اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]() «السابقالتالي»
2025/08/03 الإنسان القرآن (مقدمة في تفسير القرآن الكريــم) .28 الباب الثاني: العلوم المتعلّقة بالقرآن الفصل الثاني عشر: المنطق العقلي في القرآن
بما أن القرآن جامع بجمعيته، لكل صنوف الخطاب، ومتضمّن في آياته ما هو عائد إلى الله وجميع أسمائه من الاسم "المتكلّم"، ومتضمّن لما هو في أصله من أقوال العباد بحسب العرف، فإنه كان لا بد من مخاطبة العباد ولو في شطر من الخطاب، بما يعرفونه من قواعد الكلام لديهم، ومن ذلك، المنطق العقلي الذي به تكون البرهنة في المستوى العام... ونحن عند تتبعنا للبرهان في القرآن، لن نكون كأولئك الذين ظنّوا أن الله يُحيلهم في جميع كلامه إلى ذلك البرهان؛ وإن كانوا قد أقرّوا أن العقل ليس له الحكم في المغيّبات. وهذا، لأن العقل إذا اعتاد منطق البرهان، وأتقنه، فربما يصير مدمنا عليه من دون أن يدري؛ خصوصا إن وجد للبرهنة العقلية بعض المستخلصات المندرجة في العلم الدّينيّ. والذي يؤكّد مجاوزة كثيرين للحد المقبول من اعتبار المنطق العقلي نفسه، هو تقيّد إدراكهم فيه، حتى فيما لم يعدّوه من المغيّبات، وذلك كما يحدث لهم عند دخولهم في مجال ما يدخل ضمن العقائد من مسائل: كشؤون الذات من صفات وأفعال؛ وكالنبوة ودلائلها، دخولا متجاوِزاً للحدود؛ حتى صار الدين عند بعض الفرق عقليّا صرفا، أو يكاد. ومن هنا يظهر أن السبب الرئيس في اختلاف العقائد من حيث وسيلة النظر فيها، هو اختلاف العقول ذاتها، فيما بينها. ورغم أن هذا الملحظ أجلى في النظر من أن يُتكلّف له التأصيل؛ فإن الناس يكادون لا يعتبرونه في هذا المجال (مجال العقائد)، فينتج عن عدم الاعتبار هذا، نتائج خطيرة، على الرأس منها: عدم استيعاب المخالفين في جزئيات العقائد، التي لم يكلّف الله عباده الخوض فيها. وهو -كما لا يخفى- ما أفضى إلى كثير من الحروب ومن الاقتتال، الذي كان الناس في غنى عنه، لولا أن للقدر حكما آخر في المسألة... وإن كان الميْل عن الحق، عند الأولين محصورا جزئيا، فإنه عند الآخرين صار مخالِفا لأصل صفة إلهيّة القرآن ذاتها؛ وذلك عندما اختلطت مناهج المسلمين في أعين الدارسين المتأخرين، بمناهج الكافرين، مما هو معتمد في دراسة النصوص كالفيلولوجيا والهيرمينوطيقا وغيرهما... فخرج من بين المسلمين (زعما)، من لم يتردّد في القول بكون القرآن وليد زمان مخصوص، وبيئة ثقافية مخصوصة؛ وهو ما أدى بهم إلى القول بخلق القرآن، من وجه جديد وأشدّ سوءا من الخلق الذي قالت به المعتزلة ومن تابعوهم في السابق. وهذا، لأن هذا المعنى الثاني، يجعل من القرآن كتابا "ألّفه محمد" صلى الله عليه وآله وسلم، أو أُلِّف له، أو غير ذلك من المقولات الضلالية الكفريّة التي أنكرها القرآن نفسه من الأصل. ولقد كان من بين هؤلاء المفتونين المرتدّين (باعتبار أنهم كانوا على إسلام وراثي سقيم)، من المتأخرين، أمثال نصر حامد أبي زيد، الذي حكمت المحكمة المصرية (مـُحِقَّةً غيرَ مـُبطِلة) بكفره وتطليق زوجه منه؛ وكان منهم حسن حنفي، الذي أقر بأنه لو صرّح بمعتقده، لما خالف ما أعلنه نصر أبو زيد؛ وكان منهم أيضا محمد أركون، الذي عامل القرآن، كما تُعامل الكتب التي أنتجها البشر. وقبل هؤلاء أو معهم أمثال طه حسين الذي دخل إلى التشكيك في الوحي من باب اللغة، التي توهّم أنه قد أمسك بتلابيبها، حتى أذعنت له تعابيرها وتراكيبها، مجازا وحقيقة؛ وهيهات، هيهات!... فإن اللغة العربية وحدها، وبعيدا عن الوحي، لا تنقاد إن انقادت لأحد إلا جزئيّا، لسعتها ألفاظا، وبعد غورها معاني؛ حتى لقد أعيت من طمع في الريادة فيها، من المتقدّمين كما من المتأخرين. ولا شك أن لهؤلاء الضالّين، تلاميذ قد أخذوا عنهم ضلالهم، ودلّتهم عليه شياطينهم، فظنوا أنهم بذلك قد ظفروا من أسباب التشكيك في الوحي، بما لم يظفر به الأوّلون؛ بل نحن على يقين من أنّ غالبية طلبة الفلسفة، لا يكونون إلا على هذا الكفر المكسوّ زورا بكسوة العقلانية و"العلميّة"، مع أن ذلك منهم، لا يكون إلا من مرتبة العوامّ حصرا؛ وهو ما ينزع عنهم صفة أهلية النظر في مثل هذه الأمور؛ ولكنها طريقة التعليم "العصرية"، التي أطمعت فيما كان بعيدا عن تطلّع فحول النّظّار من القرون السالفة. بل إن الأمر -خصوصا مع عدم تمحيص المصطلحات والإطلاقات- قد بلغ مبلغا أحطّ من كلّ ما ذكرنا، عندما ينسب أصحابه كل شيء مما هو منسوب في الأصل إلى الحق أو إلى الخلق، إلى الفكر وحده؛ معلنين بهذا، أن كل شيء هو متولِّد للعقل، الذي أحلّوه منزلة الربّ من غير تحقيق. ونذكر هنا، أننا كنا مرة، في حوار مع أحد من درسوا الفلسفة في الجامعة، وفي أثناء حديثه، وهو يتكلّم عن الله، قال لي: "فكرة الله"، وهو ما لا يزال يتكرّر إلى الآن على ألسنة أشباه المثقفين، وكأنه العلم اليقين!... فأوقفته فورا، لعدم إقراري له بصحة إطلاقه، ولكنه -على عادة من هذه صفتهم- أراد أن يُواصل الكلام من باب العناد؛ وكأن الأمر يحتاج إلى مزيد توضيح فحسب، أو ربما قد كان ذلك تقليلا من شأني، أنا الذي لم تخطُ قدماي داخل حرم جامعيّ قط؛ لولا أن أخا له، كان واقفا بجانبنا يتابع الحوار، نهره وطلب منه السكوت، حتى يتمكن من إدراك مرماي. فذكرت له أن الله ليس فكرة، ولدتها العقول الناظرة، بل هو الحق الذي خلق العقول، وخلق للعقول منطقا تسير عليه، وخلق مناطق (ج. منطق) تحيد إليها، إما بحقّ أو بباطل؛ وخلق نظر الناظرين، الذي يتوهّمون أنهم مستقلّون به!... فسكت الجميع، من دون أن يُقرّوا لي بشيء؛ ولكنني لا أشك أنهم قد آووا إلى بيوتهم تلك الليلة، وقد اختلت لديهم بعض ركائز "العلمانية" التي يعتنقونها بغير علم... وأول ما ينبغي أن يُعتبر في هذه المسألة، هو أن الفلسفة بكل سردياتها وأنساقها، عاجزة عن الحوْمِ حول حمى الحقيقة، وإن بدت في نظر القاصرين أنها أحق بها وأولى. يشهد على ما نقول، كلّ تاريخها، وكل مزاعم أهلها التي ما تلبث أن تتهاوى عند النقد الجاد!... وعلى هذا، وخصوصا عندما ينطلق المؤمن من القرآن، فإنه عليه أن يخلع كلّ ما كُبَّ في ذهنه من نفايات عقلية بشرية، وهذا يتطلّب منّا التركيز على نقاط بعينها:
ا. أن الملاحظة الحسيّة، لا سبيل إلى إنكارها في نفسها؛ وذلك لأن الحواس، لا تكذب العقل شيئا؛ إنما العقل، هو من قد يُخالف أصول عقلانيته، عند عدم ضبطه لاستنتاجاته. وهنا ينبغي أن نقرّر -من دون أدنى وجل- أن ملاحظة قرب الإنسان من جهة جسمه، ومن جهة مراتب نفسه، فيما دون النفس الإنسانية (النفس الناطقة)، من الحيوان، كانت في محلّها؛ ولكن القفز إلى القول، بأن الإنسان متفرّع في خلقه عن القرد، هو تهافت ونزق فكري، لا يليق بمن ادّعى "العلمية" أو "العلومية"، أن يكون عليهما... ب. إن داروين في كتبه الثلاثة، التي جعل عنوان أوّليْها: "أصل الأنواع"، وجعل عنوان آخرها: "التعبير عن الانفعالات في الإنسان والحيوانات"؛ كان قد عثر على بعض المشتركات بين الإنسان والحيوان، ولكنه لم يُمحّصها، وبالتالي فقد عادت عليه تلك المشتركات سببا في الخلط واللبس، اللذيْن جعلهما أساسا لنظرية "التطور"، بقصد ضرب الدين (اليهودي النصراني) في مقتل؛ بالتدريج، على عادة أئمة الضلال، لا دفعة واحدة. وأما الدين الحق، فإنه من دون شك سيبقى خارج متناول سهام داروين وأشباهه، بما لا يُدرك لهم البتة!... ولا بد هنا من ردّ مقتضب على عناوين الأبواب الأولى، للجزء الأول من كتاب "أصل الأنواع"، لإعانة القارئ على تمييز بعض الأصول: = الباب الأول: التمايز تحت تأثير التدجين. ويتناول فيه الأجزاء الخِلقيّة المشتركة بين بعض أنواع الحيوانات، والبحث في استعمال بعضها لتلك الأجزاء، في مقابل عدم استعمالها من قِبل أنواع أخرى أو أفراد أخرى. وسيعمل في أثناء استنتاجه، على إبراز بعض ما سيجعله أصولا في نظريته، كـ: = الباب الثاني: التمايز تحت تأثير الطبيعة. وهو هنا يبغي أن يجعل الطبيعة أصلا جامعا، بعيدا عن الألوهية والربوبية. وهو ما سيؤسّس للقول بألوهية الطبيعة، لكن بالفرار من مصطلح "الألوهية" نفسه؛ وهذا حتى تصلح الطبيعة للحلول محلّ الله في نظر العقول القاصرة، ولو من دون تمحيص... = الباب الثالث: التنازع من أجل البقاء. وهذا من باب استكمال أركان نظريته: فهو عندما سينسب الخلق (ولو بطريقة متدرّجة) إلى الطبيعة، فإنه لا يريد من ذلك أن يُثبت لها الفعل من دون الله وحدها؛ وإنما يتعدّى هذا المستوى، لنفي الفعل عن المخلوقين أيضا. فلم يجد من سند لفعل المخلوقات إلا نزوعها نحو الإبقاء على أجسامها بغريزتها. لكنه سينسب وجود الغريزة في الأنواع، إلى نزوع ذاتي (أوتوماتيّ)؛ أي من ذوات المخلوقات نفسها، وبطريقة لا مدخل لغيرها فيها. ورغم أن الجانب المعرفيّ المتعلّق بالحق والحقيقة، له من الأصول ما تستند إليه المخلوقات في غرائزها، إلا أن هذه الأصول تبقى خارج متناول إدراك داروين وأمثاله، من دون شك. وسيبقى هؤلاء المنظّرون من سفهاء البشرية، سائرين بما يُسمّونه زورا "علما"، نحو الإلحاد بمعناه المعاصر الخاطئ، والذي يقوم على إنكار وجود الحق (الله). وما علم المساكين، أنهم لا يُميّزون في المنطلَق، بين مرتبتَيْ الوجود والإمكان؛ أي: بين وجود الحق، وإمكان المخلوقات. وهو ما يهدم كلّ التنظيرات المتهافتة التي انطلقت من الداروينية فيما بعد، ولم تتوقّف على بدوّ سقمها إلى الآن. وهذا الذي نقوله هنا، يجعل أهل الدين الحق من المسلمين، غير معنيّين بكل هذه الأضاليل؛ لولا أن طائفة منهم، عندما فقدت الإيمان، أو ضعف عندها إلى مستوى دون الحدّ الأدنى اللازم، قد أخذهم بريق التنظيرات السقيمة إلى طريق الضلال، وهم يظنّون أنهم قد فازوا بما لم يفز به من العقلانية أسلافهم الذين كانوا على كل حال خيرا منهم. وعندما أُصيب بعض هذه الطائفة المنهزمة بالضعف الإيمانيّ، بتأثير تقليد أئمة الضلال، زيادة على ضعفهم الأصلي، فإنهم قد فسقوا تبعا لذلك عن الدين، إما بالكليّة وإما جزئيا. ونحن سنترك الحكم بأحد الأمريْن لهم، لا لنا؛ وهذا حتى لا نكفّر من لا يُقرّ على نفسه بالكفر، وإن كنّا نعرف منهم جماعة، لا نشكّ في ضلالهم الضلال الأكبر. ومن علامات هذا الضلال عند أولئك النفر، اضطرارهم إلى القول بإيمان اليهود والنصارى، ما داموا يعتقدون لبعض عقائدهم العامة. وهذا الفعل منهم، هو من الإقرار على أنفسهم بالكفر، الذي لا يقبلونه لو سمعوه من أحد محاوِريهم. كيف لا يكونون كافرين، وهم يعتقدون خلاف ما أخبر الله به في محكم آياته. يقول الله تعالى: {مَّا یَوَدُّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ وَلَا ٱلۡمُشۡرِكِینَ أَن یُنَزَّلَ عَلَیۡكُم مِّنۡ خَیۡرٍ مِّن رَّبِّكُمۡۚ وَٱللَّهُ یَخۡتَصُّ بِرَحۡمَتِهِۦ مَن یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِیمِ} [البقرة: 105]؛ معنى حرف الجر "مِنْ" الذي يسبق ذكر أهل الكتاب والمشركين، هو للتقسيم في أصل الكفر، لا للتبعيض. فيكون المعنى: [ما يود الذين كفروا الذين هم أهل الكتاب والمشركون، أن يُنزّل عليكم من خير من ربّكم.]. وليس المعنى: [ما يودّ بعض الكافرين من أهل الكتاب، وبعض الكافرين من المشركين]، لأن الأصل في الفريقيْن الكفر لا الإيمان؛ وحتى من رام الشكّ في إيمان أهل الكتاب، فإنه لن يتمكن من ذلك الشك بالنظر إلى المشركين، لكونهم جميعا كافرين بالأصالة. ويلخص هذا المعنى قول الله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ وَٱلۡمُشۡرِكِینَ فِی نَارِ جَهَنَّمَ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمۡ شَرُّ ٱلۡبَرِیَّةِ} [البيّنة: 6]، والمعنى هو أن الذين كفروا بقِسميْهم: أهل الكتاب والمشركين، في نار جهنّم. والنار، كما هو معلوم، لا يدخلها على هيئة الخلود فيها، إلا الكافرون، من ذوي الكفر الأكبر. ولن ينفع، في تبديل هذا الحكم، توهّم إسلام، لدى قوم كانوا في أصلهم من أمة الإسلام. فليحذر الناس على أنفسهم، قبل أن يُناقَشوا الحساب!... = الباب الرابع: الانتقاء الطبيعي أو البقاء للأصلح. ولقد رام داروين بهذا التنظير الفاسد، أن يجعل موت الأجسام الحيّة حياة طبيعية، مع بقاء أجسام أخرى من النوع ذاته، عائدا إلى انتخاب طبيعي، يفوز فيه الأصلح من جهة شروط استمرار الحياة، على من فقدها كلاًّ أو بعضا. وهذا، كما سبق أن ذكرنا، يؤسّس لإضفاء صفة الألوهية على الطبيعة، التي هي معنى كلّي، قد لا يعرفه داروين في بعض مظاهره. وأما من وجد أن الألوهية نفسها، هي معنى كلّي، كما قد يتوهّم بعض أهل اللاهوت من النصارى خصوصا، فليعلم أنه مخطئ للطريق. وتمام جهل داروين، يظهر بعدم إدراكه لحقيقة الموت، وذلك لأن الأجسام الطبيعية عندما تموت، فإنها تنتقل بحقيقتها من هذا العالم الأسفل، إلى عالم آخر فحسب. وهذا يعني أنها باقية، وإنْ حكم عقل داروين عليها بعدم البقاء، الذي لا يميّز معناه على كل حال... = الباب الخامس: قوانين التمايز. وهو تفصيل لما أسّسه في البابيْن الأول والثاني... = الباب السادس: الصعوبات الخاصة بالنّظريّة. وضمن هذا الباب، ينبغي أن يُنظر إلى الدين مع هذه النظرية. وأما داروين نفسه، فإنه بقي متذبذبا بين ما يُسمّيه النصارى إيمانا دينيّا، من غير أن يعلموا له حقيقة، وما يُسمّيه بعض المفكرين "اللاأدرية"؛ ويقصدون بهذا المصطلح عدم القطع بإيمان ولا بكفر. وهذا لا يصحّ من جهة الثبات على حكم ولا بدّ، وإنما يصح من جهة التردد بين حكمَيِ الإيمان والكفر في أوقات مختلفة. وأما داروين، كأضرابه من المفكرين، فإنه لم يكن قادرا على إنكار الخالق، لسببيْن: الأول: حتى لا يقوم عليه قومه، فلا يقدر على الثبات لهم من هذا الوجه. الثاني: حتى لا ينهار عليه تنظيره، إن ثبت قيام الخلق بالله، بطريقة ما، لم يكن يعلمها. والأمران معا، يدلان على أن داروين كان يؤسّس لأيديولوجيا، يروم بها استتباع أكثر عدد من الناس، من دون أن يُعرّض نفسه لأذاهم. وقد تمّ له ولإمامه إبليس قدر كبير مما تطلعا إليه، ويكفي أن يُعدّ بعض المفكرين من أبناء المسلمين من أنصار نظريته المتهافتة؛ حتى لقد مرّ بنا وقت، لم يكن أحد من أهل الدين يجرؤ على التشكيك فيها، على ما بها من ضعف شديد... وقد بلغ من سوء حال المسلمين مع هذه النظريّة، أن صارت تُدرّس في المدارس العمومية، بصفتها يقينيّة لا يتطرّق إليها الشك!... ولنحجم عن تتبع كل أبواب كتاب داروين، فإننا ما جئنا بهذا القدر منه، إلا للدلالة على سخفه!... لكنّنا قبل أن نمضي، لا بدّ من أن نؤكّد على أن العقل السليم لا يشك في ضرورة استناد الخلق إلى خالقهم، عند تمييزه لمرتبة إمكانهم، التي لا يتوقّف فيها إلا سفيه ينبغي أن يُمنع من الخوض في مثل هذه الأمور. وأما من جعل الاستناد إلى الطبيعة، فإنه يتوجّب عليه تعريفها؛ فإن جعلها ذاتا، متصفة بالوجود الحقّ، عرفنا أن الالتباس داخل عليه من جهة الاسم فحسب؛ وأما إن جعلها معنى كلّيا مستخلصا من النظر إلى الأجسام الطبيعية كلها (على ما بذلك النظر من قصور)، فإنه يكون مطالبا بأن يجد للطبيعة مستنَدا وجوديا (خالقا لها)، وإلا عاد إلى ما منه انطلق من الإمكان العقلي الذي لا يُنتج طمأنينة للناظر. وكل هذا الذي نذكره، هو من الواضحات التي ينبغي للناظرين مجاوزتها بأقل إشارة؛ وأما من يجد نفسه محتاجا إلى مزيد شرح وتأكيد، فليعلم أنه من العوام الذين يظلمون أنفسهم بالدخول فيما لا مدخل لهم فيه!...
وما ينبغي أن نخلص إليه هنا، هو أن خلق العقل للأشياء، لا يصحّ إلا في باب الخيال (المنفصل)؛ ومع هذا، فإن هذا الفعل منه سيكون فعلا من الله بالأصالة، كما يدلّ عليه قول الله تعالى: {وَٱللَّهُ خَلَقَكُمۡ وَمَا تَعۡمَلُونَ} [الصافات: 96]؛ لكنه يكون من الإضلال، والله يُضلّ من يشاء كما يشاء سبحانه. وعلى كل حال، فإن أصحاب القول بخلق العقل لما هو أعلى منه مرتبة (كالوحي مثلا)، لا يدلّ قولهم إلا على اختلاط الأمور عليهم؛ وهو ما يُقصيهم في النهاية عن الأهلية للنظر. وإن هذه الأهلية تثبت بنفسها (بإثبات الله لها من وراء الغيب)، ولا تثبت بتواطؤ القائلين؛ بعكس ما يظنّ الظانّون. ولولا أن الأمور على هذا الإحكام الإلهي، لضاعت معالم النظر إلى الأبد... فإن قيل: لا بد أن يكون من أصناف النظر ما ينطبق عليه هذا الضياع؛ قلنا: لسنا عن هذا المعنى الجزئيّ نتكلم؛ وإنما نعني ضياع كل النظر عند غياب المعالم. ونعني بكلامنا، أن الله قد حفظ على العقل منطقه، ولو قضى بضياع بعض المقولات؛ وهذا، ليدل سبحانه من جهة، على أن المنطق العقلي مترابط حيث كان، وعلى أن للأمور أصولا تُطلب عند الضرورة ليُراز بها. وهذا الأصل هو ما غاب عن العقول الملحدة (بالمعنى العصري)، وإلا لبقي الإيمان محفوظا عليها بانحفاظ بعض المنطق العقلي فحسب؛ بعد إذن الله لها، لا من عنديتها. وهذا يعني: أنه ما كل الناس يحفظون الترابط الموجود بين مختلف المناطق (ج. منطق) في الكلام الإلهي. وهذا يدل دلالة واضحة، من جهة أخرى، على أن العقل مخلوق لله؛ وإذا كان هو مخلوقا، فإن كل ما ينتج عنه هو مخلوق مثله. وهكذا، فإن الله من حيث هو الخالق، يبقى خارج دائرة العقل، أصلا وفرعا. وليس معنى دلالة العقل على وجود الله، أن يكون العقل فوق الله حكما، ولا معادلا له، كما قد يتوهّم ضعاف العقول؛ {سُبۡحَـٰنَهُۥ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا یَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِیرًا} [الإسراء: 43]...
- {لَوۡ كَانَ فِیهِمَاۤ ءَالِهَةٌ إِلَّا ٱللَّهُ لَفَسَدَتَاۚ} [الأنبياء: 22]: وضمير فيهما، يعود على السماوات والأرض؛ والمعنى أنه لو كانت الأفعال في السماوات والأرض لإلهيْن أو أكثر من دون الله، لانهار بناء العالم؛ وهذا للتنازع الحاصل بين الآلهة في الفعل الواحد. وهو ما يدل على أن بقاء العالم (الكون) وحده، يدلّ على أن الله واحد سبحانه... - {یَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ یَخۡطَفُ أَبۡصَـٰرَهُمۡۖ كُلَّمَاۤ أَضَاۤءَ لَهُم مَّشَوۡا۟ فِیهِ وَإِذَاۤ أَظۡلَمَ عَلَیۡهِمۡ قَامُوا۟ۚ وَلَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَـٰرِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءٍ قَدِیرٌ} [البقرة: 20]. والمقدمة الأولى هي أن الناس يبصرون البرق ويسمعون الرعد؛ والثانية، هي أن ذلك يثبت أحيانا وينتفي أحيانا أخرى؛ والنتيجة هي أن الله قادر على إذهاب سمع الناس وأبصارهم إذهابا تاما أو جزئيا؛ وقتيّا أو على الدوام؛ وهذا فرع من فروع تعلّق القدرة الإلهية بالمقدورات. وبما أن القدرة صفة إلهية مطلقة في نفسها (باعتبار الذات المتصفة بها)، فإن ثبوتها بخصوص هذا الفرع (السمع والإبصار)، يدل على ثبوتها فيما يعود إلى كل فروع تعلّقها منه، وهو ما يدل عليه قول الله سبحانه: {إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءٍ قَدِیرٌ}. و"كل" لفظ عام، يدل على قسمَيِ الإيجاد والإعدام، قبل أن يدل على فروع التعلّقات التابعة لكل قسم. وهذا باب نكتفي منه الآن بما ذكرنا، لأن التوسّع فيه يخرج عن إطاقة عموم السامعين... - {وَلِلَّهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُۚ فَأَیۡنَمَا تُوَلُّوا۟ فَثَمَّ وَجۡهُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ وَ ٰسِعٌ عَلِیمٌ} [البقرة: 115]؛ والمعنى هو أنه بما أن المشرق والمغرب معا لله، عملا بالأصل الذي أثبتناه آنفا من عدم وجود إله أو أكثر من دون الله؛ فإنه سيكون من معاني الشروق والغروب، وجود المخلوقات وانعدامها، في كل مرتبة بحسبها. وهذا، لأن الشروق، هو قابلية النور الإلهي فحسب، وأن الغروب هو عدم قبوله، في كل مرتبة بحسبها. وهذا المعنى هو ما يُشير إليه قول الله تعالى: {ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ} [النور: 35]؛ أي بنور اسمه "النور" تعالى، ظهر كل ما ظهر في السماوات والأرض، لا بنفسه. وعلى هذا، فإن كل ظاهر من المخلوقات، في جميع المراتب، هو مظهر للاسم الإلهي النور، قبل أن يكون مظهرا لاسم آخر، مما تشتمل عليه معانيه، التي تعود إلى الأسماء الإلهية التفصيلية بحسب خصوصيتها. فإن كان الأمر هكذا، فإن كل مظهر هو مظهر للظاهر الذي هو الله تعالى، كما أخبر سبحانه بقوله: {هُوَ ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡـَٔاخِرُ وَٱلظَّـٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُۖ} [الحديد: 3]. فإذا كان كل مظهر مظهرا لاسم من أسماء الله، إما جملة وإما تفصيلا (كصورة الإنسان وصور أعضائه وقواه مثلا)، فإن كل مظهر حينئذ سيصبح وجها لاسم مخصوص. فإن تحقّقت له الوجهية الفرعية، فإن تحقق الوجهية الكلية أولى وأسبق في الاعتبار. وهكذا، يكون كل مظهر في الوجود، من كل المراتب وجها لله، وإن كان هذا مما يخرج عن علم فقهاء الرسوم وأتباعهم. وبهذا المعنى تتحقق الكثرة للوجوه الإلهية، بحيث إن بعض الناس يكفرون بها جملة، كما يقع للأصناف التي ذكرنا؛ وبعضهم (وهم المؤمنون) يُثبتون بعضا ويكفرون ببعض؛ ولا يعرف الله في كل أوجهه، إلا من كمل له العلم بالله. وكل هذه العلوم، أثبتناها هنا بالمنطق العقلي، للدلالة على أن العقل في أصله، ما لم ينحرف، لا يدلّ إلا على ربّه؛ سواء علم الناظر أم لم يعلم. ونعني من هذا، أن المقولات الكفرية نفسها، إن كانت تنبني على حدّ أدنى من المنطق السليم، فإنها تكون مشتملة على علم صحيح، وإن لم يعلمه القائلون به، أو السامعون لهم. وهذا بحر من العلم لا ساحل له!... ومنه تكون الحجّة على القائلين، إن هم أُعلموا بمضامين كلامهم!... {قُلۡ فَلِلَّهِ ٱلۡحُجَّةُ ٱلۡبَـٰلِغَةُۖ فَلَوۡ شَاۤءَ لَهَدَىٰكُمۡ أَجۡمَعِینَ} [الأنعام: 149]... أي: لهداكم أجمعين إلى حقيقة أقوالكم، التي لا بد من أن تكون مستندة إلى وجه من وجوه الحق... ومن هذا الباب، ندعو المجادلين إلى التحرّز من مخالفة الحق، عند ردّهم للمقولات الباطلة من جميع وجوهها. وقد وقع في هذه الآفة، أصحاب "الكلام"، المجادلون في تفاصيل العقائد المختلفة بغير علم. ولا يغترّ أحد، بتزيين إبليس للمجادلين وتحميسهم؛ ولو كانوا على علم بقليل من تفاصيل معاملة اللعين، لشكّوا فيما يجدونه خفيفا على أنفسهم، أو يجدون له لذّة تبعثهم على التمادي فيه... - {فَوَیۡلٌ لِّلَّذِینَ یَكۡتُبُونَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِأَیۡدِیهِمۡ ثُمَّ یَقُولُونَ هَـٰذَا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ لِیَشۡتَرُوا۟ بِهِۦ ثَمَنًا قَلِیلًاۖ فَوَیۡلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتۡ أَیۡدِیهِمۡ وَوَیۡلٌ لَّهُم مِّمَّا یَكۡسِبُونَ} [البقرة: 79]. وإن المنطق العقلي في هذه الآية ومثيلاتها، مطلق ومقيّد: فالمطلق، هو ما يكون عن نسبة الأفعال كلها إلى الله، بما فيها تلك الصادرة عن المخلوقين. ونعني أنه من هذا الوجه، سيكون الله هو الكاتب لما كتبه المزوِّرون لكلامه بأيديهم، مثلا. ولكن هذا الوجه، لا يعلمه إلا العلماء بالله، وعند علمهم به، سيعلمون أن الزور المكتوب، حقّ من هذا الوجه. وأما من جهة التقييد، وهو المطلوب في الآية بحسب ظاهرها، فإن المنطق العقلي ينبغي أن يتقيّد بالمنطق الشرعي؛ وهذا، لأنه لو لم يفعل، لهدم الشريعة. ومن يهدم الشريعة، ينغلق عليه الطريق إلى الله، فعاد فعله عليه ضروبا من الإعدام. والمعنى المقيّد الذي أنكره الله من باب المنطق العقلي نفسه، هو بما أن الكاتب للزور، هو الكاتب، فكيف يصحّ له أن ينسب الكتابة إلى الله، وهو يعلم أن الله غيره بحسب مـُدرَكِه الذي لا يشك فيه؟!... ثم من جهة أخرى، فقد ذكر الله لإنكاره على هذا الصنف من عباده، أنه كان على حظّ في فعله، وهو اشتراء الثمن القليل بالمكتوب؛ ولا ثمن قليلا، إلا ما يكون من أعواض الدنيا التي منها المال المعلوم، ومنها رضى مَن يطلب الناس رضاهم من ذوي السلطة والنفوذ (الطواغيت)؛ والله لا حظّ له (تعالى وجلّ) في كلامه وكَتْبه للمكتوبات. وهكذا، فإن هذا الصنف من المفترين، عند مخالفته للحق، يكون مخالفا للمنطق العقلي نفسه، الذي جعله الله أساسا للمنطق الشرعي عينه. فما أحكم الله في أحكامه كلها!... - {وَقَالُوا۟ كُونُوا۟ هُودًا أَوۡ نَصَـٰرَىٰ تَهۡتَدُوا۟ۗ قُلۡ بَلۡ مِلَّةَ إِبۡرَ ٰهِـۧمَ حَنِیفًاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ . قُولُوۤا۟ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡنَا وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَىٰۤ إِبۡرَ ٰهِـۧمَ وَإِسۡمَـٰعِیلَ وَإِسۡحَـٰقَ وَیَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَاۤ أُوتِیَ مُوسَىٰ وَعِیسَىٰ وَمَاۤ أُوتِیَ ٱلنَّبِیُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَیۡنَ أَحَدٍ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ . فَإِنۡ ءَامَنُوا۟ بِمِثۡلِ مَاۤ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ ٱهۡتَدَوا۟ۖ وَّإِن تَوَلَّوۡا۟ فَإِنَّمَا هُمۡ فِی شِقَاقٍ فَسَیَكۡفِیكَهُمُ ٱللَّهُۚ وَهُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡعَلِیمُ} [البقرة: 135-137]، والمعنى، وهو أن أهل الكتاب الذين يشترطون على الناس أن يكونوا الآن يهودا أو نصارى، ليكونوا مؤمنين بالمعنى الشرعي، فالرّدّ عليهم يكون من وجوه ثلاثة: الأول: دلالتهم على الأصل الذي يسبقهم وجودا، وهو إبراهيم عليه السلام؛ وهذا، لأن إبراهيم لم يكن لا يهوديا ولا نصرانيّا، ببساطة، لأنه كان سابقا على التقسيم اليهودي النصراني ذاته. والأصل حاكم على الفرع، بخلاف الفرع الذي لا يكون حكمه على الأصل إلا جزئيّا، إن كان الناظر ملتزما للعلم... الثاني: إثبات الحق الذي كان عليه أهل الكتاب، إبّان الزمان التشريعي المتعاقب؛ وهو زمن إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط، وموسى، وعيسى، جملة وتفصيلا؛ على الجميع السلام. فمن أنكر إيمان طائفة، في زمنها التشريعي المخصوص، فقد كفر بالحق الذي لا يتعدّد. ومن فرّق بين الأنبياء، فقبل بعضا وردّ بعضا، فقد كفر بجميعهم، وإن زعم أنه مؤمن؛ كحال اليهود والنصارى فيما بعد البعثة المحمّدية الشريفة؛ وهذا من الوجه العام، وبحسب القاعدة العامة. وأما من الوجه الخاص، والذي تُعتبر فيه الختمية المحمدية والإمامة المحمدية لجميع الأنبياء والرسل، فإن الأمر يكون أشدّ وأقوى؛ وبالتالي فإن الكافر بنبينا صلى الله عليه وآله وسلم، يكون كافرا كفرا أكبر من كل كفر الكافرين السابق!... الثالث: وهو النتيجة، والتي معناها: فإن آمن اليهود والنصارى بمثل ما آمن به المحمديّون، وهو الإسلام، فإنهم سيكونون على هدى؛ أي على ترابط منطقيّ، يشهد لهم بعدم نقضهم لأصول عقولهم؛ وإن لم يؤمنوا، فإنهم يكونون كافرين بما يزعمون أنهم عليه من الحق، ويكونون مناقضين لأصولهم العقلية. وهذا السبب، هو ما جعل الله تعالى يصف الكافرين بكونهم مخالفين للعقل في مواضع كثيرة من القرآن، كقوله تعالى: {وَإِذَا قِیلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُوا۟ مَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُوا۟ بَلۡ نَتَّبِعُ مَاۤ أَلۡفَیۡنَا عَلَیۡهِ ءَابَاۤءَنَاۤۚ أَوَلَوۡ كَانَ ءَابَاۤؤُهُمۡ لَا یَعۡقِلُونَ شَیۡـًٔا وَلَا یَهۡتَدُونَ} [البقرة: 170]، فهذا من إثبات لا عقلانية الآباء الكافرين. وكقوله تعالى: {وَإِذَا نَادَیۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًاۚ ذَ ٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٌ لَّا یَعۡقِلُونَ} [المائدة: 58]، وهو من عدم إدراك الغاية من العمل المشروع. وكقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفۡسٍ أَن تُؤۡمِنَ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَیَجۡعَلُ ٱلرِّجۡسَ عَلَى ٱلَّذِینَ لَا یَعۡقِلُونَ} [يونس: 100]، أي إن الذين لا يعقلون سيكون نصيبهم الكفر عند القسمة الأزلية للهداية، وهذا لأن الهداية يأذن بها الله، لمن كانت صفة له في العلم الأزلي. والكفر من هذا الوجه، يكون له وجه خفيّ من وجوه معنى الجزاء... ولا بد هنا من أن نستخلص حكما شرعيّا له أثره، علم الناس أم لم يعلموا، وهو أن كل من يحكم لكافر بأنه عاقل، فإنه يكون كافرا بما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم؛ فليحذر المسلمون من هذه الآفة، التي قد عمّ انتشارها في زماننا... بل لقد سمعنا من يحسب نفسه من أهل العلم، يقول بإيمان اليهود والنصارى، فيقع هو في الكفر بسبب ذلك. ولقد وجدنا من هذا القائل أثر الكفر في كل كلامه، عندما رأيناه لا يهتدي إلى قول واحد من أقوال الهدى. وهو إلى الآن، على سوء حاله، ويظنّ بنفسه الخير!... ونحن عندما ندلّ على مثل هذه الأحوال، فمرادنا هو أن يعتبر الناس، وأن يجتنبوا المهالك؛ لا أن نتنقّص الناس، أو نترفّع عليهم؛ نعوذ بالله من كل وصف يُباعدنا عن مرضاته سبحانه!... وينبغي لنا هنا، أن نبيّن مقصودنا من مصطلح "العقلاء"، الذي نستعمله كثيرا في مجمل كتاباتنا، حتى لا يلتبس على السامع. وذلك لأننا نريد من مصطلح العقلاء، الدلالة على الطريق التي هي التعقل (الفكر السليم)، ولا نريد أنهم على عقل؛ لأن العقل (الصفة) قد نفاه الله عنهم، أي عن الفلاسفة الذين هم عقلاؤهم قبلهم. وتمييز الطريق، نبغي منه الدلالة على طريق الإيمان، حتى ينتفع الناس من إيمانهم. وفي هذا المعنى يقول الله تعالى: {وَمَن یُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَیَتَّبِعۡ غَیۡرَ سَبِیلِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَاۤءَتۡ مَصِیرًا} [النساء: 115]؛ وكم من مشاقق للرسول في زماننا، بزعم العقلانية، وهو لا يدري!... وما أكثر هذا الصنف، في الدارسين للفلسفة وهم قاصرون عقلا وإيمانا، وفي أتباعهم من العوام الذين يظنّون أن اتِّباعهم لما يُنشر على وسائل الإعلام مثلا، اهتداء!... ولعمري، إنهم يكادون يكونون السواد الأعظم من الناس الزاعمين للإسلام اليوم!... وحتى الأميّون الذين كانوا في سابق الأزمنة في مأمن من هذا الصنف من الضلال، فإنهم قد وقعوا فيه إلا قليلا منهم، بسبب اتباعهم للتوجيه الإعلامي المـُغرِض، وبسبب انهزامهم أمام المـُبطلين؛ خصوصا عندما وجدوا فقهاءهم أسبق منهم في الانهزام...
ولنكتف بما رمناه من الدلالة على أصناف المنطق العقلي في القرآن، وإلى اختلافها واختلاف أحكامها، لأنه يعسر علينا تتبعها كلها من جهة التفصيل. ومع كل الذي ذكرنا، فعلى القارئ ألا يغفل عن القاعدة العامة التي يدل عليها قول الله تعالى: {وَفَوۡقَ كُلِّ ذِی عِلۡمٍ عَلِیمٌ} [يوسف: 67]؛ حتى يبقى مستعدّا لقبول ما هو فوق طوره، إن سمعه من عالم ثقة... |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.