اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2025/07/15 الإنسان القرآن (مقدمة في تفسير القرآن الكريــم) .27.(ج1) الباب الثاني: العلوم المتعلّقة بالقرآن الفصل الحادي عشر: مرتبة الحديث النبوي في القرآن (ج1)
يقول الله تعالى: {وَمَا عَلَّمۡنَـٰهُ ٱلشِّعۡرَ وَمَا یَنۢبَغِی لَهُۥۤۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٌ وَقُرۡءَانٌ مُّبِینٌ} [يس: 69]، والشعر هو اصطناع الكلام؛ وقول الله تعالى {وَمَا یَنۢبَغِی لَهُۥۤۚ}، يمنع أن يشتغل النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بالشعر أو بما هو من قبيله، وهذا ليس منوطا بالقرآن وحده بما هو قرآن، ولكن هو منوط بكل كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويشمل ذلك القرآن والحديث؛ ما دام الكل يخرج من فيه الشريف، وما دام التفريق لا يقع من السامع وحده، وإنما من المتكلم صلى الله عليه وآله وسلم أولا، وبإخبار منه... ويقول سبحانه أيضا: {وَمَا یَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰۤ . إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡیٌ یُوحَىٰ} [النجم: 3-4]، فعمّ سبحانه النطق النبويّ، وما خصّ؛ فجمع ذلك ما بين القرآن والحديث النبويّ، ولم يفرّق. وقد ضلّ بعض الأصوليّين، عندما فرّقوا بين الوظائف النبوية بعقولهم، فانحجبوا عن خصائص النبوة بما هي وحدة تعود إليها كل أحوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحَجبوا غيرهم من مقلِّديهم؛ بل وأسّسوا -من دون أن يعلموا- للشرك بقواعدهم الفقهيّة، فانقلب معهم الهدى ضلالا، والنور ظلمة. وهذا -من غير شك- سيكون من أسباب توغّل المسلمين في جحر الضب، الذي نبّه إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن قَبْلَكُمْ شِبْرًا بشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بذِرَاعٍ؛ حتَّى لو سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ. قُلْنَا: يا رَسُولَ اللَّهِ، اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قالَ: فَمَنْ؟»[1]. ومن كان له علم بأحوال ورثة النبوة، الذين لا يجري على لسانهم الباطل، وإن نطقوا به ظاهرا، بسبب عصمة سرّهم من أن تجري عليه الغفلة؛ فإنه سيُنزّه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حتما، لكونه أصل النبوّة الأصيل، عن أن يتصف بما ذكره عنه الجاهلون... وأما بشريّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، التي زعم الغافلون أنهم يوفونها حقّها في الأحكام التي أطلقوها عليها، فليس شأنها كما يظنّون. وذلك، لأن بشريّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ومِن بعده بشريّة الورثة) هي آخر مراتب تنزّل الحق عزّ وجلّ؛ وبالتالي، فهي آخر ما يتعلّق به الإدراك. ونعني بكلامنا، أن بشرية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، أعلى في الإدراك من إدراك حقيقته العلية، مع أن المنطق العام المؤسّس على الحسّ، يقضي بالعكس. فظهر أن أهل الدين في العادة، بعيدون عمّا ندلّ عليه؛ وإنما هم على تصوّرات تليق بضعف إدراكهم، ولا تليق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكون الشرع يقبل مَن كانوا على ذلك الضعف (والفقهاء منهم)، لا يعني أن ما يتصوّرونه هو الحق الصرف؛ بل يعني أن رحمة الله هي الواسعة، حتى شملتهم في مرتبتهم وعلى قصورهم وانحرافهم. يقول الله عن هذا الصنف من الناس: {أَمۡ تَحۡسَبُ أَنَّ أَكۡثَرَهُمۡ یَسۡمَعُونَ أَوۡ یَعۡقِلُونَۚ إِنۡ هُمۡ إِلَّا كَٱلۡأَنۡعَـٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ سَبِیلًا} [الفرقان: 44]؛ وقد يقول قائل: هذا وصف الكافرين، ولا يُمكن أن ينطبق على الفقهاء! قلنا: إن الكفر بالاصطلاح، هو الغفلة الكبرى، والغفلة التي يكون عليها شطر من الفقهاء، هي الكفر الأصغر من دون شك؛ وإلا لكانوا علموا ما نذكره نحن، مما لم يتمكّنوا حتّى من الحَوْم حوله!... وأما من اتّبع منهم وحي الشيطان كابن تيمية، فهو على غفلة كبرى، وإن كنّا لا نكفّره تورّعا... وإن بشريّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بسموّها الإلهي، هي مناط الخلافة العظمى عن الله، التي ما نال آدم عليه السلام منها إلا النيابة فيها؛ يقول الله تعالى في خلافة آدم عليه السلام: {وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ إِنِّی جَاعِلٌ فِی ٱلۡأَرۡضِ خَلِیفَةً} [البقرة: 30]؛ أي خليفة عن الخليفة الأصلي. وهذا المعنى سهل التصوّر، إذا علمنا أن آدم عليه السلام، ليس على أتمّ النبوّة؛ وبالتالي ليس على أتمّ الخلافة. والخليفة الإلهي، هو من قام بشؤون الخلافة كلها عن مـُستخْلِفِهِ؛ وليست تلك الشؤون إلا معاني الأسماء الإلهية، وعلى رأسها الاسم الجامع "الله". وحتى نُبقي على التمييز الذي أثبتناه في الخلافة، ينبغي علينا أن نُشير إلى التفاوت بين الخلفاء في القيام بالأسماء؛ فما كل خليفة، هو كالخليفة الآخر في تفاصيل القيام بالأسماء الإلهية. وفي قول سليمان عليه السلام، الذي حكاه الله تعالى في قوله: {وَهَبۡ لِی مُلۡكًا لَّا یَنۢبَغِی لِأَحَدٍ مِّنۢ بَعۡدِیۤۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ} [ص: 35]، دليل على هذا المعنى؛ والمـُلك الذي لا ينبغي لأحد من بعده، هو الظهور في القيام بالأسماء الإلهية، بما لا يكون لأحد غيره. والظهور بالقيام، هو غير القيام؛ فليُتَنبَّه إليه، حتى يُبقَى على إمامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما يدل على ذلك العلم. وعلى هذا، فإن الخليفة، هو المتسمِّي بالاسم الجامع في الأرض؛ وإليه الإشارة في قول الله تعالى: {وَهُوَ ٱلَّذِی فِی ٱلسَّمَاۤءِ إِلَـٰهٌ وَفِی ٱلۡأَرۡضِ إِلَـٰهٌ وَهُوَ ٱلۡحَكِیمُ ٱلۡعَلِیمُ} [الزخرف: 84]. والاسمان "العليم" و"الحكيم" (أو الاسم المركّب "العليم الحكيم")، هما من أسماء مظهرَيِ الألوهية: السماوي والأرضي؛ وليس المظهر الأرضي إلا العبد المسمَّى محمّدا، صلى الله عليه وآله وسلم؛ كما ليس المظهر السماوي إلا روحانيته. وإلى هذا المعنى يُشير قول الله تعالى: {وَأَنَّهُۥ لَمَّا قَامَ عَبۡدُ ٱللَّهِ یَدۡعُوهُ كَادُوا۟ یَكُونُونَ عَلَیۡهِ لِبَدًا} [الجن: 19]، والعبد هنا، بمعنى المظهر الأرضي الظاهر. واللِبد، هي الجماعات من الجن والإنس، الذين قاموا يريدون التغطية على مظهر الخلافة الإلهية، ويريدون تعميَته. وهذه الجماعات، هي مظاهر أسماء الغيرة الإلهية من أتباع "العزيز"؛ لا بالمعنى الشركيّ الذي يكون عليه الفقهاء وأتباعهم. وهذا، حتى تُجهل حقيقة الخلافة، من باب الضَّنّ، لا من باب الضعف والهوان. وهذا يعني أن الخليفة الإلهي، هو من يحكم بذلك الحكم على مظهره؛ بل قد يحكم بما يخرج عن منطق العقلاء من أهل الدين قبل سواهم. فمثلا، لم يُقتَل الخلفاء الثلاثة عليهم السلام: عمر، وعثمان، وعليّ، إلا بإذنهم، وعن أمرهم؛ لا كما يظنّ الجاهلون. وهذه الأطوار التي نتكلّم فيها، والتي هي من العلم المكنون، لا خبر لعلماء الدين بالاصطلاح عنها، وما ينبغي لهم!... وما ندل عليها نحن هنا، إلا لعلمنا باحتياج الأمة إلى هذا المستوى من العلم، من أجل تقوية إيمانها؛ لأنه لا يُواجَه الدجّال في آخر الزمان، إلا بالإيمان وحده (من بعد العلم بالله)، وأما الفكر الدّينيّ الذي يكون عليه الشطر الأكبر من الأمة، بسبب الضلال المتراكم عبر القرون، فإنه يكون معينا للدّجّال على أهله، بعكس المظنون!... وهو ما بدأت بوادره تظهر بالتدريج منذ دخولنا في الزمن الدجاليّ، السابق على الظهور الدجّالي. فقد وجدنا بعض الناس يعاملون الدجال بحسب ما يُسمونه ظهورا لديهم: وما يقصدون إلا الظهور الشخصي؛ بينما الظهور الشخصي، يأتي مسبوقا بالظهور بالصفات والأفعال، قبل ظهور الشخص، فيتوهّمون أنه لم يأتهم بعد. وأما مقارنة ما يحصله من الناس قبل الخروج، وما يحصله منهم بعد الخروج، فإنها لا تُظهر إلا أن ما لحق قد بُني على ما سبق؛ وأن اللاحق هو السابق، لكن في مرحلة قطف ثمار الضلال، على أقوى ما يكون عليه الأمر... والجهل بهذه التفاصيل، يجعل العبد أكثر عرضة لإضلال الدجال، زمن خروجه بشخصه... وهكذا، فإنّ نطق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كلّه وحي؛ وإن كان مما ظنّه الجاهلون خلافه. وسيأتي الكلام عن ذلك في محلّه بإذن الله تعالى...
المرتبة الأولى: القرآن العظيم: القرآن هو كلام الله، الذي نطق به النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وإن كان منزلا من عند الله بواسطة جبريل. وهذا، لأن الناس، لا علم لهم بالمـُنزِل ولا بالإنزال من جهة التفصيل؛ بل هو مما تعلّق به إيمانهم، بعد إخبار الله في القرآن عن ذلك... يقول الله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ مِنۡهُ} [آل عمران: 7]، ويقول سبحانه: {وَإِنۡ أَحَدٌ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ ٱسۡتَجَارَكَ فَأَجِرۡهُ حَتَّىٰ یَسۡمَعَ كَلَـٰمَ ٱللَّهِ} [التوبة: 6]: أي يسمعه منك؛ فدل هذا على أن القرآن الذي هو كلام الله، لا يُسمع إلا من الخليفة الأخص، محمد صلى الله عليه وآله وسلم. ويدخل في السمع الفهم، كما أخبرنا مرّات؛ فدل هذا، على أن معاني القرآن، لا تأتي إلى التالي، إلا من مدد النبوّة. وهكذا، فمن أراد أن يظفر بشيء من القرآن من دون اعتبار لوساطة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه سيبقى أجنبيّا عنه، وإن اشتغل به ليله ونهاره؛ وما حال الفقهاء ببعيدة عما نذكر. وهذا الذي ننبه إليه، يكون من دلالات الخسران؛ وصاحبه هو كمن يسكن مكّة ولم يحجّ ولا مرة، أو كمن يسكن المدينة ولم يزر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرة، أو كمن كان من أهل بيت شيخ ربّانيّ ولم يشمّ للتزكية رائحة. وفروع هذا الخسران كثيرة، يُتوصّل إلى معرفتها بالقياس على ما ذكرنا... ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تَكْتُبُوا عَنِّي! وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ. وَحَدِّثُوا عَنِّي، وَلا حَرَجَ؛ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ (قالَ هَمَّامٌ: أحْسِبُهُ قالَ: مُتَعَمِّدًا)، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ.»[2]. وهذا يعني أن العناية بالكتابة وقت نزول القرآن، كانت متوجّهة إلى القرآن وحده؛ حتى نُهي في مقابلها عن كتابة الحديث النبوي. وهذا يعني من جهة أخرى، أنه كان يجوز للصحابة ذكر الحديث النبوي بالمعنى؛ وهو ما سيجعلهم يميّزون بين القرآن والحديث بداهة. ولأجل ما ذكرنا، فقد كان الناس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يُحدّثون بالحديث النبوي بالاعتماد على ذاكرتهم وحدها. ولقد كان بعض الصحابة يُراجع البعض الآخر، من أجل تمحيص الروايات، ليكون ذلك تمهيدا لما سيقوم به المحدّثون فيما بعد، من عصر التدوين وإلى الآن. وأما القرآن، فلم يُجِز النبي صلى الله عليه وآله وسلم حكايته بالمعنى، فبقيت روايته لا تُقبل إلا باللفظ. وهذا كله يدل على أن القرآن من مرتبة، والحديث النبوي من مرتبة أخرى أدنى. ومن هنا، كنا نقول نحن: إن الحديث لا ينسخ القرآن؛ وهذا لأن الناسخ ينبغي أن يكون أعلى في المرتبة من المنسوخ، أو مساويا له. ورغم أن هذا الملحظ شديد الوضوح، إلا أنه بقي غائبا عن إدراك كثير من الفقهاء، بسبب ضعف نورهم... والذي ينبغي أن يتعقّله الناظر، هو أن القرآن صادر عن مرتبة الحق التي هي باطن باطن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إن اعتبرنا أن باطنه الشريف كان هو قلبه، الذي هو محلّ إلقاء جبريل. وهذا يعني أن الروح المحمدي، هو روح الله، الذي نسب الله إليه عيسى عليه السلام، حيث قال تعالى: {إِنَّمَا ٱلۡمَسِیحُ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُۥۤ أَلۡقَىٰهَاۤ إِلَىٰ مَرۡیَمَ وَرُوحٌ مِّنۡهُۖ} [النساء: 171]؛ أي، وروح من الروح الإلهي المحمدي. وقد جاء التعبير عن الروح المحمدّي بهاء الهوية، لكونه باطن الذات المحمدية الشريفة. وهنا ينبغي أن نشير إلى أمر بالغ الأهميّة، ألا وهو وجوب التفريق بين الحق القيّوم، والروح المحمّدي المخلوق؛ وهو ما يمنع من وصف الحق تعالى بالروح، كما تفعل النصارى؛ ويمنع من وصف الروح المحمدي بصفة الربوبية من دون الله تعالى. ومن ميّز ما نقول، فإنه يكون قد كُفِي إضلال إبليس، في هذه المسألة التي هي من لبّ التوحيد الشرعيّ. وأما إن استشكل بعد هذا، على السامع، قولُ الله تعالى: {وَلَوۡ كُنتُ أَعۡلَمُ ٱلۡغَیۡبَ لَٱسۡتَكۡثَرۡتُ مِنَ ٱلۡخَیۡرِ وَمَا مَسَّنِیَ ٱلسُّوۤءُۚ إِنۡ أَنَا۠ إِلَّا نَذِیرٌ وَبَشِیرٌ لِّقَوۡمٍ یُؤۡمِنُونَ} [الأعراف: 188]، فليعلم أن هذه الآية في معظمها، من مرتبة ظاهر القلب النبوي الشريف، لا مِن باطنه. والنبي من هذه المرتبة، يقرّ على نفسه بأنه لا يعلم الغيب المتعلّق به؛ لأنه لو كان يعلمه، لعلم قضاء الله فيه؛ ولو علم القضاء، لاستكثر من الخير فيما كتب له، ولَما مسّه السوء (الشر والضرر)، إن أُقدِر على رفعه من مرتبة القضاء. والسوء، هو الصفات العدمية، التي هي من حقيقة النفس الإمكانية. وخُتمت الآية بإقرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بأن مرتبته من مقام الرسالة التي يدل عليها قول الله تعالى: {إِنۡ أَنَا۠ إِلَّا نَذِیرٌ وَبَشِیرٌ لِّقَوۡمٍ یُؤۡمِنُونَ}. لكنّنا، إن نحن عدنا إلى صدر الآية، لوجدناها هكذا: {قُل لَّاۤ أَمۡلِكُ لِنَفۡسِی نَفۡعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاۤءَ ٱللَّهُۚ} [الأعراف: 188]، وهذا يعني أن كلمة قُل هي من مرتبة الحق، وأن ما بعدها تعليم من الحق للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى يعرف ما يقول فيما يتعلّق بتعريف نفسه، وهو: {لَّاۤ أَمۡلِكُ لِنَفۡسِی نَفۡعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاۤءَ ٱللَّهُۚ}. ففهمنا: أن النبي عرّف مرتبته للناس بتعليم الله، لا من نفسه؛ وهذا أعلى ما يكون من التعليم؛ والناس المقصودون بالتعريف هنا، هم عامّتهم فحسب. فكانت النتيجة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هو من قال: {لَّاۤ أَمۡلِكُ لِنَفۡسِی نَفۡعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاۤءَ ٱللَّهُۚ}، لتمتاز مرتبته النبوية الرسالية، عن مرتبة ولايته التي هي عائدة إلى ربه سبحانه؛ وأما الاستثناء في المشيئة، فهو عائد إلى الله؛ ومعناه، سأملِك من نفع نفسي ومن اجتناب ضرّي، ما ملَّكَنيه الله فقط. فدلّ هذا، على أن العصمة النبويّة هي بالله وحده، وإن كان المتّصف بها بشريته صلى الله عليه وآله وسلم. وللورثة حظ من هذه الحقائق، فيقول الواحد منهم: قال لي الله كذا، وقلت له كذا؛ وهو علم لا ذوق فيه لأحد من هذه الأمة، بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلا هم عليهم السلام. وهذا يعني أن الحقّ يحدّثهم من غيبهم فحسب، فيردّون عليه من ولايتهم؛ وهؤلاء هم المسمَّوْنَ اصطلاحا "محدَّثين"، وهم المتحقِّقون بالحق، أهل التحقيق، ورثة النبّوة. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «قَدْ كانَ يَكونُ فِي الأُمَمِ مُحَدَّثُون، فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ، فَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ.»[3]؛ والحديث لا يدل على انفراد عمر عليه السلام بالتحديث، ولكن يدلّ على ظهوره في ذلك، بما لم يظهر به غيره من كبار الصحابة المرضيّين. وقد كان ذلك جليّا، في بعض مراجعاته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، التي نزل القرآن يُقرّها([4]). وهذا يعني، أنّ المحدّثين (وهم كُثر في هذه الأمة بحمد الله) في هذه المرتبة من مخاطبة الحق ومن سماعه، يكونون على وراثة، لا بالأصالة؛ لأن مرتبة الأخذ عن الله بالأصالة، لا تكون إلا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده. ونحن ما نفتأ نكرّر هذا القول على الأسماع، لعل الناس تستقرّ لديهم القاعدة التي ينبغي أن تُتّخذ أساسا في فهم معاني الدين. وعلى كل حال، فمن اهتدى في خضم هذا البحر بنور العلم، فإنه سيخرج سالما؛ وأما من علق في الألفاظ، ودخل عليها بعقله، فإنه سيضلّ في نفسه، وقد يكون سببا في إضلال الآخرين إن هم ائتمّوا به. وهذا الذي نحوم حوله، هو ما أنكره أمثال ابن تيمية، وعدّوا إنكارهم له من غيرتهم على الدين، ومن حراسة التوحيد، وهيهات!... وكيف يحرس التوحيد من لا يعلمه؟!... وأما أتباع أئمة الضلال، فإنهم في الغالب من مرتبة البهائم التي تكون على صورة الإنسان في الظاهر؛ أي هم لا يُدركون مما نقول إلا الحروف كتابة أو صوتا!... وسيبقى هنا سؤال فقهي، لا بد من أن يتبادر إلى أذهان السامعين، لإلفهم بالمنطق الفقهي في كل شؤونهم، وهو: ما الذي ينبغي على السامع، بخصوص شخص يقول: قال الله لي...؟ فنجيب بإذن الله: أولا: هذا الصنف من الأولياء، لا يُخبرون الناس قائلين: قال الله لي؛ لأنهم يعلمون أنهم ليسوا رسلا، وأن الناس سيتوقفون في كلامهم؛ وإن توقفوا، فإنهم سيكونون مكذّبين لله، ومن كذّب الله فهو على خطر؛ لذلك، فهم يُجنّبون الناس هذه الفتنة، التي قد ينشأ عنها الضرر البالغ لمن لم يحفظه الله... ثانيا: قد يكون صاحب هذا المقام، من أهل الحال، فيتكلّم بمثل هذه الأمور غلبة، ولا يأبه لأحد. وهذا، ليس للسامع معه إلا التسليم؛ لأن العقوبة مع هذا الصنف تكون عاجلة، يخرج الحكم بها من مظهر ذلك الوليّ نفسه. وقد قرأت في بعض كتب أهل الله المتضمّنة للكرامات: أن قاضيا من أهل بلد من البلدان، جالس جماعة، وكان فيها رجل يُخبر عن نفسه، فيقول: قال الله لي كذا، وقلت له كذا...، فسمعه القاضي (وهو من علماء الشريعة)، فقال له: ومن أنت حتى تقول قال الله لي، وقلت له؟!... وقد انقطعت الرسالة!... فنظر الولي إلى القاضي مغضبا، وأمره منتهرا: اُسكُتْ!... قيل: فما نطق القاضي بعدها قط، إلى أن مات!... وهذه الأمور متكرّرة مع هذا الصنف، ولقد عاينّا منها ما هو من سنخها؛ فلا يظنّ أحد أننا نُخبر عن إيمان مجرّد وحده... وإن كل الآيات القرآنيّة، التي يفهم الناس منها أنها كلام الله، هي من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من مرتبة الحق، لمن عقل عنّا؛ وذلك كقوله تعالى: {وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ ٱسۡجُدُوا۟ لِـَٔادَمَ فَسَجَدُوۤا۟} [البقرة: 34]، ونون الجمع في "قُلْنا" للظاهر وللمظهر، فإن كان القول صادرا عن المظهر الآدمي (وهو الراجح عندنا)، فالخطاب بالسجود هو من الله باطنا، ومن آدم ظاهرا، من كونه خليفة عن الله؛ وسيكون آدم عليه السلام خليفة في الخلافة عن الخليفة الأعظم، والذي هو نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم؛ أي متكلّما به. وأما إن اعتبرنا أن الخطاب قد وقع من المظهر المحمّدي المتجلي بحقيقة التجلّي الآدميّ، فإن الخطاب بالسجود سيكون من محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأصالة، ومن آدم باعتباره مُردّدا للكلام المحمدي وحاكيا. والسجود سيكون من الملائكة، بعد سماعهم الكلام من الله، بالواسطة المحمدية والآدمية؛ وكل هذا، مما تحتمله نون الجماعة المتصلة بفعل "قُلْـ" في الآية. وقد أثنى الله على الملائكة بالتضمين عند إخباره عنهم بالسجود للظاهر بالمظهر الآدمي. وإن هذا التصديق، هو التصديق في أعلى مراتبه؛ لا تصديق المؤمنين الذين يُؤتَوْن بالقرآن، فيُقال لهم: هذا كلام الله، فيُؤمنون. ويَعرِف علو مرتبة تصديق الملائكة، من عرف مرتبة الشيخ الرباني من جماعة مريديه، وحده. وقد يوجد من جماعة المريدين، من لو أخبره المشاهِد بما يعايِنُ، لكذّبه حتما. وأولئك المكذِّبون من أتباع الشيخ، يكونون من أتباع إبليس الذين يأبون السجود لـ "آدمهم"؛ خصوصا إن سمعوا الخبر من ثقة. وإنّ من لم يستطع التصديق بما هو فوق طوره، فليلزَم التسليم كما نقول دائما؛ والتسليم هو ألا يحكم لا بإثبات ولا بنفي، ويُفوّض الأمر إلى الله العليم بكل شيء. لذلك، فمن رزقه الله التسليم، فإنه ينتفع؛ وأما من سارع إلى الإنكار، فإنه يُكتب من أتباع إبليس إلا أن يتداركه الله برحمة من عنده!... ونحن قد عرفنا من جماعة شيخنا، أن جلّهم كانوا إما من أهل التسليم (وهم قلّة)، وإما من أتباع إبليس. وهذا التقسيم لا بد منه في جماعة الشيخ الرباني، لأن جماعته تكون شبيهة بجماعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أصحابه، مع الفارق من جهة النِّسب (بالمعنى الإحصائي)؛ وهذا يعني أن الاختلاف لا يكون إلا في قلّة أو كثرة الأصناف: فمثلا: كان المؤمنون في الصحابة شطر الجماعة الأكبر، وكان الواصلون منهم قلة، والمنافقون (أتباع إبليس) قلة أيضا. أما جماعات الشيوخ، فإنهم مع تقدّم الزمان، يقل فيهم الواصلون، ويقل عدد المؤمنين المرة بعد المرة، وتقع الزيادة في قسم المنافقين بقدر ذلك... ولقد كنا نقول لأصحابنا عندما كنا في زمن الخلطة، لا تظنّوا أنكم على دين مخالف لدين الصحابة!... وهذا يعني: أنهم كما ابتلوا في النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنكم ستُبتلون في شيخكم كما ابتُلوا، حتى يصح الحكم بوحدة الطريق. وأما من كان يظن أن ابتلاء الصحابة لا يُصيبه هو، فليعلم أنه على طريق التبرك الذي هو الإسلام العام، وإن كان من جماعة الشيخ فيما يبدو؛ وأما إسلام السلوك، فلا خبر له عنه!... وأما من خسر في الامتحان مع شيخ مربٍّ، وعاد إلى جماعة عوام المسلمين، ظنّا منه أنّه سيكون على الإسلام العام، فإنه سيكون واهما؛ لأن عوام المسلمين لم يُمتحنوا في ربانيّ، وهو قد امتُحِن؛ وهم مقلِّدون لفقهاء محجوبين لا يفقهون شيئا من معاني السلوك إلى الله، فيكونون في حكم من لم يبلغه من الدعوة، إلا دعوة الرسالة من الدين؛ أما الآخر فقد سمع دعوة النبوة من وارث، كما سمعها الصحابة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يُصدّق؛ فهنا سيفارق جماعة الصحابة المصدقين، ويلتحق بالمنافقين الذين بقوا على التظاهر بالإسلام، مع إنكارهم لبّه بقلوبهم. ولا ندري هل سبقنا في الدلالة على هذا التفريق كتابةً أحدٌ أم لا؟ وأما من جهة العلم، فإن كل الربانيّين عالمون بما ذكرنا. وإنّ علمهم هذا، هو مندرج ضمن الأحكام الشرعيّة، التي كان ينبغي أن يتضمّنها الفقه المعروف؛ لولا أن الغافلين من الفقهاء، قد عملوا على طمسها، إن هم سمعوها من الربانيّين. ولا يطمع أحد في الخروج من تبعات هذا الحكم الشرعيّ، إن بقي على جهله به؛ لأن الأحكام عاملة من ذاتها، ومستدعية لجزاءاتها بذاتها، من غير أن تنتظر إذنا من أحد. ولعمري، إن هذه القاعدة الفقهيّة وحدها، تُعدّ من عيون الفقه، على مرّ الأزمان، لمن عقلها!... وأما دعوة النبوة، فإنها تكون من باطن الشيخ لا من ظاهره، إلا نادرا، وبأسلوب الإشارة؛ فتعيها قلوب الأصحاب، فينقسمون كما انقسم المأمورون بالسجود لآدم عليه السلام، فيكون المصدّقون من أتباع الملائكة، ويلحق المنكرون بقلوبهم (ما داموا لا يجدون الشجاعة على الإنكار بالظاهر) بإبليس من طريق النفاق. ويصير المنافقون في الجماعة الربّانيّة، بلاء يبتلي بهم الله المؤمنين، حتى يجدوا منهم ما كان يجده الصحابة من صناديد قريش. وكل هذا الذي نُخبر به، قد ذقناه نحن في زمن شيخنا رضي الله عنه، فكان الله يرقّينا بما نجده من سوء المعاملة الصادرة عمن كانوا بحسب الظاهر من إخواننا... وقد ينحجب عن كلامنا في الآية من سورة البقرة، من يرى أن ذلك كان سابقا في الزمان، بينما الخطاب النبوي المحمدي كان في نهاية الثلث الأول من القرن السابع الميلادي، وكلام الشيخ الوارث قد يكون في القرن الواحد والعشرين الميلادي (مثلا)، وهذا يعني أن المتكلّم -في نظره- لا يُمكن أن يكون واحدا!... ومثل هذا، لا يستحق جوابا، وإنما يُرشد إلى ما يُعينه على التسليم، وهو أن الزمان لا يكون حاجبا لأهل الله؛ وإنما ينحجب به الفقهاء وعلماء الأكوان، وعوامّ النّاس؛ ومن سَلَّم سلِم. أما من حكم فيما لا مدخل له فيه بحكم نفسه وهواها، فإنه يكون قد استجلب على نفسه من الله السؤال والمحاسبة، ولينظر بعد ذلك: أهو ممن سيعفو الله عنهم، أم هو ممن سيؤاخذهم؟... وكما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التنصّل من الكذب في المواقف الحرجة، بقوله: «إِنَّ فِي الْمَعارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنِ الْكَذِبِ.»[5]، فكذلك إن في التسليم مندوحة عن الحكم. والمندوحة في المعنى هي عكس الإشارة، يفهم منها السامع خلاف الواقع. وعوامّ الناس، لا يعرفون سلوك درب المندوحة ولا التسليم؛ لأن جهلهم يسبقهم. ولو علم الناس، أن الله لم يكلّفهم بالحكم على كل ما يسمعونه -حتى يظنّوا أنه لا بدّ من أن يقبلوا الشيء أو يرُدّوه- لكانوا أقرب إلى النجاة؛ ولكنهم بجهلهم، يدخلون فيما لا مدخل لهم فيه، فيستجلبون على أنفسهم السؤال والمحاسبة. يقول الله تعالى: {مَّا یَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَیۡهِ رَقِیبٌ عَتِیدٌ} [ق: 18]، والأقوال من الناس متضمِّنة في الغالب لما يحكمون به. ويقول سبحانه أيضا: {وَإِنَّهُۥ لَذِكۡرٌ لَّكَ وَلِقَوۡمِكَۖ وَسَوۡفَ تُسۡـَٔلُونَ} [الزخرف: 44]؛ والذكر كما هو معلوم، هو هنا القرآن. والسؤال الذي سيسأله الله الناس، هو متعلّق بمدى مطابقة أحكامهم لأحكام القرآن: فمن طابقت أحكامه القرآن نجا، ومن حكم بهواه أو تقليدا لسواه، فإنه يكون ساعيا في هلاك نفسه... وقبل أن نغادر هذه المعاني، لا بد من التفريق في السماع من الحق، بحسب المراتب: ا. السامع الأول: يكون كل من سمع القرآن، أو سمع حديثا قدسيا؛ وهذا عام في المسلمين... ب. السامع الثاني: هو السامع من الشيخ، بعد أن يكشف الله للمريد حقيقة الشيخ؛ وهذا السمع للمريدين الصادقين، وهم قلّة... ج. السامع الثالث: وهو الولي الوارث، فهو يسمع من الحق من باطنه. وكل هؤلاء الثلاثة، هم مسؤولون، عن فعلهم بعد سماعهم؛ ولكلٍّ صنف من العقوبة يخصّه، وإن كان الوارث في الغالب معصوما عن هذه المخالفة. والكلام يطول في التفاصيل، ونحن نبغي الاختصار... ولنا في هذه الآية التي تناولناها من سورة البقرة، غنية عما لا يسعنا ذكره من القرآن، وهو كثير ومتشعّب العلوم؛ فلنكتف بما ذكرنا، ولنمض إلى العنوان الثاني:
المرتبة الثانية: الحديث القدسي: (يُتبع)
[1] . متفق عليه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. [2] . أخرجه مسلم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه... [3] . أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وأحمد، عن عائشة أم المؤمنين عليها السلام. [4] . لقد ذكرنا في غير هذا الموضع، كيف كان يتلقّى عمر رضي الله عنه، ما كان يتلفّظ به، مما كان يبدو مراجعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لذا لا ينبغي فهم الحديث على وجه واحد، وإن وافق الفهم ظاهر اللغة. [5] . أخرجه الطبراني، والبيهقي، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما؛ ووثق رجاله ابن حجر في "فتح الباري"، وشعيب الأرناؤوط في تخريج "شرح مشكل الآثار"، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد": (رجاله رجال الصحيح). |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.