اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2025/04/07 الإنسان القرآن (مقدمة في تفسير القرآن الكريــم) .26.(ج6) الباب الثاني: العلوم المتعلّقة بالقرآن الفصل العاشر: إعجاز القرآن(ج6)
(تابع) - الذرّة وما تحتها وما فوقها: يقول الله تعالى: {وَمَا یَعۡزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثۡقَالِ ذَرَّةٍ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِی ٱلسَّمَاۤءِ وَلَاۤ أَصۡغَرَ مِن ذَ ٰلِكَ وَلَاۤ أَكۡبَرَ إِلَّا فِی كِتَـٰبٍ مُّبِینٍ} [يونس: 61]: 1. إن معنى الذرّة عند الناس وقت نزول الآية وبعدها بقرون، لم يكن يتجاوز النملة الصغيرة، بالنظر إلى جنس الحيوان؛ أو الذرّ، ج: ذرارٍ، ومنه الذّريّة، وهو الطفل الصغير، ويُقصد منه النّسل، بالنظر إلى جنس الإنسان؛ أو الذرة، التي هي الهباء المنتشر في الهواء، والذي لا يُرى إلا على أشعّة الشمس الداخلة من ثقب إلى مكان مظلم، وهي أصغر جزء من المادة منظور آنذاك... 2. وقد كان للذرة معنى فلسفي، لدى قدماء فلاسفة اليونان خصوصا، لا يبعد عن معنى الهباء؛ عندما جعلوها أصغر وحدة معقولة، ضمن بناء العالم كلّه... 3. وأما الآن، فإن الذرّة هي أصغر جزء من المادة، بحالاتها الثلاث: الغازية، والسائلة، والصلبة. وتتكون الذّرة من نواة، بها جسيمات تحمل شحنة كهربائية موجبة تسمى البروتونات؛ وجسيمات لا تحمل شحنات كهربائية وتساويها في الوزن تقريباً تسمى النيوترونات؛ ويحيط بالنواة جسيمات أصغر من البروتونات تسمى الإلكترونات، تحمل شحنات سالبة، وعددها يساوي عدد البروتونات لتتعادل الذرة كهربائياً. وهذا التعادل، هو المتسبّب في الاستقرار الذرّي، الذي إن كُسر حاجزه عن طريق التحفيز، كما يحدث عند وقوع الانشطار النووي في ذرات العناصر الثقيلة كاليورانيوم، حيث تتحرّر الطاقة النووية الكامنة في النواة، بتحرّر البروتونات والنيوترونات من داخلها، لتنهدم المادة في صورها المعلومة. وهذا لا يحدث إلا في ظروف خاصّة جدّا، وضمن عمليات معقّدة جدا، كما يحدث في المفاعلات النووية، أو في النجوم التي الشمس أحدها... 4. إن الآية من سورة يونس، تدلّ على أن السماوات والأرض وما بينهما (الكون)، تمثّل الذرّة وحدة بنائه؛ وهي في الاعتبار وسط، بين جميع صنوف الأجسام، في اتجاه الكِبَر؛ وجميع الجسيمات تحت الذّرّيّة، في اتجاه الصِّغَر. فأما الأجسام الكبرى، فعلى رأسها السماوات والأرض أنفسها، ثم تليها الأجرام والأفلاك، وطبقات الغلاف الجوي ثم طبقات الأرض. ويدخل ضمن ذلك، الأجسام النورية التي للأملاك الطبيعيّين، والأجسام النارية التي للجن، ثم الأجسام الطينيّة التي للحيوان والإنسان. وأما المعادن والغازات والسوائل، فهي تفاصيل في الأجسام الصغيرة والكبيرة بحسب كل واحد منها. وأما الأجسام دون الذرّيّة في الصغر، فسيأتي الكلام عنها بعد قليل إن شاء الله... الجدول الدوري: [الجدول الدوري ترتيب مجدول للعناصر الكيميائية، مرتبة بحسب عددها الذري، والتوزيع الإلكتروني، والخواص الكيميائية المتكررة، والذي يُظهر هيكله اتجاهات دورية. بصفة عامة، تكون العناصر في الصف الواحد (الدورة) فلزات[1] (Metals) باتجاه اليسار، ولا فلزات باتجاه اليمين، بحيث توضع العناصر التي لها سلوكيات كيميائية مماثلة في العمود نفسه؛ وتسمى صفوف الجدول عادةً بالدورات، كما تسمى الأعمدة بالمجموعات. وتمتلك ستّ مجموعات أسماء بالإضافة إلى الأرقام المخصصة: على سبيل المثال، عناصر المجموعة 17 هي "الهالوجينات"؛ والمجموعة 18 هي "الغازات النبيلة". كما أنه يُعرض في شكل أربع مناطق مستطيلة بسيطة، أو مستويات فرعية، مرتبطة بملء المدارات الذرية المختلفة. يمكن استخدام تنظيم الجدول الدوري لاشتقاق العلاقات بين خواص العناصر المختلفة، وأيضا الخصائص والسلوكيات الكيميائية المتوقعة للعناصر غير المكتشفة أو المركَّبة حديثا. كان الكيميائي الروسي "ديمتري مندلييف" أول من نشر جدولا دوريا معروفا في عام 1869م، وقد تم تطويره بصفة أساسٍ لتوضيح الاتجاهات الدورية للعناصر المعروفة آنذاك. كما توقّع بعض خصائص العناصر غير المحددة التي كان يُراد منها أن تملأ الفجوات داخل الجدول؛ فثبتت صحة معظم توقّعاته. وقد تم توسيع تنظير "مندلييف" ببطء وتعديله، مع اكتشاف أو توليف عناصر جديدة أخرى، وتطوير نماذج نظرية جديدة لشرح السلوك الكيميائي. يوفر الجدول الدوري الحديث الآن، إطارا مفيدا لتحليل التفاعلات الكيميائية؛ ولا يزال يستخدم على نطاق واسع في الكيمياء، والفيزياء النووية، والعلوم الأخرى... تم اكتشاف أو تركيب جميع العناصر من العدد الذري 1 (هيدروجين) إلى 118 (أوغانيسون)، واستكمال الصفوف السبعة الأولى من الجدول الدوري. توجد العناصر الـ 98 الأولى في الطبيعة، على الرغم من أن بعضها موجود بكميات شحيحة؛ أما البعض الآخر، فقد تم تصنيعه في المختبرات، قبل أن يتم العثور عليه في الطبيعة. أما العناصر من 99 إلى 118، فقد تمّ تركيبها في المختبرات حصرا، أو في المفاعلات النووية. ويجري حاليا متابعة تجميع العناصر التي تحتوي على أعداد ذرية أعلى، والتي تبدأ في الصف الثامن، من قِبل متخصّصين مرشّحين لهذا العمل النظري. كما أُنتجت العديد من النويدات[2] المشعة الاصطناعية من العناصر الطبيعية في المختبرات.] [3]. الجسيمات دون الذرّيّة: وهي -كما يدل اسمها- بسائط الذرة، كما كانت الذرّات المختلفة بسائط المادّة. وإن للجسيمات دون الذرّيّة مستوييْن: الأول: هو ما يُعدّ مكوّنات للذرة، وهي: البروتونات، والنيوترونات، والإلكترونات. وتمثّل هذه الجسيمات الثلاثة كتلة الذرّة وشحنتها. الثاني: وهو الجسيمات التي تنتج عن التفاعلات النووية، والتي تكون غير مستقرة وتتلاشى بسرعة على هيئة جسيمات أخرى أو على هيئة طاقة إشعاعية. وقد قسم العلماء الجسيمات دون الذرية إلى فوتونات وفرميونات، وميوونات، موزعة على ثلاثة أجيال وهي: اللبتونات والكواركات والبوزونات. وهذه الأنواع تمثل الجسيمات الأولية، أي التي لم يثبت حتى الآن أنها تتكون من جسيمات أصغر منها، وإن كانت قد تدخل في تكوين جسيمات أخرى. فالكواركات مثلاً، هي الجسيمات التي يتكون منها كل من البروتون والنيوترون؛ وفي المقابل يتكوّن الإلكترون من اللبتونات. وإن حجم الجسيمات الأولية، أصغر بمقدار مئة مليون مرة من حجم الذرات، وبعضها عمره قصير جدا، يصل أحيانا إلى أجزاء من الثانية. وإن الأجسام فوق الذرّيّة، هي المشار إليها في الآية الحادية والستّين من سورة يونس، بقول الله تعالى: {وَلَاۤ أَكۡبَرَ}؛ وأما الجسيمات دون الذرّيّة، فهي المشار إليها بقوله سبحانه من الآية نفسها: {وَلَاۤ أَصۡغَرَ مِن ذَ ٰلِكَ}؛ وهذه المستويات الثلاثة من المادة، والتي هي الذرة، وما فوقها وما دونها، كلها محصيّة لله في كتاب مبين، والله يعلم كل ذلك من كل وجوه الإجمال، ومن كل وجوه التفصيل، بما لا يُتصوّر لكلّ عقول علماء الطبيعة... وإن الكلام عن الجسيمات دون الذّرّيّة، يأخذنا إلى الكلام عن فيزياء الكم، التي صار "العلماء" ينظرون إليها، وكأنها هي مستقبل الفيزياء؛ أي مستقبل العالم. والسؤال الذي ينبغي أن نسأله أولا، هو: هل كان عالم الكم موجودا قبل تعلّق إدراك أولئك العلماء به؟ أم حدث عند علمهم؟... ولا شك أن العاقل سيُجيب: بل كانت المادة على حقيقتها ذاتها، في زمن جهل الفيزيائيّين بالكم. وإن كان الأمر هكذا، فإن سؤالا ثانيا يحضر، وهو: فما السبيل إلى الجمع بين الفيزياء التقليدية وفيزياء الكم؟... وهما مختلفتان وعلى النقيض؟... وقد بدأ بعض المنظّرين يُنيطون الفيزياء التقليدية بالأجسام ما فوق الذريّة (الماكرو)، ويُنيطون خصائص الفيزياء الكمّيّة بالأجسام ما دون الذرّيّة (الميكرو). لكن حقيقة تضمن الماكرو للميكرو ثابتة، فكيف يتم الجمع بين المتناقضيْن ضمن عالم واحديّ الحقيقة في النهاية؟... وأما نحن (معشر العلماء بالله)، فإننا نعلم العالم على حقيقته، قبل أن يتوصّل الفيزيائيّون إلى ما توصّلوا إليه؛ ونعلم كيف يكون ثبوت الصفات والخصائص، وكيف يكون انتفاؤها. وما يقوله الكُموميّون، ليس إلا تعبيرا عمّا قلناه نحن بعباراتنا المخصوصة، مع إثبات أنه فوق ما يُدركون حقيقة. وما يتوقّف فيه علماء المادة من حيرة، إنما ذلك لغلبة الظلمة عليهم؛ وأما أهل النور فالأمور عندهم محلولة ومقبولة... وهذا الذي ذكرناه عن العلماء بالله وصفتهم، يدل على أن الأمر منصوص عليه في القرآن العظيم، الذي هو الكتاب الجامع لذكر كلّ شيء، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون... - المقادير والاستقرار: وهو جمع مقدار، وقد ورد باصطلاح القَدَر الذي جمعه أقدار أيضا. يقول الله تعالى: {وَإِن مِّن شَیۡءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَاۤىِٕنُهُۥ وَمَا نُنَزِّلُهُۥۤ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعۡلُومٍ} [الحجر: 21]؛ وهذا يعم كل الأشياء، والتنزيل هو من العلم إلى العين، والقدَر منوط بالبسائط والتراكيب؛ وهو ما ذكرناه في الجزء السابق، الحافظ لاستقرار الموادّ والأجسام. ويقول سبحانه أيضا: {وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءَۢ بِقَدَرٍ فَأَسۡكَنَّـٰهُ فِی ٱلۡأَرۡضِۖ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابِۭ بِهِۦ لَقَـٰدِرُونَ} [المؤمنون: 18]؛ وإناطة القدَر بالماء هنا، هو مما يوافق الملاحَظ مما يتعلّق به الناس طلبا لأرزاقهم المتوقّفة على نزول الغيث. وإن إنزال الماء من كل سنة (وهو ما لا يُتنبّه إليه كفاية)، لا يكون بالقدر ذاته؛ وإنما هو أقدار متفاوتة، بحسب تفاوت الأرزاق داخل كل سنة. فيُسكن الله من ذلك الماء النازل من السماء بأقدار، ما يشاء من أقدار في الأرض؛ وهي المياه الجوفية المتُوَصَّل إليها بالطرائق المعروفة. وكل هذا الذي يذكره الله، جاء على سبيل الامتنان؛ والله قادر على الذهاب بالقدَر الكافي من الماء، فتختل عندئذ دورة الحياة، ويصيب الناسَ من البلاء ما سيكون داخلا في الأقدار الأخرى من البلاء واضطراب الأحوال. وهكذا يظهر أن أقدار الاستقرار، تقابلها أقدار الاختلال؛ وهو ما يُفهم ضمن قول الله السابق: {وَإِن مِّن شَیۡءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَاۤىِٕنُهُۥ وَمَا نُنَزِّلُهُۥۤ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعۡلُومٍ} [الحجر: 21]؛ وعبارة {وَإِن مِّن شَیۡءٍ} تفيد الاستغراق، فيكون المعنى أن أحوال الاستقرار وأحوال الاختلال، كلها، تكون بقدَر معلوم. وعلم الله في جميع الأحوال، محيط بكل حال. وهذا، حتى لا يتوهّم ضعفاء العقول، أن الاستقرار الذي يعلمونه، هو المعلوم وحده والمـُراد؛ بل إن كل ما يحدث في العالم، وإن كان بحسب العادة، مما هو مخالف للأصل، أو هو مما يطرأ من الإفساد، بصرف النظر عن معلوميّته أو عدمها؛ لا يكون هو أيضا إلا بقدَر معلوم. وهذا يأخذنا إلى النتيجة الكبرى، التي ينبغي أن تكون نصب الأعين كلها، والتي هي: أن الله هو خالق الكون بالأقدار المحافظة على استمرار قيامه، فإذا شاء سبحانه هدمه، جعل الأقدار تتحوّل مما كان ضروريا لحفظ صورة الكون، إلى تلك التي تنهدم بها صورته. والأمران معا، هما من تقدير الله الذي يكون بحسب علمه المحيط سبحانه... ويدخل ضمن المعنى المذكور في الفقرة السابقة، معنى حفظ كل صورة كونية جزئيّة، مما يدخل عليه الفساد ضمن الدورات الصغرى؛ كما يحدث -مثلا- مع جسم واحد من الناس. ونعني، أن ذلك الجسم الإنساني، سيكون محفوظ الصورة (السلامة)، طالما الأقدار المتحكّمة في حفظها، تكون بحسب ما يُعطي ذلك؛ فإذا شاء الله أن يقع الاختلال في ذلك الجسد، فإنه سبحانه يأمر ملائكته المدبّرة لذلك الجسم، بتغيير الأقدار بحسب ما هو في العلم، فيقع للجسم المرض، الذي هو تعبير دارج عن اختلال الأقدار. فإن شاء الله أن يعود ذلك الجسم إلى الصحّة، فإن الله يأذن للأطبّاء (مثلا)، أن يعالجوا الجسم المعنيّ بما يُناسب صورة اختلال أقداره، فيعود إلى الصحة كما كان قبل الاعتلال. وأما إذا كان الله يريد إفناء صورة ذلك الجسم بالموت، فإنه سبحانه يأمر ملائكته، بإضافة اختلالات أخرى، إلى الاختلال الأول، فتزداد حالة الجسم سوءا إلى أن يموت. ونحن هنا لا نتكلّم عن صور الموت كلّها، وإنما نتكلّم عما هو متعلّق باختلال الاعتدال وحده، والذي يؤدّي إلى انحلال التركيب... وهنا ينبغي أن نتناول ما يعتقده المشركون من العامّة، من سلطان للأطباء، في مسألة الشفاء؛ وهذا، لأن من يعمل في أجسام الناس بتعديل الأقدار، هم الملائكة، لا الأطبّاء. والأطباء، هم الوجه الحِكمَويّ (السبب)، الذي يستر الله به قدرته فحسب. وقد يأذن الله لملائكته، أن تعمل عملها في الجسم، من دون سببيّة الأطباء، فيشفى الجسم من غير سبب ظاهر، أو باعتماد سبب آخر، مما لا يعرف عند عموم الناس. ولقد سمّينا تعلّق الناس بالأطباء شركا، لأنهم لا فعل لهم في الشفاء. يقول الله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {وَإِذَا مَرِضۡتُ فَهُوَ یَشۡفِینِ} [الشعراء: 80]، فنسب عليه السلام، عن علم، الشفاء إلى "رب العالمين"، ونفاه عن الأصنام التي كان يعبدها قومه. والأصنام، هي كل صورة حسّيّة أو معنويّة، ينسب إليها الجاهلون الفعل، من دون الله. وعلى هذا، فإن الأطباء، يكونون أصناما، في نظر من يتوهّم أن الشفاء بأيديهم. وهنا لطيفة، لا يحسن بنا تفويتها، وهي نسبة المرض من إبراهيم عليه السلام إلى نفسه، لا إلى ربه، بقوله: {وَإِذَا مَرِضۡتُ فَهُوَ یَشۡفِینِ}، فنقول: إن الصحّة التي يُعبَّر بها عن اعتدال أحوال الجسم، عند توافر أقدار المواد بحسب ما يكون من العلم بالصحّة، تكون من الله الممدّ بها، من كونها مددا وجوديّا. والمدد الوجوديّ هنا، منوط بكل عضو من الأعضاء على حدة، وبكل مادة تقوم بها صورته ووظيفته على حدة؛ فتكون الصورة العامة بعد إذن الله: صحة للجسم. وأما المرض، والذي هو اختلال في أقدار المواد، فإنه يكون بمنع المدد المخصوص، عن العضو المخصوص فحسب؛ وهذا يعني أنه عودة إلى العدم بالمعنى الجزئي. والعدم، هو حقيقة العبد، لا حقيقة الربّ؛ لذلك جعله إبراهيم العليم عليه السلام، من صفته لا من فعل ربّه. وكأنه -وهذا هو الواقع- يريد منّا، أن ننسب إلى الله كل وجود؛ وألا ننسب إليه أيّ عدم؛ وهذا، لأنه سبحانه جواد بوجوده؛ فإذا شاء أن يُفني صورة ما، أمر سبحانه بقطع مدد الوجود عنها جزئيّا أو كليّا؛ فإذا انقطع المدد، انهدمت الصور الكونيّة. وكما يقع لجسم واحد من الأجسام، يقع للجسم الكلّ (الكون)، عند إرادة الله إفناء الدنيا؛ والاختلاف، إنما يتعلّق بدرجة كبر إسقاط ما ذكرناه من معاني وحدها، على الكون الأكبر، لا بشيء آخر... وإن كل ما ذكرناه، من صحة الأبدان، قد صار مـُغفَلا في الطب "الحديث"؛ وإن ما يتعلّق بالاعتدال والاستقرار المنوطيْن بالكون، قد صار مغفلا بالنظر إلى الكون عند الفيزيائيّين خصوصا، وعند علماء الطبيعة عموما؛ فظهر أن الجهل عند "العلماء" أكبر من العلم. وعلى كل حال، فإن المسلمين، لا يليق بهم أن يسيروا على دروب الشرك التي يختطّها لهم المشركون المتعالمون، لأن الأمر أكبر مما يُدركه الكافرون، ولو شهدت لهم به، كلّ أجهزة القياس في العالم!... وإن الله قد سمى اختلال التوازن وذهاب الاستقرار بـ "الفساد"، فيقول سبحانه: {وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِی ٱلۡأَرۡضِ لِیُفۡسِدَ فِیهَا وَیُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا یُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ} [البقرة: 205]؛ والمعنى هو أن هلاك الحرث والنسل (الحياة النباتية والحياة الحيوانية)، لا يكون إلا بتحقّق الفساد، الذي هو الإخلال بالنظام في مجال الطبيعة. وقد ظهر هذا الفساد جليّا في زماننا، عند استجابة طبقة الأوزون لتضاعف نسبة تركيز ثاني أكسيد الكربون، التي تؤدي إلى انخفاض تركيزات الأوزون في طبقة الستراتوسفير السفلى الاستوائية، وإلى زيادة في خطوط العرض العليا وفي جميع أنحاء طبقة الستراتوسفير العليا. كذلك ظهر الفساد في الأطعمة والأشربة، عند تلوثها بالمواد غير الصالحة للاستهلاك الآدمي والحيواني. وينتج عن هذا التلوث -الذي يكون إما بالكائنات الدقيقة الضارة، وإما بالمواد الكيماوية السامة، أو بالمواد المشعّة القاتلة- أمراض مختلفة أشهرها التسمّم الغذائي. وقد يتسمّم النبات أو الحيوان، فتنتقل السموم عن طريق التغذّي عليهما إلى الإنسان. وعلى كل حال، فإن مجال هذا الفساد واسع، تُفرد له المصنّفات وحده... ومن صنوف الفساد أيضا، ما ذكره الله تعالى في قوله على لسان بلقيس رحمها الله: {قَالَتۡ إِنَّ ٱلۡمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا۟ قَرۡیَةً أَفۡسَدُوهَا وَجَعَلُوۤا۟ أَعِزَّةَ أَهۡلِهَاۤ أَذِلَّةً وَكَذَ ٰلِكَ یَفۡعَلُونَ} [النمل: 34]. وهذا من الفساد السياسيّ، لأن الملوك في حال عدم التزامهم بشريعة الله، يتجبّرون على الرعية ويُذلّونها؛ ويرون ذلك من حقوقهم عليها. والقرية في الآية بمعنى "المدينة"، لأن الملك في القديم، كان يتركّز في المدن وما حولها؛ ولم يكن العالم يعرف وقتئذ معنى الوطن الداخل في تعريف الدولة اليوم. فكان الفساد الذي تعرض له الآية، يُشهَد في المدن المركزيّة، ويخفّ كلما ابتعد الناظر عن المركز، بسبب غياب وسائل التحكّم التي عرفها العالم في الأزمنة المتأخّرة (لامركزيّة السلطة)... ومن صنوف الفساد أيضا، ما جاء ذكره في قول الله تعالى: {وَإِذَاۤ أَرَدۡنَاۤ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡیَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِیهَا فَفَسَقُوا۟ فِیهَا فَحَقَّ عَلَیۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَـٰهَا تَدۡمِیرًا} [الإسراء: 16]، وقد قُرئ في الآية بـ "أَمَرْنَا"، و"آمَرْنا"، و"أمَّرْنَا"؛ وإن كانت الأولى هي الأشهر. وقد قيل في معنى "آمَرْنَا": أكْثَرْنا، ومنه قول الله تعالى: {لَقَدۡ جِئۡتَ شَیۡـًٔا إِمۡرًا} [الكهف: 71]؛ أي شيئا عظيما. وهذا يقع، عندما يكثر عدد المترفين، ويصير زمام البلدان بأيديهم. وهو أيضا معنى "أَمَّرْنا"، الذي يعني أن أمر البلد قد أُسند إلى المترفين دون غيرهم. وأما "أَمَرْنا"، الذي عليه مدار المعنى، فقد قيل فيه: أُمِر المترفون بطاعة الله، لكنهم اختاروا الفسق؛ وهذا المعنى مناسب للظاهر. وقد يكون الفعل "أَمَرَ" من الله، بمعنى "أَرادَ"، لكونه سبحانه لا رادّ لقضائه. ونعني أنه عندما يقضي سبحانه على المترفين بالفسق، فإنّ ذلك يكون قهرا لهم عليه من جهة الغيب، فيخرج منهم الفسق خروجا تلقائيّا، وإن حكمت الشريعة عليه بكونه معصية. وحكم الشريعة، له مستند، وهو أن المترفين يكونون محجوبين عن قهر الله لهم في أفعالهم؛ بل لو سُئلوا لأصرّوا على اختيارهم للفسق؛ فلا سبيل لضعفاء الإيمان بإرادة الاعتراض علينا، وإن متابعة الكلام بقصد الفهم أولى لهم، لو كانوا يعلمون... وخلاصة معنى الآية الكريمة، هي أن الله إذا أراد أن يُهلك بلدا من البلدان، جعل عليه المترفين الفاسقين حاكمين ومسموعي الكلمة؛ فإذا شاع الفسق من عموم الناس متابعة لهم فيه، استوجب البلد الهلاك، فدمّره الله تدميرا؛ والإتيان بالمفعول المطلق من فعل "دَمَّرَ"، هو للدلالة على عدم الإبقاء منه على شيء. وهذا التدمير، تتولاه ملائكة العذاب، الذين تختلف أسباب تدميرهم بين إغراق، وإحراق، وخسف (زلازل)، واحتراب، أو سَنَة، أو وباء، أو غير ذلك من الأسباب... وهذا الفساد الذي تكون الإمامة فيه للأغنياء، يكون فسادا سياسيا واجتماعيا، فهو إذاً فساد عام. وإن الحال التي توجد عليها البلدان في أزمنتنا، تكاد تكون من هذا الصنف. وأما لِمَ كان المترَفون، ينزعون في الغالب إلى المعاصي والفسوق، دون الطاعة، فذلك لأن صفة الغنى في الظاهر، وعند اقتدارهم بأموالهم على فعل كثير مما يعجز عنه غيرهم، تجعلهم يتوهّمون أنهم على غنى مطلق؛ وهذه الصفة لا تكون إلا لله، لذلك فهم لا يكتفون بالمعاصي التي يتمكّن منها الفقراء أيضا، بل يريدون أن يمتازوا عنهم بمعاصٍ لا يقدر عليها سواهم؛ وهكذا، فإنهم يسقطون في الكبائر من الذنوب. وأما عندما يذلّون أو يقهرون من دونهم من الناس على المعصية، فإنهم يصيرون أئمة فيها، وبذلك يستحقّون أن تُكتب عليهم أوزار الناس إضافة إلى أوزارهم في نفوسهم؛ وهو ما يستجلبون به الهلاك على البلد بأكمله، من هذا الوجه أيضا... وقياسا على الفساد بالمعاني التي ذكرناها آنفا، فلنذكر اختصارا صنوفا من الفساد تتعلّق بالصحّة العقليّة و"النفسية" للناس؛ وأخرى تتعلّق بالخروج عن صفات الفطرة الآدمية، كما نرى في زماننا من تغيير للنوع (الجندر) وما يتبع ذلك؛ وصنوفا أخرى منوطة بانقلاب الناس شياطين، كما يُجاهر بذلك أقوام بيننا؛ إلى غير ذلك مما يدخل في كل مخالفة لكل نظام مخصوص بجانب من جوانب حيوات الناس، إما مباشرة، وإما بصفة غير مباشرة... وإذا كان الفساد هو الإخلال بالنظام، والخروج عن الاعتدال، فإن النظام الذي هو الصلاح، يكون هو غاية المصلحين، الذين يأتي الرسل عليهم السلام على رأسهم. ولهذا قد ذكر الله الإصلاح، في قوله تعالى (على لسان شعيب عليه السلام): {وَمَاۤ أُرِیدُ أَنۡ أُخَالِفَكُمۡ إِلَىٰ مَاۤ أَنۡهَىٰكُمۡ عَنۡهُۚ إِنۡ أُرِیدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَـٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُۚ} [هود: 88]؛ أي ما أريد أن أكون مـفسدا بمخالفتكم إلى ما أنتم عليه من فساد، وإنما أنا أريد الإصلاح لما أفسدتم، ما أقدرني الله على ذلك. ويقول سبحانه: {وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ ٱلۡمُفۡسِدَ مِنَ ٱلۡمُصۡلِحِۚ} [البقرة: 220]؛ أي المحافظ على الأنظمة، ممن يسعى في خرابها؛ ليجزي سبحانه كل صنف بما يُناسبه. وقد ذكر الله عن طائفة من اليهود، لن تزال هذه صفتهم أبدا: {كُلَّمَاۤ أَوۡقَدُوا۟ نَارًا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَیَسۡعَوۡنَ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًاۚ وَٱللَّهُ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِینَ} [المائدة: 64]. ومن ينظر إلى أكثر الحروب التي عرفتها "الأرض"، فإنه يجد هؤلاء المفسدين من اليهود خلفها. والفساد بالنظر إليهم، هو نظام بديل عن النظام الفطري والطبيعي؛ يعيشون عليه، كما يعيش من اختلّت وظائف جسمه على بعض السموم، مما هو معدود في الوضع الأصليّ للأشياء ضررا لا شبهة فيه!... ولنكتف بهذا القدر من الكلام في هذه المسألة، بعد أن بان الفرق بين الفساد والصلاح، وبين المفسدين والمصلحين... - الزوجية في المخلوقات: يقول الله تعالى: {وَمِن كُلِّ شَیۡءٍ خَلَقۡنَا زَوۡجَیۡنِ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49]، وهذا حتى تمتاز مرتبة المخلوق عن مرتبة الخالق؛ وهو أيضا ما يدلّ عليه قول الله سبحانه في معرض القَسَم: {وَٱلشَّفۡعِ وَٱلۡوَتۡرِ} [الفجر: 3]. وعلى هذا، تكون صفة الشفع، صفة للخلق؛ وتكون صفة الوتر، صفة للحقّ الذي يقوم به الخلق، وهو الواحد المكمّل لكل شفع. وهنا ينبغي علينا أن ندخل في الكلام عن حقيقة العدد بما هو جنس، والذي يبدأ من الاثنيْن فصاعدا؛ ليكون الشفع كل زوج بعد ذلك، ويكون الوتر معتبرا في كل ما خالفه من الأفراد. وهذا يعني أن أول فرد، هو الثلاثة، بخلاف من ينسب ذلك إلى الواحد. وهذا، لأن الواحد في حقيقته، ليس من العدد؛ وإن توهّم أصحاب الرياضيات غير ذلك. ونعني من كلامنا أن الواحد مرتبة مستقلّة بنفسها، لا يكون (ينتج) عنه شيء؛ والاثنان المتماثلان، هما أول العدد كما أخبرنا، ولا يكون عن هذه المرتبة أيضا شيء؛ لذلك كانت أول مرتبة للعدد الفرد. ومن أراد أن يُدرك ما ذكرنا على حقيقته، فلينظر إلى اجتماع المثيليْن من ذكريْن أو من أُنثييْن، ولينظر: هل يكون عنهما نسل؟!... بالقطع، كلا!... لهذا، لا يكون الإنتاج إلا عن الأفراد التي أولها الثلاثة. والثلاثة هي الاثنان المختلفان، يزيد عليهما الجامع بينهما بالنظر إلى محلّ الاختلاف. وهذا نظير المقدمتيْن: الكبرى والصغرى، والحدّ الأوسط، في المعقولات. وهذا التثليث، هو أصل كل فكر (نتاج عقلي)، مهما طال نسقه أو تشعّب. وأما في عالم الحيوان فإن الاثنيْن هما الذكر والأنثى، والجامع بينهما هو الاتصال المسمّى جماعا، حيث تغيب صورة الاثنيْن وتحلّ صورة الفرد، والنتاج هو ما يقدّره الله من ذلك الجماع من نسل، في كل نوع بحسبه. وإنّ مما شاءه الله في مخلوقاته، هو جعل مخلوق واحد على صفَتَيِ الذكورة والأنوثة معا، إما دفعة واحدة أو على التتابع؛ فيكون التلقيح عند إرادة الله، منه وبه، فيكون عنه النسل، وهو في المظهر واحد. وهذا الصنف من الحيوانات، يُسمّى "الهيرمافروديت" (hermaphrodite)، في مقابل الذكر وفي مقابل الأنثى؛ وهو يوجد في عالم النبات بأكثر مما يوجد في عالم الحيوان. وهو جمع في التسمية في اليونانية بين "هرمس" (إله بالزعم)، و"أفروديت" (إلهة بالزعم)... وإن الخلق الذين يُشبه ظهورهم عن الحق، ظهور النسل عن الوالديْن، لم يكن ذلك منه سبحانه، إلا بعد خلق الحقيقة الجامعة، فكانا اثنيْن في الاعتبار، وكانت المشيئة المتجلّية في الإرادة هي الثالث الجامع (دائما في الاعتبار)؛ فلما شاء الله أن يخلق الخلق توجّه على الحقيقة بإرادته، فكانت المخلوقات تظهر بحسب مراتبها في الظهور. وقد ذكرنا في أول باب من هذا الكتاب، بأن أول المخلوقين كانوا رؤساء الملائكة، ثم بعد ذلك الخلاء، ثم العرش، ثم الأفلاك، ثم السماوات، ثم الأرض؛ ثم المخلوقات الناشئة بين السماء والأرض، من نسل المعادن، ونسل النبات، ونسل الحيوان، ونسل الإنسان. وخرج كل صنف من هذه الأجناس على صورة الأصل من ذكر وأنثى، وخرج كل نوع وكل فرد على تلك الصورة. فالأنوثة والذكورة في المعادن، هي القابلية للاتصال بذرات مخالفة، ضمن التفاعلات المنتجة لذرّات جديدة؛ وهي في النبات قابلية التلقيح من نبات آخر هو على التقابل من الأول؛ إن لم يكن النبات نفسه جامعا بين الذكورة والأنوثة. وإن الزوجية أكثر ظهورا في الحيوان، وفي الإنسان فيما بعد... وما ذكرناه عن الحق في الاعتبارات التي عنها نشأ الخلق، هو ما دعا صنفا من الناس إلى وصف الخلق بالبنوة ووصف الحق بالأبوة، تعالى الله عن ذلك؛ وجعلوا الكلمة على صفة الأنوثة، سواء أعلنوا ذلك أم لم يُعلنوه. وهذا الترتيب، هو أصل التثليث الذي عليه النصارى، والذي أنكره الله عليهم، في قوله تعالى: {لَّقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِینَ قَالُوۤا۟ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلَـٰثَةٍ وَمَا مِنۡ إِلَـٰهٍ إِلَّاۤ إِلَـٰهٌ وَ ٰحِدٌ وَإِن لَّمۡ یَنتَهُوا۟ عَمَّا یَقُولُونَ لَیَمَسَّنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۡهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمٌ} [المائدة: 73]. والذي أنكره الله على المثلّثين، هو جعل الاعتبارات التي ذكرناها نحن، والتي كانت أصلا لخلق الله للخلق، ذواتٍ (أقانيم)؛ وذلك عندما قاسوا الحق على الخلق. ونعني أنهم كما نظروا إلى استقلال الذكر عن الأنثى في العالم الأرضي، وإنتاجهما لذات ثالثة هي الولد؛ فكذلك نظروا إلى عالم الحق المسمّى عندهم ربّا، وعندنا "الله"، فعدّدوا في ذات الحق، فكان ذلك مناط كفرهم. وأما أهل التوحيد، فإن تلك كلّها عندهم اعتبارات في ذات واحدة. وإن أصعب شيء على من لا نور له، هو اعتبار تثنية الذات عند خلق الله للحقيقة الجامعة؛ لأنهم لا يرونها حقا خالصا، ولا هي خلق خالص. والحق فيها، هو كونها اعتبارا في الذات، به تثنّت في الاعتبار لا في الذاتيّة، ليخلق الله بعد ذلك الخلق بحسب الترتيب الذي ذكرناه في مراتب ظهور الخلق... وإن التوحيد الذي ذكرناه في مرتبة الحق، هو أصل التوحيد في كل المراتب التي دونها؛ وليستا إلا مرتبة الصفات ومرتبة الأفعال، مع ما ينشأ عنهما من المراتب الفرعيّة التي هي نظير النسل بالنسبة إليهما. وهذا البحر من العلم، لا يُدخل إلا بإذن خاص؛ وإلا هلك فيه الداخل هلاكا مبرما. وأما التوحيد الشرعي، فهو الصورة الدنيا للتوحيد في مراتب الذات الثلاث، وهو حقيقة توحيد مرتبة الألوهة في الاسم الله، عند اعتقاد أنه هو المتجلّي من خلف كل اسم إلهي، عند ظهوره بكل مظهر سماويّ أو أرضيّ. وكل ما هو وراء هذا، فهو من العلوم الخاصّة التي لا يُتكلّم فيها إلا بإذن خاص... وأما الحق في مرتبته سبحانه، فينفرد من خلف واحديّة ألوهيّته، بصفة أحديته، التي هي صمديته[4]. وعلى كل مَن لم يُدرك معنى الأحدية ومعنى الصمدية، من علماء الدين، أن يؤمنوا بما أخرجنا لهم من لباب العلم، ليكونوا من المؤمنين حقّا؛ وأما من لم يُصدّقنا، عند كلامنا في علوم النبوة، فليعلم أنه من الكافرين عند الله، وإن صلى وصام، وحج واعتمر!... وإن هذا الحكم، ليس من عنديتنا، معاذ الله!... وإنما هو من حكم الحقائق الذي لا يتخلّف. يقول الله تعالى في حكم الحقائق: {سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِی قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلُۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبۡدِیلًا} [الفتح: 23]. ويقول الله عن المصدّقين بما يُخبَرون به من علم النبوة: {كُنتُمۡ خَیۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ} [آل عمران: 110]؛ ومعنى {وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ}: تصدّقون به، إن هو وُصف لكم على لسان نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم، وألسنة الورثة عليهم السلام. وأما من سمع الوصف ولم يُصدّق، بتحكيم عقله في نفسه، أو بتقليد أئمته من غيره، فهو كافر بالمعنى اللغوي، الذي يقوم عليه المعنى الشرعي. يقول الله تعالى: {وَمَن لَّمۡ یَحۡكُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡكَـٰفِرُونَ} [المائدة: 44]؛ ومعناه: من لم يحكم بأحكام الله في الحقائق والشرائع، فأولئك هم الكافرون بالمعنى الأصلي. ويقول سبحانه أيضا: {وَمَن یَدۡعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ لَا بُرۡهَـٰنَ لَهُۥ بِهِۦ فَإِنَّمَا حِسَابُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦۤۚ إِنَّهُۥ لَا یُفۡلِحُ ٱلۡكَـٰفِرُونَ} [المؤمنون: 117]؛ أي لا برهان له به في الحقائق والشرائع، مما جاء على ألسنة الأنبياء والورثة؛ لا مما تحكم به العقول. وهذا، لأن العقول قد تحكم بغير الحق، إن هي فسد نظامها. ويقول سبحانه أيضا: {وَیَسۡتَجِیبُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَیَزِیدُهُم مِّن فَضۡلِهِۦۚ وَٱلۡكَـٰفِرُونَ لَهُمۡ عَذَابٌ شَدِیدٌ} [الشورى: 26]؛ ومعنى "آمنوا" في الآية: صدّقوا بما أخُبِروا به في آيات الوحي؛ وأما من كذّبوا الآيات، فأولئك هم الكافرون. ويقول سبحانه أيضا: {وَكَذَ ٰلِكَ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَۚ فَٱلَّذِینَ ءَاتَیۡنَـٰهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ یُؤۡمِنُونَ بِهِۦۖ وَمِنۡ هَـٰۤؤُلَاۤءِ مَن یُؤۡمِنُ بِهِۦۚ وَمَا یَجۡحَدُ بِـَٔایَـٰتِنَاۤ إِلَّا ٱلۡكَـٰفِرُونَ} [العنكبوت: 47]، فظهر جليّا أن الجحود بالآيات، هو الجحود بالكتاب الذي دُعِي الناس إلى الإيمان به. وإن علماء الدين، إذا ردّوا معنى من معاني الآيات التي نُخبِر عنها نحن وأمثالنا، فإنهم يكونون كافرين بالمعنى الشرعي من جهة الباطن، من غير أدنى شكّ. وإن الباطن معتبر في الإيمان مع الظاهر، وإن اعتبار الظاهر وحده، هو من حكم الدنيا، لا من حكم الحقيقة والآخرة. ومن هذا الباب، أمن المنافق على نفسه في الدنيا، عندما كان على إيمان منوط بالظاهر دون الباطن. وإن السّعة، التي يراها الجاحدون بالآيات، لأنفسهم، ما هي إلا وهم يدلهم عليه الشيطان ليكونوا من أتباعه!... وأما العلم فيَأْباها، ويدلّ على غيرها، من وجوب اتباع المـُخبِر الرّبّانيّ، لو كانوا يعلمون... وهنا ينبغي علينا التفريق بين المؤمنين الأولين والمتأخرين من هذه الأمة، عند اعتبار المنافقين بينهم: ونعني أن المنافقين كانوا قلّة بين الأولين، بسبب غلبة النور النبوي في الظاهر والباطن؛ وأما المتأخّرون، فيكثر فيهم المنافقون، بسبب تغليب اعتبار الظاهر على الباطن. وهذا هو ما يجعل المؤمن في آخر الزمن يتخفّى، كما كان يتخفّى المنافق في أوّله؛ وهو ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «يَأْتِي زَمانٌ عَلَى النَّاسِ، يَسْتَخْفِي الْمُؤْمِنُ فِيهِمْ، كَما يَسْتَخْفِي الْمُنافِقُ فِيكُمُ الْيَوْمَ.» [5]. وسبب تخفّي المؤمن في المتأخرين، هو الخوف على نفسه؛ لأن الحكم العام في الأمور، سيكون تبعا للنفاق لا للإيمان. وهذا جليّ في زماننا، لا يقبل الجدل؛ إلا لمن فقد نور البصيرة!... - دورة الحياة: يقول الله تعالى: {یُخۡرِجُ ٱلۡحَیَّ مِنَ ٱلۡمَیِّتِ وَیُخۡرِجُ ٱلۡمَیِّتَ مِنَ ٱلۡحَیِّ وَیُحۡیِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۚ وَكَذَ ٰلِكَ تُخۡرَجُونَ} [الروم: 19]. المقصود من الحيّ والميّت، النبات وأصله من البذور؛ وقد جاء ذلك واضحا في قوله سبحانه: {إِنَّ ٱللَّهَ فَالِقُ ٱلۡحَبِّ وَٱلنَّوَىٰۖ یُخۡرِجُ ٱلۡحَیَّ مِنَ ٱلۡمَیِّتِ وَمُخۡرِجُ ٱلۡمَیِّتِ مِنَ ٱلۡحَیِّۚ} [الأنعام: 95]، والحبّ هو أصل السنابل، والنوى هو أصل النخيل. وليس الموت إلا الانفصال والكمون، وأما الحياة فهي مجموع الوظائف التي عنها يكون النموّ ويكون الإعقاب. وإن معنى إخراج هذا من ذاك، هو الانفصال؛ بحيث ينفصل الجسم الحيّ من الجسم الميّت، ويندثر هذا الأخير بعد تغذّي الأول عليه؛ وبحيث ينفصل الميّت من الحي، ويصير في صورة ما سبقه. والمـُراد هو كما يحدث للسنبلة بين الحبة التي نشأت عنها، والحبّات المنفصلة عنها، خصوصا بعد بدوّ اليبس على أجزاء السنبلة، وعودتها تبنا. وما يصحّ بالنظر إلى الحبة مع السنبلة، هو ذاته ما يقع للنواة مع النخلة، ويقع لسائر صنوف النبات. وهذا المرور من صورة إلى صورة، هو ما يُعبّر عنه بدورة حياة مخلوق ما... وقد نظرنا إلى أقوال المفسرين في الآيتيْن السالفتيْن، فوجدنا بعض القصور في تلك الأقوال، ومن ذلك: = تفسير فلْق الحبة والنواة، بغير ما هي عليه في صورتها، من انقسامها إلى شقّيْن. ومعنى "فَلَقَ" في اللغة: شَقَّ؛ فيكون معنى فالق الحب والنوى، من جعله مشقوقا نصفيْن. وذلك الفلْق، هو موضع انشقاق غلاف البذرة، بعد اختمارها؛ ليظهر -كما هو الشأن في حبة القمح- ساق النبتة الذي سيتغذّى على مخزون البذرة (من بروتين وكاربوهيدرات وكالسيوم ودهون)، قبل أن تظهر له الجذور من الجهة السفلية، لتتم التغذية عن طريق الماء والمعادن المحلولة فيه من التربة. = معنى الميّت في الآيتيْن، ليس هو الموت بالمعنى البيولوجي، ولكن هو الحياة في حال الكمون، مع تغيّر الصورة. وهذا يظهر جليّا، في منيّ الرّجل وبييضة المرأة، اللذيْن عدهما المفسرون خطأ داخليْن في معنى الميّت. ولقد كان عليهم -على الأقل- اعتبار المائية في منيّ الرجل والمرأة، وبما أن الماء قد جاء فيه قول الله تعالى: {وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَاۤءِ كُلَّ شَیۡءٍ حَیٍّۚ} [الأنبياء: 30]؛ وهذا يعني أنه أصل الحياة، ولا يُمكن لأصل الحياة أن يكون مواتا بالمعنى البيولوجي كما أسلفنا، وإنما هو صورة كمون للحياة، وظروف مناسبة لنموّ الأحياء المختلفة. ولقد غلط بعض القاصرين أيضا من مدّعي "العلميّة" عندما ظنّوا أنهم قد ظفروا بمَمْسَك لهم على القرآن، عند إدراكهم لمعنى الحياة البيولوجية وحده؛ فأنكروا أن يكون الميّت أصلا للحي، والحقيقة هي أن معنى الحياة ينصرف إلى أمريْن: الأول: هو كمون الحياة، بالمعنى البيولوجي. وهو الطور الذي يسبق ظهور علامات الحياة من النبات أو من الحيوان. الثاني: هو الحياة بعد نفخ الروح. وهنا يفترق العلماء الربّانيّون عن علماء البيولوجيا، عندما يبقى البيولوجيون مع مظاهر الحياة، ويتعلّق علم الربّانيّين زيادة على الحياة بالمعنى البيولوجي، بالحياة بالروح. ونعني من هذه المقابلة، أن البيولوجيّين لا يفرّقون بين الحياتيْن، ويرون الجنين الآدمي في بطن أمه، حيّا متغذّيا على دمها؛ فإذا انفصل عنها، واستقل بالتنفس المخصوص به، وصار يتغذّى على حليبها قبل أن يقدر على هضم غذائه بنفسه، رأوه حيّا؛ بخلاف من يحدث له الموت البيولوجي في بطن أمه، أو بعد الولادة لسبب من الأسباب. ويخفى عن علماء البيولوجيا، أن الجنين قد نفخ فيه الروح، بعد اكتمال تهيُّئه لذلك من جهة المزاج المعني النامي على دم الأم؛ ويخفى عنهم أن ذلك الروح، هو الشرط في قبول الجنين للنمو في مراحل مخصوصة من حياته الجنينيّة، وما بعد الولادة؛ وأن الروح إن انفصل -بطريقته- عن الجسم المنوط به، فإن الموت يقع، وإن بقيت الظروف البيولوجية من جهة الظاهر متوافرة. ومن عجز من "العلوميّين"، عن إدراك ما نقول، فليعلم أنه قاصر، أعمى عن شطر الحقيقة الآدميّة. فإن اعترض أحدهم على كلامنا، بأن النبات والحيوان، لم يُخبر أحد بنفخ الروح فيهما، مع تحقّق الحياة البيولوجية في المرحلة الجنينيّة أو ما يكون نظيرا لها، وفيما بعدها، بما لا يختلف عن حياة الإنسان من الناحية البيولوجية؛ فإننا نقول: * إن للنبات وللحيوان أرواحا مخصوصة بها، سمّاها الفلاسفة الأقدمون: نفوسا نباتيّة ونفوسا حيوانيّة. وإن ما ذكرناه من شرط الروح لاستمرار حياة الإنسان في سائر مراحلها العمرية ما بعد الولادة، هو ذاته ما يُشترط لاستمرار حياة النبات في مراحل عمر نموه بعد فناء البذور، وما يُشترط لاستمرار حياة الحيوان بعد انفصاله عن الرضاع من أمه. وغياب الروح عن الجسم، هو السبب الأساس لحدوث الموت من النبات ومن الحيوان؛ وأما الأسباب المـُدرَكة من جهة البيولوجيا، فهي لاحقة لانفصال الروح. نعم، قد يحدث العكس من الأجسام الحيّة كلها، عند انعدام أسباب الحياة البيولوجية من غذاء وهواء، فيؤدّي ذلك إلى انفصال الروح عن جسمه. وهذا يؤكّد ارتباط الأجسام بأرواحها، على مقتضى شروط جعلها الله حاكمة على هذه الحياة. * إن الروح الإنساني هو أعلى طبقات الأرواح مما ذكرنا، وهو الذي سماه الفلاسفة النفس الناطقة. ومعنى النطق حقيقة عند الفلاسفة، هو النطق العقلي المسمّى فكرا. وهذا، فيما يتعلّق بعموم الجنس؛ وأما خواص بني آدم، فلهم التلقّي عن الله، وحيا وكشفا. وهذه المرتبة العليا، هي التي أهّلت الواحد في الزمان، لنيل مرتبة الخلافة عن الله. * إن الموت، ليس هو الموات البيولوجي، وإنما هو صورة إما لكمون الحياة، كما هو شأن البذرة قبل السنبلة وبعدها ضمن دورة حياتها؛ أو هو انحلال تركيب الجسم، وانفصال النفس عنه، فيما يتعلّق بالإنسان. وبما أن النفس الإنساني لا يموت، فإن موت الإنسان، لا يكون إلا عودة الجسم إلى أصله الترابي (المعادن). وبهذا تختلف دورة الحياة الآدمية والحيوانية، عن دورة الحياة النباتية؛ لأن الحيوان والإنسان ينتجان عن المنيّ الذي يُنتجه جسماهما، وأما نهاية الجسم عند الموت فلا تكون منيّا، بل تكون ترابا. وفي هذه الخصيصة الحيوانية والإنسانية، ربط لدورة الحياة بالأرض؛ ليكون بذلك دلالة على أصل خلقهما الذي قال الله فيه: {وَٱللَّهُ أَنۢبَتَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ نَبَاتًا} [نوح: 17]. فالتقى الحيوان والإنسان من هذا الوجه، مع النبات في النباتية، رغم اختلاف الصورة من حيث البساطة والتركيب. وأما الموات، فهو الفساد الذي يلحق فيما يخص النبات: التربة أو البذور وما في معناها؛ وهو فساد التركيب الجسماني بالنظر إلى الحيوان والإنسان، الذي ينشأ عنه فساد الوظائف العضويّة. وخلافا لما يراه البيولوجيّون من أن الوظائف الحيويّة هي الحياة، نحن لا نراها إلا مظاهر لها، توجد مع الروح وتنعدم بانفصاله. وإننا نرى أنه لا بد من إضافة الخصائص الروحية، إلى علم البيولوجيا ليكتمل، ولا يعود مقتصرا على مظاهر الحياة وحدها، بدل حقيقتها... وقد ذكر الله إحياء الأرض بعد موتها، بعد ذكر حياة النبات، ليُنبّه عبده إلى ما يُشبه الحمل لديها، بعد نزول الغيث، ثم ظهور ما هو بمثابة نسلها من صنوف النباتات؛ فأخبر سبحانه عن ذلك في قوله: {وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ هَامِدَةً فَإِذَاۤ أَنزَلۡنَا عَلَیۡهَا ٱلۡمَاۤءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡ وَأَنۢبَتَتۡ مِن كُلِّ زَوۡجِۭ بَهِیجٍ} [الحج: 5]، وقبل ذلك بدأ بذكر دورة حياة الإنسان ومراحلها، ليربط كل صنوف الحيوات بحياة الخليفة الإلهي، قائلا تعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِی رَیۡبٍ مِّنَ ٱلۡبَعۡثِ فَإِنَّا خَلَقۡنَـٰكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٍ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضۡغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَیۡرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَیِّنَ لَكُمۡۚ وَنُقِرُّ فِی ٱلۡأَرۡحَامِ مَا نَشَاۤءُ إِلَىٰۤ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلًا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوۤا۟ أَشُدَّكُمۡۖ وَمِنكُم مَّن یُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن یُرَدُّ إِلَىٰۤ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَیۡلَا یَعۡلَمَ مِنۢ بَعۡدِ عِلۡمٍ شَیۡـًٔاۚ} [الحج: 5]، وهذا ليميّز سبحانه، بين حياة الجنس وحياة الفرد؛ من الحيوان والإنسان. فحياة الجنس، تتحقق عبر الحيوات الأرضية عن طريق التوالد؛ ولكنها تكتمل بالنظر إلى البعث الأخرويّ، بالقيام مرة أخرى عند اجتماع النفوس ثانية بأجسامها التي ستُخلق مرّة ثانية. فأما الحياة الأخروية للإنسان، فهي معلومة التفاصيل، ويتبعها الجزاء الذي يُلقّاه كل فرد عن عمله، فيكون التنعيم في الجنة للمحسنين، ويكون التعذيب في النار للمسيئين. وأما أفراد الحيوانات، فتُبعث للقصاص، ثم تعود ترابا، كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «إِذَا كانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، مُدَّ الْأَدِيمُ، وَحُشِرَ الدَّوَابُّ وَالْبَهائِمُ وَالْوَحْشُ، ثُمَّ يَحْصُلُ الْقَصَاصُ بَيْنَ الدَّوابِّ، يَقْتَصُّ لِلشَّاةِ الْجَمَّاءِ (لا قرن لها) مِنَ الشّاةِ الْقَرْناءِ نَطَحَتْها؛ فَإِذا فُرِغَ مِنَ الْقَصاصِ بَيْنَ الدَّوابِّ، قالَ لَها (الله): كُونِي تُراباً. قالَ (النبي صلى الله عليه وسلم): فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ الْكافِرُ: {یَـٰلَیۡتَنِی كُنتُ تُرَ ٰبَۢا} [النبأ: 40]»[6] . ومعنى قول الكافر هذا، يُعرب عن تمنّيه لو كان حيوانا غير مكلّف؛ والكافر يكون إما إنسيّا أو جنّيّا، لأنهما وحدهما المكلّفان من بين سائر المخلوقين. وهنا لطيفة ينبغي أن نذكرها، وهي حقيقة الأنعام والطيور التي تكون من زينة الجنّة ومن طعامها؛ ونعني أنها غير تلك التي قيل لها بعد الفراغ من القصاص: كوني ترابا؛ بل هي مخلوقات جديدة مناسبة للجنة. وعليها تُقاس الوحوش والثعابين والعقارب التي تكون في النار، ليُعذّب بها المجرمون؛ فهي مخلوقات من جنس النار، وليست تلك التي عادت ترابا. وأما قول الكافر الذي ذكره الله على لسانه: {یَـٰلَیۡتَنِی كُنتُ تُرَ ٰبَۢا}، فهو ناتج عن جهله؛ لأنه لو علم السرّ من خلقه، لما تمنى أن يكون كالحيوان الذي هو أنزل منه مرتبة من جهة النشأة على كل حال. وسيعلم الكافر هذا المعنى، بعد انقضاء أحقاب العذاب عليه، وعندما يُثمر له التطهير الناري بِطوله معرفة بربّه تخصّه... وعلى هذا، فإن من لا علم له بالآخرة، لا بد أن يغيب عنه شطر من معنى حياة الإنسان العام. فإن غاب عنه ذلك الشطر، لا يُمكن أن نصدّقه في الدنيا، عند إخباره عن حياة الإنسان البيولوجية، وكأنها كل حياته!... فليتنبّه العلوميّون إلى القصور الذي لديهم، فإنهم إن لقوا الله يوم القيامة عليه، سيكونون من الخاسرين. والعلم النافع، لا يمكن أن يعود على صاحبه عذابا في الآخرة، فليُتنبّه إلى هذا الأصل!... وإلا ما سُمِّي نافعا!... (يُتبع) [1] . الفلز هو العنصر الكيميائي الذي يفقد الإلكترونات، ليكوّن أيونات موجبة (كاتيونات)، وتوجد رابطة فلزية بين ذراته؛ كما يتم وصف الفلزات أيضا على أنها شبكة من الأيونات الموجبة (كاتيونات) داخل سحابة من الإلكترونات. وتقع الفلزات في المجموعات الثلاث للعناصر التي تتميز بتأيّنها وخواصها، ومع أشباه الفلزات واللافلزات. وعند رسم خط مائل في الجدول الدوري من البورون إلى البولونيوم فإن هذا الخط يفصل الفلزات عن اللا فلزات، وتكون العناصر الواقعة على هذا الخط هي أشباه الفلزات، وتكون العناصر التي تقع أسفل يسار الخط هي الفلزات؛ وأما تلك التي تقع أعلى يمين الخط فهي اللافلزات. واللافلزات متوفرة في الطبيعة أكثر من الفلزات، ولكن الفلزات تكوّن أغلب الجدول الدوري، وعددها حوالي 95 عنصر من أصل 118. ومن الفلزات المشهورة الألومنيوم، والنحاس، والذهب، والحديد، والرصاص، والفضة، والتيتانيوم، واليورانيوم، والزنك. الصور المتآصلة للفلزات، تميل لأن يكون لها بريق، ولدنة (elasticity)، قابلية للطرق، وتوصيل؛ بينما اللافلزات، فإنها (الصلبة منها) تكون هشّة في عمومها، وبدون بريق، وعازلة. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.