. ونجد الله هنا قد حكم بعدم وجود الحواس الظاهرة، التي لا شك هي سليمة عند الكافرين، بسبب فقد روح تلك الحواس لديهم. 172. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }: [يا أيها الذين آمنوا]: في مقابل الذين كفروا السابقين؛ والمقصود بالإيمان هنا، الإيمان بالوحي، وفهم خطابه المفضي إلى قراءة الكتاب الوجودي؛ [كلوا]: تغذّوا غذاء روحيا باقيا؛ [من طيبات]: هي طيبات لأنها غير مشوبة بسوء النفس، ما لم تمر عبر غربال الفكر؛ [ما رزقناكم]: مما يناسب إدراكاتكم؛ فمن رزق مسموع إلى مبصَر إلى معقول؛ [واشكروا لله]: الذي أمدكم بما تقومون به جسما وروحا؛ [إن كنتم إياه تعبدون]: إن كنتم ممن رقى إلى مستوى عبادته سبحانه، لا عبادة هواه، ممن لا يعقلون سوى ما يوافق أغراضهم السفلية. 173. { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }: لما تكلم الله عن الأرزاق، بين سبحانه أنه لم يحلّها كلها، حتى لا يأخذها العبد من غير تثبت؛ [إنما حرم عليكم]: فحرم بعض الأرزاق منها: [الميتة]: وهي الكلام الذي لا يرجع به صاحبه إلى الله. والكلام الميت يثمر موت القلوب، إذا بلغ بها الأمر العمى التام. وشرع الله إنما جاء لحياة القلوب لا لموتها. [والدم]: وهو ما به حياة الغير؛ وقد هلك من هذا الباب خلق كثير، يأخذون كلاما مما يناسب مقاما مخصوصا، ويعملون به بحسب إدراكهم فيه، فيهلكون بلا ريب؛ [ولحم الخنزير]: اللحم في اللغة لب الشيء، والخنزرة الغِلَظ؛ فيكون لحم الخنزير الفهومَ التي تصدر عن العقول الكثيفة الكليلة، كما يحدث مع بعض السفهاء الذين يتكلمون في التوحيد؛ [وما أهل به لغير الله]: وهو ما قصد به غير الله من قول، لأن غايته العدم. [فمن اضطر]: إلى أخذ شيء مما سبق ذكره لسبب معتبر؛ [غير باغ]: من دون أن يتجاوز الحد فيه أو يعدو على ما ليس له؛ [فلا إثم عليه]: فلا لوم عليه؛ بسبب تعرض المرء لمثل ذلك في عمره ولو لمرات معدودة. وهو من التيسير المقصود للشارع. [إن الله]: من حيث عموم الأسماء؛ [غفور]: بحقيقته لكل شيء؛ [رحيم]: رحمة خاصة بمن تحرى مواضع رضاه سبحانه. 174. { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }: [إن الذين يكتمون]: الذين يسترون في أنفسهم؛ [ما أنزل الله]: فيها؛ [من الكتاب]: من الحق؛ [ويشترون به]: يفعلون ذلك من أجل نيل غرض؛ [ثمنا قليلا]: فانيا؛ [أولئك]: للبعد والطرد؛ [ما يأكلون في بطونهم]: لا ينالون في بواطنهم، بتحريف أمر الله فيما يؤكل ولا يؤكل؛ [إلا النار]: التي تنشأ من مخالفة الأمر، فيخالف الله بهم بقلب نورهم نارا؛ و[لا يكلمهم الله]: من المرتبة؛ [يوم القيامة]: يوم يقوم الحق من غيرهم. وعدم كلامه سبحانه لهم، هو جزاء لعدم سمعهم منه فيما قبل. [ولا يزكيهم]: لا يغلِّب نورهم على ظلمتهم؛ وهو جزاء لعدم إبصارهم الحق فيما قبل. [ولهم]: من حيث الغيبة عن الحق؛ [عذاب أليم]: مرارة من عاقبة ما كانوا عليه، يجدون ألما منها لمخالفتها أغراضهم، كما خالفوا الأمر. 175. { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ }: [أولئك الذين اشتروا الضلالة]: جعلوها مطلبا لهم؛ [بالهدى]: مع زهدهم في الهدى؛ [والعذاب]: وجعلوا الإقامة في الحجاب مرادا؛ [بالمغفرة]: وزهدوا في ستر الحق لظلمتهم بنوره. فكل أمورهم مخالفة لأغراضهم الحقيقية. [فما أصبرهم]: أي ما أشد صبرهم؛ [على النار]: التي هم أهلها. وصبرهم عليها هو بالله، لكنهم لا يعلمون. ولو أن غيرهم حل محلهم، لما أطاق ما يطيقون. فهذا من التنبيه لأهل النار إلى باطن حالهم، عسى أن يعرفوا الله في النار، بعد أن جهلوه خارجها. 176. { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ }: [ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق]: تنزيل الكتاب، هو تجلي الذات بالصفات؛ والتنزيل بالحق، هو تجلي الحق في ذلك بالحق؛ حتى يرتفع وهم المغايرة الشركية. [وإن الذين اختلفوا في الكتاب]: منهم من قال هو الحق، ومنهم من قال هو غيره؛ ولا يكون الاختلاف إلا من أهل العقائد؛ [لفي شقاق]: لفي افتراق حتما؛ [بعيد]: لأنهم أخطأوا الطريق فضلوا. 177. { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }: [ليس البر]: البر هو الصلاح؛ [أن تولوا وجوهكم]: أن تتوجهوا بقلوبكم؛ [قبل المشرق والمغرب]: قِبل المظاهر، مما هو متحقق النسبة الإلهية، ومما هو ملعون في الشرع؛ هذا متصل ببعد الشقاق المذكور في الآية السابقة من وجه آخر؛ [ولكن البر من آمن بالله]: من كونه سبحانه المتجلي في جميع المظاهر؛ [واليوم الآخر]: وهو التجلي الثاني الذي فيه تقوم قيامة العبد؛ [والملائكة]: من كونها قوى روحانية علوية هم الواسطة بين الظاهر والمظهر حكما لا عينا؛ [والكتاب]: الجامع للكلمات العلوية؛ [والنبيين]: من المظاهر الآدمية الخلافية المخبرة بالوحي الإلهي؛ [وآتى المال على حبه]: المال هو ما يملكه العبد من كل شيء، وعلى رأسه العلم؛ وإتيانه، بذله للغير لوجه الله؛ لأن من آمن، أي شاهد مشاهدة إجمال من وراء حجاب، لا يجد حرجا كبيرا في نقل الملكية منه إلى غيره، ما دام النقل هو من الله وإليه. والحب المذكور هنا، والذي هو الحب بين المالك والمِلك، هو فرع من محبة الله لعباده من حيث هم عباده؛ وإن كان لا يعلمه كل أحد. [ذوي القربى]: ذوي القرابة الإلهية؛ وهذه القرابة لا يخرج عنها أحد في الحقيقة، رغم تفاوت مراتبها ؛ [واليتامى]: وهم من لم يجدوا من يأخذ بأيديهم إلى الله؛ [والمساكين]: المفتقرين إلى الأسباب دون المسبب؛ [وابن السبيل]: السالك طريق ربه؛ [والسائلين]: عن ربهم أو عما يوصل إليه سبحانه؛ [وفي الرقاب]: وهم أسارى العادات؛ [وأقام الصلاة]: وكان ممن يسلك الطريق بنفسه على سبيل الذوق؛ [وآتى الزكاة]: لنفسه بالأعمال الشرعية ظاهرا وباطنا؛ [والموفون بعهدهم إذا عاهدوا]: فكثرهم الله في الذكر بعد أن كان الكلام مفردا، بسبب علو قدرهم وإن كانوا قلة. والعهد هنا هو العهد الأزلي بعبادة الله وحده على الشهود. [والصابرين في البأساء والضراء]: وجاء بالنصب ليدل على انطراحهم تحت مجاري القضاء بالتسليم؛ [وحين البأس]: وهو القيام للتجلي الحقي؛ [أولئك الذين صدقوا]: صدقوا في معاملة ربهم بما أمر، وصدقوا في الوفاء بالعهد؛ [وأولئك هم المتقون]: الذين يتقون شرور أنفسهم بنور ربهم. 178. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ }: [يا أيها الذين آمنوا]: بالتحقق قبل حصوله؛ [كتب عليكم]: جعل لزاما عليكم من جهة الحقائق؛ [القصاص]: وهو القود؛ والمقصود البدل عن النفس، يؤخذ عوضا عنها؛ [في القتلى]: الذين قتلهم التجلي بإذهاب نفوسهم؛ [الحر]: وهو صاحب الإطلاق؛ [بالحر]: بما يناسب إطلاقه؛ [والعبد]: صاحب التقييد؛ [بالعبد]: بما يناسب مقامه؛ [والأنثى]: وهي النفس التي كانت تحت حكم شيخ؛ [بالأنثى]: بما يناسبها؛ [فمن عفي له]: أي من ستر حكمه؛ [من أخيه]: الرباني؛ [شيء]: من الأحكام؛ [فاتباع بالمعروف]: على هذا الصنف، أن يتبع حكم سره بما يوافق الأحكام الشرعية؛ [وأداء إليه]: وفاء بمقامه؛ [بإحسان]: بإجادة في الأداء. [ذلك تخفيف]: بجعل حقيقة العبد تابعة في الحكم للسر؛ [من ربكم]: حتى لا تطالَبوا بإثبات أنفسكم، فيشق ذلك عليكم؛ [ورحمة]: بكم أن تتكلفوا وجودكم. [فمن اعتدى بعد ذلك]: بالرجوع إلى حكم النفس؛ [فله]: من غيبه؛ [عذاب أليم]: على قدر عدوانه. 179. { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }: [ولكم]: أيها القتلى؛ [في القصاص]: في السر الحالّ محل النفس؛ [حياة]: حقيقية بدل المجازية؛ [يا أولي الألباب]: الذين صار لهم حكم اللب بعد أن كانوا في حكم القشر؛ [لعلكم تتقون]: وهمكم بالحق. 180. { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ }: [كتب عليكم]: صار لزاما عليكم؛ [إذا حضر أحدكم الموت]: إذا قدِم أحدكم إلى الموت في الحق؛ [إن ترك خيرا]: إن كان ممن يواظب على فعل الخير بالنفس؛ [الوصية]: أن يوصى ببقاء جريان ذلك عند الله، حال فقد نسبة نفسه؛ [للوالدين]: قلبا وجسدا، حتى لا ينقطع الوارد عنهما؛ [والأقربين]: من القوى المتوسطة بينهما؛ [بالمعروف]: على أحسن ما يكون إثبات الأعمال؛ [حقا]: من الحق؛ [على المتقين]: أي لهم. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.