اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2025/07/23 الإنسان القرآن (مقدمة في تفسير القرآن الكريــم) .27.(ج2) الباب الثاني: العلوم المتعلّقة بالقرآن الفصل الحادي عشر: مرتبة الحديث النبوي في القرآن (ج2)
(تابع) المرتبة الثانية: الحديث القدسي: وهو من مرتبة القلب النبويّ الشريف حقيقة، وهذا، لأن القلب هو محل الجمع بين الحق المتجلّي بالإنسان، والنفس التي يتضمّن مدلول مخلوقيتها طبيعة الإنسان. أو لنقل بعبارة أخرى، إن مرتبة القلب، هي مرتبة إمكان الإنسان، التي هي برزخ بين وجود ربه الذي يقوم به، وعدم نفسه الأصلي الذي به قوام صورته. وعلى هذا، فإن الحديث القدسي، هو كلام الله الناشئ عن التعيُّن المحمّدي. وإن كان القرآن بحسب ما يدلّ عليه الاسم جمعا متضمّنا لوجهَيْ قرآنية القرآن وفرقانه، فإن الحديث القدسي، هو الوحي الجامع بين قرآنية الكلام، وفرقانية المتكلِّم؛ بما أن المتكلّم بالحديث القدسي هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من مرتبة خلافته العظمى، لا من مرتبة الحق الأصلية، التي هي مستوى القرآن. وإن شئنا أن نميّز بين جمعيّة القرآن وجمعية الحديث القدسي، فإننا سنجد الجمعية الأولى للحق بالحق وإن تضمّنت فرقانية الخلق؛ ونجد الجمعية الثانية للحق بالخلق، فيكون الخلق شريكا للحق في قيّومية هذا المستوى بأحد المعاني. وهذا يعني مرة أخرى، أن قيّومية القرآن، هي قيومية للحق بالحق في الحق؛ أي هي قيومية ذاتية جامعة لجميع المراتب الذاتيّة بالمعنى الذاتي، لا بغيره. وأما القيومية المتجلية من مرتبة الحديث القدسي، فهي قيومية حق بخلق، أو قيومية خلق بحق، من المرتبة الذاتية الثانية، والتي هي مرتبة الصفات. وهنا ينبغي أن ندلّ على أصل ثابت، لم يتبيّنه علماء الدين بما فيه الكفاية؛ ألا وهو أن الحديث بشقّيْه، مـُلْحق بالقرآن إلحاقا لا انفصام له. وهذا يعني أن هذه السّنّة بالمعنى الاصطلاحي، تُعدّ شطرا من الوحي، بلا ريب. وهذا يدحض مزاعم فئة من أهل الضلال، أقرّوا بوحيِيّة القرآن، ونفوها عن السنة (الحديث)، إلى أن بلغ بعضهم ردّ السّنّة جملة. والذين أبقوا على اعتبار السنّة، جهلوا مرتبتها، واجترأوا عليها، فصاروا ينظرون فيها بما تُعطي عقولهم، وكأنها كلام ككلامهم!... والحق هو أن الحديث بشقّيه، القدسي والنبوي، وحي إلهي يختلف عن القرآن من حيث المرتبة، ولكنّه لا يخرج عن مـُسمَّى الوحي حتى يلحق بكلام الناس المعتاد؛ وإن كان لكلام الناس أيضا مدخل في الوحي، لكن بمعناه العام الذي يشمل الوحي إلى الحيوان أيضا، والوحيَ لكل مخلوق. ومصاديق هذا الوحي من القرآن كثيرة، فلا داعي إلى تتبعها هنا، ولنترك ذلك للقارئ من نفسه. والخلاصة هي أن الوحي بالمعنى الاصطلاحي، هو ما كنّا بصدده؛ أما الوحي بالمعنى اللغوي فهو عام كما رأينا... وقد اختلف علماء الشريعة في تعريف الحديث القدسيّ، وفي تمييزه عن القرآن؛ فقال بعضهم: هو ما كان معناه من الله، ولفظه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في حين أن القرآن معناه ولفظه كلاهما من الله؛ وهذا أجمع الأقوال في المسألة. وينجرّ عمّا ذُكر: أن القرآن محفوظ اللفظ من لدن المتكلّم به سبحانه، بخلاف الحديث القدسي، الذي هو محفوظ المعنى، غير محفوظ اللفظ. وقولنا عنه إنه محفوظ المعنى، هو لكونه لا يخرج عن الحقائق الإلهية (سنّة الله)؛ وهذا يجعل الناظر إن كان ربّانيّا، يعرف الحق من الحديث القدسي، بصرف النظر عن مرتبته من جهة السند، وبحسب الصنعة الحديثيّة. والحديث القدسيّ من هذا الوجه، يُشبه الكتب المنزلة السابقة التي منها التوراة والإنجيل، في كونها غير محفوظة اللفظ، محفوظة المعنى. ولهذا، فنحن اليوم، إن عُرض علينا كلام منسوب إلى أحد الكتب السابقة، فإن الربّانيّ منّا يُميّز إن كان المعنى الذي يدل عليه حقّا أم باطلا. ولقد سبق لنا، أن ذكرنا في كلام لنا من كتابنا "الحوار الغائب"، أن الكتابيّين لو علموا هذه الخصيصة لنا، لعرضوا علينا ما يشكّون فيه من آيات كتبهم، حتى ندلّهم على الحق فيها أو على الباطل، إما جزئيّا، وإما بالكلّيّة. وإن لله حكمة في حجبهم عما ذكرنا، لأن العباد لو أعينوا على شطر من الحق الذي يتضمّنه باطلهم، لآثروا في النهاية البقاء على الباطل لفساد استعدادهم. والله لا يريد لنا نحن، أن نكون معينين لأحد على باطله. فشكرا له سبحانه، على سابق إنعامه، وشكرا له على دائم عنايته؛ ولا يسعنا إلا أن نقول: {ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِی هَدَىٰنَا لِهَـٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهۡتَدِیَ لَوۡلَاۤ أَنۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُۖ} [الأعراف: 43]... والظاهر، هو أن التفريق في التسمية، بين الحديث القدسي، والحديث النبويّ، قد كان من قِبل العلماء، بعد تمييزهم للمتكلِّم في كليهما: فالمتكلّم في الحديث القدسي هو الله، والمتكلِّم في الحديث النبويّ هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأما النسبة إلى القداسة، التي هي الطهارة في اللغة، فقد أُريدَ منها الدلالة على أن هذا الصنف من الحديث مبرأ عن أثر فاعلية الخلق (كلامه)، وأنه من كلام الله؛ وهو من جهة كونه كلاما لله، يُشارك القرآن ويلحق به من جهة المعنى. ولولا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم نهى عن كتابة الحديث في زمن نزول القرآن، كما قد بيّنّا سالفا، وأمر بكتابة القرآن وحرص على توقيف ألفاظه، لكان الحديث القدسيّ قد اختلط بالقرآن من غير شك. ولكنّ الله شاء، بحمده، أن يبقى القرآن متميّزا لدى الأمة، على مرّ جميع الزمن التشريعي المحمّدي، من زمن البعثة الشريفة، وإلى قيام الساعة. وهذا فضل عظيم، اختص الله به هذه الأمة، من غير تعمّل منها، إلا ما يكون من تدوين الأحاديث في عصر التدوين، وإخضاع القدسيّة منها، للمعايير الناظمة للحديث بشقّيْه... ومن أمثلة الأحاديث القدسية: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وَتَعالَى: أَنا أَغْنَى الشُّرَكاءِ عَنِ الشِّرْكِ؛ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ.»[1]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللَّهَ قالَ: مَنْ عادَى لي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ؛ وَما تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ. وَما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذا أَحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بِها، وَرِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بِها؛ وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ؛ وَما تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنا فاعِلُهُ، تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ: يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَنا أَكْرَهُ مَساءَتَهُ.»[2]. وهنا ينبغي أن نسائل المنظومة الفقهيّة، التي تنظّم المجتمعات الإسلامية، وفق مبدأ الحلال والحرام بالأساس: ما مدى اعتبارها للأحاديث القدسيّة، في مجال الأحكام؟... ويكفي للإجابة عن هذا السؤال، أن ننظر إلى حديث قدسيّ واحد، لنعرف أن هذا القسم من الوحي، إما مهجور، وإما معكوس. ولا ينبغي لنا هنا، أن نتوقّف عند التأويلات المحرِّفة، التي أسس لها أئمة الضلال في هذه الأمة، من أمثال ابن تيميّة؛ لأن الحديث القدسي يبقى وحيا، لا يطاوله مطاوِل؛ إلا إن أعلن الفقهاء الرسميّون عن معايير تغييرهم وتبديلهم للوحي، لنناقشهم فيها... وأما في الوضع الأصلي للتشريع، الذي تركَنا عليه رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم، فلا سبيل. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «(...) تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضاءِ، لَيْلِها كَنَهارِها، لا يَزِيغُ عَنْها بَعْدِي إِلّا هالِكٌ (...)»[3]. والمعنى هو أن الدين واضح، لا خفاء به ولا التباس؛ إلا ما استحدثه أهل البدع والضلال، فاتبعهم الهالكون. ومعنى الهالك، هو من وجب عليه الضلال، بمقتضى العلم الإلهي فيه. فهؤلاء الضُّلاّل، كان لا بد لهم من مقولات يستندون إليها في فسوقهم؛ وأما من كان من المؤمنين، فإنه يعرف الحق من الباطل بداهة. ولقد ذقت هذا الأمر، وأنا بعد في بداية شبابي، وليس معي من العلم شيء، حتى أستند إليه؛ أو حتى يقول قائل: ردّه العلم!... ووالله، لَكُنت أسمع الضلالة وأعرفها، ويمجّها قلبي مجّا، من دون أن أجد لذلك مستندا ظاهرا أستند إليه؛ وكنت لشدّة قوة ما أجد، أعمل به، وأنتظر ربما سنوات، حتى أعلم الشواهد لذلك من القرآن ومن السنّة. فأنا من هذا الوجه، دليل على صحّة ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عند إخباره بتركنا على المحجّة البيضاء. وأما من ضلّ من الضالّين، فليعلم أنه على استعداد لقبول الضلال؛ فلا يجوز له أن يقول: ضلِلْتُ من قِلّة الهُداةِ والهداية. وهذا يُصحِّح من جهة الذوق، قولَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي: تَعْرِفُهُ قُلُوبُكُمْ، وَتَلِينُ لَهُ أَشْعارُكُمْ وَأَبْشارُكُمْ، وَتَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْكُمْ قَرِيبٌ، فَأَنا أَوْلاكُمْ بِهِ؛ وَإِذا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي: تُنْكِرُهُ قُلُوبُكُمْ، وَتَنْفِرُ مِنْهُ أَشْعارُكُمْ وَأَبْشارُكُمْ، وَتَرَوْنَ أَنَّهُ بَعِيدٌ مِنْكُمْ، فَأَنا أَبْعَدُكُمْ مِنْهُ.»[4]؛ وقد ضعّف هذا الحديث قوم، لم تكن لهم أهلية القبول والردّ قلبيّا، وظنّوا أنه سيكون ذريعة الضّلال إلى إثبات ضلالاتهم، ونحن نقول على العكس من ذلك، هذا الحديث وأضرابه من أصحّ الأحاديث: أوّلا: لأن قلوب أهل القلوب، شهِدت بصحّته. وهذا الإثبات لصحّة الحديث، هو من أقوى طرقه وأقربها إلى الحق؛ وهو مندرج ضمن منطوق الآية التي يقول الله تعالى فيها: {أَفَلَمۡ یَسِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوبٌ یَعۡقِلُونَ بِهَاۤ أَوۡ ءَاذَانٌ یَسۡمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَـٰرُ وَلَـٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِی فِی ٱلصُّدُورِ} [الحج: 46]. وهو يعني أيضا، أن من هذه الأمة في كل زمن، طبقة لهم قلوب يعقلون بها ويبصرون، وآذان يسمعون بها ويفهمون، إليهم ينبغي أن تُردّ الأحاديث من قِبل أهل الصنعة، ليقولوا فيها كلمتهم: فما صحّحوه فهو صحيح، وما ردّوه فهو مردود. ونحن كنّا نخبر جلساءنا، بأن تصحيح الحديث النبوي، له طريق من جهة الربّانيّين، هي أوثق من طريق أهل الحديث المعروفين، على ما لهم من المكانة عند الله. ولكنّنا نلاحظ بأن جلّ أهل الحديث، قد سلكوا سبيل أهل الفقه الظاهر عموما، من إنكار لربّانيّة الربانيّين من هذه الأمة، فحرموا أنفسهم ما كان سيُغنيهم عن إعمال عقولهم القاصرة فيما لا معمل لها فيه، وكان سببا في ضلال كثير منهم، ومن المقلِّدة من العامّة من بعدهم... ثانيا: إن التلقي عن الله ورسوله، هو الأصل في تبيّن معالم المحجّة البيضاء التي تُركنا عليها بفضل الله. يقول الله تعالى: {وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۖ وَیُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُۗ} [البقرة: 282]. ولا يُنكر طريق التلقّي عن الله (الكشف)، إلا من غلبت عليه الظلمة، وكان على شرك خفيّ (هو جليّ عندنا). ولقد كان الصحابة ورؤوس التابعين على هذا الأصل، لا يتطرّق إليهم فيه ذرّة شكّ، إلى أن ضعف اتصال المؤمنين بعد ذلك بنور النبوّة، واستعاضوا عنه مع مرور الزمان، بعقولهم، فصاروا من أهل البُعد، وإن ثبت لهم العلم بحسب العُرف. وإن كان المؤسّسون للعلوم الخادمة (الفقه والحديث...) على نور، ثم بنوا عليه وفق عقولهم، فإنه قد جاء على الناس زمن، لا وسيلة لهم في معاملة نصوص الوحي إلا عقولهم القاصرة والعمياء. ثم ازدادت الحال سوءا، عندما صار المتخصّصون في العلوم "الشرعية" بالزعم، تُخالط عقولهم بعض المبادئ الفلسفية الظلامية، شعروا أم لَمْ يشعروا؛ إلى أن وصل الأمر ببعض المنحرفين، إلى إنكار الكشف والوحي الوراثي إنكارا تامّا، فدخلت الأمة (في مجملها) مع هذا، في "جحر الضبّ الذي أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدخولها فيه، بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بذِرَاعٍ؛ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ! قُلْنَا: يا رَسُولَ اللَّهِ، اَليَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قالَ: فَمَنْ؟»[5]. ورغم جلاء نتائج اتباع الأمة المحمّدية للأمم السابقة في ضلالها، فإن المكابرين من المـُغرِضين ومن القاصرين على السواء، ما يزالون يطعنون في كثير من الأحاديث النبوية، التي هي من أصول الدين لدينا. وليُجرّب القارئ نفسه مع بعض كلامنا، الذي نخالف فيه، ما دَأَبَ عليه هو ومن يظنّ لهم الإمامة في الدّين مِن معارفه؛ وليتبيّن حاله: هل هو ممن يأخذون الدين عن الله ورسوله، وبالتالي فإنه إذا ثبتت حقّيّة القول لديه، كان حاله ما أخبر الله تعالى عنه في قوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوۡلَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ إِذَا دُعُوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِیَحۡكُمَ بَیۡنَهُمۡ أَن یَقُولُوا۟ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۚ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} [النور: 51]؟... أم هو ممن قال الله فيهم: {فَإِن تَوَلَّوۡا۟ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا یُرِیدُ ٱللَّهُ أَن یُصِیبَهُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِهِمۡۗ وَإِنَّ كَثِیرًا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَـٰسِقُونَ} [المائدة: 49]؟... وقد نفهم من باب التفصيل، أن القرآن هو قول الله الذي لا مرية فيه؛ وأن الحديث بقسميْه، هو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وكلاهما وحي من عند الله، وجب على المؤمن اعتبارهما، وهذا كما أخبر الله في قوله تعالى: {وَمَن یُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ یُدۡخِلۡهُ جَنَّـٰتٍ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۚ وَذَ ٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِیمُ} [النساء: 13]، أو في قوله سبحانه: {وَمَن یَخۡرُجۡ مِنۢ بَیۡتِهِۦ مُهَاجِرًا إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ} [النساء: 100]، والخروج هنا، قد يكون بمعنى طلب كلام الله، وطلب كلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ أو في قول الله تعالى (من باب التضمين): {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ ءَامِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ} [النساء: 136]؛ أي، آمنوا بكلام الله، وكلام رسوله...؛ أو في قوله سبحانه: {فَـَٔامِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِیِّ ٱلۡأُمِّیِّ ٱلَّذِی یُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَـٰتِهِۦ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} [الأعراف: 158]؛ فيكون المعنى: إن كنتم مؤمنين حقا بالله ورسوله، فآمنوا بكلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما آمن هو بكلام ربه وكلماته؛ واتبعوه في هذه السنّة لعلّكم تهتدون كما اهتدى هو صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه الشريفة. وعلى العكس من ذلك، فليحذر زاعمو الإيمان لأنفسهم، أن يُخالفوا كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيحقّ عليهم قول الله تعالى: {وَمَن یَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَیَتَعَدَّ حُدُودَهُۥ یُدۡخِلۡهُ نَارًا خَـٰلِدًا فِیهَا وَلَهُۥ عَذَابٌ مُّهِینٌ} [النساء: 14]، أو قوله سبحانه: {ذَ ٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ شَاۤقُّوا۟ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۚ وَمَن یُشَاقِقِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ} [الأنفال: 13]، أو قوله سبحانه: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَوَلَّوۡا۟ عَنۡهُ وَأَنتُمۡ تَسۡمَعُونَ} [الأنفال: 20]؛ أي، لا تولّوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنتم تسمعون نصيحة الله تعالى منه!... أو قول الله تعالى: {وَأَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَنَـٰزَعُوا۟ فَتَفۡشَلُوا۟ وَتَذۡهَبَ رِیحُكُمۡۖ} [الأنفال: 46]، وهذا يعني أن الأمة لو اجتمعت على القرآن بحسب الزعم، واختلفت على الحديث، فإنها ستقع فيما حذر الله منه، من تنازع وفشل وذهاب ريح. وهذا، هو ما نراه عيانا في زماننا، مع وجود قوم يدّعون بأنهم يؤمنون بالقرآن من دون السّنّة. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمّن هذه حالهم عند فساد أحوال أمته بقوله: «أَلَا هَلْ عَسى رَجُلٌ يَبْلُغُه الْحَديثُ عَنِّي، وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ، فَيَقولُ: بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ كِتابُ اللهِ؛ فَما وَجَدْنا فِيهِ حَلالًا اسْتَحْلَلْناهُ، وَما وَجَدْنا فِيهِ حَرامًا حَرَّمْناهُ! وَإِنَّ ما حَرَّمَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا حَرَّمَ اللهُ!»[6]. ولا يخفى ما في هذا الفعل من شناعة، وإن أصبح في زماننا منتشرا، يقول به من ينتسبون إلى "التنوير" (الحركة التي عرفها الغرب النصراني، عندما خرج عن شبهة التدين جملة، وراح ينتهج ماديّة صيّرها دينا له). وإن الغرب، قد يُفهَم وقوعه فيما ذكرنا، عندما يستبدل ظلمة بظلمة؛ ولكنّ العجيب، هو أن يسلك تلك السبيل من يعدّون أنفسهم من المسلمين، وإن كانوا لم يُبقوا من إسلامهم على شيء يُذكر. وإن كان هذا يحدث مع أحاديث قدسيّة، كان ينبغي أن يُفهم أنها كلام الله، فكيف يكون الأمر مع الحديث النبوي، الذي هو أجدر الحديثيْن بتسمية "الحديث النبوي"!... المرتبة الثالثة: الحديث النبوي: الحديث النبوي، هو كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من المرتبة الثالثة الخلقية. وهذه المرتبة، هي الخالصة لظاهر النبوة، في الحين الذي تكون المرتبة الوسطى التي يصدر عنها الحديث القدسي في أعلاها؛ وتكون المرتبة الأولى الحقّيّة في أعلى هذه الثانية. وهكذا يظهر أن الحقيقة الإنسانية لها ثلاثة مستويات تعود إلى الحق القيّوم، وإلى المظهر الخلقي القائم، وإلى ما يجمع بينهما في المرتبة الوسطى. وإن هذا الترتيب الثلاثي، مخصوص بتفاصيل ما يتعلّق بالكلام الإلهي من علم، وأما عموما، فلا يصح؛ لأن الحق الذاتي، يشمل فيما يشمل مرتبة الخلق وظواهرهم. فإن غاب هذا المعنى عن جلّ العقول، فلينصرف عنه من لم يبِن له، وليعلم أنه من العلم الخاص. فإن أصر على أن يخرج منه بعقله بشيء، فليعلم أنه قد سلك سبيلا من سبل الهلاك المبرم!... وها نحن قد أخلينا ذمّتنا، بالنصح لمن كان ينتصح!... وكل من تحقّق له الكمال من بني آدم، لا بد من أن يكون على هذا التثليث الذي ذكرنا، بحسب ما ذكرنا. غير أن التثليث المحمّدي، بوصفه أصلا لكل صورة آدمية كاملة، لا يُدانى في مراتبه؛ ولهذا كان القرآن، من كونه كلام الله، الصادر عن مرتبة حقّه، مخصوصا به من دون سائر الأنبياء عليهم السلام؛ وكان الحديث القدسيّ صادرا عن مرتبة جمعه، في حين أن الحديث النبوي يكون صادرا عن مرتبة خلقه التي لا تخرج عن مرتبة حقّه لكمال علمه عليه وآله الصلاة والسلام. ومن هنا يظهر اختصاص الأنبياء والرّسل، بصفتيْن خلقيتيْن هما: النبوة والرسالة، بما هما صفتان غير مشتركتيْن. وقد ذكر شيخنا الأكبر عليه السلام، أن الأولياء يغبطون الأنبياء والرسل على مرتبتهم، لكونهم على صفتيْن غير مشتركتيْن، خلافا لمرتبة الولاية التي يتسمّى بها الله والعبد الوليّ. فولاية العبد معلومة من مثل ما دلّ عليه الحديث القدسيّ: «مَنْ عادَى لي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ (...)»[7]، وأما ولاية الله فقد دلّ عليها قوله تعالى: {فَٱللَّهُ هُوَ ٱلۡوَلِیُّ} [الشورى: 9]. وسبب الغبطة، هو عدم المزاحمة التي تبعث عليها المشاركة؛ فليُتأمّل هذا في بابه فإنه نفيس!... وإن نحن عدنا إلى مطابقة طبقات الشخص المحمّدي الثلاث، وانطباقها على طبقات الكُمّل من بني آدم، فإننا نجد أنفسنا مضطرّين إلى التفريق في الكمّل، بين الأنبياء والورثة. ونعني بالأنبياء، من أوحى الله إليهم من بني آدم من الأمم السابقة؛ كما نعني بالورثة، أولياء هذه الأمة خاصة، الذين كانوا على أقدام الأنبياء، من دون نبوة. وهذه المطابقة، تجعل الأنبياء السابقين، ينزل عليهم الوحي من مرتبة حقّهم، إلى مرتبة قلبهم؛ على الصفة التي نزل بها القرآن على نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا لأن حقّهم من حقه لا إلى جانبه؛ لذلك لم ينزل الوحي على الأنبياء قرآنا، وإنما نزل كتبا تغلب عليها صفة الفرقانيّة، لتبقى القرآنية في تلك الكتب، حاضرة من جهة غيبها على الأخص. كل هذا، على اعتبار خصوصية كل نبيّ، واعتبار قرب مكانته من محمد صلى الله عليه وآله وسلم العبد الأخصّ الذاتي. وبقي القرآن، من مثل سورة الفاتحة وخواتيم البقرة، وما هو في حكمهما، منتِظرا الزمان الذي يُبعث فيه أكمل الخلق، وأليقهم قابلية لاستقباله وتلقّيه. فلما نزل القرآن على الشخص المحمدي الشريف، اكتملت دائرة الوحي، وأُغلق بابه؛ لأنه ليس بعد حصول التمام إلا النقصان، والله شاء أن يبقى وحيه في درجة تمام مرتبة كماله. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بانقطاع النبوة بعده بقوله: «(...) وَأَنا خاتِمُ النَّبيِّينَ، لاَ نَبِيَّ بَعْدِي!»[8]؛ فقرن عليه وآله الصلاة والسلام، بين ختم النبوة وانقطاعها، لعلّة التلازم. وانقطاع النبوة، مع بقاء حقيقة التثليث في كمّل الأولياء من الأمة المحمّديّة، يُعطي وراثتها، لا هي. ووراثة النبوة، منها ما يكون تنزّلَ معانٍ للقرآن (وسائر الكتب المنزلة)، على قلوب هؤلاء الأولياء، من الأنوار المخبوءة تحت ألفاظ الآيات. لهذا، فهم أجدر من يُخبر عن معاني الوحي، وإن كان عموم الناس قد انحجبوا عنهم، بظهور طائفة الفقهاء المترسّمة بمراسم الدّين. وبما أن العوامّ يغلب عليهم الحس، ويقلّ منهم إدراك المعاني، فلذلك انجذبوا إلى مظاهر التديّن والعلم في الفقهاء، وانحجبوا عنها في الغالب، في أولياء زمانهم، وإن كانوا بقربهم وعلى مرأى منهم... والوارث، يُقابل بمرتبة حقّه حقّ النبي، ويُقابل بمرتبة قلبه قلب النبي الذي هو محلّ التنزّل، ويُقابل بمرتبة خلقه، خَلق النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلّم، على قدره لا على قدر موروثه. وهذه الخصوصية التي لأولياء أمتنا، هي ما يجعل خواصّها في مقابل الأنبياء من الأمم السابقة، لا في مقابل أتباعهم. وينفرد نبيّنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بإمامة الأنبياء والورثة جميعا؛ أي بما لا يُشاركه فيه أحد من المخلوقين في البشرية كلها... وينقسم الورثة في الأمة المحمّديّة إلى ورثة محمّديّين جامعين، وهؤلاء هم من يستمدّون من الخصوصية المحمدية التي هي جمعه؛ وإلى ورثةٍ يُنسبون إلى الأنبياء السابقين، إن كانوا يستمدّون من حقائق أولئك الأنبياء، من الحقيقة المحمّديّة، لا من أشخاصهم المستقلّين. والفرق بين الحقيقة والشخص، هو أن الحقيقة من عالم الجبروت، وأما الشخص فهو من عالم المـُلك والملكوت. وفي عالم المـُلك، يكون الشخص تحت حكم بدنه الترابي؛ والبدن الترابيّ له حكم على حقيقة كل إنسان، بما له من خصوصية غير متجاوزة؛ فهو لها كالختم، يمنع من الاستمداد منها، خارج زمانها؛ وهذا، مع كون البدن شرطا في الاستمداد داخل الزمان المخصوص أيضا. ومن هنا، كانت ضرورة بعث أنبياء جدد في كل مرّة، عندما كان ذلك متاحا؛ من باب تجديد العهد مع النبوّة عبر أشخاص الأنبياء التي هي أبدانهم من حقائقهم. وهذا، إلى حين مبعث النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، الذي يستمدّ منه أتباعه على الهيئة التي استمدّ بها الأتباع من الأمم السابقة، من أنبيائهم؛ أو عبر أشخاص الورثة من أمته بعد انتقاله، الذين يُضاهون من وجه إمدادهم، إمداد الأنبياء السابقين لأقوامهم. فما أبدعه من نظام يلحق فيه الأتباع بمتبوعهم!... وما أحكمه، حتى يمتنع على الشياطين الدخول في ذلك النظام بطرائقهم، مهما حاولوا!... فاللهم لك الحمد والشكر على وافر إنعامك، وعلى إتمام إنعامك!... وسبحانك إذْ تقول: {ٱلۡیَوۡمَ یَىِٕسَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِن دِینِكُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِۚ ٱلۡیَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِینَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَیۡكُمۡ نِعۡمَتِی وَرَضِیتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَـٰمَ دِینًاۚ} [المائدة: 3]... ولقد عرفنا أن الأنبياء السابقين، كان ينزل عليهم الوحي من مرتبة حقّهم إلى مرتبة قلبهم، وأما ما كان يصدر عن بشريتهم، فهو المواعظ التي كانوا ينطقون بها. ولعل الأمم السابقة، قد اختلط عليهم بعض كلام أنبيائهم بالوحي الذي أُنزل عليهم، لعدم تفريقهم بين مرتبتَيْ حق النبيّ وخلقه، خصوصا بعد انتقاله عن الدنيا؛ وخصوصا في حق عيسى عليه السلام، بسبب ظهور حقّه على ظاهر خلقه، وهو ما يُعمي الناظر إليه عن التفريق. ومن مرتبة خلق الوارث، تصدر الحِكم والعلوم التي ينسبها الناس إلى ذلك الولي الوارث؛ وهو ما كان شيخنا الأكبر يدلّ عليه، عندما يُخبر أنه كان عليه السلام، لا يكتب إلا عن إملاء إلهي. وهذا باستثناء كتاب "فصوص الحكم"، الذي استلمه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ والذي نعني أنه لم يكن عن إملاء عليه، وإنما كان واردا من قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، على قلبه، من دون اعتبار لمرتبة خلقه (الضمير يعود على الشيخ عليه السلام). وهكذا، يكون لكل نبي ووارث، خصوصية تنشأ عما ينطبع في قلبه من أثر طينته (بشريته)؛ وهذا في الحقيقة هو سبب التفريق بينهم وسبب التفاوت؛ يقول الله تعالى: {تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ} [البقرة: 253]. فليتأمل القارئ ما للمزاج الطيني من أثر في الحقائق الآدميّة، وهذا، لأن الحق واحد من تلك الحقائق، لا يمكن التفريق فيه من كونه حقّا واحدا؛ والقلوب أيضا من وجه قلبيتها لا تفريق فيها، وإنما يقع التفريق والتفاضل، من أثر الطينة على القلب، ومن أثر القلب على الحق. وأما التأثير على الحق، الذي قد يستعظمه أهل التنزيه، فهو لأمريْن: الأول: أن الحق هنا نسبيّ، متعلّق بالمظهر، وليس مطلقا في مرتبته الأصلية. وهذا هو ما جاء ذكره في قول الله تعالى: {فَإِذَا سَوَّیۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِیهِ مِن رُّوحِی} [الحجر: 29]. ومن اللازم هنا، التفريق بين مرتبة الروح الإلهي الأصلي، والروح الإلهي الفرعي المنفوخ؛ مع أن نسبة الحق واحدة في الوجهيْن. وعلى القارئ معرفة معنى وجوب التمييز في الآن ذاته، بين مرتبة الحق الأصلية المطلقة، والمرتبة الفرعية، ولو عقلا فحسب. ومن اعتبر حرف "مِنْ" الذي يكون للتبعيض، وأخرجه عن معنى التبعيض الذي تُعطيه اللغة العاميّة وإن كانت فصيحة، ليستعيض عن ذلك بمعنيَيِ الإطلاق والتقييد، ويجمع بينهما بالنسبة، التي ستكون في النهاية مقاربة للصفر، فإنه يكون قد عرف ما تنبغي عليه معرفته، وليس هو بقليل وإن وُصف بالقلة، أو نُسب محلّ ظهوره إلى العدم في مواضع أخرى من القرآن؛ فنرجو أن يكون القارئ قد اعتاد على هذه المعاني، حتى استقرت عنده؛ لأنه بعد هذا المستوى، لا يسير المرء إلا بما حصل من قراءته الفارطة، بل بما استقر لديه منها، إن أذن الله له. وهذا الطريق الذي تكلمنا عنه الآن، عكسيّ بالنظر إلى طريق النزول والتنزّل الذي نسبه الله إلى الوحي عموما وإلى القرآن خصوصا، في مثل قوله تعالى: {إِنَّاۤ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَیۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَاۤ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَاۤىِٕنِینَ خَصِیمًا} [النساء: 105]؛ وصدر الآية، يدل على ما ذكرنا من طريق الإنزال الذي هو من العلو إلى السفل؛ أي من عالم الجبروت، إلى عالم المـُلك، مرورا بعالم الملكوت. وأما عجز الآية، فيُشير إلى الطريق المعكوس، الذي يُعرجُ فيه من ظاهر الوليّ الوارث (بشريته)، إلى قلبه ثم حقّه؛ والإشارة واقعة بقول الله تعالى: {بِمَاۤ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ}، ولا تتحقق الإراءة من الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه، أو لوارثه منه، إلا من البصر المزكَّى، وبصيرته المقدَّسة. وهذا الطريق -كما هو واضح- من الأدنى إلى الأعلى، وهو العروج المعروف في الاصطلاح الشرعي. وذلك لأن الصعود، هو حقيقة العروج الشريف، الذي وقع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويقع أيضا لمن تزكّى من أتباعه، فيصير قابلا للعروج، كما كان يقبله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيُعرج به، تابعا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويتحقق من عروجه، بما يُناسب مرتبته التي هي المأمومية. وبهذا الشرط وحده، تصح صلاة الأمة، بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمأمومين من الورثة. وكل من وصل إلى هذا المستوى، ولم تتحقق له الوراثة، فليعلم، أنه قد أخلّ ببعض الشروط. فعليه أن يعود إلى إمامه ليعمل على إكمال الشروط، وإلا فسينتقض عليه العروج، ويعود من العامة. فإن لم يمنحه الحق فرصة تكميل شروطه، فإنه سينزل إلى حضيض العوام، ويبقى بينهم هناك، إلى ما شاء الله. ولنذكر هنا حادثة وقعت لنا، وهي أننا كنّا يوما مع سيدي ابن الطاهر رضي الله عنه، فأخبرني أنه دخل على الشيخ حمزة عليه السلام، مـُقدِّما له كتابا لأحد الأولياء (لا أذكر الآن اسمه)، يُخبر فيه عن عروجه؛ فبادره الشيخ حمزة بقوله: هذا يقع لنا جميعا!... وكان سيدي ابن الطاهر يروي لي الواقعة، وقد ارتسمت على وجهه الشريف علامات التعظيم والإعجاب... والثاني: هو أن الله يتأثر من بعض أفعال العباد أو عقائدهم. ومن الآيات الدالة على جنس ما يتأثر به الحق، آيات كثيرة، سندل على واحدة منها، من باب التأصيل، ونترك إكمال باقي التتبع للقارئ. فالآية التي نتخذها نموذجا، هي قول الله تعالى في بابها: {وَلَوۡ أَنَّهُمۡ ءَامَنُوا۟ وَٱتَّقَوۡا۟ لَمَثُوبَةٌ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ خَیۡرٌ لَّوۡ كَانُوا۟ یَعۡلَمُونَ} [البقرة: 103]، فظهر أن العمل الصادر من العبد، هو: الإيمان والتقى؛ وأن الاستجابة من الحق، والتي تكون عن تأثر من الحقّ، تكون هي المثوبة من عند الله لأولئك العباد. والمثوبة في اللغة: العودة؛ وبما أن المثوبة من عند الله، التي تكون جزاء عن عمل الإيمان والتقوى، مشتقة من ثاب، فإن معاني المثوبة، لا تتعدّى: التثويب، وهو عودة المسافر، أو نيل المكافأة من المقابل؛ أو نيل العوض والجزاء، أو أن يتحقق للعبد العمل، بعد أن ينفخ الله الروح في صورته، وهكذا تصير الصلاة -مثلا- قائمة، إلى غير ذلك من الأعمال... فإن كملت للعبد جميع أعماله، فإنه يكون كامل الأعمال، وكل عمل ينال عنه الكمال المخصوص به (وكل هذا يؤخذ من آي القرآن)، فإن تم له المجموع، أناله الله تحفة المجموع، فنال بها ما لم يكن يخطر له على بال. وعلى كل حال، فالمسألة واسعة، وذكر تفاصيلها يقتضي تصنيف مجلد فيها لوحدها؛ لذلك سنترك البحث عن هذا الصنف من التكميل، عند الله، في الآية التي تنطبق على حالك... وتعتبر في العروج أمور:
وهنا لا بدّ لنا من الكلام عن بشريّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، والتي غلط في النظر إليها قوم، عند سماع قول الله تعالى: {قُلۡ إِنَّمَاۤ أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثۡلُكُمۡ یُوحَىٰۤ إِلَیَّ أَنَّمَاۤ إِلَـٰهُكُمۡ إِلَـٰهٌ وَ ٰحِدٌ} [الكهف: 110]، فتوهّموا أن بشريّة النبي مماثلة على التمام لبشرية غيره من الناس. ولو أنهم علموا أن الوحي الذي اختُصّ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا بد من أن يؤثّر على الجسد الشريف، لفرّقوا مع حصول المماثلة. وهذا، لأنه لولا المماثلة، ما صحّ الاقتداء من المؤمنين بنبيّهم؛ ولولا الامتياز بالوحي ما تحقّقت إمامة النبي للأمة؛ ومن جعل الإمام كالمأموم، من كل وجه، فقد جهل. وإن قياس الجمع النبويّ على ما يعلمه الناس من أنفسهم، كما قد يفهم كثير من فقهاء السلوك، هو حكم على النفس بالحجاب الأكبر، والبقاء فيما يُعطيه مقام الإيمان المـُجمل المصاحب للشرك، بحسب المرتبة والمقام. وإن هذا الاعتقاد الفاسد، هو ما يُبقي كثيرا من الفقهاء وأتباعهم على ضعف كبير من حيث النور الإيماني الذي به يحصل الترقّي. ويشهد لما نقول هنا، ما يجده الوارث بعد تحقّق كماله، من امتياز عن غيره من الناس في بشريته، مع أنه من مرتبتهم كان ترقّيه، وعلى مثل صورتهم هو باقٍ. وهذا يعني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والوارث من بعده، يعلم ما يكون عليه الناس؛ ولكنّهم هم، لا يعلمون منه إلا ظاهرا من أمره. وهذا الظاهر المعلوم للعوام، لا يُعوّل عليه؛ ما دام الحكم للمرتبة والمقام. ومن هذا الباب، كان شيخنا الأكبر، وهو ختم الولاية المحمّديّة، يتأدّب عند كلامه في النبوة، ويقول: [لا ذوق لنا فيها!...]، فلله دره من عالم حكيم. فإن كان هذا حال الختم، فما قول وليّ دون الختم، أو فقيه دون الوليّ، أو عاميّ لا يكاد يعقل من أمور الدين والدنيا شيئا... وإن شئنا أن نُجمل أمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يسعنا إلا أن نقول: هو المظهر الإلهي حقيقة، والإنسان في المستوى العلويّ، وهو الإنسان خليفة الله في السفل. وهذا هو ما أخبر الله عنه بقوله تعالى: {وَهُوَ ٱللَّهُ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَفِی ٱلۡأَرۡضِ} [الأنعام: 3]، وبقوله سبحانه: {وَهُوَ ٱلَّذِی فِی ٱلسَّمَاۤءِ إِلَـٰهٌ وَفِی ٱلۡأَرۡضِ إِلَـٰهٌ} [الزخرف: 84]؛ وهذا لأن الحقيقة لا تتعدّد، وإنما المظاهر هي التي تتعدّد بحسب المراتب. ولا ينبغي أن يلتفت العاقل هنا، لأقوال أهل الشرك من أصحاب الإيمان المـُجمل (مرتبة الإسلام)، إن كانوا من الفقهاء المتكلّمين؛ لأنهم لن يُعبّروا إلا عن مقامهم، وهم معذورون في أحوالهم لو سكتوا. ومن حصر العلم في أدناه، وألزم العلماء الراسخين به، فلا يكون هو منهم، مع الشهادة على نفسه بأنه أحمق. ولو تنبّه الفقهاء لما يصدر عنهم من سوء في القول، ونخص في مقدّمتهم الأصوليّين؛ لاستحيوا من الله ورسوله، ونالهم شديد الخجل. ونحن نتكلّم عن الفقهاء المعتبرين في الأزمنة المتقدّمة، وأما من صرنا نعرفهم في زماننا، فإن أغلبهم يُخشى عليه سوء الخاتمة، لجُرأتهم على الله ورسوله. ولا مـُستند لهم في ذلك، إلا شدّة ظلمة قلوبهم، ليس غير!... فإذا عرف العبد قليلا من خصائص النبوّة، فإنه سيعلم قدر السنّة النبويّة تبعا لذلك، وسيجدها وحيا من الوحي. وبالقياس إلى ما ذكرناه آنفا، فإن السنّة تكون قرآنا من مرتبة بشرية النبيّ، كما هو القرآن سنة من مرتبة الحق المتسمِّي بالاسم "الله". وهكذا يظهر أن من لم يعرف قدر السنة النبوية بجميع تجلياتها: العملية والقولية (الحديث) والحالية (الذوق)، ويعلم مراتبها، وما يُناسب كل مرتبة من جزاء، فإنه يكون جاهلا بقدر القرآن عينه من حيث هو قرآن جامع لكل الحقائق الحقّيّة والخلقية، ولكل الرقائق الرابطة بينها. ويكفي في هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَلا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ؛ أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعانٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذا الْقُرْآنِ، فَما وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلالٍ فَأَحِلُّوهُ، وَما وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرامٍ فَحَرِّمُوهُ؛ وَإِنَّ ما حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ كَما حَرَّمَ اللهُ. (...)»[9]. ومعنى إتيان القرآن ومثله معه، يستوجب الحكم بأن للسنّة من الحرمة مثل ما للقرآن. وما وقع من وقع في آفة إنكار السنّة، إلا من اتباع حكم عقله، وهو لم يؤمر باتّباعه؛ فحكمَ بأن المكانة للقرآن لكونه كلام الله، وأما النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهو عبد من البشر، فلا يُمكن أن يكون لكلامه القيمة ذاتها التي لكلام الله؛ وإلا عُدّ ذلك كفرا صريحا. وإنْ هذا إلا انتكاس فحسب!... وقد ذكرنا مرارا، بأن الحكم في مسائل الدّين، لا يكون للعقل، إلا من باب واحد وهو فقه الأحكام، التي ليس منها ما ذكرنا؛ أي ليس منها بحسب المرتبة التي للناظر الذي يغيب في حقه من الثواب، بقدر جهله بالدين على شموليته؛ ومن وجه واحد، هو القياس. وأما غير ذلك من الأحكام، وخصوصا ما يتعلّق بالتعريف القرآني، فلا مناص فيه من الاحتكام إلى الله ورسوله، في القرآن والسنة جميعا، جملة وتفصيلا. وهذا، لأنه لا أحد أعرف بالله من الله نفسه سبحانه، ولا أعرف به من خلقه وأدل على صحيح معاملته، من نبيّه صلى الله عليه وآله وسلّم، ولا أنصحَ لخلقه!... والدين كله، يدور حول معرفة الله ومعاملته سبحانه!... ومن لم يتأدّب مع السنّة، فإنه قد أغلق الباب دون وُلوجه لِجنان القرآن؛ بل إن العبد عند زيادة علمه بالقرآن، يزداد علما بالسنّة أيضا، لكونها مرجعه ومستقرّه. وكل من اعتمد نظره العقلي فيما ذكرنا، فإنه لا بد من أن ينتهي إلى الضلال المـُبين، كما وقع لابن تيمية وقبيله، وقبله لمن اغترّ بمعاوية وقبيله، ومعهما لكل من تابع الأفغاني وعبده ورشيد رضا وحسن البنّا وقبيلهم، في تنظيراتهم العقيمة... ومن الأدب مع السنة النبوية، معاملتها كمعاملة صاحبها عليه وآله الصلاة والسلام؛ فيؤخذ العمل على أنه اشتراع، والقول على أنه استماع، والحال على أنه اطلاع. وإن من يُكثر من النظر في الأسانيد، وبالتالي من تضعيف الأحاديث، يُخشى على قلبه أن تصيبه قسوة لا يلين بعدها. وقد وجدنا أصحاب زماننا، إذا ذُكر الحديث أمامهم، سارعوا إلى المطالبة بذكر درجته؛ بينما كان ينبغي للمؤمن أن يُسارع إلى السمع والطاعة أولا، وإلى الاشتغال بالتعظيم والتوقير الذي أُمِر به في قول الله تعالى: {لِّتُؤۡمِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُۚ وَتُسَبِّحُوهُ بُكۡرَةً وَأَصِیلًا} [الفتح: 9]. وليُلاحظ القارئ أن هذا الأدب، قد ذُكر في سورة الفتح، ليعلم أنه من أسبابه. وأما ما قد يقع في ذهن ضعفاء الإيمان، ليجعلوا تمحيص الأحاديث من تجنّب العمل بالأحاديث الباطلة الموضوعة، فإنه من بُعدِهم وقلّة نورهم؛ وأما المؤمنون الذين قوي نورهم، فإنهم يعرفون الحديث من غيره بقلوبهم، وهو ما كنّا قد نبّهنا إليه من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي: تَعْرِفُهُ قُلُوبُكُمْ، وَتَلِينُ لَهُ أَشْعارُكُمْ وَأَبْشارُكُمْ، وَتَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْكُمْ قَرِيبٌ، فَأَنا أَوْلاكُمْ بِهِ؛ وَإِذا سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنِّي: تُنْكِرُهُ قُلُوبُكُمْ، وَتَنْفِرُ مِنْهُ أَشْعارُكُمْ وَأَبْشارُكُمْ، وَتَرَوْنَ أَنَّهُ بَعِيدٌ مِنْكُمْ، فَأَنا أَبْعَدُكُمْ مِنْهُ.»[10]. وهذا الأمر معلوم لأرباب القلوب، خصوصا إن كانوا ممن يفرقون بين الخاطر الأول وسواه من الخواطر. وعلى كل حال، فلو لم يكن أهل الإيمان في حماية من الله ورسوله، ما بلغ الأميّون الذين لم يشتغلوا بالعلم في الظاهر، عوالي المراتب في الدين ورفائع الدرجات في الولاية. ومن خبر إخبار القلوب وشواهد البصائر، فإنه يطمئنّ إليها أكثر مما يطمئن أهل الحس إلى المعاينة بالأبصار؛ بل إن الأبصار هي التي تستنير بالبصائر إذا امتدّ نور القلب إليها واستطال، لا العكس... وهنا لا بد من التعريج، على الآيات القرآنية، المنبنية على البرهنة العقليّة؛ وهو باب عظيم من أبواب العلم القرآني. وهذا، حتى لا يفهم أحد، أننا نُنكر المنطق العقليّ في العلوم الدينيّة جملة؛ وكيف نحكم بذلك، وقد جعل الله العقل حجّة على عباده، وسببا لرجوعهم إليه، ومحلا لاستمداد نور هدايته؛ أي جعله نصيرا لدينه!... فنعم المولى (الخادم)، ونعم النصير (الناصر)... [1] . أخرجه مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه. [2] . أخرجه البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه. [3] . أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه. [4] . أخرجه الهيثمي في "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد"، عن أبي حميْد وأبي أُسيْد؛ وقال عنه: رواه أحمد والبزّار، ورجاله رجال الصحيح. [5] . أخرجه البخاري، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه. [6] . أخرجه الترمذي، وأبو داود، وأحمد، وابن ماجة، والحاكم، عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه. [7] . أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه. [8] . أخرجه الترمذي عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. [9] . أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد، عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه. [10] . أخرجه الهيثمي في "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد"، عن أبي حميْد وأبي أُسيْد؛ وقال عنه: رواه أحمد والبزّار، ورجاله رجال الصحيح.
|
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.