اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2025/02/08 الإنسان القرآن (مقدمة في تفسير القرآن الكريــم) .26.(ج1) الباب الثاني: العلوم المتعلّقة بالقرآن الفصل العاشر: إعجاز القرآن (ج1)
الإعجاز مشتق من "عَجَزَ"، والهمزة في "أَعْجَزَ"، هي للتعدية؛ ومعناه هو جعل الغير عاجزا عن الشيء. وإعجاز الله بالقرآن، هو إعجاز للإنسان خاصة، عن الإتيان بمثله، لا لغيره. وإن كان الناطق بالقرآن، هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما أثبتنا في الفصل السابق، فمعنى هذا أن القرآن هو معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، التي يتحدّى بها البشرية من أوّلها إلى آخرها، من كونه النبي الرسول الدهريّ. يقول عليه وآله الصلاة والسلام: «ما مِنَ الْأَنْبِياءِ مِنْ نَبِيٍّ، إِلّا وَقدْ أُعْطَى مِنَ الْآياتِ ما مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ؛ وَإِنَّما كانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحاهُ اللهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكونَ أكْثَرَهُمْ تابِعًا يَوْمَ الْقِيامَةِ.»[1] . ولنتدبر في البداية، لمَ جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، القرآن معجزة المعجزات؟... في مقابل كل معجزة لكل نبيّ من الأنبياء عليهم السلام؟... مع أن الظاهر، هو كون الكتاب بداهة أقرب إلى إتيان الناس بمثله، من إحياء الموتى -مثلا- أو الخروج من النار سالما؛ والأولى معجزة عيسى، في حين أن الثانية هي معجزة إبراهيم، عليهما السلام... والمعنى المـُراد من وراء عبارة الحديث النبوي الفارط، هو أن معجزات الأنبياء عليهم السلام، كانت مخصوصة بالأزمنة التشريعية ما قبل البعثة المحمّديّة، كلاّ بحسبه. ومن تلك الخصوصيات، مُجاوزة معجزة النبيّ لما شاع بين قومه من علوم أو من صناعات. ولنكتف هنا، بذكر أقرب الرّسُل، إلى البعثة المحمّديّة، وهما موسى وعيسى عليهما السلام. ولنتأمّل كيف أن قوم فرعون في زمن موسى، كانوا مـُتقنين للسحر، فجاءتهم المعجزة الإلهية على يد موسى عليه السلام، بما هو فوقه، من انقلاب العصا حيّة، ومن أكلها لعصيّ السحرة وحبالهم حقيقة لا صورة فحسب؛ وإن كان ذلك يبدو في الظاهر من جنس السحر. وكيف أن الناس في زمن عيسى، كانوا مولَعين بالطّبّ، فجاءتهم المعجزة الإلهية على يد عيسى عليه السلام، بما هو فوقه، وهو الشفاء من الأمراض التي لا شفاء منها كالكَمَه والبَرَص؛ بل بما هو فوق ذلك من إحياء للموتى، الذي لا مطمع لأحد فيه ولو من باب الاستثناء. وإن كلّ عقل كان تحت حكم الطبيعة، أو رام التجرّد عنها بالتفلسف والرياضة، لن يتجاوز بإدراكه السحر والإحياء؛ ويرى ذلك أقصى ما يُمكن أن يكون من الإعجاز. بل إن كثيرا من الناس، من الكتابيّين ومن المسلمين جميعا، لن يُميّزوا المعجزة المحمّديّة، وإن مرّ عليهم الحديث النبوي الشريف، الذي أوردناه قبل أسطر، بسبب كلالة عقولهم؛ وقد سمعت من أحدهم ناقلا عمن هذه حاله (وهو في الظاهر من المسلمين)، أنه كان يقول بأفضلية عيسى على محمد عليهما السلام، مستدلّا بإحياء الموتى الوارد ذكره في القرآن العظيم. وأغفل هذا القائل، ومعه أشباهه، أن القرآن الذي أثبت المعجزة العيسويّة، قد جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ بما يعني أن المعجزة المحمّدية أعلى في المرتبة من إحياء الموتى، من هذا الوجه على الأقل، أو من وجه إتيان الأولياء المحمديّين بكل معجزات الأنبياء السابقين، من باب الكرامة. وهذا ثابت لدينا بالمعاينة أو التواتر!... ولكنّ اللوم لا يقع على عوامّ النّاس بخصوص هذه المسألة، وإنما يقع على الفقهاء الذين أهملوها، وهم يزعمون أنّهم على السّنة المحمّديّة عاملون؛ وضعف عنها إيمانهم، وهم للأمّة بغير أهلية يتصدّرون... وقبل أن نخصّص الآية المحمّديّة الكبرى بالكلام، فلنتدرّج في التأصيل للإعجاز درجة درجة: 1. إثبات المعجزات بالقرآن: ا. الآيات بالمعنى العام: لقد أثبت الله المعجزات بالمعنى العام، في مثل قوله سبحانه: {إِنَّ فِی خَلۡقِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَـٰفِ ٱلَّیۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلۡفُلۡكِ ٱلَّتِی تَجۡرِی فِی ٱلۡبَحۡرِ بِمَا یَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مِن مَّاۤءٍ فَأَحۡیَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَبَثَّ فِیهَا مِن كُلِّ دَاۤبَّةٍ وَتَصۡرِیفِ ٱلرِّیَـٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلۡمُسَخَّرِ بَیۡنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِ لَـَٔایَـٰتٍ لِّقَوۡمٍ یَعۡقِلُونَ} [البقرة: 164]؛ وهذه الآية من أعمّ الآيات في ذكر الآيات. ولقد أناط الله إدراك آياته من المشهودات السماوية والأرضية ومن المعقولات المستخلصة منها، بالعقلاء، دون غيرهم. وليس العاقل، إلا من ينفذ إلى معاني الأسماء الإلهية من وراء مظاهر المخلوقات. وأما من يبقى مع المخلوقات، وإن غاص فيها من جهة ما سُمِّي عند المتأخرين "العلوم" بالاصطلاح الحديث، فإنه لا يبلغ أن يكون من العقلاء بالاصطلاح القرآني؛ وسيأتي الكلام عن ذلك في موضعه بإذن الله تعالى... وباعتبار هذا المعنى نفسه، فنحن نرى أن المشركين من قدماء الإغريق ومن قدماء المصريّين (على سبيل المثال لا الحصر)، كانوا يعقلون، وإن ثبت شركهم. ومن فروع هذا المعنى لدينا -وقد ذكرناه مرارا- ثبوت العقل بنسبةٍ ما للفلاسفة، مع كفرهم عندنا جزْماً. ولقد خالفنا بقولنا هذا، كثيرا من المتفلسفين من المسلمين؛ حتى إننا قد نفينا عنهم صفة الفلاسفة، إبقاء منّا على إسلامهم، إعانة لهم وشفقة عليهم. ولكنّ كثيرا منهم، وبسبب جهلهم لمناطات أحكامنا، يتبرّمون ويُعرضون، وهم يتوهّمون أننا قد أردنا التنقيص من أقدارهم، عياذا بالله!... ولو علموا ما حرصنا عليه من إثبات إيمان لهم بالمعنى الشرعي، لشكرونا كثيرا على حُسن صنيعنا معهم؛ ولكن قد قيل فيما مضى: يفعل الجاهل بنفسه، ما لا يبلغه العدوّ من عدوّه!... نعوذ بالله أن نكون من الجاهلين!... وإن مما أثبتنا في غير هذا الكتاب، أن قدماء الإغريق قد كانوا يعقلون بعضا من معاني الأسماء الإلهية، من أديانهم الوثنية، وقبل ذلك مما بلغهم من النبوات القديمة، إن تحقق بلوغ شيء منها إليهم؛ فأثبتوا بهذا الفعل منهم، أنهم كانوا يعقلون. ونحن نرى أن كبار فلاسفة اليونان من أمثال سقراط وأفلاطون خاصة، كانوا أيضا لبعض معاني الأسماء الإلهية عاقلين. ولنذكر في هذا الموضع شيئا من ذلك على وجه التفصيل، من باب الدلالة على هذه المكانة من العقل، قبل أن ندلّ على العقول الكاملة. وقبل أن ندخل في تفاصيل الأسماء، علينا أن نبيّن -بما لا يبقى معه خفاء- أنّ قدماء الإغريق، لم يتمكنوا من فصل معاني الأسماء عن المـُسمّى، شأنهم في ذلك شأن جلّ أهل الحضارات القديمة؛ وهم بسبب هذا القصور، كانوا يقولون عن الأسماء آلهة. ولم يكونوا يقصدون إلا تعدّد الذوات، ما دامت عقولهم قد أنكرت عودة المعاني المختلفة والمتقابلة أحيانا، إلى ذات واحدة، أو إلى اسم واحد، كما هو الشأن عندنا معشر خواص هذه الأمة. وهذا القصور الذي نسبناه إلى الإغريق، ليس تجنّيا منا عليهم، وإنما هو من توصيف لحالهم؛ وذلك لأنهم لو عادوا إلى أنفسهم، لوجدوا الشخص الواحد منهم، هم أنفسهم، يتصف بصفات متعدّدة ومتناقضة. فالشجاع من الناس -كما هو معلوم من وجدانهم- لا يكون شجاعا على التمام، بحيث لا يعتبر شيئا من المـَخاوف كلها البتّة؛ وإنما هو من غلبت شجاعته جُبنه الطبيعي. ونعني أن شجاعته، تبقى مساكنة لجبنه؛ ولا يستدعي منه ذلك، أن يعتقد في نفسه المركزيّةِ التعدُّدَ. وهكذا يُقال أيضا عن الكريم، وعن العالم، وعن القادر، وغيرهم من الناس... فثبت من الملاحظة المجرّدة، أن الذات الواحدة (وهي هنا مجاز)، قد تتصف بصفات كثيرة متقابلة؛ وهذا يعني أن تعقّل القدماء لبعض معاني الأسماء الإلهية، كان يتطلّب القول بتعدّد المسميات (الأُلوهات). وهنا لا بد من الشهادة بسموّ العقل الإغريقي الوثني، إن لم يكن مستندا إلى نبوات قديمة مشرقية كالديانة الأورانية (السماوية بحسب بعض الأقوال)؛ وبسموّ العقل الفلسفي التوحيدي بحسب ما نُقل عن سقراط وأفلاطون خاصة. وحتى نتبيّن بعض المراد، نذكر الآن آلهة الأولمب الاثنَيْ عشر، كما كانت عند قدماء الإغريق، بما هي نظير لما كان لدى الرومان في الغرب، أو لدى الإمبراطوريات المشرقية والمصرية. وعدد الاثني عشر، هو نهاية العدد، كما هو معلوم؛ ونقصد أن به الإشارة إلى كثرة الأسماء من حيث لم يشعر واضعوه أو شعروا. والآلهة اليونانية (المزعومة) هي: - زيوس (النظير عند الرومان: جوبيتر، وعند الهندوس: إِندرا): وهو رئيس الآلهة، وهو نظير الاسم "الله" عندنا؛ لكن مع قصور في العلم به عند قدماء اليونان. وهو إله السماوات بحسب هوميروس صاحب الإلياذة، وهو الحاكم على البرق والرعد أيضا بحسبه. ونحن نرى أن اسم زيوس باليونانية، ليس بعيدا عن اسم "ديوس" باللاتينية، بحسب الميثولوجيا الأوروبية الهندية البدائية... - بوسيدون (نظيره عند الرومان: نيبتون): شقيق زيوس بحسبهم. وهنا يتجلّى الشرك لدى الإغريق، في أصله المخالف للتوحيد. وبوسيدون بحسبهم هو حاكم البحر، والعواصف والزلازل والخيول. وهذا المعنى، ليس بعيدا عن معنى الاسم "القادر" أو "القدير" عندنا... - هاديس (النظير الروماني: بلوتو): شقيق زيوس الآخر بحسبهم. وهو حاكم العالم السفلي (عالم الأموات عند الإغريق)، وهو أيضا مانح الثروات من كونها تأتي من باطن الأرض. وهذا المعنى ليس بعيدا عن معنى الاسم المركّب "المـُحيِي الـمُمِيت"، إذا اعتبرنا المميت متعلّقا بالأموات، وأن المـُحيِي هو المـُمِدّ بما تقوم به الحياة، ومنها الثروات. وهذا على اعتبار قصور الأقدمين عن الدّقّة في التعبير، خصوصا إن تعلّق الأمر بمعاني الأسماء الإلهية المـُدرَكة من خلف المظاهر الكونية. ومن شاء أن يتبيّن ما نقول، فلينظر إلى عجز غالبيّة المسلمين عن الربط بين المظاهر الكونية ومعاني الأسماء الإلهية؛ وإن أقصى ما يربطون به هو كون المخلوقات (المظاهر) مخلوقة لله. وحتى تدبير الله لمخلوقاته، إنما يؤمن به المسلمون إيمانا؛ حتى إذا ضعف ذلك الإيمان، أو عرض له الابتلاء الشديد، رأينا من يعدّون أنفسهم موحّدين ينسبون الفعل صراحة لعبد من العباد، كالسلطان في بلدهم، أو الساحر، أو غيرهما... - هيستيا (النظيرة الرومانية: فيستا): شقيقة زيوس بحسبهم. وهي إلهة العفة عندهم، والحاكمة على البيت والموقد. وقد استُبدل بها في بعض اللوائح ديونيسوس إله الخمر؛ وهذا المعنى لا يبعد عن معنى الاسم "الرازق" عندنا. والخمر دليل على الرخاء في العام، كما أخبر الله تعالى في قوله: {ثُمَّ یَأۡتِی مِنۢ بَعۡدِ ذَ ٰلِكَ عَامٌ فِیهِ یُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِیهِ یَعۡصِرُونَ} [يوسف: 49]... وقد جعل بعضهم الفرق بين السنة (ج. سنوات) والعام الرّخاء، لأن العرب تُسمّي العام المجدب سنة. ونحن نميل إلى أن السنة تُطلق من باب التعميم، لذلك تُذكر عند الحساب؛ وأن العام يُطلق عند التخصيص، كقول القائل: عام الفيل، وعام كذا أو كذا... - هيرا (ونظيرها الروماني: جونو): زوجة زيوس وشقيقته(!)، وإلهة الزواج بحسبهم. وصفتها الهيبة والجلال. وهذا المعنى يدخل عندنا ضمن الاسم "الرحمن"، من الاسم "الجميل" خاصة... - آريس (النظير الروماني: مارس): ابن زيوس وهيرا بحسبهم. وهو إله الحرب. وهو عندنا من معاني "القوي" و"النصير"... - أثينا (النظير الروماني: مينيرفا): ابنة زيوس، وهي حامية أثينا التي أخذت منها اسمها. وهي بحسبهم إلهة العقل والحكمة، والذكاء والمهارة، والسلام والحرب، واستراتيجية المعركة، والحرف اليدوية. وهذا المعنى يدخل عندنا ضمن "العليم الحكيم"... - أبولو (وهو على اسمه نفسه عند الرومان): ابن زيوس وليتو، وهو عندهم إله الشمس والفنون. وهو عندنا من معاني الاسم "النور"... - أفروديت (فينوس عند الرومان): ابنة زيوس. وهي عندهم إلهة الحب والجمال؛ وهو عندنا داخل ضمن الاسم المشتق من صفة المحبّة: "المحب" و"المحبوب"... يقول الله تعالى عن نفسه، بخصوص الفعل من هذه الصفة: {فَسَوۡفَ یَأۡتِی ٱللَّهُ بِقَوۡمٍ یُحِبُّهُمۡ وَیُحِبُّونَهُۥۤ} [المائدة: 54]... - هيرميس (ميركوريوس عند الرومان): ابن زيوس ومايا. هو عندهم رسول الآلهة، وثاني أصغرها، والحاكم على البحّارة. وهو داخل عندنا ضمن الاسم "المتكلم" المشتق من صفة الكلام المشار إليها في مثل قول الله تعالى: {أَفَتَطۡمَعُونَ أَن یُؤۡمِنُوا۟ لَكُمۡ وَقَدۡ كَانَ فَرِیقٌ مِّنۡهُمۡ یَسۡمَعُونَ كَلَـٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ یُحَرِّفُونَهُۥ مِنۢ بَعۡدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمۡ یَعۡلَمُونَ} [البقرة: 75]... - أرتيميس (ديانا عند الرومان): ابنة زيوس. إلهة الصيد والبرّيّة والخصوبة بحسبهم، وحامية الأطفال. وهذا المعنى يدخل عندنا ضمن الاسم "الحفيظ"... - هيفاستوس (فولكان عند الرومان): ابن زيوس وهيرا وأخ لهيستيا. وهو عندهم إله النار والصناعة والحدادة. وهذا المعنى يدخل عندنا ضمن الاسم "الصانع"، المشتق من فعل الصنع، المشار إليه في قول الله تعالى: {صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِیۤ أَتۡقَنَ كُلَّ شَیۡءٍۚ} [النمل: 88]... وعلينا أن نلاحظ أن هذه الآلهة المزعومة، هي معاني الأسماء الإلهية من الرؤساء، لكن من خلف الأسماء المرؤوسة، مما يسهل على ضعفاء العقول إدراكه. وأول الرؤساء الاسم "الله"، كما أسلفنا. ولله أسماء سبعة بحسب الأوجه، وأصلها خمسة وهي: "الحيّ" و"العليم" و"القادر" و"المريد" و"المتكلم". وأما الاسمان اللذان يأتيان بعد الاسم "الله" في الترتيب، فهما "الرّبّ" و"المـَلِك". ويأتي قبلها في الترتيب، الأسماء الاعتبارية الأربعة، وهي: "الأول" و"الآخر" و"الظاهر" والباطن"، ومجموع هذه كلها اثنا عشر اسما، على العدد المذكور آنفا؛ لكن لا من الأصل الذي أوضحناه. يقول الله تعالى: {قُلۡ هَلۡ یَسۡتَوِی ٱلَّذِینَ یَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِینَ لَا یَعۡلَمُونَۗ} [الزمر: 9]، ويقول سبحانه: {قُلۡ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ قُلِ ٱللَّهُۚ قُلۡ أَفَٱتَّخَذۡتُم مِّن دُونِهِۦۤ أَوۡلِیَاۤءَ لَا یَمۡلِكُونَ لِأَنفُسِهِمۡ نَفۡعًا وَلَا ضَرًّاۚ قُلۡ هَلۡ یَسۡتَوِی ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِیرُ أَمۡ هَلۡ تَسۡتَوِی ٱلظُّلُمَـٰتُ وَٱلنُّورُۗ أَمۡ جَعَلُوا۟ لِلَّهِ شُرَكَاۤءَ خَلَقُوا۟ كَخَلۡقِهِۦ فَتَشَـٰبَهَ ٱلۡخَلۡقُ عَلَیۡهِمۡۚ قُلِ ٱللَّهُ خَـٰلِقُ كُلِّ شَیۡءٍ وَهُوَ ٱلۡوَ ٰحِدُ ٱلۡقَهَّـٰرُ} [الرعد: 16]؛ لا إله إلا الله!... وإن نحن عدنا إلى ما كان يعقله قدماء الإغريق من الأسماء، فإننا سنجدها تعود إلى الأسماء سابقة الذكر، بطريق يناسب إدراكهم. وما نبغي أن نُثبته هنا، هو أن المعلوم لجميع العباد من مؤمنين ومن مشركين، قدماء ومحدثين، هو الله وحده؛ لكن علم الناظرين جميعهم إلى مظاهر الأسماء الإلهية، يختلف بحسب النور الذي لعقولهم؛ فمن كان ذا نور معتبر، فإنه سيكون على مثل ما دعا إليه الأنبياء والرسل في أزمنتهم، ولو إيمانا؛ أي، ولو من باب العلم المجمل؛ وأما من غلبت على عقله الظلمة الأصلية والطبيعية، فإنه سيعقل بعضا من معاني الأسماء الإلهية من وراء المظاهر. وفي الغالب، يقع تجريد هذه المعاني بقدر، لا يتمكّن معه أصحابه من نبذ الصور الطبيعية جملة؛ فيلجأون إلى التقريب من جهة، مع إثبات الفارق من جهة أخرى. وهذا الذي نذكره، هو أصل صور الأصنام التي عُبدت من دون الله؛ على مرّ التاريخ كلّه. ولن يزال هذا الصنف من المشركين موجودا من كلّ زمان، على ما تُعطيه القاعدة التي أثبتناها في القراءات القرآنية المختلفة باختلاف الأزمنة... ومن تتبع المعاني، فإنه سيجد الإغريق، لا يُميّزون بين الذات، ومرتبة الألوهية؛ وبين الذات، والصفات، والأفعال؛ لذلك فهم اعتقدوا عن قصور أن كل معنى من المعاني هو مستقلّ بنفسه من حيث الموصوفيّة، عن غيره من الأسماء؛ لذلك جعلوا كل إله مستقلا عن الآلهة الأخرى، وإن لم يتمكنوا من إنكار التزاوج بينها أو الصراع. وهكذا، فإنهم لم يتمكّنوا من معرفة كون الأسماء (المعاني الاسمية) المختلفة، وجوها للاسم الرئيس؛ فأثبتوا الرئاسة، وأثبتوا معها المغايرة؛ تعالى الله عما يقول المشركون علوّا كبيرا. وأما الذات من حيث هي، فعلمها مخصوص بالله ثم بالأنبياء والورثة؛ لذلك لم يُدرك مرتبتها لا الفلاسفة ولا علماء الدين من أهل الكتاب أو من المسلمين أنفسهم. ونلاحظ أن هؤلاء المدركين لبعض معاني الأسماء الإلهية، من المؤمنين أو من المشركين، لم يُدركوا إلا ما يتعلّق بهم من كونهم مخلوقين لله، ومصوَّرين، ومرزوقين، ومطبوبين، وناجين، ومعلَّمين، ومـُقَوَّيْن، وغير ذلك مما يتشعّب عن الأسماء الرئيسة من مختلف الصفوف الاسميّة. وأما الفلاسفة الذين اعتبروا معنى الألوهية الواحد من الاسم الله الذي سماه بعضهم "الصانع" وهو من أتباع "الخالق"، وسمّاه البعض الآخر "مـُسبِّب الأسباب"[2] وهو تابع لـ "الحكيم"، فملحظهم غير ملحظ الأوّلين. وكأن هؤلاء الفلاسفة، لم يُطيقوا كثرة الأسماء، كما أطاقها أهل الأديان من أهل التوحيد ومن المشركين؛ لظنّهم أن كلّ معنى ينبغي أن يستقل بذات، ولإدراكهم ولو عن بعدٍ بأن الألوهية (المعقولة لهم من وراء الأسماء المختلفة)، لا تتكثّر. وهذا الذي بلغوه، على الرغم من بقائهم على الشرك، فإنه يشهد لهم بالمرتبة العقلية. والمعنى الذي أَبَوْه من الكثرة الاسميّة المعقولة، هو ما ذكره الله تعالى في مثل قوله: {لَوۡ كَانَ فِیهِمَاۤ ءَالِهَةٌ إِلَّا ٱللَّهُ لَفَسَدَتَاۚ} [الأنبياء: 22]؛ والكلام في الآية عن السماء والأرض. وهذا الذي خلصنا إليه، يُفيد بأن كبار الفلاسفة موحّدون من الجهة العقليّة، وإن كانوا مشركين في نظر الشرع الربّانيّ. ولعمري، هل ذكر عنهم أحد هذا، أم لا؟... فإنه لا تنبغي التسوية من كل الجهات بين جميع المشركين. ويكفينا دلالة على ما نقول، قول الله تعالى عن أهل الكتاب مع ثبوت كفرهم: {وَإِنَّ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ لَمَن یُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكُمۡ وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡهِمۡ خَـٰشِعِینَ لِلَّهِ لَا یَشۡتَرُونَ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ ثَمَنًا قَلِیلًاۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِیعُ ٱلۡحِسَابِ} [آل عمران: 199]، على أحد معاني الآية، وهو القريب مما كنّا بصدده؛ وهكذا، سيكون أهل الكتاب ممن كانوا على الصفة المذكورة في الآية، من دون أن يشهدوا بشهادة الإسلام؛ أي على الإيمان بالمعنى اللغوي، لا بالمعنى الاصطلاحيّ الشرعي، كافرين من أهل النار إن ماتوا على ذلك؛ ولكن مع ذلك، فإن الله سيؤتيهم أجر إنصافهم في النار، فلا يُسوّيهم بالجهلة من أهل الكتاب الذين يُصرّون على تكذيب خاتَم الرسل محمد صلى الله عليه وآله وسلم. فما أحكم الله في أحكامه!... وما أعدله فيها!... ونحن إنما عرضنا لمعاني الأسماء الإلهية، في كلّ ما سبق، من أجل الدلالة على معنى الآية بحسب الاصطلاح القرآني؛ والذي ليس هو إلا مظهر الاسم الإلهي المخصوص، في عالمي الخلق والأمر خاصة؛ أي في عالم الطبيعة وعالم التجريد العقليّ (لا عالم العقول). وإن نحن علمنا أن العالَم المخلوق ليس إلا مظاهر للأسماء الإلهية (آيات)، فإننا سنعلم مدى سموّ القرآن في الدلالة على الحق (الوجود)، من أوله الذي هو البسملة؛ حيث عرفنا منها، على سبيل الإجمال، وقبل أن نلج إلى وجهَيِ القرآن والفرقان، أن الأمر منوط بأسماء لا بذوات؛ وعلمنا (نقصد العلماء منّا بالاصطلاح القرآني) أن الذات لا يتعلّق بها علم، ولا تتسمّى باسم. ولَعمري لو علم الناس ما دللنا عليه في هذه الفقرة وحدها، لماتوا طَرَباً!... وليعد القارئ من هنا إلى ما ذكرناه في الباب الأول عن البسملة، ليعلم ما لم يعلمه أوّلا. فإن علم، فليشكر الله الذي أمدّه بما لم يكن يعلم؛ يقول الله تعالى لعبده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ومن بعده لكل عبد وارث: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمۡ تَكُن تَعۡلَمُۚ وَكَانَ فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكَ عَظِیمًا} [النساء: 113]. فاللهم إنّا نشكرك على ما علّمتنا، ونسألك يا ربّنا المزيد... وإن الآيات بالمعنى العام، يدل عليها الحسّ؛ ومنه كانت آيات من وراء حجابٍ، للوثنيّين؛ ويدل عليها القرآن من كونه المهيْمن على كل الكتب السابقة. ومن لم يعلم دلالة القرآن على مظاهر الأسماء من العالَم، فإنه ما سمع القرآن بعدُ... ب. الآيات بالمعنى الخاص: أما الآيات بالمعنى الخاص، فهي المعجزات التي يؤيّد بها الله أنبياءه ورسله عليهم السلام، ليعلم قومهم أنهم مظاهر لله تعالى بينهم. ونعني بمظاهر الله، مظاهر الاسم "الله" المتعاقبة فيهم؛ وهي التي يقول فيها نبينا صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لا يُقالَ فِي الْأَرْضِ: اللهُ! اللهُ!»[3] . وهذا المعنى لاحق بالجزء السابق، لكون المظاهر النبوية في زمانها، آية على الاسم الله، في الوقت الذي تكون كل المظاهر السماوية والأرضية الأخرى، آيات على الأسماء التي دونه. ولقد جهل علماء الدين هذا المعنى، فحُجبوا عن إدراك الآيات عموما، وعن إدراك آية الله الكبرى، التي لا يخلو منها زمان. وعدم خلو الزمان من آية الله، هو معنى الحديث السابق؛ لأنه عندما يتوفّى الله مظهره في الأرض، ولا يأذن في خلافته؛ عندئذ تقوم الساعة، بسبب عدم وجود من يُمسك صفة الوجود على الدنيا. ومن فهم ما دللنا عليه، فإنه سيعلم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، هو آية الله الكبرى المعنية في قول الله تعالى: {سُبۡحَـٰنَ ٱلَّذِیۤ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَیۡلًا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِی بَـٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِیَهُۥ مِنۡ ءَایَـٰتِنَاۤۚ} [الإسراء: 1]. وقد جمع الله الآيات وأضافها إلى نون الجماعة، ليدل على أن الآيات، هي كل مظاهر الأسماء التفصيلية المجموعة حقائقها في مظهره الإجمالي؛ وأما "نون الجماعة" فهي للاشتراك الواقع في التجلّي، بين الحق والمظهر المحمّدي الأعلى. لذلك، فمن شهد الصورة المحمدية على أصلها، كما شهدها الصحابة المرضيّون، أو كما شهدها كبار أولياء هذه الأمة الشريفة، فإنه يكون قد رأى الله، علم أم لم يعلم؛ ولكن مع ثبوت الفارق بين من علم ومن لم يعلم، ولا بدّ. وهذا المظهر المحمّدي الأسمى، هو الذي سيتجلّى به الله لعباده يوم القيامة؛ فيا سعادة من رآه، ويا بشراه ببركة الزيادة في مجاليه إلى أبد الآبدين. ولا يُحجبْ أحد بمثل حديث الشفاعة، حيث يذكر صلى الله عليه وآله وسلم: «فَيَأْتُونِي فَأَسْتَأْذِنُ علَى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ لِي، فَإِذا أَنا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ ساجِدًا، فَيَدَعُنِي ما شاءَ اللَّهُ، فيُقالُ: يا مُحَمَّدُ، اِرْفَعْ رَأْسَكَ، قُلْ تُسْمَعْ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ! فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَحْمَدُ رَبِّي بتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ رَبِّي، ثُمَّ أشْفَعُ فَيَحُدُّ لي حَدًّا، فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ، وأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ؛ ثُمَّ أَعُودُ فَأَقَعُ ساجِدًا، فَيَدَعُنِي ما شاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقالُ: ارْفَعْ يا مُحَمَّدُ، قُلْ تُسْمَعْ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ! فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَحْمَدُ رَبِّي بتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لي حَدًّا، فَأُخْرِجَهُمْ مِنَ النَّارِ وأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ؛ قالَ: فَلا أَدْرِي في الثَّالِثَةِ، أَوْ في الرَّابِعَةِ، قالَ فَأَقُولُ: يا رَبِّ، ما بَقِيَ في النَّارِ إلَّا مَن حَبَسَهُ القُرْآنُ، أَيْ وجَبَ عليه الْخُلُودُ.» [4]؛ فإن هذا من تجلّي الحق لنفسه بنفسه في مراتبه. ومن صدّقنا، فعليه أن يأخذ المعنى من دون أن يسمح لنفسه بالتطلع إلى الفهم؛ لأن ذلك فوق طوره. والله يتفضّل على من يشاء!... ومن بركة انتساب هذه الأمة إلى أفضل المخلوقين وسيّد الأولين والآخرين، أن جعل آيات "الله" فيها من ورثة النبوّة، ليُضاهي بهم أنبياء الأمم السابقة. وهذه خصيصة لهذه الأمة، لو علم المسلمون فحواها، لاتخذوا كلّ أيامهم عيدا؛ وَلَسَكروا سكرة الآخرة في دنياهم!... فحمدا لله وشُكرا، أن جعلنا بفضله من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم... ج. الآيات بالمعنى المخصوص: ونعني بالمعنى المخصوص آيات التأييد، التي هي آيات الدلالة على مظاهر الاسم "الله"، قبل ذلك، لنجد القرآن يذكرها بقول الله تعالى: {وَقَالَ ٱلَّذِینَ لَا یَعۡلَمُونَ لَوۡلَا یُكَلِّمُنَا ٱللَّهُ أَوۡ تَأۡتِینَاۤ ءَایَةٌكَذَ ٰلِكَ قَالَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِم مِّثۡلَ قَوۡلِهِمۡۘ تَشَـٰبَهَتۡ قُلُوبُهُمۡۗ قَدۡ بَیَّنَّا ٱلۡـَٔایَـٰتِ لِقَوۡمٍ یُوقِنُونَ} [البقرة: 118]؛ ولنتأمّل وصف الله لمـَن يسأل الآيات بعدم علم هذه المسألة خاصة؛ وهذا، لأنه لو كان السائلون يعقلون، لعلموا أن كلّ ما في الوجود المحسوس والمعقول، هو آيات لله؛ ولكنهم عندما لم يُؤذن لهم في معرفة آيِيَّة الآيات، فإنهم قد جعلوا كل ما يشهدون في خانة فعل المخلوقات، وصاروا يطلبون ما هو حاصل لهم؛ فما أجهلهم!... ولسؤال الآيات من كل النفوس، مستنَدٌ من الفطرة؛ فهم من هذه الجهة يعلمون أن كل الآيات هي لربّهم؛ ولكن عندما طرأت عليهم الغفلة بالاكتساب، فإنهم صاروا كمن يطلب الموجود لعلّة فقده الإبصار، أو لعلّة العشَى من مشاهدة الأغيار. وهذا السؤال، لو كان أصحابه يفقهون، لأدركوا أنه دليل على الحق المركوز في نفوسهم؛ لأنه لولا ذلك، ما طلبوا الآيات. وإن هذا، هو سبب تشابه القلوب من كل السائلين؛ ونعني أنّ تشابه القلوب هنا، هو من باب الثناء على العباد، لا من باب الذّم، كما يُفهم من ظاهر الخطاب. وقول الله تعالى في ختام الآية {قَدۡ بَیَّنَّا ٱلۡـَٔایَـٰتِ لِقَوۡمٍ یُوقِنُونَ}، يعني أن من رفع الله عن عقله حجاب ظلمته، فإنه سيجد الآيات المطلوبة حاضرة قبل السؤال؛ وهي مظاهر كل الأسماء الإلهية الظاهرة بها كل المخلوقات. وليس الأمر متعلّقا بآيات أخرى غيرها، كما يتوهّم الغافل؛ والإيقان، هو بما ظهر من الآيات، وبكونها آيات... ومع الذي ذكرنا، فإن الله تعالى قد استجاب لبعض عباده، عند إتيانه بآيات مخصوصة ليدل على مظهر الاسم الجامع، ليتخذه العابدون قبلة عن علم، لقلوبهم. ومن هذه الآيات الخاصة على سبيل الاختصار: - الآية الآدمية: وهي التي يُشير إليها قول الله تعالى: {وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ ٱسۡجُدُوا۟ لِـَٔادَمَ فَسَجَدُوۤا۟ إِلَّاۤ إِبۡلِیسَ أَبَىٰ} [طه: 116]. وهذه الآية ملازمة لكل مظهر للاسم الجامع في أي زمان كان. ويدخل في حزب الملائكة كل المؤمنين بالظاهر في المظهر، كما يدخل في حزب إبليس كل معاند لله في مظهره، وإن كان من أكبر علماء الدين؛ بل لا يكون لِعِظم سوئه إلا منهم. والدليل على هذا المعنى، هو إبليس عينه؛ فإنه كان يعبد الله مع خواصّ الملائكة. فكانت مرتبة شيطنته تابعة لمرتبته السالفة، وإلا فإن الجن كانوا كثيرين غيره!... ولله حِكم تغيب عن إدراك من تيبّست مقلة بصيرته، بما تلقّاه عن فقهائه بالتسليم... وفقهاء السوء يدخلون في قول الله تعالى: {قَالَ فَبِمَاۤ أَغۡوَیۡتَنِی لَأَقۡعُدَنَّ لَهُمۡ صِرَ ٰطَكَ ٱلۡمُسۡتَقِیمَ} [الأعراف: 16]؛ فشطر منهم، هم مظاهر للقعود للصراط المستقيم، حرصا على ألا يعلم عموم المسلمين الخير الذي في الإسلام. فما أغرب حالهم!... وما أخفاه عن أهل الضلال بالدّين!... وإن من استمرار الآية الآدميّة بخصوص الخلفاء الربّانيّين من هذه الأمة، تصدّي أحد أكابر الفقهاء في الزمان له؛ حتى يكون بذلك خليفة للّعين... - الآية الإدريسيّة: ويقول فيها الله تعالى: {وَٱذۡكُرۡ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ إِدۡرِیسَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صِدِّیقًا نَّبِیًّا . وَرَفَعۡنَـٰهُ مَكَانًا عَلِیًّا} [مريم: 56-57]. وقد يتساءل القارئ: هل يكون الرفع آية في حق من بقي من القوم على الأرض؟... فنجيب: نعم! لأن إيمان القوم بالمظهر الأكبر في زمانهم، ينفعهم طيلة الزمن التشريعي المخصوص بالرسول المخصوص. وأما إدريس، فإنه سيكون آية عند رفعه الأول، وعند نزوله بصورة إلياس عليه السلام، ورفعه مرة أخرى؛ وعند كل من آمن به من أهل الكتاب ومنّا. وهنا سنذكر فعلا يفعله الله مع عباد مخصوصين، لحكمة خاصة؛ وهو ما يُسمّيه من أدرك شيئا منه من الضالّين: "تناسخ الأرواح"، وجعلوه عاما. والحقيقة هي أن بعض الأرواح، قد أذن الله لها في التلبّس بأجسام عديدة، بحسب المشيئة، فهو "نسخ روحي" غير عام؛ وإن كان للمعنى تخريج آخر، بالنظر إلى الروح الكلّي. وقد حُجب عن المعنى الصحيح، من أنكر "النسخ" جملة، ومن أثبته جملة. وممن ثبت له النسخ الروحي أيضا، مهديّ هذه الأمة الذي سيظهر في آخر الزمان، خليفةً محمّديّا كاملا؛ والدجّال الذي كمل في الشيطنة من الحزب الآخر المـُقابل. فالمهديّ عليه السلام، والذي هو محمد بن الحسن العسكري، قد شاء الله له أن يظهر في كلّ جيل[5] بمظهر إنسانيّ مختلف؛ من وقت موت المظهر الأول المعلوم، وإلى أوان الظهور الشريف. كل هذا، وهو تختلف عليه المظاهر والأنساب الجزئية، ضمن النسب الشريف لآل البيت عليهم السلام؛ وهو يُراكم البلاءات في كل جيل ومن كلّ مظهر، بحسب ما شاء الله له. وذلك ليُراكِم من الكمالات، ما يفوق كل الخلفاء والأئمة خاصة، عليهم جميعا السلام. وهذا الذي ذكرناه، يعني أن المهدي، قد يظهر بغير اسمه الأول، ولكنّه سيعلم أنه هو، وسيُخبر خاصته بذلك. ولا نظن، أن أحدا قد سبقنا في الإخبار عن شؤونه عليه السلام... وأما النسخ الذي لروح الدجّال، فهو أظهر من ذلك المخصوص بالمهدي، من جهة الأخبار. وممّا رواه ابن عمر عن أبيه رضي الله عنهما: "أَنَّ عُمَرَ انْطَلَقَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ عِنْدَ أُطُمِ بَنِي مَغَالَةَ وَقَدْ قَارَبَ ابْنُ صَيَّادٍ الْحُلُمَ، فَلَمْ يَشْعُرْ حَتَّى ضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لابْنِ صَيَّادٍ: «تَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟...»، فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ صَيَّادٍ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الْأُمِّيِّينَ!... فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَرَفَضَهُ، وَقَالَ: «آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ!...». فَقَالَ لَهُ: «مَاذَا تَرَى؟...»، قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُلِّطَ عَلَيْكَ الأَمْرُ!»؛ ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا؟...»، فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: هُوَ الدُّخُّ! فَقَالَ: «اِخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ!». فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ يَكُنْهُ، فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ، فَلا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ.». وَقَالَ سَالِمٌ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: انْطَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ إِلَى النَّخْلِ الَّتِي فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ، وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا، قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ ابْنُ صَيَّادٍ، فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ؛ يَعْنِي فِي قَطِيفَةٍ لَهُ، فِيهَا رَمْزَةٌ أَوْ زَمْرَةٌ؛ فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيّادٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ، فَقَالَتْ لابْنِ صَيَّادٍ: يَا صَافِ (وَهُوَ اسْمُ ابْنِ صَيَّادٍ)، هَذَا مُحَمَّدٌ!... صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَثَارَ ابْنُ صَيَّادٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ!...»" [6]. ولنتوقّف عند بعض عبارات الحديث، لندلّل على أن ابن صياد (وقد كان يُدعى بعد إسلامه: عبد الله بن سعيد) هو الدجال في ذلك الزمان: = سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لابن صيّاد: «تَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟...»، هو لعلمه صلى الله عليه وآله وسلّم أن الدجال يعرفه. وهذا، كما يعرف العدوّ عدوّه؛ غير أن الدجال ليس من مرتبة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، نعني في مقابلها، لأنه لا مقابل لها؛ وإنما هو مقابل للمسيح عيسى عليه السلام؛ لذلك سيكون هو من يقتله في آخر الزمان، دلالة على ما ذكره الله تعالى في قوله: {وَمَن یَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ فَإِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡغَـٰلِبُونَ} [المائدة: 56]... = وجواب ابن صيّاد: " أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الْأُمِّيِّينَ!...": هو من علمه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، الذي هو من المدد الغيبيّ الذي ذكره الله تعالى في قوله: {كُلًّا نُّمِدُّ هَـٰۤؤُلَاۤءِ وَهَـٰۤؤُلَاۤءِ مِنۡ عَطَاۤءِ رَبِّكَۚ وَمَا كَانَ عَطَاۤءُ رَبِّكَ مَحۡظُورًا} [الإسراء: 20]؛ ونعني أن مدده كان من غيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن من المدد الضلاليّ المخصوص بحزب الشيطان... ولكن ابن صيّاد وارث لصفات الشيطان، ومنها الإباية والعناد؛ فأقرّ بنبوّة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنه نسبها تحقيرا، إلى الأميّين؛ وهو لا يقصد إلا العرب من غير أهل الكتاب. وهذا يعني أنه يعلم أنه سيخرج زمنَ خروجه، من بين اليهود، على أنه المسيح المنتظر لهم. وهذا من مكر الله باليهود، بسبب كفرهم بالمسيح عيسى بن مريم عليه وأمه السلام، عندما بُعث إليهم... = وأما مقطع: [فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَرَفَضَهُ، وَقَالَ: «آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ!...»]، فهو يدلّ على ما جُبل عليه ابن صيّاد (المظهر الدجالي) من صفات الإضلال؛ وقد يتوهّم السامع للحوار من جهة ظاهره، أنه ندّ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهيهات!... ولكنها صفة الإضلال المركوزة فيه. وأما قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في معرض رفضه لإضلال ابن صيّاد: «آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ!...»، فهو من صفة عبوديته الفريدة؛ حيث ردّ عليه وآله الصلاة والسلام إيمانه إلى الله ورُسُلِه بصيغة الجمع. ولقد كانت هذه صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى مع أصحابه الذين هم أتباعه، بالمعنى الخاص برسالته، من أحد الوجوه. ونحن -بحمد الله- نعلم هذا الحال النبويّ ذوقا، ونعلم كيف كان عليه وآله الصلاة والسلام يكره الانفراد بشيء دون الناس كرها شديدا. ولا مستند له في ذلك الحال، إلا كمال عبوديته وتمامها!... = أما سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَاذَا تَرَى؟...»: فهو ليسمع من حال ابن صيّاد، فيقارنه إلى ما يعلم من علم الله بالدجّال؛ فكان جواب ابن صيّاد بحقيقة ما يجد، لعلمه من جهته بعدم جدوى كذبه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ."؛ وهذا ما ينبغي أن يكون عليه هو وإمامه إبليس. وقد جهل كثير من علماء الدين هذه الحقيقة، فظنّوا أن الشيطان وخلفاءه، يكونون على جهل تام، أو على علم تام ومخالفة، بما أنهم مقابلون بحقائقهم لحقائق الأنبياء والمرسلين والورثة (حزب الله)؛ فجهلوا، ووقعوا بذلك في حبال الشياطين بقدر جهلهم. والحقيقة هي أن الشيطان وأتباعه، يكونون على علم مخلوط: أساسه حق، وبناؤه باطل؛ ولا يكون إلا هذا، بسبب امتناع أن يقوم الباطل بالباطل. وقد أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلى حقيقة الشيطان (وأتباعه)، بقوله لأبي هريرة رضي الله عنه، عندما كان يريد أسر شيطان من الشياطين: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ، وَهُوَ كَذُوبٌ!»[7] ؛ فجمع له بين صفتي الصدق والكذب، وهذا هو التخليط الذي كنّا بصدده. وما أكثر ما أبان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الأمور، ولكنّ علماء الدين حُجبوا عنها، لحكَمٍ أرادها الله تعالى... وهو ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله في الحديث المذكور: «خُلِّطَ عَلَيْكَ الأَمْرُ!»، وهو عينه الذي سيُخبر عنه بقوله عليه وآله الصلاة والسلام: «اِخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ!»؛ أي لن تكون من أهل الحق الصرف أبدا!... = وأما قوله عليه وآله الصلاة والسلام من باب الامتحان لابن صيّاد: «إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا؟...»، وجواب الخبيث بقوله: " هُوَ الدُّخُّ!"، فقد كان يعني به سورة الدخان، التي أضمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها في قلبه الشريف، قوله تعالى: {فَٱرۡتَقِبۡ یَوۡمَ تَأۡتِی ٱلسَّمَاۤءُ بِدُخَانٍ مُّبِینٍ} [الدخان: 10]، وقد كان ذلك لاعتباريْن: أحدهما: هو أن حقيقة الشيطان وأتباعه، ملتبسة؛ ولا يوافقها في الصفة من جهة الحس، إلا الدخان لكونه من جهة لطيفا، ومن جهة أخرى غير مـُبين... والنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لحكمته، لا يذكر شيئا اعتباطا؛ وإنما لقرينة يعلمها بعلمه الذي خصّه الله به. وقد أورثنا الله من هذه الصفة نصيبا، نحمد الله ونشكره عليه؛ حتى صرنا نذكر أمورا من غير قصد، فإذا تتبعناها، علمنا بفضل الله من أين أتتنا. ونحن نذكر هذا من باب التحدّث بنعمة الله علينا، لا ترفّعا نعوذ بالله من الجهل والجهالة!... والآخر: هو ما ذكره الله تعالى من صفة الشيطان وأتباعه من سائر الشياطين: {إِنَّهُۥ یَرَىٰكُمۡ هُوَ وَقَبِیلُهُۥ مِنۡ حَیۡثُ لَا تَرَوۡنَهُمۡۗ} [الأعراف: 27]؛ فتأكّد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهة الظاهر، ما علمه من جهة باطنه الشريف؛ من دون أن يعلم ابن صيّاد. وهذا، لأن الشياطين يرون ما في قلوب الناس، إن كانوا من عوام المؤمنين أو من عموم الكافرين؛ وأما الخواص، فلا سلطان للشياطين على قلوبهم. فإن خطر للقارئ: فكيف علم ابن صيّاد بما خبّأه له النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فليعلم أن ذلك كان بالإذن النبوي الشريف؛ فكأنه رفع الحرس عن قلبه الشريف، حتى يطلع عليه ابن صيّاد. ولقد فعلنا نحن هذا في بداية سلوكنا مع أحد الشياطين وقد كان يتملّك أحد الأشخاص، فخبأنا له خبيئة، وأتحنا له النظر إلى قلبنا، فأخبر بما خبأناه بدقّة، فعرفناه... = وأما قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لسيّدنا عمر المـَرْضيّ: «إِنْ يَكُنْهُ، فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ، فَلا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ.»، فهو لعلمه عليه وآله الصلاة والسلام، بحتمية بلوغ الدجال، أوان خروجه، في آخر الزمان. ولن يكون ذلك، إلا بإذن من الله، الذي شاء له أن يتطوّر روحه في المظاهر الدجّاليّة المتتابعة في الزمان، من يوم خلقه الله، وإلى أوان خروجه. وهذا لا يعني امتناع قتله عندما يكون في مظهر من مظاهره التفصيلية، لأنه لو قُتل فسيأذن الله له بالظهور في مظهر آخر مختلف؛ ولكنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، أراد بإخبار عمر رضي الله عنه، أن يُعلّمنا، بأن حقيقته الدجاليّة، لا يتمكن أحد من المخلوقين من القضاء عليها، إلى أن يأتي عيسى المسيح الحق. يقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «(...) فَإِذا رَآهُ عَدُوُّ اللهِ (أي رأى الدجال عيسى)، ذابَ كَما يَذُوبُ المِلْحُ فِي الْماءِ؛ فَلَوْ تَرَكَهُ لانْذابَ حَتَّى يَهْلِكَ، ولَكِنْ يَقْتُلُهُ اللَّهُ بيَدِهِ، فَيُرِيهِمْ دَمَهُ فِي حَرْبَتِهِ.» [8]... وعن محمد بن المنكدر أنه قال: "رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ ابْنَ الصَّائِدِ الدَّجَّالُ. قُلْتُ: تَحْلِفُ بِاللَّهِ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ."[9] . وليس فوق هذا الكلام كلام، لمن كان من الذين يعقلون، ولكن الأمر يتطلب بعض التوضيح، وسنعرض له في الفقرات التالية بإذن الله تعالى... وَرُوِيَ عن أبي سعيد الخُدريّ رضي الله عنه أنه قال: "قالَ لِي ابْنُ صَائِدٍ، وَأَخَذَتْنِي مِنْهُ ذَمَامَةٌ (كفالة أو عهد): هَذا عَذَرْتُ النَّاسَ، ما لِي وَلَكُمْ؟ يا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ، أَلَمْ يَقُلْ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ يَهُودِيٌّ، وَقَدْ أَسْلَمْتُ؛ قالَ: وَلَا يُولَدُ لَهُ، وَقَدْ وُلِدَ لِي؛ وَقالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَيْهِ مَكَّةَ، وَقَدْ حَجَجْتُ. قالَ: فَما زَالَ حَتَّى كَادَ أَنْ يَأْخُذَ فِيَّ قَوْلُهُ. قالَ: فَقالَ لَهُ: أَمَا، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ الْآنَ حَيْثُ هُوَ، وَأَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، قالَ: وَقِيلَ لَهُ: أَيَسُرُّكَ أنَّكَ ذَاكَ الرَّجُلُ؟ قالَ فَقالَ: لَوْ عُرِضَ عَلَيَّ ما كَرِهْتُ."[10] . وعن أبي سعيد رضي الله عنه أيضا قال: "خَرَجْنَا حُجَّاجًا أَوْ عُمَّارًا، وَمَعَنَا ابْنُ صَائِدٍ. قالَ: فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَتَفَرَّقَ النَّاسُ، وَبَقِيتُ أَنَا وَهُوَ، فَاسْتَوْحَشْتُ مِنْهُ وَحْشَةً شَدِيدَةً مِمَّا يُقَالُ عَلَيْهِ (أي من أنه الدجّال)، قالَ: وَجَاءَ بمَتَاعِهِ فَوَضَعَهُ مَعَ مَتَاعِي، فَقُلْتُ: إِنَّ الْحَرَّ شَدِيدٌ، فَلَوْ وَضَعْتَهُ تَحْتَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ!... قالَ: فَفَعَلَ. قالَ: فَرُفِعَتْ لَنَا غَنَمٌ، فَانْطَلَقَ فَجَاءَ بعُسٍّ (قدح كبير)، فَقالَ: اِشْرَبْ أَبَا سَعِيدٍ!... فَقُلْتُ: إِنَّ الْحَرَّ شَدِيدٌ، وَاللَّبَنُ حَارٌّ، ما بِي إلَّا أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَشْرَبَ عَنْ يَدِهِ (أَوْ قالَ: آخُذَ عَنْ يَدِهِ). فَقالَ: أَبَا سَعِيدٍ، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آخُذَ حَبْلًا فَأُعَلِّقَهُ بِشَجَرَةٍ، ثُمَّ أَخْتَنِقَ مِمَّا يَقولُ لِي النَّاسُ!... يا أَبَا سَعِيدٍ، مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ حَديثُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما خَفِيَ علَيْكُم مَعْشَرَ الأنْصَارِ!... أَلَسْتَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بحَدِيثِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أَلَيْسَ قَدْ قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ كَافِرٌ؟ وَأَنَا مُسْلِمٌ. أَوَليسَ قَدْ قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ عَقِيمٌ لا يُولَدُ لَهُ؟ وَقَدْ تَرَكْتُ وَلَدِي بالْمَدِينَةِ. أَوَلَيْسَ قَدْ قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ وَلَا مَكَّةَ؟ وَقَدْ أَقْبَلْتُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَأَنَا أُرِيدُ مَكَّةَ. قالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: حَتَّى كِدْتُ أَنْ أَعْذِرَهُ، ثُمَّ قالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ وَأَعْرِفُ مَوْلِدَهُ، وَأَيْنَ هُوَ الْآنَ. قالَ: قُلْتُ لَهُ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ اليَومِ!"[11] . وقد أسلم بحسب الظاهر ابن صيّاد، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان من ولده، عمارة بن عبد الله بن صياد من خيار المسلمين (كما نُقل)، من أصحاب سعيد بن المسيب، روى عنه مالك وغيره... وقد اختلط على الناس أمره، بسبب ما ذكر مما خالف ما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم به عنه، مما ذكره الدجّال للصحابيّ الجليل أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ والحقّ هو أن الناس قد خلطوا بين ما هو من صفات الدجّال عند خروجه في زمنه؛ وما تكون عليه النُّسخ التي قبلها في الزمان. ولقد أخبر، عن نفسه، في آخر حديث أبي سعيد الخدري، عندما أخبر أنه يعلم أين هو الآن، ومن أبوه وأمه. ولا يعلم هذا عن الشخص، إلا نفسه!.. ولكنّه ظل يعتمد التلبيس، إمعانا في الاستهانة بالناس، ورغبة في إدخال الشكّ عليهم في نبيّهم صلى الله عليه وآله وسلم. وأما أولاده، فلهم حكم آخر، بما أن الدجّال شخص ذو حقيقة لا تتعدّاه. ونعني أن الله قادر، أن يفصل بين الدجال وأبنائه، من جهة الإيمان والكفر؛ إن ثبت إيمان أولاده عند الله... وقد كان آخر العهد بابن صيّاد، وقعة الحرّة المشؤومة، سنة ثلاث وستّين للهجرة؛ فلم يُرَ بعدها. ونحن على يقين من أنه قد تلبّس مظهرا آخر، في تلك البلاد أو من غيرها... ومن الأخبار الواردة في نسخ الدجال، ما روته فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، فقالت: "سَمِعْتُ نِدَاءَ الْمُنَادِي (مُنَادِي رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ) يُنَادِي: الصَّلَاةَ جَامِعَةً!... فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَصَلَّيْتُ مَعَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُنْتُ فِي صَفِّ النِّسَاءِ الَّتِي تَلِي ظُهُورَ الْقَوْمِ، فَلَمَّا قَضَى رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ، جَلَسَ علَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقالَ: «لِيَلْزَمْ كُلُّ إنْسَانٍ مُصَلَّاهُ!...» ثُمَّ قالَ: «أَتَدْرُونَ لِمَ جَمَعْتُكُمْ؟» قالُوا: اللَّهُ وَرَسولُهُ أَعْلَمُ. قالَ: «إِنِّي وَاللَّهِ ما جَمَعْتُكُمْ لِرَغْبَةٍ وَلَا لِرَهْبَةٍ، وَلَكِنْ جَمَعْتُكُمْ لِأَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ كانَ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا، فَجَاءَ فَبَايَعَ وَأَسْلَمَ، وَحدَّثَني حَدِيثًا وَافَقَ الَّذي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْ مَسِيحِ الدَّجَّالِ. حَدَّثَني أَنَّهُ رَكِبَ فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ مَعَ ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِن لَخْمٍ وَجُذَامَ، فَلَعِبَ بِهِمُ الْمَوْجُ شَهْرًا فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ أَرْفَؤُوا إِلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ حَتَّى مَغْرِبِ الشَّمْسِ، فَجَلَسُوا فِي أَقْرُبِ (ج: قارَب) السَّفِينَةِ، فَدَخَلُوا الْجَزِيرَةَ، فَلَقِيَتْهُمْ دَابَّةٌ أَهْلَبُ كَثِيرُ الشَّعَرِ، لا يَدْرُونَ ما قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ؛ مِن كَثْرَةِ الشَّعَرِ، فَقالوا: وَيْلَكِ! ما أَنْتِ؟ فَقالَتْ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ!... قالوا: وَما الجَسَّاسَةُ؟ قالَتْ: أَيُّهَا القَوْمُ، انْطَلِقُوا إِلَى هَذا الرَّجُلِ فِي الدَّيْرِ؛ فَإِنَّهُ إِلَى خَبَرِكُمْ بِالْأَشْوَاقِ، قالَ: لَمَّا سَمَّتْ لَنَا رَجُلًا فَرِقْنَا (خِفنا) مِنْها أَنْ تَكُونَ شيطَانَةً. قالَ: فَانْطَلَقْنَا سِرَاعًا حتَّى دَخَلْنَا الدَّيْرَ، فَإِذَا فِيهِ أَعْظَمُ إِنْسَانٍ رَأَيْنَاهُ قَطُّ خَلْقًا، وَأَشَدُّهُ وِثَاقًا، مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ، ما بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ إِلى كَعْبَيْهِ بِالْحَدِيدِ، قُلْنَا: وَيْلَكَ! ما أَنْتَ؟ قالَ: قَدْ قَدَرْتُمْ عَلَى خَبَرِي، فَأَخْبِرُونِي ما أَنْتُمْ؟ قَالوا: نَحْنُ أُنَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ، رَكِبْنَا فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ، فَصَادَفْنَا الْبَحْرَ حِينَ اغْتَلَمَ (هاجَ)، فَلَعِبَ بِنَا الْمَوْجُ شَهْرًا، ثُمَّ أَرْفَأْنَا إِلى جَزِيرَتِكَ هذِهِ، فَجَلَسْنَا فِي أَقْرُبِهَا، فَدَخَلْنَا الْجَزِيرَةَ، فَلَقِيَتْنَا دَابَّةٌ أَهْلَبُ كَثِيرُ الشَّعَرِ، لا يُدْرَى ما قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ مِنْ كَثْرَةِ الشَّعَرِ، فَقُلْنَا: وَيْلَكِ! ما أَنْتِ؟ فَقالَتْ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ، قُلْنَا: وَما الجَسَّاسَةُ؟ قالَتْ: اِعْمِدُوا إِلَى هَذا الرَّجُلِ فِي الدَّيْرِ؛ فَإِنَّهُ إِلَى خَبَرِكُمْ بِالْأَشْوَاقِ، فَأَقْبَلْنَا إلَيْكَ سِرَاعًا، وَفَزِعْنَا مِنْها، وَلَمْ نَأْمَنْ أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً. فَقالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ نَخْلِ بَيْسَانَ؟ قُلْنَا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قالَ: أَسْأَلُكُمْ عَنْ نَخْلِهَا؛ هَلْ يُثْمِرُ؟ قُلْنَا لَهُ: نَعَمْ. قالَ: أَمَا إِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ لا تُثْمِرَ. قالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ بُحَيْرَةِ الطَّبَرِيَّةِ؟ قُلْنَا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قالَ: هَلْ فِيهَا مَاءٌ؟ قَالُوا: هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ. قالَ: أَمَا إِنَّ مَاءَهَا يُوشِكُ أَنْ يَذْهَبَ. قالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ عَيْنِ زُغَرَ، قَالُوا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قالَ: هَلْ فِي الْعَيْنِ مَاءٌ؟ وَهَلْ يَزْرَعُ أَهْلُهَا بِمَاءِ العَيْنِ؟ قُلْنَا لَهُ: نَعَمْ، هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ، وَأَهْلُهَا يَزْرَعُونَ مِنْ مَائِهَا. قالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ نَبِيِّ الْأُمِّيِّينَ ما فَعَلَ؟ قَالُوا: قَدْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَنَزَلَ يَثْرِبَ. قالَ: أَقَاتَلَهُ الْعَرَبُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ. قالَ: كَيْفَ صَنَعَ بهِمْ؟ فَأَخْبَرْنَاهُ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ عَلَى مَنْ يَلِيهِ مِنَ الْعَرَبِ وَأَطَاعُوهُ. قالَ لَهُمْ: قَدْ كانَ ذَلِكَ؟ قُلْنَا: نَعَمْ. قالَ: أَمَا إِنَّ ذَاكَ خَيْرٌ لَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ؛ وَإنِّي مُخْبِرُكُمْ عَنِّي: إِنِّي أَنَا الْمَسِيحُ، وَإنِّي أُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي فِي الْخُرُوجِ، فَأَخْرُجَ، فَأَسِيرَ فِي الْأَرْضِ فَلا أَدَعَ قَرْيَةً إِلَّا هَبَطْتُهَا فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، غَيْرَ مَكَّةَ وَطَيْبَةَ، فَهُما مُحَرَّمَتَانِ عَلَيَّ كِلْتَاهُمَا؛ كُلَّما أَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ وَاحِدَةً مِنْهُما اسْتَقْبَلَنِي مَلَكٌ بِيَدِهِ السَّيْفُ صَلْتًا، يَصُدُّنِي عَنْهَا؛ وَإِنَّ علَى كُلِّ نَقْبٍ (ثغر) مِنْها مَلَائِكَةً يَحْرُسُونَهَا. قالَتْ: قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَعَنَ بِمِخْصَرَتِهِ فِي الْمِنْبَرِ: هَذِهِ طَيْبَةُ، هَذِهِ طَيْبَةُ، هَذِهِ طَيْبَةُ (يَعْنِي المَدِينَةَ) أَلَا هَلْ كُنْتُ حَدَّثْتُكُمْ ذَلِكَ؟ فَقالَ النَّاسُ: نَعَمْ. فَإِنَّهُ أَعْجَبَنِي حَدِيثُ تَمِيمٍ؛ أَنَّهُ وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْهُ، وَعَنِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ؛ أَلَا إِنَّهُ فِي بَحْرِ الشَّأْمِ أَوْ بَحْرِ الْيَمَنِ، لا، بَلْ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ ما هُوَ، مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ ما هُوَ، مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ ما هُوَ، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ.» قالَتْ: فَحَفِظْتُ هَذا مِنْ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ."[12] . وتميم الداريّ رضي الله عنه، كان قد أسلم في السنة التاسعة للهجرة، وهذا يعني أن الخبر السابق كان قبل إسلامه بقليل، بما أنه كان سبب إسلامه، رضي الله عنه. وهو ما يعني تواجد الدجال الذي على الجزيرة، في زمن ابن صيّاد؛ ونحن لا يقدح عندنا هذا في ذاك؛ لأن الله يتصرف بحسب مشيئته، وما تُعطيه طلاقة قدرته. وقد يكون هذا، هو ذاك؛ في مظهرَيْن: أحدهما في المدينة يمشي بين الناس، والآخر في الجزيرة محبوس. والمـُرجَّح، أن يكون الذي على الجزيرة هو الدجّال في مظهره الأصلي، وأن يكون ابن صيّاد مظهرا في المدينة فرعيّا. وهذا نظير ما يكون من المظاهر الوراثيّة مع مظاهر الأنبياء الأصلية؛ فإن هذه من تلك في الحُكم!... وأما المظاهر الدجالية التي أتت بعدُ، فإنها تتوالى في البلدان، من أنساب مختلفة متباعدة في الظاهر؛ حتى لا يشعر بها إلا خواصّ الشياطين؛ ولكن تكون كلها على تلك الصفة من التلبيس، والتخليط. ومن كان على علم أو على فراسة، والتقى أحدها، فإنه سيعرفه. والصفات التي ذكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، والتي سيظهر بها في آخر الزمان، لن تظهر إلا في ذلك الوقت خاصة، وأما قبله، فقد يكون أيّ شخص من الناس، وبأي اسم آخر. وهذا، هو ما جعل الناس يضلّون عنه، في الأزمنة البينيّة، لحكمة يريدها الله. ولقد سمعت مرّة أحد الأشخاص، من بلاد المشرق، يصف رجلا في هذا الزمان، التبس على الناس أمره، حتى شكّوا في أنه الدّجّال، وأثبتوا له العوَر؛ ولعلّ العوَر صفة ثابتة في المظاهر الدجاليّة من جهة الظاهر، وقد كان عليها ابن صيّاد عينه. وأما من يُعتبرون ممن يستمدّون من صفاته، فنعرف شخصا من أهل زماننا بعينه، ذكرنا لمن كان يُجالسنا أنه دجّال هذا الزمان؛ عقله عقل تلبيسي خطير... والله أعلم. وعلى كل حال، فنحن بهذه الإطالة، ما أردنا إلا أن ندلّل على التناسخ في بعض الأشخاص، بحسب مشيئة الله فيهم؛ وأما القول بالتناسخ العام، كما يقول به الهندوس في آسيا، أو تقول به طائفة الدروز في بلاد الشام، فهو باطل!... ولعل فيما ذكرناه مما هو متعلّق من جهة بالمهدي، ومن جهة أخرى بالدجال، كفاية لمن كان ذا إيمان؛ وأما من لم يكن، فليعلم أنه إن أدرك الدجّال على تلك الحال، فإنه هالك لا محالة!... لأنه لا يمنع الله من يَمنع من الدجّال، إلا بصرافة الإيمان!... وهنا لا بد أن نخبر متفقهة الزمان، بأنهم على خطر؛ لأنهم على تنظير في العقائد يحسبونه إيمانا، وهو ليس كذلك. وتلك الصفة منهم، تجعلهم من أسهل الفرائس للدجّال، ما لم يحتموا بربّانيّ يكفيهموه!... - الآية النوحية: ويقول فيها الله تعالى: {وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ فَلَبِثَ فِیهِمۡ أَلۡفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمۡسِینَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمۡ ظَـٰلِمُونَ} [العنكبوت: 14]؛ وهذا بخلاف ما يُعطيه الباطن والحقيقة. ونعني أن الله لا يخرج عن حكمه شيء من مخلوقاته، لكنّه سبحانه شاء أن يحكم عليهم بحقائقهم، لا بقهره؛ وإلا لكان كل مظهر لله لا يتمكّن الناس من مخالفته. ومع أن نوحا عليه السلام كان آية في طول مدّة الدعوة إلى الحق، فإنه لم يؤمن له إلا قليل، فأخذهم الله بعنادهم لمظهره، وأرسل عليهم الطوفان الذي التقى فيه الماء من السماء ومن جوف الأرض فأغرقهم وماتوا كافرين. ومن جهة الباطن، فإن الماء هو العلم؛ وسماويُّه هو ما استند إلى وحي نازل من عند الله، وأرضيّه هو ما استُخرج من النظر في الطبيعة. والمعنى هو أن الكافرين المحجوبين عن الخطاب الرباني، توهّموا أنهم مستقلّون في نظرهم عنه عند مخالفتهم لظاهره، فأخبرهم الله أنهم ما خرجوا عن الحق، رغم كل ما بدر منهم. وأثبت أنهم قد ظلموا أنفسهم عندما جهلوا ما انطوى فيها من الحق، وأنهم ظلموا الداعيَ لهم عندما ظنّوا أنه مخالف لما عندهم. فكانت هذه الآية النوحية آية علمية، أسّست لما سيأتي بعدها، عند توالي القوم الكافرين على الأرض. ومن لم يعلم حقيقة الكفر من الكافرين، فما هو معدود من العلماء بالحق الراسخين!... ولقد حكمت بكفر الكافرين حقائق الخلق، عندما ستروا الحق الظاهر بهم بظهورهم عينه. وهذا الكفر اللغوي العام، لا يسلم منه أحد، وإن كان من أعلم العلماء بالله؛ ولا يخرج عنه إلا المهيّمون من الملائكة وأرباب الأحوال من الأفراد، الذين لا يشهدون خلقا البتة؛ وهم على كلّ حال أنقص من الأنبياء عليهم السلام، الذين يثبت حجابهم. كيف لا، وقد صلى قطب المغرب عبد السلام بن بشيش عليه السلام على نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، بقوله: "اَلَّلهُمَّ إِنَّهُ سِرُّكَ الْجامِعُ الدَّالُّ عَلَيْكَ، وَحَجابُكَ الْأَعْظَمُ الْقائِمُ لَكَ بَيْنَ يَدَيْكَ."[13] . وقد يعجب القارئ من هذا القول، لعدم تصوّره له واقعا؛ وما هو في الحقيقة إلا المقابل لكفر الكافرين الذين لا يشهدون إلا العالم، بل هو من الكفر اللغوي الذي ذكرنا أنه لا يرتفع. وأما من جمع الله له الكمالات، فإنه لا يشغله حق عن خلق، ولا خلق عن حق، من كونه مع الظاهر والباطن. ولا يبلغ أحد تمام الاعتدال في كمال العلم، كما بلغه نبيّنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وورثته من بعده. وإن كل من رزقه الله علما بهذه المسألة، يقف عاجزا مبهورا بما تفضل الله به على مُصطفاه. وإن عِلم هذه المسألة من الذوق، لا يبلغه العلم المجّرد وإن حوى علم الأولين والآخرين. فسبحان من خلق محمدا، ووهبه ما وهبه!... وسنعود إلى مسألة تحقيق الكفر بإذن الله، عندما نتكلّم عن السبب في تحدّي الله لعباده بآياته... (يُتبع)
[1] . متفق عليه، عن أبي هريرة رضي الله عنه. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.