اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2025/01/24 الإنسان القرآن (مقدمة في تفسير القرآن الكريــم) .25 الباب الثاني: العلوم المتعلّقة بالقرآن الفصل التاسع: المنطوق والمفهوم والمطلق والمقيّد
1. تعريف المنطوق: ا. تحقيق الاصطلاح: المنطوق: اسم مفعول من "نَطَقَ"، وهو الكلام الذي يخرج حروفا وأصواتا في العادة من الناطق. والنطق بحسب الاستعمال الشرعي، يُنسب إلى الكتاب لا إلى الله؛ لأن الله يُنسب إليه الكتاب والكلام ذاتهما. يقول الله تعالى: {وَلَدَیۡنَا كِتَـٰبٌ یَنطِقُ بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ لَا یُظۡلَمُونَ} [المؤمنون: 62]، ويقول سبحانه أيضا: {هَـٰذَا كِتَـٰبُنَا یَنطِقُ عَلَیۡكُم بِٱلۡحَقِّۚ إِنَّا كُنَّا نَسۡتَنسِخُ مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} [الجاثية: 29]؛ ورغم أن ظاهر المعنى ينطبق في الآيتيْن على سجلّ الأعمال الذي تَنقل فيه كَتَبَةُ الملائكة أعمال المكلّفين، فإنّ المعنى الأول من غير شكّ يتنزّل على القرآن بما هو "الكتاب". كيف لا؟ وقد أنزل الله فيه: {لَقَدۡ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكُمۡ كِتَـٰبًا فِیهِ ذِكۡرُكُمۡۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} [الأنبياء: 10]... والقرآن الذي هو كلام الله، قد نطق به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي هو أول من سمعه منه الناس؛ يقول الله تعالى: {وَإِنۡ أَحَدٌ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ ٱسۡتَجَارَكَ فَأَجِرۡهُ حَتَّىٰ یَسۡمَعَ كَلَـٰمَ ٱللَّهِ} [التوبة: 6]. ولا يختلف المفسّرون في أن المخاطب من الآية هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لذلك فهو أول مصاديقها؛ فإن قرأ أحدٌ القرآن على أحد بعدُ، فذلك من مرتبة المأمومية لا الإمامة. ثم بعد أن قرأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن، أمر الكَتَبَةَ من أصحابه بكتابته توقيفا. ولهذا الكتاب المأمور بكتابته، أن ينطق، بما هو حروف وأصوات ووقوف. ولم نجد لهذا مثالا من جميع الوجوه، مع الفارق الثابت بين كلام الله وسواه، إلا الموسيقى التي هي كتابة وأصوات، ومن ضمن كتابتها السكَتات؛ وعلى هذا، فإن الوقف من القرآن هو داخل في معناه. ولم نجد من العلماء من نصّ على هذا، بهذه العبارات، وإن كانوا قد تناولوا الوقف بحدّه الأدنى... والمنطوق في الاصطلاح، هو ما يدلّ عليه اللفظ من مادّة حروفه، ومن أقسامه: النَّصّ، والظّاهر، والتأويل. - فالنص: هو ما يُفيد بنفسه معنى صريحا لا يحتمل سواه؛ وهو كقول الله تعالى: {فَصِیَامُ ثَلَـٰثَةِ أَیَّامٍ فِی ٱلۡحَجِّ وَسَبۡعَةٍ إِذَا رَجَعۡتُمۡۗ تِلۡكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]، الذي يُفيد منه اللفظ عدد العشرة، ويقطع احتمال ما دونها مجازا؛ وهذا هو الغرض من النّصّ. وقد اختلف الفقهاء في كثرة وجود "النّص" في القرآن، بين قائل بالنُّدرة، وقائل بالكثرة؛ والحقيقة أن لا اختلاف. وذلك لأن القائل بالندرة، يريد النص المستقلّ باللفظ؛ ولأن القائل بالكثرة قد عدل إلى اعتبار المعنى. وكلا الاعتباريْن صحيح، مع رجاحة الصنف الأول بخصوصية الدلالة من غير شك... - والظاهر: هو ما يسبق إلى الفهم من إطلاق اللفظ، مع احتمال ورود غيره احتمالا مرجوحا، أي مترتّبا على المعنى الظاهر. وهذا، كقول الله تعالى: {فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَیۡرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} [البقرة: 173]؛ لأن الباغي يُطلق على الجاهل وعلى الظالم، ولكنّ إطلاقه على الظالم أظهر وأغلب. فهو إطلاق راجح، والمعنى الأول مرجوح[1]. وهو أيضا (الظاهر)، كقول الله تعالى: {وَلَا تَقۡرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ یَطۡهُرۡنَۖ} [البقرة: 222]؛ لأن انقطاع الحيض يُسمّى طُهرا، والغسل أيضا يُسمّى طهرا. ودلالة اللفظ على المعنى الثاني أظهر، فهي دلالة راجحة والأولى مرجوحة. ومن تأمل معنى الظاهر، فإنه سيجده معنى راجحا، متضمّنا لمعنى (أو أكثر) غيره، هو الذي يكون مرجوحا؛ والمثالان السالفان واضحان من هذه الناحية، فلا داعي إلى النظر في غيرهما... ومما يُلحق بالظاهر، ما يحتاج إلى بيان: ومن ضمن هذا الصنف، كثير من أحكام الطهارة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والأنكحة، والجنايات وغيرها... وذلك كقول الله تعالى: {وَءَاتُوا۟ حَقَّهُۥ یَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ} [الأنعام: 141]، ولم يذكر كيفيّة الزكاة ولا نصابها، ولا أوقاتها، ولا شروطها، ولا أحوالها، ولا من تجب عليه مع من لا تجب عليه؛ كذا لم يبيّن الله من القرآن، عدد الصلوات ولا أوقاتها؛ وليُقَس على الزكاة والصلاة، ما يتعلّق بالصوم والحجّ أيضا. وهنا ستظهر قيمة السنّة المشرّفة بالإضافة إلى القرآن العظيم، ولا شك أن مسألة السنّة تتطلّب منّا فصلا مخصوصا، بالنظر إلى مكانتها في الوحي تعريفا وتشريعا؛ فلنرجئه بإذن الله تعالى إلى ما سيلحق من هذا الباب... - والتأويل: هو حمل اللفظ على معنى مرجوح، لدليل يمنع من إرادة المعنى الراجح؛ فهو مخالف لمعنى الظاهر لكون الظاهر يُصرف إلى المعنى الراجح، وهو (أي التأويل) يُصرف إلى المعنى المرجوح، لكن بشرط الدليل الصارف. ومثال هذا الصنف، قول الله تعالى: {وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ} [الإسراء: 24]؛ وذلك لعدم اشتمال جسم الإنسان على أجنحة، ولعدم تحقّق نسبة الجناح إلى صفة الذّل حسّا. فلزم من هذا، أن يُحمل معنى الآية على الخضوع للوالديْن والتواضع لهما... ومن أمثلة التأويل، ما ثبت في الصحيحيْن، عن ابن مسعود رضي الله عنه، لمـّا نزل قول الله تعالى: {ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَلَمۡ یَلۡبِسُوۤا۟ إِیمَـٰنَهُم بِظُلۡمٍ} [الأنعام: 82]، شقّ ذلك على المسلمين فقالوا: يا رسول الله، وأيُّنا لا يظلم نفسه؟! قال: «لَيْسَ ذَلِكَ! إِنَّما هُوَ الشِّرْكُ. أَلَمْ تَسْمَعُوا ما قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ: {یَـٰبُنَیَّ لَا تُشۡرِكۡ بِٱللَّهِۖ إِنَّ ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِیمٌ} [لقمان: 13]»[2] . ويُمكن أن نسمّي هذا الصنف من التأويل، إلحاقا للفرع بالأصل؛ وهذا، لأن الظلم الأكبر هو الإشراك بالله؛ وأما الظلم الأصغر الذي يتلبَّس الإيمانَ، فهو كل المعاصي المتعدّية وغير المتعدّية؛ والمعاصي المتعدّية هي المعروفة عرفا بظلم الغير، وغير المتعدّية هي المعروفة شرعا على الأخص، بظلم النّفس. ولا بد في التأويل، على ما بان، من أن يكون المؤوِّل على نور من ربّه؛ كما دعا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لعبد الله بن عباس عليهما السلام بقوله: «اَلَّلهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ!» [3]. فدلّ هذا التعليم المخصوص من الله ورسوله، على النور الذي اشترطناه؛ وهذا لأن تعليم الله ورسوله لا يكون إلا نورا، بينما يكون التعليم من الشيوخ والأساتيذ في أغلب أحيانه مخلوطا بين نور وظلمة؛ كما قد يكون في أحيان أخرى ظلمة صرفا. ولقد غلط الفقهاء غلطا كبيرا، عندما لم يشترطوا النور في العلم، فضلّوا بذلك على قدره، وأضلّوا... ب. دلالة الاقتضاء ودلالة الإشارة: قد يتعلّق معنى اللفظ بإضمار، فتسمّى دلالته: دلالة اقتضاء؛ وقد لا تُناط الدلالة بإضمار، فيدلّ اللفظ على ما لم يُقصد به أوليّا، فتسمّى الدلالة: دلالة إشارة. - فالصنف الأول: الذي هو دلالة الاقتضاء: هو كقول الله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِیضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنۡ أَیَّامٍ أُخَرَۚ} [البقرة: 184]؛ والمعنى: من كان مريضا أو على سفر، فأفطر؛ وهذا لأن قضاء الصوم على المسافر، إنما يجب عليه إذا أفطر في سفره؛ أما إذا صام في سفره فلا قضاء عليه. وقد خالف الظاهرية هذا الحكم، عندما أناطوا القضاء بكل مسافر؛ وهو بعيد عندنا، وإن كان معتبرا. ومن هذا الصنف (أي الاقتضاء) أيضا، قول الله تعالى: {حُرِّمَتۡ عَلَیۡكُمۡ أُمَّهَـٰتُكُمۡ} [النساء: 23]؛ لأنه يتضمّن إضمار الوطء ويقتضيه؛ ولأن التحريم لا يُضاف إلا إلى الأعيان، جاز إضمار الفعل المتعلّق به التحريم، وهو الوطء. وهذا النوع شبيه في اللغة بحذف المـُضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وهما معا من باب إيجاز القصر في البلاغة؛ وسُمِّي اقتضاءً، لاقتضاء الكلام شيئا زائدا على اللفظ. - والصنف الثاني: الذي هو دلالة الإشارة: هو كقول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمۡ لَیۡلَةَ ٱلصِّیَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَاۤىِٕكُمۡۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسٌ لَّهُنَّۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَكُمۡ فَتَابَ عَلَیۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ فَٱلۡـَٔـٰنَ بَـٰشِرُوهُنَّ وَٱبۡتَغُوا۟ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَكُلُوا۟ وَٱشۡرَبُوا۟ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَیۡطُ ٱلۡأَبۡیَضُ مِنَ ٱلۡخَیۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ} [البقرة: 187]، فإنه يدلّ على صحّة صوم من أصبح جُنُبا، لأنه يُبيح الوطء إلى طلوع الفجر، بحيث لا يتّسع الوقت للغُسل. وإن إباحة الوطء إلى طلوع الفجر، يستلزم الإصباح على جنابة؛ وهو ما يعني أنّ إباحة سبب الشيء، هي إباحة للشيء نفسه. ومن تأمّل الفرق بين دلالة الاقتضاء ودلالة الإشارة، فإنه سيجد دلالة الإشارة أبعد من دلالة الاقتضاء؛ لكون هذه الثانية يُتوصّل إليها من أوّل نظر في اللفظ يكون مقرونا بالاعتبار، في حين تكون دلالة الإشارة من معنى الاقتضاء نفسه، لكن بنظر مركّب. وبما أن الدلالتيْن معا، أخذتا من المنطوق، ولو باعتبار خاص، جازت إضافتهما إلى المنطوق، بحيث يشمل المنطوق في النهاية: النص، والظاهر، والتأويل، والاقتضاء، والإشارة. 2. تعريف المفهوم: المفهوم، هو ما يدلّ عليه اللفظ خارج محلّ النطق، وهو قسمان: مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة. 1. مفهوم الموافقة: وهو ما يوافق حكمُه المنطوق، وهو نوعان: ا. لبّ الخطاب: وهو ما كان الحكم فيه أولى بالحكم المنطوق؛ كفهم تحريم الشتم والضرب، من قول الله تعالى: {فَلَا تَقُل لَّهُمَاۤ أُفٍّ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا} [الإسراء: 23]، وهذا من باب قياس الأولى. ونحن نرى أن المفهوم هنا مطابق للمنطوق، لشناعة الأفعال الزائدة على التأفيف؛ ونقصد أن هذا الصنف من المفهوم، من مادة المنطوق عينها، ولا يختلف عنها إلا بالدرجة. وهذا يعني أن التأفيف حد أدنى من المعنى فحسب. وأما القياس، فلا يصح إلا من الناحية العقلية الصرف، وهي هنا لا تخلُص. ومن أقوى أمثلة هذا الصنف، قول الله تعالى: {وَلَوۡ أَنَّ قُرۡءَانًا سُیِّرَتۡ بِهِ ٱلۡجِبَالُ أَوۡ قُطِّعَتۡ بِهِ ٱلۡأَرۡضُ أَوۡ كُلِّمَ بِهِ ٱلۡمَوۡتَىٰۗ} [الرعد: 31]، ومفهومه هو جواب "لو" المحذوف؛ فيكون المعنى: ولو أن قرآنا سيّرت به الجبال، أو قُطّعت به الأرض، أو كُلِّم به الموتى، لكان هذا القرآنَ. وهذا الأسلوب من الاختصار، يُسمّى عند العرب: الكفّ. وقد يومئ إلى المحذوف متقدِّمٌ في الذكر أو متأخِّر: فمن المتقدِّم مثلا، قول الله تعالى: {أَمَّنۡ هُوَ قَـٰنِتٌ ءَانَاۤءَ ٱلَّیۡلِ سَاجِدًا وَقَاۤىِٕمًا یَحۡذَرُ ٱلۡـَٔاخِرَةَ وَیَرۡجُوا۟ رَحۡمَةَ رَبِّهِۦۗ} [الزمر: 9]، فإنه أومأ إلى ما قبله، وهو قوله سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُۥ مُنِیبًا إِلَیۡهِ} [الزمر: 8]؛ فكأنما قال: أهذا الذي هو هكذا خير، أمّن هو قانت؟ فأضمر المبتدأ. وأما مثال المتأخر، فهو قول الله تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَـٰمِ} [الزمر: 22]، فإنه لم يجئْ له جواب في اللفظ، لكن أومأ إليه قوله سبحانه: {فَوَیۡلٌ لِّلۡقَـٰسِیَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ} [الزمر: 22]؛ وتقدير المعنى هو: أفمن شرح الله صدره للإسلام، كمن قسا قلبه؟!... ب. لحن الخطاب: وهو ما يثبت فيه الحكم للمفهوم، كثبوته للمنطوق على السواء؛ كما في قول الله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِینَ یَأۡكُلُونَ أَمۡوَ ٰلَ ٱلۡیَتَـٰمَىٰ ظُلۡمًا إِنَّمَا یَأۡكُلُونَ فِی بُطُونِهِمۡ نَارً ۖ} [النساء: 10]؛ والمعنى هو أنه يحرم إتلاف أموال اليتامى بأكلها، أو بأنواع الإتلاف الأخرى الموازية، لا المشتركة في المادة وحدها. وقد خُصّ الأكل بالذكر، لأنه أقرب إلى طبيعة الإنسان الحيوانية فحسب... وقد وُصف هذان النوعان بالموافقة، لأن المسكوت عنه يوافق المنطوق به في الحكم، وإن زاد عليه في النوع الأول، وساواه في النوع الثاني. والدلالة فيه، هي من قبيل دلالة الأدنى على الأعلى، أو دلالة الأعلى على الأدنى؛ وقد اجتمعت الدلالتان في قول الله تعالى: {وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٍ یُؤَدِّهِۦۤ إِلَیۡكَ وَمِنۡهُم مَّنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِدِینَارٍ لَّا یُؤَدِّهِۦۤ إِلَیۡكَ إِلَّا مَا دُمۡتَ عَلَیۡهِ قَاۤىِٕمًاۗ} [آل عمران: 75]؛ فقول الله: {وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٍ یُؤَدِّهِۦۤ إِلَیۡكَ}، يُنبّه إلى أن هذا الصنف من أهل الكتاب حريص على أداء الدينار وما دونه في القيمة؛ وقوله سبحانه: {وَمِنۡهُم مَّنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِدِینَارٍ لَّا یُؤَدِّهِۦۤ إِلَیۡكَ}، ينبه إلى أن هذا الصنف الآخر، لا يؤدّي القنطار فما فوقه؛ وهذا الخطاب هو من تحديد العتبة الدنيا والسقف الأعلى من المعنى، كما ألمحنا آنفا... 2. مفهوم المخالفة: وهو ما يُخالف حكمه المنطوق، ويُعدّ من كمال معناه؛ وهو أيضا أنواع: ا. مفهوم صفة: والمقصود منها الصفة المعنوية، كالمعنى المشتق في قول الله تعالى: {إِن جَاۤءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوۤا۟} [الحجرات: 6]، فمفهوم وصف المـُخبِر بالفاسق، هو أن غير الفاسق، لا يجب التبيّن في خبره؛ وهذا يدلّ على وجوب قبول خبر الواحد الثقة. ولا يخفى مدى دخول هذا النوع من التمييز بين خبر الثقة وغيره، في علم الرجال، من علم الحديث؛ كما لا يخفى ما يترتّب من أحكام شرعيّة فقهية، من أخبار الآحاد. ومعنى المنطوق في الآية المذكورة، يدخل ضمن نوع المـُقيَّد، الذي سيأتي الكلام عنه لاحقا بإذن الله... ومن هذا النوع أيضا، قول الله تعالى: {وَمَن قَتَلَهُۥ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاۤءٌ مِّثۡلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ} [المائدة: 95]، الذي يدل على انتفاء الحكم في حق القاتل المـُخطئ؛ ودلالة الموافقة واضحة من هذا الجزء من الآية، فلا تحتاج إلى مزيد إيضاح؛ وإن كانت هي عينها دلالة مخالفة بالنظر إلى الجزء الذي قبله، والذي يقول فيه الله تعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَقۡتُلُوا۟ ٱلصَّیۡدَ وَأَنتُمۡ حُرُمٌ} [المائدة: 95]. ومنه أيضا معنى العدد في قول الله تعالى: {ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرٌ مَّعۡلُومَـٰتٌ} [البقرة: 197]، ومفهومه أن الإحرام بالحجّ في غير أشهُره لا يصحّ. ومنه أيضا قول الله تعالى: {فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَـٰنِینَ جَلۡدَةً} [النور: 4]، الذي مفهومه ألا يُجلَد أقلّ أو أكثر من الثمانين؛ وهو من معنى التقييد أيضا، كما أسلفنا. والعدد عندما يكون مـُحدّدا في القرآن، فذلك لسرّ فيه، يعلمه أهل أسرار العدد؛ وليس الأمر اعتباطا، كما قد يفهم البعض؛ تعالى الله!... ومن ألطف هذا الصنف، ما يكون بالتمييز في الصفات، وهو كقول الله تعالى: {إِنَّكُمۡ وَمَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]، ومن المعلوم يقينا أنه لم يُرَد منه عيسى وعُزيْر، ولا أي ربّانيّ عبده العابدون من دون الله في أيّ زمان. وحتى يفهم القارئ ما نقصد إليه، فليعلم أن كثيرا من النّاس قد عرضوا على العبد الضعيف أن يعبدوه من دون الله، مقابل أن يوافقهم على أهوائهم؛ ولم يكن ذلك صراحةً كما قد يُفهم، ولكن بالإفهام والقرائن؛ فلم يقبل توفيقا من الله وفضلا. ونحن -بحمد الله- نعلم حال من يُعبد من دون الله (في زماننا ومن الأزمنة التي قبلنا)، من الفقهاء ومـُدّعي التشيّخ في التزكية، ومن غيرهم من أهل السلطة والمال. وأما الإسلاميّون والمتحزّبون الأيديولوجيّون، ممن طغت عليهم السياسة بالاصطلاح، فحدِّث ولا حرج!... ومن أعجب ما يقع لهؤلاء (ولا عجب من أمر الله)، هو رفضهم للنصيحة، مع علمهم منها، أنهم هالكون إن بقوا على حالهم!... نسأل الله أن يجعلنا من {ٱلَّذِینَ یَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ فَیَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُۥۤۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمۡ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ} [الزمر: 18]... ب. مفهوم شرط: وهو كقول الله تعالى: {وَإِن كُنَّ أُو۟لَـٰتِ حَمۡلٍ فَأَنفِقُوا۟ عَلَیۡهِنَّ} [الطلاق: 6]، فمعناه أن غير الحوامل لا يجب الإنفاق عليهن. وقريب منه قول الله تعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱسۡتَعِینُوا۟ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِینَ} [البقرة: 153]، ومعناه: استعينوا عند القتال بالصبر والصلاة؛ ويدل عليه قول الله تعالى بعده: {وَلَا تَقُولُوا۟ لِمَن یُقۡتَلُ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ أَمۡوَ ٰتُۢۚ بَلۡ أَحۡیَاۤءٌ وَلَـٰكِن لَّا تَشۡعُرُونَ} [البقرة: 154]. وهذا بخلاف من جعل الاستعانة بالصبر والصلاة، منوطة بكل طاعة؛ لأن الصبر نفسه والصلاة نفسها طاعة، وإنما تتقهقر النفوس عند القتال خاصة. وكان الله قد أفهمنا في بدايات سلوكنا إليه سبحانه، أن الاستشهاد في سبيل الله قتلا، هو العبادة التي جمع الله فيها للعبد كل صنوف العبادات؛ لذلك كان من يموت في سبيل الله، يُعدّ ناجيا عند الله وإن لم يصل قطّ ولم يصم. وهذا، كالصحابيّ عمرو بن ثابت، المعروف بالأُصيرم، الذي مات في سبيل الله بعد بيعته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة، فشهد له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالفوز، كما رُوِي عن أبي هريرة، أنه كان يقول: " حَدِّثونِى عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ، لَمْ يُصَلِّ قَطُّ؟! فَإِذا لَمْ يَعْرِفْهُ النَّاسُ، سَأَلُوهُ: مَنْ هُوَ؟ فَيَقُولُ: "أُصَيْرِمُ" بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ: عَمْرُو بْنُ ثابِتٍ بْنِ وَقِيشٍ (رضي الله عنه)."[4] . وعلى القارئ أن يفهم هنا، أن هذا الحكم الذي بيّنّاه من الشهادة، لا بد فيه للشهيد من استصحاب شهادة الإسلام، التي هي قول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله؛ لأنه بدونها، لا إسلام للعبد، وبالتالي فلا عبادة؛ والشهادة كما ذكرنا خلاصة العبادات ومُجمَلُها. ولولا مخافة الإطالة لاستدللنا لهذا الحكم من القرآن والسنّة بأكثر مما فعلنا... ج. مفهوم غاية: وذلك كقول الله تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَیۡرَهُۥۗ } [البقرة: 230]، ومفهومه أنها لا تحل للأول إن نكحت غيره بشروط النكاح. ومثاله أيضا قول الله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا وَٱسۡتَكۡبَرُوا۟ عَنۡهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمۡ أَبۡوَ ٰبُ ٱلسَّمَاۤءِ وَلَا یَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ حَتَّىٰ یَلِجَ ٱلۡجَمَلُ فِی سَمِّ ٱلۡخِیَاطِۚ} [الأعراف: 40]، والمعنى هو أنهم لا يدخلون الجنّة. وتعليق دخولهم بولوج الجمل في سمّ الخياط (ثقب الإبرة)، هو للتيئيس. لكن في المسألة كلاما من جهة الحقيقة، وهو ينبني على سؤال: هل الله قادر على جعل الجمل يلج في سمّ الخياط؟... فيكون الجواب: نعم! لأن القدرة الإلهية لا تحدّها العادة. وهكذا، فإن معنى الآية سيعود: لا يدخلون الجنة إلا أن يشاء الله. وهو يُشبه قول الله في موضع آخر: {وَلَاۤ أَخَافُ مَا تُشۡرِكُونَ بِهِۦۤ إِلَّاۤ أَن یَشَاۤءَ رَبِّی شَیۡـًٔاۚ} [الأنعام: 80]، وأمثاله؛ وهو دلالة على الأدب مع المشيئة في كل حكم. وقد أسلفنا الكلام عن المشيئة قبل هذا... د. مفهوم حصر: وهو كقول الله تعالى: {إِیَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِیَّاكَ نَسۡتَعِینُ} [الفاتحة: 5]، ومفهومه أن غير الله لا يُعبد ولا يُستعانُ. وتحقيق معنى المخالفة هذا، يكون من باطن الشريعة لا من ظاهرها؛ لأن عوامّ المسلمين لا ينفكون في بحر يوم واحد من أعمارهم، عن الاستعانة ربما بعشرات المـُعينين من دون الله. وإن تكليفهم بعدم الاستعانة بغير الله، من جهة الظاهر، لن يتمكنوا من الإتيان به. لكن يبقى لهؤلاء العوامّ وجوب الإيمان بمدلول الآية، من دون دخول في كيفية العمل بها. وهذا من توسيع الله على عباده، فله الحمد وله الشكر!... ومنه أيضا قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لَنَاۤ أَن نَّأۡتِیَكُم بِسُلۡطَـٰنٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ} [إبراهيم: 11]، وهو قول الرسل عليهم السلام لأقوامهم؛ والسلطان هو المعجزة هنا. والمعنى أن المعجزات وما في حكمها مما يُنسب إلى الأولياء من الكرامات، إنما يأتي بها الله من مظاهر خواص عباده حصرا، وليس للعبد فيها مدخل... 3. الاختلاف في الاحتجاج بالمفهوم: اختُلِف في الاحتجاج بهذه المفاهيم، والأصح هو أنها حجّة بشروط: ا. ألا يكون المذكور خرج مخرج الغالب: فلا مفهوم لـ "الحجور" في قول الله تعالى: {وَرَبَـٰۤىِٕبُكُمُ ٱلَّـٰتِی فِی حُجُورِكُم} [النساء: 23]، لأن الغالب كون الربائب في حجور الأزواج (الزوجات)... ب. ألا يكون المذكور لبيان الواقع: فلا مفهوم لقول الله تعالى: {وَمَن یَدۡعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ لَا بُرۡهَـٰنَ لَهُۥ بِهِۦ} [المؤمنون: 117]، لأن الواقع أن أي إله مزعوم، لا برهان عليه. فدلّ هذا على أن عبارة {لَا بُرۡهَـٰنَ لَهُۥ بِهِۦ}، إنما جيء بها للتوكيد والإشعار بشدة النكارة. ومن هذا الصنف أيضا، قول الله تعالى: {وَلَا تُكۡرِهُوا۟ فَتَیَـٰتِكُمۡ عَلَى ٱلۡبِغَاۤءِ إِنۡ أَرَدۡنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33]، فلا مفهوم له يدلّ على إباحة إكراه السيد لأمته على البغاء، إن لم ترد التحصّن؛ والعبارة يُفهم منها التأكيد أيضا على عدم جواز الإكراه. والأمر في الاحتجاج بمفهوم الموافقة أيسر، وقد اتفق العلماء على صحّة الاحتجاج به، ما عدا الظاهريّة. وأما الاحتجاج بمفهوم المخالفة فقد قال به مالك والشافعي وأحمد، ونفاه أبو حنيفة؛ رضي الله عن الجميع... واحتجّ المثبتون بحجج نقلية وأخرى عقليّة: - فمن الحجج النقلية: ما رُوي أنه لما نزل قول الله تعالى: {ٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ أَوۡ لَا تَسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ إِن تَسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ سَبۡعِینَ مَرَّةً فَلَن یَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَهُمۡۚ} [التوبة: 80]؛ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: «قَدْ خَيَّرَنِي رَبِّي، فَوَاللهِ لَأَزِيدَنَّهُ عَلَى السَّبْعِينَ!» [5]، ففهم صلى الله عليه وآله وسلم أن ما زاد على السبعين بخلاف السبعين. ونحن نقول: إنما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ما قال، من حاله الشريف؛ وإلا فإن الله قد قال في موضع آخر: {سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ أَسۡتَغۡفَرۡتَ لَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تَسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ لَن یَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَهُمۡۚ} [المنافقون: 6]؛ وهذا يلحق بما ذكرناه آنفا عن معلوم الله من العباد... ومن الحجج النقلية أيضا: ما ذهب إليه ابن عباس عليهما السلام، من منع توريث الأخت مع البنت عند قول الله تعالى: {إِنِ ٱمۡرُؤٌا۟ هَلَكَ لَیۡسَ لَهُۥ وَلَدٌ وَلَهُۥۤ أُخۡتٌ فَلَهَا نِصۡفُ مَا تَرَكَۚ} [النساء: 176]؛ ففهم عليه السلام ذلك من كون البنت ولد، وهو من فصحاء العرب، وهو ترجمان القرآن... ومنها أيضا، ما رُوي: أن يعلى بن أميّة رضي الله عنه قال لعمر رضي الله عنه: ما بالنا نقصّر، وقد أمِنّا؟ وقد قال الله تعالى: {فَلَیۡسَ عَلَیۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُوا۟ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ} [النساء: 101]؛ ووجه الاحتجاج به أنه فهم من تخصيص القصر عند الخوف، عدم القصر عند الأمن. ولم يُنكر عليه عمر رضي الله عنه، بل قال: "لَقَدْ عَجِبْتُ مِمّا عَجِبْتَ مِنْهُ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقالَ لي: «هِيَ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِها عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ.» [6]. ويعلى بن أمية وعمر بن الخطّاب من فصحاء العرب، وقد فهما فهمهما، وأقرّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك الفهم... - ومن الحجج العقليّة: أنه لو كان حكم الفاسق وغير الفاسق سواء في قول الله تعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِن جَاۤءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوۤا۟} [الحجرات: 6]، في وجوب التثبت في الخبر، لما كان لتخصيص الفاسق بالذكر فائدة. وعلى هذا يُقاس سائر الأمثلة... وعلينا أن نُذكّر في ختام هذا الجزء، بأن المفهوم يكون بحسب الفاهم؛ ونعني أن أغلب ما مررنا به، هو مما يُفهم من ظاهر الكلام؛ وأما ما هو متعلِّق بباطنه أو بالحقائق (سنّة الله)، فهو بحسب كل فاهم ومقدار فهمه؛ وهو بحر من العلوم لا ساحل له. ونحن في هذه الفصول، قد جارينا الفقهاء في ترتيب كلامهم، ولم ندخل فيما هو أبعد من ذلك؛ إعانة لهم على فهم ما لديهم، وإتماما له بما نراه مناسبا وضروريا. وهذا، لأننا من حيث الغاية، نريد أن يرتقي جميع المسلمون في فهم دينهم، وعلى الله وحده الاتكال... 3. المطلق والمقيَّد: إن الأحكام الشرعية، مما هو منوط بالمنطوق أو بالمفهوم، قد ترد تارة مطلقة عن صفة ما للعبد (فردا أو جماعة)، أو عن شرط؛ وقد ترد مقيَّدة، متعلِّقة بالعبد مع ذكر أمر زائد على حقيقته الشاملة لجنسه، من صفة أو شرط... 1. تعريف المطلق والمقيّد: ا. المطلق: وهو ما دلّ على الحقيقة بلا قيد، فهو يتناول واحدا لا بعينه، أو جماعة لا بعينها، من الحقيقة المنطوق بها أو المفهومة. وأكثر أمثلة المطلق، النكرة في مورد الإثبات، كلفظ "رقبة" في قول الله تعالى: {فَتَحۡرِیرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3]، فإنه يدلّ على عتق إنسان مملوك، وهي صفة شائعة في جنس الرقيق مؤمنهم وكافرهم؛ وهو نكرة في مورد الإثبات، معناه: فعليه تحرير رقبةٍ. وهو (المطلق)، كقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا نِكاحَ إِلّا بِوَلِيٍّ.» [7]؛ فهو مطلق في جنس الأولياء. ونحن نخالف من قال بإمكان كون الوليّ غير راشد هنا، لانتفاء التكليف فيه؛ والتكليف من مفهوم الحديث، كما هو جليّ... وقد عرّف بعض الأصوليّين المطلق بكونه نكرة في مورد الإثبات، فرارا بصفة التنكير من الواحد المعيّن؛ وفرارا بكون السياق في مورد إثبات، من النكرة في مورد النفي؛ لأنها تعمّ جميع ما يكون من جنسها حينئذ... ب. المـُقيَّد: وهو ما دلّ على الحقيقة اللغوية بقيد، كالرقبة المقيَّدة بالإيمان في قول الله تعالى: {فَتَحۡرِیرُ رَقَبَةٍ مُّؤۡمِنَةٍ} [النساء: 92]. 2. أقسام المطلق والمقيّد: وللمطلق والمقيّد صور عقلية نُجملها فيما يأتي: ا. أن يُناط الحكم بالمشيئة الإلهية: وهذا عام في كلّ الأحكام، وهو مطلق؛ وإنما وقع النّص على المشيئة في بعض الأحكام دون بعض، من أجل الدلالة على الحِكم الإلهية فيها، ليس غير. ومن هذا الصنف قول الله تعالى: {وَمَن كَانَ یُرِیدُ حَرۡثَ ٱلدُّنۡیَا نُؤۡتِهِۦ مِنۡهَا} [الشورى: 20]، الذي يعود إلى قوله سبحانه: {مَّن كَانَ یُرِیدُ ٱلۡعَاجِلَةَ عَجَّلۡنَا لَهُۥ فِیهَا مَا نَشَاۤءُ لِمَن نُّرِیدُ} [الإسراء: 18]. وقد قال بعضهم بخصوص الآية الأولى: وكثير من الناس يريد ذلك ولا يحصل له؛ ونحن نقول: لا يحصل له على مراده؛ وإلا فإن الله أجود من ألا يُحصّل عباده شيئا من الدنيا. وقد قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «اَلدُّنْيا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكافِرِ.»[8] ، وهذا يعني أنه سبحانه لم يحرم منها أحدا، وإن كان قد حمى المؤمن من شرّها لا منها. وخلاصة القول بخصوص حكم المشيئة الإلهية، هو قول الله تعالى: {وَمَا تَشَاۤءُونَ إِلَّاۤ أَن یَشَاۤءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ} [التكوير: 29]، فدل هذا، على أن مشيئة العباد متفرّعة عن المشيئة الإلهية؛ وبالتالي فلها الحكم الأول من كل الأحكام... ب. أن يتّحد السبب والحكم: وذلك كالصيام في كفّارة اليمين، الذي جاء مطلقا في قول الله تعالى: {فَمَن لَّمۡ یَجِدۡ فَصِیَامُ ثَلَـٰثَةِ أَیَّامٍ ذَ ٰلِكَ كَفَّـٰرَةُ أَیۡمَـٰنِكُمۡ إِذَا حَلَفۡتُمۡۚ} [المائدة: 89]، وجاء مقيّدا في قراءة ابن مسعود: {فصيامُ ثلاثة أيام متتابعات}. فمثل هذا، يُحمل فيه المطلق على معنى المقيّد، لكون السبب الواحد لا يوجب المتنافييْن. وهذا القول عندنا، لا يؤخذ بإطلاقه؛ لأن السبب الواحد قد يوجب الحكْميْن المختلِفيْن (كما سيأتي بيانه)، باعتبار الظروف والأحوال. هذا بالإضافة إلى أن القراءة غير المتواترة -وإن كانت مشهورة- لا تُلزِم؛ وهو ما ينفي وجود المقيّد في هذا المثال، حتى يؤخذ عليه المطلق... ج. أن يتحد السبب ويختلف الحكم: وذلك كالأيدي في الوضوء والتّيمّم: فقد قُيِّد غسل الأيدي في الوضوء بكونه إلى المرافق عند قول الله تعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُوا۟ وُجُوهَكُمۡ وَأَیۡدِیَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، وأُطلِق المسح في التيمّم بقوله تعالى: {فَتَیَمَّمُوا۟ صَعِیدًا طَیِّبًا فَٱمۡسَحُوا۟ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَیۡدِیكُم مِّنۡهُۚ} [المائدة: 6]. فقيل لا يُحمل المطلق على المقيّد، لاختلاف الحكم. ونُقل عن الشافعية حمل المطلق على المقيّد، لاتحاد السبب، وإن اختلف الحكم. وأما نحن فنحمل المـُطلق هنا، على السّنّة، لأنها عمل نبويّ يُغنينا عن النظر بأنفسنا في الإطلاق والتقييد. وهذا بالإضافة إلى الحكمة من التيمّم الذي يُقصد منه التخفيف عن ذي العذر، فوجب مراعاة هذا التخفيف في صورته. ولقد طغى تحكيم العقل على الفقهاء، فلم يشعروا جلّهم به؛ حتى إن منهم من خرج إلى سوء الأدب مع الله ورسوله (كما أشرنا في الأسطر السالفة) ولم يشعروا. والقاعدة هنا هي أن الله أباح لنا إعمال عقولنا في مجال فقه الأحكام الشرعية الظاهرة، ولكنّه لم يدلّنا على الوثوق بها مطلقا. وعلى العبد أن يفهم من نفسه، أن الاعتماد يكون على الله لا على العقول؛ وإن لم يحفظ الله عبده من الزّلل، فإنه سيضلّ (كما ضلّ غيره من الكفرة والمشركين) بعقله. فنسألك اللهم ألا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل منها، إنك أنت مولانا، وأنت القائل: {وَٱعۡتَصِمُوا۟ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِیرُ} [الحجّ: 78]... ومن هذا الصنف قول الله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی مَنۡ هُوَ كَـٰذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3]، الذي لا يُؤخذ على ظاهره بالإطلاق؛ فكم من الكافرين هداهم الله إلى الإيمان من بعد كفرهم!... فكمل معنى الآية بقوله سبحانه: {إِنَّ ٱلَّذِینَ حَقَّتۡ عَلَیۡهِمۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا یُؤۡمِنُونَ} [يونس: 96]؛ وهكذا يكون المعنى الإجمالي، هو أن الله لا يهدي من يعلم أنّه كافر بحقيقته في حضرة العلم عنده سبحانه. وأما من علم أنه مؤمن أو أنه سيؤمن بعد كفره، فإنه يهديه، كما يشهد بذلك الواقع. وقد جاء الله في الآية الأولى بصيغة المبالغة من صفة الكفر "كفّار"، ليدلّ على ثبوت الصفة في حق هذا الصنف من جهة العلم، فيُعتبر هذا، فإنه نفيس!... د. أن يختلف السبب ويتّحد الحكم: وفيه صورتان: الأولى: أن يكون التقييد واحدا، كعتق الرقبة في الكفارة، وردّ اشتراط الإيمان في الرقبة بتقييدها بالرقبة المؤمنة في كفّارة القتل الخطأ؛ لقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٍ أَن یَقۡتُلَ مُؤۡمِنًا إِلَّا خَطَـًٔاۚ وَمَن قَتَلَ مُؤۡمِنًا خَطَـًٔا فَتَحۡرِیرُ رَقَبَةٍ مُّؤۡمِنَةٍ} [النساء: 92]، وإن أُطلقت في كفّارة الظِّهار عند قوله تعالى: {وَٱلَّذِینَ یُظَـٰهِرُونَ مِن نِّسَاۤىِٕهِمۡ ثُمَّ یَعُودُونَ لِمَا قَالُوا۟ فَتَحۡرِیرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبۡلِ أَن یَتَمَاۤسَّاۚ} [المجادلة: 3]، وفي كفارة اليمين عند قوله سبحانه: {لَا یُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِیۤ أَیۡمَـٰنِكُمۡ وَلَـٰكِن یُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلۡأَیۡمَـٰنَۖ فَكَفَّـٰرَتُهُۥۤ إِطۡعَامُ عَشَرَةِ مَسَـٰكِینَ مِنۡ أَوۡسَطِ مَا تُطۡعِمُونَ أَهۡلِیكُمۡ أَوۡ كِسۡوَتُهُمۡ أَوۡ تَحۡرِیرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]؛ فقالت جماعة من المالكية والشافعية بحمل المـُطلَق على المقيَّد من غير دليل، بحيث لا تُجزئ الرقبة الكافرة في كفارتَيِ الظهار واليمين؛ وقال آخرون من الأحناف بعدم جواز حمل المطلق على المقيد إلا بدليل، فيجوز لذلك إعتاق الرقبة الكافرة في كفارتَيِ الظهار واليمين. وحجة أصحاب الرأي الأول هي أن كلام الله متّحد في ذاته، لا تعدّد فيه؛ فإذا نُصّ على اشتراط الإيمان في كفارة القتل، كان ذلك تنصيصا على اشتراطه في كفارة الظّهار؛ ولهذا حُمل قول الله تعالى: {وَٱلذَّ ٰكِرَ ٰتِ} [الأحزاب: 35]، على قوله في الآية عينها: {وَٱلذَّ ٰكِرِینَ ٱللَّهَ كَثِیرًا} [الأحزاب: 35]، ففُهم: والذاكرات الله كثيرا؛ والعرب من مذهبها استحباب الإطلاق اكتفاء بالقيد وطلبا للإيجاز والاختصار، وقد قال الله تعالى: {عَنِ ٱلۡیَمِینِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِیدٌ} [ق: 17]، والمقصود: عن اليمين قعيد، فحذِف لدلالة الثاني عليه. وأما حجة الأحناف، فإنهم قالوا: إن حمل {وَٱلذَّ ٰكِرَ ٰتِ} على {وَٱلذَّ ٰكِرِینَ ٱللَّهَ كَثِیرًا}، جاء بدليل، وهو العطف؛ مما لا يُفيد استقلاله. فوجب ردّه إلى المعطوف عليه وإشراكه في حكمه؛ ومثله، قول الله تعالى: {عَنِ ٱلۡیَمِینِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِیدٌ}. وإذا امتنع التقييد من غير دليل، فلا بد من دليل؛ ولا نصّ من كتاب أو سنّة يدل على ذلك. والقياس يلزم منه رفع ما اقتضاه المطلق، من الخروج عن العُهدة بأي شيء كان، مما هو داخل تحت اللفظ المـُطلق، فيكون نسخا؛ ونسخ النّصّ لا يكون بالقياس. ويُجاب عن ذلك من أصحاب الرأي الأول، بأننا لا نُسلِّم أنه يلزم من قياس المطلق على المقيّد نسخ النص المطلق؛ بل هو تقييد له ببعض مسمياته، فتُقيَّد الرقبة بالإيمان، فيكون الإيمان شرطا في الخروج عن العهدة. كما أنكم تشترطون فيها صفة السلامة، ولم يدلّ على ذلك نص من كتاب أو سنّة... وأما نحن فنقول: إن اشتراط الإيمان في الرقبة، يلزم من اعتبار منطق الوحي (المعبّر عنه آنفا باتحاد كلام الله في نفسه)، ما دام يوجد في الناس رقاب مؤمنة تحت الرّق. والحكمة من هذا التشريع، العمل على بلوغ إعتاق جميع المؤمنين، كرامة لإيمانهم. ولكن إن أُعتق كل المؤمنين، ولم يبق من الرقيق إلا من هو كافر، فإن الحكم ينسحب تلقائيا عليهم لبقاء اسم الرقبة على إطلاقه في حقّهم؛ بحيث يُعمل على عتق رقاب الكفّار من الرقيق، إلى أن يبلغ المجتمع كماله بانتفاء الرّق على التمام. وأما اعتبار العطف مقيِّدا للإطلاق في سياقه، فهو واجب؛ لأنه يدخل في معنى تخصيص العام ولو بوجه ما. وما يُفيد التقييد بوجه ما، لا تجوز مجاوزته في الاعتبار، وإلا كان القائل من الذين لا يعقلون!... الثانية: أن يكون التقييد مختلفا، كالكفارة بالصوم المقيَّد بالتتابع في كفارة القتل، وكفّارة الظِّهار؛ والمـُقيَّد بالتفريق في صوم المتمتع بالحجّ. فقال الله تعالى في التقييد بالتتابع: {فَمَن لَّمۡ یَجِدۡ فَصِیَامُ شَهۡرَیۡنِ مُتَتَابِعَیۡنِ تَوۡبَةً مِّنَ ٱللَّهِۗ} [النساء: 92]، وقال سبحانه: {فَمَن لَّمۡ یَجِدۡ فَصِیَامُ شَهۡرَیۡنِ مُتَتَابِعَیۡنِ مِن قَبۡلِ أَن یَتَمَاۤسَّاۖ} [المجادلة: 4]؛ وقال سبحانه في التقييد بالتفريق: {فَمَن لَّمۡ یَجِدۡ فَصِیَامُ ثَلَـٰثَةِ أَیَّامٍ فِی ٱلۡحَجِّ وَسَبۡعَةٍ إِذَا رَجَعۡتُمۡۗ} [البقرة: 196]؛ وقال تعالى في الصوم مطلقا في كفارة اليمين: {فَمَن لَّمۡ یَجِدۡ فَصِیَامُ ثَلَـٰثَةِ أَیَّامٍ} [المائدة: 89]، وفي قضاء رمضان: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِیضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنۡ أَیَّامٍ أُخَرَۚ} [البقرة: 184]؛ فقالوا: المـُطلق في هذا، لا يُحمل على المقيَّد، لأن القيد مختلف؛ وحملُ المـُطلق على أحد القيديْن، ترجيح بلا مرجِّح... ه. أن يختلف السبب ويختلف الحكم: وذلك كاليد في الوضوء وفي السرقة: قُيِّدت في الوضوء إلى المرفق، وأُطلقت في السّرقة. يقول الله تعالى: {وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوۤا۟ أَیۡدِیَهُمَا} [المائدة: 38]، فقيل: لا يُحمل المطلَق على المقيّد لاختلاف السبب واختلاف الحكم، وليس في الأمر تعارض. وأما نحن فنقول، لا تُقاس اليد في السرقة على الوضوء، لاختلاف السياق؛ فسياق الوضوء العبادة المشروعة، وسياق قطع السارق سياق حدّ بشروطه المعلومة. وأول اختلاف بين السياقيْن، هو عموم سياق العبادة، وقصر سياق الحدّ على أصحابه. ومما يُفهم من السّنّة التي أكّدت ما ذكرنا من الاختلاف، حمل معنى اليد على أقلّها، وهي الكفّ؛ فلا ينبغي قطع يد السارق من المرفق، ولا يقول به إلا مجنون!... وهنا نذكّر بقاعدة أصلية في فهم القرآن، ذكرناها منذ الباب الأول من هذا الكتاب، وهي أن معنى كلام الله لا يُحصر فيما تُفيده اللغة من نفسها دائما؛ والذي ينبغي أن يُعتبر في هذا، بالإضافة إلى اللغة، هو منطق الدين عموما، ومنطق التشريع خاصة. ومما لم يعتن به الفقهاء الأصوليون خصوصا، وهم من ألزموا أنفسهم بالخوض في أصول الأحكام الشرعية: المنطق الديني؛ فاكتفوا عند النظر في الأحكام بالمنطق العقلي، وهو لا يتسع لها كلّها، ولا لوجوهها كلها. ومن أثر هذا المنطق الديني، ما ذكرناه نحن هنا عمّا يتعلّق بقطع يد السارق؛ لكنّ آثاره -من غير شك- تمتد إلى أحكام كثيرة، خصوصا في زماننا عند غياب صور الأحكام الأصلية، وبعد دخول الناس بسبب الفتنة العامّة تحت الأحكام الاستثنائية. وإن هذا الباب وحده من الفقه، قمين بأن يُعدّ أصلا كبيرا من العلم الديني الشرعي الذي وجب تجديده بأكثر مما وجب ذلك في الأزمنة الماضية. وإن نحن لم نثبت ما نراه منه ضروريا في زماننا على الأقل، فلأن هذا الكتاب ليس كتابا فقهيّا؛ فوجب على الناظر، إما أن ينظر فيما علّمناه لتلاميذ معهدنا سابقا، في باب الفقه، أو أن ينتظر أن نكتب في ذلك كتابا خاصّا، إن أذن الله لنا بكتابته. لكن عند غياب الأمريْن (الأخذ عنّا أو عن تلاميذنا)، فإنه يحسن بالناظر أن يسكت عن كثير من الأحكام الشرعية، لئلا يكون متكلّما بجهله... وينبغي أن نذكر هنا معنيَيْن للتجديد المذكور في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ، مَنْ يُجَدِّدُ لَها دِينَها.»[9] ، وهما: - التجديد المعتاد في القرون: بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وذلك لأنه لا اجتهاد مع النّصّ، والنصّ مستمرّ وجوده من باب السّنّة طيلة بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا. وقد تكلّم قوم من الأصوليّين في "اجتهاد النبي" صلى الله عليه وآله وسلم، بالقياس على أنفسهم، فضلّوا... وأما تجديد القرون، فهو تجديد جزئي بالنظر إلى الصنف الثاني الذي سيأتي بعدُ؛ ونعني منه تجديد الفقهاء قبل الأئمة المشهورين (وعلى رأسهم الخمسة) وبعدهم. ولقد قصُر الفقهاء عن إدراك التجديد الدّيني (وهو أعمّ من التجديد الفقهيّ)، عندما قصروه على الأئمة المشهورين من جهة المذهب بأكمله، وعلى مسائل معدودة في الأزمنة التي جاءت بعد الأئمة، عدّوها في الغالب من الاجتهاد داخل المذهب؛ وهو أمر صحيح بالنظر إلى ما وقع على مرّ القرون؛ حتى منع قوم من المتفقّهة الجاهلين من الاجتهاد، اكتفاء بتفصيل أقوال الفقهاء المعتبرين، وهو أمر لم يرد عنهم هم أنفسهم، وحاشاهم. فلقد كانوا رضي الله عنهم، على نور في فقههم، بخلاف جلّ مقلِّديهم... - التجديد الاستثنائي: وهذا الصنف من التجديد، لم نعلمه إلا من نفسنا؛ وبعد كلامنا فيما هو منوط بالعقائد، وما هو منوط بالعبادات؛ بما لم نعهده من كلام المتكلّمين، ولا من فقه الفقهاء. وعلمنا أنّ هذا الصنف من التجديد ليس من التجديد العام المنوط بالقرون، وإنما هو من التجديد الخاص، المعدود عند الله تأسيسا ثانيا للدين، بعد التأسيس الأول الأصلي الذي أسّسه النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا التجديد الاستثنائي، سيكون -بعد إذن الله تعالى- سببا في عودة الأمة بعد كل الانحرافات التي طرأت على تديّنها، إلى الحق الذي أسّسه النبي في زمان الصحابة، والذي بقي راعيا له عبر كل القرون التي جاءت بعدُ. فالحمد لله الذي منّ علينا بهذه النعمة التي لا يتطلع إليها منّا طرف!... ونحن لا نذكر هذا، في هذا الموضع، إلا لدلالة عموم المسلمين على نعمة الله علينا وعليهم؛ وحتى يسهل عليهم الخروج من التقليد الذي أدّى فيهم إلى الجمود المشابه لجمود الكتابيّين على دينهم. وعلى هذا، فلا حجّة لمن بلغه كلامنا في المسائل المختلفة، في البقاء على ما هو عليه، إن كان مما يجب تجديده؛ وسيُعدّ كل مخالف لهذا التجديد الاستثنائي، مخالفا للحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وذلك لأن ما كان منه صلى الله عليه وآله وسلم بالطريقتيْن (المباشرة وغير المباشرة)، لا يُتصوّر فيه تناقض. وهكذا، فلن يبقى للمقلّدة فيما هو متجاوز من أقوالٍ، مستندٌ معتبر، يلقون به الله!... وإن الأمر، يشهد له الواقع المعيش، والذي ما عادت الأقوال القديمة في مجملها تتسع له... وكنّا قد بُشّرنا بهذا التجديد، منذ سنوات طويلة، مما رآه غيرنا لنا، فيما سنذكره، أو فيما سنسكت عنه، بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد شهد للعبد الضعيف -بحضور خلفاء الأمة وأئمتها- بأنني من نسبه بقوله مع الإشارة: «هَذا ابْني!»، ثم قام عليه وآله الصلاة والسلام بتوشيحي (كما يفعل أهل زماننا) بوشاح مكتوب عليه "التجديد". ويعلم الله أني ما كنت أنسب نفسي لآل البيت مع كوني في الظاهر منهم، تعظيما للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينتسب إليه مثلي؛ ومخافة أن تكون أنسابنا قد اختلطت، والأمر محتمل. ولكن عندما شهد لي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الواقعة بأنني ابنه، فإنه يحرُمُ عليّ إنكار ذلك. ثم شهدت لي في مبشرات أُخر، السيدة فاطمة عليها السلام وهي أمنا معشر خواص آل البيت، وشهد لي عليّ عليه السلام، ثم الحسن والحسين عليهما السلام. لذلك، فما أنا عند كلامي عن نفسي (وأنا مـُقِلّ) إلا حاكٍ؛ ولست أدعي نبوة عياذا بالله، وقد انقطعت بالبعثة المحمدية الشريفة، ولا أريد مكسبا من مكاسب الدنيا؛ وتمثلي هو بقول الله تعالى: {فَإِن تَوَلَّیۡتُمۡ فَمَا سَأَلۡتُكُم مِّنۡ أَجۡرٍۖ إِنۡ أَجۡرِیَ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِۖ وَأُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِینَ} [يونس: 72]، من مرتبة الإمامة في الدين، لا من مرتبة النّبوة. وقد ابتُليت في معظم عمري ببلاءات لا يُطيقها إلا من أطاقه الله، وأنا ما أزال أتناول الأدوية، منعزلا عن الناس إلا أفرادا من المغاربة مخصوصين، بسبب نيل المرض منّي منالا عظيما. وهذا يعني، أنه من أراد أن ينتفع منّي الآن، فليكتف بتوجيهاتي في مكتوباتي ومرئيّاتي، عن بعد؛ وأنا قد أتحت المدد النبوي الذي أنا فيه خليفة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكل مسلم قبِله منّي. فليكتف المسلمون الآن منّي بهذا، وسيجدون بإذن الله ما يجده من يخالطني وربما أكثر، على قدر نية العبد وسلامة صدره. أسأل الله به وبرسوله، وبكلّ معظّم لديه، أن يعافيني وجميع المسلمين من سيئ البلاء ظاهره وباطنه، وأن يُبدلنا صحة بعد سقم، ومعافاة بعد ابتلاء؛ فإننا لا نقوم لشيء من ذلك، وهذا ضعفنا باد؛ ونحن الفقراء إليه سبحانه وإلى رحمته الرحيمية الخاصة، وقد بلغت منا الشدة مبلغها. اللهم إني أعوذ بجلال وجهك أن أَضلّ أو أُضِلّ، سبحانك لا إله إلا أنت، ولا إمام إليك إلا صفيُّك ونبيّك محمد صلى الله عليه وآله وسلم... ولا يخفى عن ذي لب، أن هذا التجديد الاستثنائي، هو ما ستقوم عليه الخلافة الثانية؛ إذ لا بد لقيامها، من أرضية علمية تكون أساسا تقوم عليه. وأما استمرار علماء الدين، في اجترار ما سبق من الاجتهادات المعهودة لديهم، فإنه قد وصل بهم، إلى ما لا مزيد عليه من النأْي عن الحق، ومن التعسير على الأمة. ومعلوم من أصول ديننا، أن التشريعات تدور على الحق الذي هو قطب رحاها؛ وأنّ التيسير على الأمة مقصد أول منها؛ فكيف يُخالَفان، ويبقى التديّن سليما مع تلك المخالفة؟!... وأما من لم يُمَيِّز فحوى كلامنا، ممن يعتبرون أنفسهم، أو يعتبرهم الناس، فقهاء، فليعلموا أنهم غير معنيّين لا بفقه ولا بتجديد...
[1] . لا يُنكَر في اللغة التلازم بين الظلم والجهل، لكون الظالم لا يظلم إلا عن جهل. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.