اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2025/02/18 الإنسان القرآن (مقدمة في تفسير القرآن الكريــم) .26.(ج2) الباب الثاني: العلوم المتعلّقة بالقرآن الفصل العاشر: إعجاز القرآن (ج2)
(تابع) - الآية الإبراهيمية: ويقول فيها الله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعۡیَ قَالَ یَـٰبُنَیَّ إِنِّیۤ أَرَىٰ فِی ٱلۡمَنَامِ أَنِّیۤ أَذۡبَحُكَ فَٱنظُرۡ مَاذَا تَرَىٰۚ قَالَ یَـٰۤأَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُۖ سَتَجِدُنِیۤ إِن شَاۤءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّـٰبِرِینَ} [الصافات: 102]، إلى قوله سبحانه: {وَفَدَیۡنَـٰهُ بِذِبۡحٍ عَظِیمٍ} [الصافات: 107]. وهذه الآية (الآيات) متعلّقة بمعرفة الحق من كل آدمي، وبكون موت النفس شرطا فيها؛ فلا يطمع أحد في معرفة الحق، ونفسه حيّة. ولقد تجسّدت نفس إبراهيم في صورة ولده إسحاق، فلما أراد معرفة الحق، خوطب بذبحه. ومعنى {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعۡیَ}، أي لمـّا بلغ العقل الكسبي مع العقل الفطري من إبراهيم السعي؛ حتى صار له صنوا وشريكا، وهذا هو معنى النّفس حقيقة. فلما علم إبراهيم أن لا مناص له من قتل نفسه، راجعها فكانت نفسا مطمئنّة وقبلت حكم الله فيها. فلمّا همّ عليه السلام بالفعل، أنزل الله كبشا من الجنّة (الغيب)، فأمر أن يقع الذبح عليه، فسلِم إبراهيم وأسْلمت نفسه، فاتحد عقل فطرته بإيمانه، وانتفى شيطان فرقانه، {وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُۥ فَوَفَّىٰهُ حِسَابَهُۥۗ} [النور: 39]. ومن ذلك الوقت، وهذه السنّة الإبراهيمية سارية في بني آدم الأحقّاء؛ وهو معنى قول الله تعالى: {وَتَرَكۡنَا عَلَیۡهِ فِی ٱلۡـَٔاخِرِینَ} [108]. أي: وتركنا على ذريّته ممن سيأتون بعده إلى قيام الساعة، ما أوجبنا عليه من ذبح معنويّ للنفس؛ حُكما ربّانيّا لا يرتفع. والحمد لله الذي جعلنا بفضله إبراهيميّين، وبشّرنا بذلك من قبل أن نلتقي شيخنا أبي جمال رضي الله عنه، وبمجرّد أن ذكرنا ورده. فرأينا في واقعة يقظة، وقد دخلنا عليه زاويته، ولم نكن قد رأيناها في الواقع بعد؛ وكان معه بضعة من أصحابه، فنظر إلى أحدهم نظرة فهم منها القصد، وفهمت أنا أيضا؛ فمددت عنقي بين يدي شيخي، وإذا بالشخص يدخل وبيده سكّين، فأخذها الشيخ رضي الله عنه، فوضع أصبعيِ السبّابة والإبهام من يسراه على حنجرتي، ونحرني بيُمناه. فكنت أجد لموضع أصبعَيْ شيخي لذّة حسّيّة على عنقي، ليس لها نظير في المحسوسات يُشبهها، ولكن أقرب اللذات إليها ذوق العسل في اللسان. فجزاه الله عنّي خيرا، ورزقني شكر نعمته بما يُرضيه عنّي أبدا... ولسائل هنا أن يسأل: ما شأن الرسل الذين سبقوا إبراهيم عليه السلام في الزمان، من جهة هذه الحقيقة الملازمة لسلوك كل سالِك؟... فنجيب: إن الله كان يتفضل على الأنبياء السابقين بانتفاء النفس منّة منه، وبعد مرور البلاء المـُقدّر عليهم. فشاء سبحانه أن يجعل الذبح المعنوي للنفس مع إبراهيم، تكليفا يُقبل عليه المريد إقباله على سائر عباداته المشروعة. ولا أقرب من جهة الظاهر، إلى هذا الذبح للنفس، من الموت في سبيل الله؛ ولكنه مع ذلك لا يبلغه من حيث المكانة. ومن مراعاة هذا المعنى، كان أئمة الطريق يُسمّون الواصل شهيدا معنويا، وإن كان يمشي على رجليه. وقد ورد في هذا المعنى صراحة، قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَهِيدٍ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ!» [1]. وهذا الصنف من الشهادة، حاصل لجميع الخلفاء ولجميع الأئمة، بل إن شطرا منهم جمع الله لهم بين شهادة الحسّ وشهادة المعنى، فكملت نعمة الله عليهم؛ كعمر وعثمان والحسن والحسيْن، على الجميع السلام... ومن هذا المقام الإبراهيمي، كانت دلالته عليه السلام مع ابنه إسماعيل عليه السلام، (وهو غير الذبيح، وإنما هو المبشّر بوراثة المقام) على معرفة الذات؛ لأن الناس قبله كانوا يُدعَوْن إلى الاسم الجامع لا إلى الذات. ومن هنا، كان بناء بيت الله الحرام، المخالف من جهة المرتبة لبيت المقدس (قبلة الأنبياء)، والذي يقول الله تعالى عنه: {وَإِذۡ یَرۡفَعُ إِبۡرَ ٰهِـۧمُ ٱلۡقَوَاعِدَ مِنَ ٱلۡبَیۡتِ وَإِسۡمَـٰعِیلُ} [البقرة: 127]؛ والمعنى هو أن في مقابل القواعد الحجريّة، قواعد علميّة. ولمـّا علِم إبراهيم عليه السلام، أن الدعوة إلى الذات، لها صاحبها بالأصالة، وهو من ذريّته عليه السلام، والذي ما هو في الحقيقة إلا نائب عنه، دعا ربه قائلا: {رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِیهِمۡ رَسُولًا مِّنۡهُمۡ یَتۡلُوا۟ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتِكَ وَیُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَیُزَكِّیهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ} [البقرة: 129]، فكان محمد صلى الله عليه وآله وسلم إجابة دعوة أبيه إبراهيم، بعد أن كان أصلها في العلم. وهذا يعني أن الأنبياء من أبناء إسحاق عليه السلام، وإن كانوا في أنفسهم على علم بالذات لكونهم يستمدون من الحقيقة المحمدية مباشرة، فإن أقوامهم لم يكونوا يُدعَون إليها، وإنما إلى توحيد الألوهية؛ بخلافنا نحن خواصّ الأمة المحمّديّة، وهذا لأننا نظراء لأنبياء الأمم السابقة من حيث العلم والمكانة، لا من حيث النبوّة. وقد تكلمنا مرارا في هذا المعنى، فلنكتف هنا بهذا القدر فيه. وهذا المعنى لهذه المكانة، هو ما يحسدنا عليه الإسرائيليّون؛ ويقولون: كيف لهؤلاء الأميّين أن يبلغوا هذه المكانة، ونحن أهل العلم الذي لم يستطعه الأولون (من غير الأنبياء)؟... وما علموا أن الله يختص برحمته من يشاء، ويتفضّل على من يشاء. وإن غالبية المنعم عليهم في التاريخ، كانوا من المحتقَرين، الذين لا تشهد لهم أقوامهم بالأهلية!... وأي أهليّة تُعتبر مع المشيئة الإلهية؟!... وبما أنّ الله قد خصّ إبراهيم بأبوة الفرعَيْن من النبوّة: الداعية إلى مقام الروح، والداعية إلى مقام القلب، فإنه قال مما أخبر الله تعالى به: {ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِی وَهَبَ لِی عَلَى ٱلۡكِبَرِ إِسۡمَـٰعِیلَ وَإِسۡحَـٰقَۚ} [إبراهيم: 39]؛ من كونهما إمامَيِ الفرعيْن. وقال سبحانه تأكيدا لنبوة القلب: {وَوَهَبۡنَا لَهُۥۤ إِسۡحَـٰقَ وَیَعۡقُوبَۚ} [الأنعام: 84]، من الفرع الثاني. وقد ألحق الله في الصفة هذا الفرع بنوح، من الآية ذاتها، قائلا: {كُلًّا هَدَیۡنَاۚ وَنُوحًا هَدَیۡنَا مِن قَبۡلُۖ} [الأنعام: 84]؛ فأشبهت دعوة إسحاق ويعقوب دعوة نوح، أي كانت إلى مرتبة القلب. وبما أن إسماعيل وإسحاق، هما مظهران إبراهيميّان، فإننا سنتجاوز آيتيْهما إلى آية الإمامة في بني إسرائيل من باب الاختصار. ولنذكر على عجالة هنا أثر مرتبة الذات على إسماعيل وجلّ ذريّته، والذي هو المحو؛ فلذلك يكاد إسماعيل وأنبياء العرب، لا يُذكرون؛ وإذا ذُكروا، لا يكادون يُعرفون. ولنقبض لجام البيان، مكتفين بما برز وقت إرسال العنان؛ فإن هذا البحر كثير الهيجان، لا يقبل إلا بإغراق الوافدين عليه، حُكما إلهيّاً سرمديّا... وهو ما عبّر عنه بعض المحمّديّين بـ "الذهاب في الله"، لكن من مرتبة الذات، لا من مرتبة الصفة. وهذا، لأن الصفاتيّين (بحسب اصطلاح الشيخ عبد الكريم الجيلي)، قد يتوهّمون أن الكلام هو عنهم؛ والأمر ليس كذلك!... - الآية الإسرائيلية: وهي التي يقول فيها الله تعالى: {كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِیۤ إِسۡرَ ٰءِیلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَ ٰءِیلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ} [آل عمران: 93]؛ وهي الوحيدة المنسوبة إلى اسم إسرائيل في القرآن، وأما الآيات المذكور فيها اسم يعقوب فأكثر من واحدة؛ ومنها قوله سبحانه: {وَوَهَبۡنَا لَهُۥۤ إِسۡحَـٰقَ وَیَعۡقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلۡنَا صَـٰلِحِینَ} [الأنبياء: 72]. وعندما ألحق الله يعقوب بإسحاق، فإنه قد فعل ذلك من جهة الظاهر ومن جهة الباطن. والظاهر، هو ما لا يكاد يعلم الناس غيره، وهو النسب الدموي؛ وأما الباطن، فهو صنف النبوة التي اختصّ الله بها هذا الفرع من الذريّة الإبراهيميّة. وإن الآية المذكورة آنفا من سورة آل عمران، تنبّه إلى معنيَيِ الإطلاق والتقييد. وإنّ قول الله تعالى: {كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِیۤ إِسۡرَ ٰءِیلَ}، يدلّ على أن كلّ المدد الإلهي كان متاحا لهم؛ لأن الطعام هو الغذاء حسّا ومعنى؛ وهذا يعني أنهم كانوا باقين على الإطلاق الإبراهيمي. ولكنّ يعقوب شاء أن يتقيّد، فحرّم على نفسه ما كان مباحا؛ فألزمه الله بما ألزم نفسه، وأتبع ذلك بنيه من بعده. وهذا الحكم، يُشبه ما حكم الله به على النصارى في قوله تعالى: {وَرَهۡبَانِیَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَـٰهَا عَلَیۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَاۤءَ رِضۡوَ ٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَایَتِهَاۖ} [الحديد: 27]؛ أي: وقد كان واجبا عليهم أن يلتزموا بها. قال الطبريّ في تفسيره: [وإنـما حرّم إسرائيـل العروق: كان يأخذه عرق النَّسا (الألم المعروف)، كان يأخذه بـاللـيـل ويتركه بـالنهار، فحلف لئن الله عافـاه منه، لا يأكل عِرْقاً أبداً، فحرّمه الله علـيهم.]. وقول الله تعالى: {مِن قَبۡلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوۡرَىٰةُۚ} [آل عمران: 93]، بعد قوله: {كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِیۤ إِسۡرَ ٰءِیلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَ ٰءِیلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ}، يدلّ على أن التحريم الذي نزلت به التوراة كان من أثر تحريم يعقوب على نفسه. وهذا المعنى هو ما يدل عليه قول الفقهاء: الأصل في الأشياء الإباحة!... وهذا المعنى ينبغي أن يُراعى في كل الأحكام الشرعية، ومنها التي جاءتنا في القرآن وفي السّنّة. وإلى هذا الأصل من الإباحة، يعود الناس عند الضرورة، وعندما لا يتقيّدون بالتحريم المنصوص عليه شرعا. وإن الفقهاء يضلّون عن كثير من القواعد التحقيقية، التي لها اعتبار قبل الشرع من الناحية العلمية؛ خصوصا عند إرادتهم الاجتهاد. ونعني أنهم يُضيّقون على أنفسهم، بسبب بنائهم على الأحكام بحسب ظاهرها؛ وقد كانت لهم سعة، لو عرفوا طريقها. ومن أكبر الأصول التي دلّ عليها الله في هذا الباب قوله تعالى: {یُرِیدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡیُسۡرَ وَلَا یُرِیدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ} [البقرة: 185]، ومع ذلك لم نر من المتأخّرين من يُقدّره حقّ قدره، غير فقيه من فقهاء وجدة المغمورين ممن عرفنا، رحمه الله؛ وقد كنت أنا في ذلك الوقت، ما أزال تحت حكم وسوسة النفس. وإن ارتباط الأحكام الفقهية من جهة الظاهر، بأحوال القلب لا يكاد يعلمه الفقهاء من جهتهم؛ مع أنه من أصول الفقه بالمعنى اللغوي. وقد أبرزنا ذلك، عندما كنّا ندرّس الفقه في معهدنا، بما لا يُقارن!... وسنعود إلى بسط القول في الإطلاق والتقييد، عندما يأتي وقته؛ وأما الآن فلنكتف بما ذكرنا... - الآية الموسويّة: وقد قال الله تعالى عنها: {فَقُلۡنَا ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنفَجَرَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَیۡنًاۖ} [البقرة: 60]. والمراد من الحجر -وإن تحقّقت المعجزة في الحسّ- العقول المتحجّرة، التي قال عنها ربّها في موضع آخر: {ثُمَّ قَسَتۡ قُلُوبُكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَ ٰلِكَ فَهِیَ كَٱلۡحِجَارَةِ أَوۡ أَشَدُّ قَسۡوَةً} [البقرة: 74]، وإن المعنى يضح عند قوله سبحانه: {قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشۡرَبَهُمۡۖ كُلُوا۟ وَٱشۡرَبُوا۟ مِن رِّزۡقِ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِینَ} [البقرة: 60]، فعاد الأمر إلى الناس من المكلّفين. وهكذا هو الأمر مع كلّ الآيات الكونية من غير بني آدم؛ ونعني أن الخطاب، من الناس ينطلق، وإليهم يعود؛ وما الآيات الأخرى إلا من قبيل ضرب المثل لهم، أو من قبيل الخطاب الإنساني الجزئي. وهذا، لأن الإنسان جامع بالقوة لكل ما تفرّق في العالم، وزائد عليه بخصيصته الإنسانية. ولو علم الناس هذا المعنى، لصاروا كلهم به من الخواص؛ ولكن الله لم يشأ ذلك، كما أخبر سبحانه في قوله: {وَلَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمۡ أُمَّةً وَ ٰحِدَةً وَلَـٰكِن یُضِلُّ مَن یَشَاۤءُ وَیَهۡدِی مَن یَشَاۤءُۚ وَلَتُسۡـَٔلُنَّ عَمَّا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} [النحل: 93]. وإن المدد الذي أظهر الله به خصائص قبائل بني إسرائيل، من جهة الظاهر ومن جهة الباطن، هو من المدد المحمّدي الذي أوصله الله على يد موسى عليه السلام إليهم. وإنّ عدد الاثنيْ عشر من القبائل، هو شبيه بما أدركه قدماء الإغريق من الأسماء الإلهية؛ مع إثبات الرفعة الربانيّة لقبائل بني إسرائيل من غير شك... وأما قول الله تعالى لموسى: {وَأَوۡحَیۡنَاۤ إِلَىٰ مُوسَىٰۤ أَنۡ أَلۡقِ عَصَاكَۖ فَإِذَا هِیَ تَلۡقَفُ مَا یَأۡفِكُونَ} [الأعراف: 117]، فهو في الظاهر، من معجزته عليه السلام، التي هزم بها سحرة فرعون، حيث كانوا على علم مخصوص يوهمون به الناس كما يريدون. والعامّة في كلّ زمان، لا يتمكّنون من التصدّي لمن هم أقدر منهم، أو أعلى من جهة المراتب العقلية. ومن أجل ذلك، فعلى الناظر في الآية الموسويّة، أن يعلم أنّ موسى قد هزم طائفة المفكّرين، إلى جانب السحرة؛ وذلك لأن المفكّرين يغلبون العامّة من طريقهم، وينتهون إلى ما انتهى إليه السحرة أنفسهم، من بلوغ تصديق العامّة لطروحاتهم النظريّة. وعندما أظهر الله حزبه بنوره وحده، فقد تلاشى ما كان يتمسّك به الضعفاء من سحر أو من تنظير، وكان أن عاد السَّحَرة الذين هم رؤساء فريقهم، إلى الحق؛ كما أخبر الله عنهم بقوله تعالى: {فَأُلۡقِیَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوۤا۟ ءَامَنَّا بِرَبِّ هَـٰرُونَ وَمُوسَىٰ} [طه: 70]. وهذا يشهد للسّحرة بالمكانة العقليّة، التي يتجاوزون فيها بعض أصناف المفكّرين، الذين يبقون متمسّكين بما لا طائل من ورائه، مع ظهور الحجّة وقيامها أمام أنظارهم. وإن هذا الصنف من المفكّرين، لا يُعدّ عاقلا إلا مجازا؛ بخلاف السحرة الذين سارعوا إلى السجود لرب موسى وهارون. وفي إضافة السحرة للربوبية إلى موسى وهارون، شهادة أخرى على مكانتهم العقلية، لأنهم لم يُثبتوا العلم بالربوبية لأنفسهم، وهم حديثو عهد بالشرك؛ وإنما أثبتوه لمن كان يدعوهم إلى الإيمان، في الوقت الذي كانوا يأبَوْن لبُعد الشُّقّة عليهم. ولكنّ موسى الحكيم عليه السلام، عندما وجد إبايتهم من الجهة الأولى التي دعاهم منها، عدل إلى طريق آخر، وهو طريق الحسّ، فدعاهم منه؛ فعلموا مِن أيْن دُعُوا، فاستجابوا بسرعة. وهذا الذي نبيّنه هنا، يدل على أن استجابة المدعوّين إلى أيّ دعوة، تكون بحسب الجهة التي يكون منها الخطاب؛ فإن خوطبوا من الجهة التي منها يعقلون، أجابوا الدعوة إن أذن الله لهم؛ وإلا فلا. ولم يجمع الله لأحد مجامع أطراف الخطاب الدعَوي، كما جمعه لعبده محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ لذلك لم يكفر من قومه، إلا من طُبع على قلبه بالكفر، فلم يأذن الله لهم بالإيمان، كعتاة مشركي قريش. ومن هذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أبي جهل: «هَذا فِرْعَوْنُ هَذِهِ الْأُمَّةِ!»[2] . وليعلم كل من بلغته الدعوة المحمّديّة، ولم يؤمن، أنه من المطبوع على قلوبهم؛ لأنه لا أيسر منها على الأسوياء. ونحن هنا نخالف بشدّة، من قالوا بعدم بلوغ الدعوة في زماننا لبعض الأقوام، ونؤكّد أنها قد بلغت جميعهم؛ فلم يبق إلا مؤمن في علم الله وكافر!... - الآية العيسوية: يقول الله تعالى فيها: {وَإِذۡ تَخۡلُقُ مِنَ ٱلطِّینِ كَهَیۡـَٔةِ ٱلطَّیۡرِ بِإِذۡنِی فَتَنفُخُ فِیهَا فَتَكُونُ طَیۡرَۢا بِإِذۡنِیۖ وَتُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ بِإِذۡنِیۖ وَإِذۡ تُخۡرِجُ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِیۖ} [المائدة: 110]؛ وهذه الأفعال، لم يكن الناس يعتادون أن تُنسب إلى غير الله: وهي الخلق، والإبراء من الأمراض التي لا بُرء منها في العادة، وإحياء الموتى. ولم يكن أدلّ على المظهر الإلهي، من ظهور هذه الأفعال، وفي زمنٍ اهتم الناس شديد الاهتمام بصحة أبدانهم، دون صحّة قلوبهم. وهذا، كما هو الشأن اليوم مع عموم المسلمين، الذين يكادون يعبدون الأطباء من دون الله إن أصابتهم مصيبة في أجسامهم؛ وقلوبهم مراتع لصنوف الشياطين، ومجمع لأنواع الأقذار، ولا يأبهون!... ومن شدّة الدلالة في الآيات العيسويّة، توهّم ضعفاء العقول في عيسى الألوهية؛ كما سيتوهّمونها في كلّ من شابهه في كل الأزمنة التي جاءت بعده عليه السلام. وهذا مما يُبغضه الله من عباده: أن ينسبوا الفعل إلى المظاهر، ويغفلون بها عن الظاهر سبحانه!... مع قيام الدليل العقلي قبل النور الإيماني، بأنه لا قيام لشيء ولا لأحد، من دون الله. ولولا علمنا بأن قضاء الله في عباده، لا راد له، لتعجّبنا من حال الكافرين والمشركين، بسبب ظهور الحق ظهورا لا ريب فيه!... وقد جهل بعض عوامّ المسلمين قدر نبيّهم عليه وآله الصلاة والسلام، عند علمهم بالآيات العيسوية، مع أنها بعض ما عنده. وعندما جهلوا ذلك، لم يجدوا من علمائهم من يعضّدهم ويأخذ بأيديهم حقيقة، فكان ما حلّ بهم مذ حلّ، من أسباب هزيمتهم القلبية أمام الأوروبيّين جملة وتفصيلا. ولم نر لعلماء الإسلام من كلام معتبر في المسألة، إلا ما يشترطونه من إيمان مجرّد، من باب الوعظ؛ وهو من دون شكّ معتبر، لكن، أين هو العلم بالمسألة؟!... وذلك، لأنه ما من مسألة يُناط بها الإيمان، إلا أُنيط بها العلم من مرتبة أعلى!... وهذا الكلام عينه، سيأخذنا إلى العنوان الموالي: د. الآية بالمعنى الأخص: ونعني منها الآية المخصوص بها نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والتي هي القرآن. ولقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ قَدْ أُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْياً أَوْحَى الله إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ.»[3] . ولنعد إلى الألفاظ نتبيّن ما تحتها: * فـ "مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ": هو كل الآيات التي ذكرنا أهمها آنفا. وهي لمن كان يعقل كلها آيات حسّيّة، إما يراها الناس بأعينهم، أو يسمعونها بآذانهم، أو أحداث تقع بحسب ما أخبرهم المبلِّغ عن الله في زمانهم... * و"إِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْياً أَوْحَى الله إِلَيَّ": هي عبارة تدلّ على أن الآية المحمّديّة، ليست من سنخ الآيات السابقة؛ بل هي آية مـُجمِلة لكل الآيات الأخرى. وقد يتساءل متسائل: إن الله قد أوحى إلى رسل سابقين بكتب معروفة للخاص والعام؛ أفلم يكن ذلك وحيا يوحيه الله إليهم، يُشبه القرآن؟!... فإن ثبت أنه وحي إلهي، أفلا يكون آية من الله؟!... وبالتالي، فلا تعود لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم خصوصية من دون إخوانه الأنبياء عليهم السلام؛ بل يصير بعض الأنبياء الذين آتاهم الله الوحي والآيات الحسيّة أعلى في المرتبة، وأخصّ في المكانة؟!... فنجيب مستعينين بالله: 1. إن الوحي القرآني، ليس كغيره من الكتب السابقة؛ لأنه هو الكتاب بـ "الـ" العهدية. وهذا يعني أن كل الكتب السابقة، لم تكن في صورتها مطابقة للكتاب الذي عند الله؛ وبهذا المعنى، تبقى جزئية بالنظر إلى الصورة القرآنية. ولقد صرّح الله في القرآن بصفة القرآن، فقال عزّ من قائل: {وَأَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَمُهَیۡمِنًا عَلَیۡهِۖ فَٱحۡكُم بَیۡنَهُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُۖ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَاۤءَهُمۡ عَمَّا جَاۤءَكَ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ لِكُلٍّ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةً وَمِنۡهَاجًاۚ وَلَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمۡ أُمَّةً وَ ٰحِدَةً وَلَـٰكِن لِّیَبۡلُوَكُمۡ فِی مَاۤ ءَاتَىٰكُمۡۖ فَٱسۡتَبِقُوا۟ ٱلۡخَیۡرَ ٰتِۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِیعًا فَیُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِیهِ تَخۡتَلِفُونَ} [المائدة: 48]. ولنتفحّص قليلا ما تحت ألفاظ هذه الآية الكريمة من درر: - قول الله تعالى: {وَأَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَمُهَیۡمِنًا عَلَیۡهِۖ}: الكتاب المنزل على المخاطَب صلى الله عليه وآله وسلّم، هو "القرآن" خاصّة؛ وأما الكتب السابقة فهي الكتاب بالمعنى الجزئي، وإن وقعت العبارة باللفظ المشترك؛ وذلك كقول الله تعالى: {وَإِذۡ ءَاتَیۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡفُرۡقَانَ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} [البقرة: 53]. فلا يظنّ أحد أن موسى أوتي مثل القرآن ومثل الفرقان اللذيْن أوتيهما نبينا عليه وآله الصلاة والسلام؛ وإنما هذا هنا، من باب تسمية الجزء باسم الكلّ؛ أو من باب الإلحاق، بسبب عدم خلوّ التوراة وكل الكتب المنزلة قبل القرآن، من وجه قرآني. وهذا المعنى من معاني التوحيد الذي يقصره الناس في الغالب على الأسماء الإلهية مع الاسم الجامع؛ مع أنه من توابعه، أو من مظاهره؛ لكنّ العادة في اشتغال علماء الدين بمسائل مخصوصة، ومن وجوه مخصوصة، تكون سببا في أحيان كثيرة، لإغفال تتبع المعاني حيث توجّهت!... وذكر الله سبحانه، أنه أنزل القرآن بالحق: أي بالخبر الصّدق المطابق في عبارته للواقع المخلوق، ولمراتب الوجود. وإن ميزة هذا الكتاب الجامع (القرآن)، هو بسبب جمعه لما أُوحِيَ في الكتب السابقة، وفضْله عليها بما اختُصّ به "الرّسول" بالأصالة: محمد صلى الله عليه وآله وسلم، على جميع الرّسل؛ فإنه استحقّ أن يكون مهيمنا على كل الكتب الأخرى، كما هو المخصوص به مهيمن بتمام كماله، على جميع الرسل والأنبياء عليهم السلام. و"الكتاب" الثانية من الآية اسم لجنس الكتب، وليس على معنى الإفراد، كما قد يُفهم... - وقوله سبحانه: {فَٱحۡكُم بَیۡنَهُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُۖ}: أي بما أنزل الله عليك من هذا القرآن، لا بما عندهم من كتبهم السابقة. وقد غلط أقوام من المسلمين، قالوا بأن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان يأتيه اليهود مستفتين، كان يردّهم إلى التوراة؛ واستدلّوا على هذا المعنى بقول الله تعالى: {قُلۡ فَأۡتُوا۟ بِٱلتَّوۡرَىٰةِ فَٱتۡلُوهَاۤ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ} [آل عمرا: 93]، والاستدلال صحيح، لكن هو في غير محلّه. وذلك لأن اليهود عندما كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم مستفتين، كانوا لا يفعلون ذلك صادقين؛ وإلا لصاروا مؤمنين؛ ولكنهم كانوا يُضمرون في أسئلتهم، ما لو أجاب عنه غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لانطوى جوابه على ما يُخالف الحق؛ مما يجعل لهم المكانة عليه، وهيهات!... لذلك كان لجواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ناحيتان: واحدة هي دلالتهم على ما يُخفون من التوراة، لكونه عليه السلام معه الكتاب المهيمن عليها، بما يقتضي اندراجها فيه؛ والأخرى، هي إفتاؤهم بالحق الذي عند الله، فيما سألوا عنه. ورغم أن جواب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم، لم يكن يدع لهم مستمسَكاً يستمسكون به فيما يبغونه من حجاج مـُوَرّىً؛ إلا أنهم لم يكونوا يقرّون بما ظهر لهم من الحق، وكانوا يُفضّلون السكوت وصرف النّظر، كما هي صفتهم مع أنبيائهم ورسلهم. فشاء الله أن يُخلّد طريقتهم في تلاعبهم في أسئلتهم، ويُخلّد إلمام جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بوجوه أسئلتهم وبما يتجنّبونه منها، في قرآن يُتلى على مرّ الدهر. فلله الحمد على هذه النعمة الكبرى!... وعلى فضحه لليهود أمامنا، حتى إنهم لا يجرأ الواحد منهم على الصمود أمامنا في أقلّ حجاج!... وأما أمر الله لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، بأن يحكم بين أهل الكتاب بما أنزل الله، فمعناه ما أنزل عليه في القرآن، لا ما أنزل عليهم في كتبهم. وهذا، لأن زمن كتبهم التشريعي قد ولّى؛ واندرجت كل أنوار الكتب السابقة في أنوار القرآن الساطعة. وعلى هذا، فإن كلّ من فهم من المسلمين، بأن المقصود مما أنزل الله، هو إلزامهم بما في كتبهم من شرائع، فإنه يكون ضالّا مـُضِلّا؛ بقصد أو من دونه. وهذا لأن الرجل من هذه الأمة، لا يفهم من قول الله المذكور إلا ما فهمنا. وأما إن أخذنا معنى الكتب السابقة، إما على وجه إجمالها، وإما من حيث الدلالة حصرا فيها على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم السابقة على كل النبوات والخاتمة لها، فيجوز الرجوع إلى محل ذلك منها، من دون مجاوزة إلى غيره؛ وذلك لدلالتهم على ما بُعث به نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، من الأصل الذي لديهم ولا يتمكّنون من إنكاره. وهو ما يدخل ضمن قول الله تعالى: {ٱلَّذِینَ یَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِیَّ ٱلۡأُمِّیَّ ٱلَّذِی یَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِی ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِیلِ} [الأعراف: 157]؛ وهذا من باب إلزامهم بما ألزموا به أنفسهم لا غير. ولا داعي لأن نتكلّف في الدلالة على أن ما يحكم به النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، على أهل الكتاب، هو حكم الله عينه؛ من كونه عليه وآله الصلاة والسلام، المظهر الأتم الأبهى للاسم "الله" في الدهر كلّه؛ لا في زمانه التشريعيّ الشريف وحده، كما يفهم من لا علم له من متفقّهة المسلمين ومِن مقلّدتهم... - وقوله سبحانه: {وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَاۤءَهُمۡ عَمَّا جَاۤءَكَ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ}: أي لا تتبع ما يشتهون، مما يوافق الحق الذي كانوا عليه، أو مما يخالفه. وهذا يعني أن اتباع الأحكام الشرعية التي نُسخت، هو من اتباع الهوى، لا من اتباع الدين. وأما الحق الذي يصفه الله بأنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهو القرآن لا غيره... - ثم قول الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةً وَمِنۡهَاجًاۚ}: وهذا بالنظر إلى الأزمنة المتتابعة، لا في الزمان الواحد؛ خصوصا في الزمان التشريعي المحمدي الخاص، الذي يمتد من البعثة الشريفة إلى قيام الساعة. وقد غلط كثير من الإسلاميّين، عندما عدّوا الشرائع معتبرة في الزمن التشريعي المحمدي؛ وعدوا كل متبع لشريعة مؤمنا، وإن كان كافرا بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وخطورة هذا القول الباطل، ليست في اعتبار غير المؤمن مؤمنا، بل في كفر القائل به وإن عدّ نفسه مؤمنا!... وهذا هو ما أشرنا إليه في فقرات مضت، من خصيصة للخطاب الدجّالي. ولسنا نعني من الدجّالين هنا، إلا من كانوا معدودين عند الناس من المسلمين؛ من علمائهم خاصة!... فليحذر المسلمون هذا على أنفسهم، فما نظنّ أن أحدا في هذا الزمان، قد أكثر في النصح، كما فعلنا بحمد الله... - ثم يقول سبحانه: {وَلَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمۡ أُمَّةً وَ ٰحِدَةً وَلَـٰكِن لِّیَبۡلُوَكُمۡ فِی مَاۤ ءَاتَىٰكُمۡۖ}: أي لو شاء الله أن يجعلكم كما يريد البعض منكم، أمة واحدة، في الزمن التشريعي الواحد، وتحت الحكم الواحد، لفعل؛ ولكنّه لم يشأ. فدلّ هذا من الله، على أن الناس أمم متعدّدة، بحسب دينهم، وبحسب الشريعة المتبعة. والأمة المسلمة لله، تكون واحدة، من ضمن هذا الزمن التشريعي الخاتم، أو تكون متتابعة بحسب كل زمن تشريعي في الترتيب الزماني. ولقد ضلّ أولئك الذين ذكرناهم في الفقرة السابقة، بسبب تداخل معنى الأمة المسلمة في أذهانهم؛ فكانوا إما يعقلون هذا الشطر منه، أو ذاك، ولا يتمكنون من تتبع الحق في الأزمنة كلها؛ وهذا هو البلاء الذي دلّ عليه آخر العبارة من الآية الكريمة. ولا يتصوّر المسلمون الآن أنهم بمنأى عن هذا البلاء، وقد اختلط عليهم مدلول الإيمان!... - {فَٱسۡتَبِقُوا۟ ٱلۡخَیۡرَ ٰتِۚ}: الخطاب لكلّ أمة داخل زمنها التشريعي المخصوص. والمعنى أن كلّ أمّة أطاعت ربها فيما كُلِّفَتْه، فإنها تكون أسبق عند الله من غيرها. ولكن لا يخفى عن ذي لبّ، أن الأمة المحمدية مخصوصة بهذا الخطاب أكثر من غيرها لخصوصيتها في علوّ المكانة. وسيكون المعنى حينئذ: فسابقوا أيها المسلمون المحمديون غيركم من الأمم، عسى أن تسبقوهم!... وعسى هنا منّا، للتحقيق مع الترجّي... - {إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِیعًا فَیُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِیهِ تَخۡتَلِفُونَ}: والخطاب لجميع الأمم، لتعلم أن مرجعها إلى الله، وهو وحده من سيحاسبها على مدى موافقتها للتكليف أو مخالفتها. وفي هذا المقطع من التعريض بأهل الكتاب، ما لا يخفى؛ لأنهم يجزمون أنهم بتمسّكهم بما ورثوه عن آبائهم، هم على الحق الذي أخطأته هذه الأمة؛ وهيهات!... وهذه الآية من بدايتها إلى نهايتها، تؤسّس لخطاب الإنصاف بحسب المعايير الإلهية؛ وفي ذلك حض للمسلمين على الابتعاد عن خطاب العصبية والتفاخر الجاهليّ، وإن كانوا خير أمة تحقيقا... وعلى المرء أن يُفرّق بين مـُقتضى العلم ومـُقتضى الأدب، ونعني من هذا أن العلم بالمسائل وحدها، لا يكفي من أجل ضمان النجاة بإذن الله تعالى؛ ولكن لا بد معه من علم بالأدب يُعمل به عند معاملة الله. فكم من واحد، من الخواصّ قبل العوامّ، قد آخذه الله وأدّبه، بسبب التزامه العلم وحده. وهذا الباب من العلم، لا يُحسنه إلا الخواص؛ وأما علماء الدين، فلولا تجاوز الله عن كثير من مساوئهم، لهوت عليهم السماء، أو خُسفت بهم الأرض. ومن أعظم نعم الله على العباد، وأكثرهم لا يشعرون؛ أنه سبحانه لا يُحاسبهم إلا على قدر علمهم. ما أحلم ربّنا! وما أرحمه!... 2. إن القرآن آية بيانيّة، تطابق الوجود بمختلف مراتبه. يقول الله تعالى: {إِنَّاۤ أَنزَلۡنَـٰهُ قُرۡءَ ٰ نًا عَرَبِیًّا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} [يوسف: 2]. ومعنى "عربيّا": أي، مـُعرباً مـُبينا. فتكون نسبة القرآن على هذا، إلى اللسان العربي مجازا؛ أي حقيقة من أحد الوجوه، لا من كلّها. وفعل العقل من المـُخاطَبين بالقرآن، يكون عند إدراكهم بإذن الله لمعاني آياته (دلالاتها الاسميّة). وآيات القرآن لا تُدرك، حتى تُعلَم مطابقتها لكل آيات الخلق ومراتب الحقّ. وهكذا فإن ما تدلّ عليه الآيات من القرآن المسطور، أو من الرّق المنشور، هو واحد؛ وليس إلا الاسم "الله" من جهة جمعه، والأسماء الإلهية التفصيلية، من جهة تفصيله (الاسم الجامع). 3. ومن أدلة مطابقة القرآن للآيات على إجمالها، ذكره لكل الأنبياء والرسل عليهم السلام، من جهة الشمول؛ وذلك كقول الله تعالى: {ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَـٰۤىِٕكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَیۡنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِۦۚ} [البقرة: 285]؛ وأما من جهة التفصيل، فهو كقول الله تعالى: {وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَـٰبَ وَقَفَّیۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ بِٱلرُّسُلِۖ} [البقرة: 87]، وما شابهه... 4. وأما من جهة الأسرار وجمعها، فإن القرآن هو كما أخبر الله عنه بقوله تعالى: {وَمَا مِن دَاۤبَّةٍ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا طَـٰۤىِٕرٍ یَطِیرُ بِجَنَاحَیۡهِ إِلَّاۤ أُمَمٌ أَمۡثَالُكُمۚ مَّا فَرَّطۡنَا فِی ٱلۡكِتَـٰبِ مِن شَیۡءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ یُحۡشَرُونَ} [الأنعام: 38]. والكتاب في الآية، على معناه الأصلي، وبمعنى القرآن العظيم. وهذا يجعلنا نفهم أن الله قد ذكر في القرآن كل شيء، من جهة حروفه وحركاته وسكناته؛ وهذا الباب من العلم بالقرآن إعجاز من وراء الإعجاز الأول الذي تكلمنا عن معناه؛ وهو ما يُشير إليه قول الله تعالى: {وَلَوۡ أَنَّمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ مِن شَجَرَةٍ أَقۡلَـٰمٌ وَٱلۡبَحۡرُ یَمُدُّهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦ سَبۡعَةُ أَبۡحُرٍ مَّا نَفِدَتۡ كَلِمَـٰتُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِیزٌ حَكِیمٌ} [لقمان: 27]. والمعنى هو أن معاني القرآن (مدلولاته) لا تُحصر، وإن كانت ألفاظ آياته محصورة لا تزيد ولا تنقص. ومن آتاه الله في الآية الواحدة من هذه الأمة، المعاني المتوالية المختلفة، فإنه سيفهم ما نرمي إليه؛ وأما غير هذا الصنف، فلن يبقى أمامه إلا الإيمان غيبا بما نُخبر. ولعمري، هل بعد هذا الإعجاز من إعجاز!... وأما الاسمان اللذان اختُتمت بهما الآية، فهما بسبب كون الآيات لا تُدرك إلا بإذن الله تعالى، ولكون الإذن لبعض العباد بالعلم، وعدم الإذن للبعض الآخر، هما عائدان إلى الحكمة الإلهيّة بعد علمه سبحانه في عباده... 5. نحن معشر المحمديّين، نعلم الكتب السابقة، من علمنا بالقرآن؛ لا من خارجه؛ وهذا يؤكّد معنى هيمنته عليها، الذي تناولناه سابقا. ولقد كنّا عند تأليفنا للجزءيْن الأوّلَيْن من كتابنا "الحوار الغائب"، وعند مطالعتنا لنصّ التوراة ونصوص الأناجيل المترجمة، نعلم منها ما هو أصيل، ونعلم ما هو محرّف أو دخيل. وكنّا نُثبت قولنا على ما كنّا نتناوله منها، وما لنا من مستند إلا القرآن العظيم... 6. وأما ما اختُصّ به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم، من الوحي الذي لا يُطيقه إلا هو، فهو ما ذكره عليه وآله الصلاة والسلام فيما رواه ابن عباس عليهما السلام: «بيْنَما جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَمِعَ نَقِيضًا (صوتا كأن جزءا من السماء ينقضّ) مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقالَ: هَذا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ اليومَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَومَ؛ فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقالَ: هَذا مَلَكٌ نَزَلَ إِلى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إلَّا الْيَومَ، فَسَلَّمَ، وَقالَ: أَبْشِرْ بنُورَيْنِ أُوتِيتَهُما، لَمْ يُؤْتَهُما نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ البَقَرَةِ!... لَنْ تَقْرَأَ بحَرْفٍ مِنْهُما إلَّا أُعْطِيتَهُ.»[4] . ومعنى: تقرأ بحرفٍ منهما: أي تقرأ أمتك بحرف منهما؛ وهذا لأن الأمة تُخاطب في شخص رسولها، خطابا إجماليا. وأما اختصاص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالفاتحة، فلأنها أم الكتاب؛ وهي من مرتبة حقيقته صلى الله عليه وآله وسلم، كما أوضحنا في أول باب من هذا الكتاب. وأما خواتيم سورة البقرة، فلأنها من مرتبة الرسالة بالمعنى العهدي، وهي لا تكون إلا لواحد، هو بمثابة الأب لجميع الأنبياء والرسل من جهة المعنى، وليس ذلك إلا نبيّنا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم. وقد يُخطئ كثيرون، عند سماع كلامنا، فيتوهّمون أنّنا نرفع من قدر نبيِّنا تعصّبا لأنفسنا؛ ووالله لا يليق بنا أن نفعل ذلك، ولا نحن وفّيناه حقّه بكلامنا، مهما قلنا؛ صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا أيضا إعجاز من وراء الإعجاز... 2. التحدّي جوهر الإعجاز: ا. آيات التحدّي: ومما يُفهم منه قصد التحدّي من آي القرآن العظيم، قول الله تعالى: {فَلۡیَأۡتُوا۟ بِحَدِیثٍ مِّثۡلِهِۦۤ إِن كَانُوا۟ صَـٰدِقِینَ} [الطور: 34]، وهذا، بعد قوله سبحانه: {أَمۡ یَقُولُونَ تَقَوَّلَهُۥۚ بَل لَّا یُؤۡمِنُونَ} [الطور: 33]؛ وهذا يعني أنّ الله قد تحدّى المشركين عندما رمَوُا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بأنه اختلق القرآن، بأن يأتوا بمثله، إن كان لمعنى تكذيبهم للنبي من شبهة حقيقة. وتحدّي الله لمن أصرّ على بهتانه، هو لأنه لا يتمكّن أحد من العباد من اختلاق القرآن؛ وأنّى له أن يعبّر من عنديّته عما يُطابق الحق في جميع مراتبه!!... ونعني من هذا، حتى من كان له علم صحيح ببعض المراتب أو ببعض المظاهر، فأنى له بما غاب عنه مما هو من المراتب الأخرى، أو مما هو مخصوص بالمظاهر الأخرى، وبدرجات المراتب. وهذا المعنى الذي ندلّ عليه من تحدّي الله، لا يعلمه إلا الراسخون في العلم وحدهم!... ومن آيات التحدّي الأخرى، الواردة في القرآن العظيم، قوله سبحانه: {قُل لَّىِٕنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰۤ أَن یَأۡتُوا۟ بِمِثۡلِ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا یَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٍ ظَهِیرًا} [الإسراء: 88]؛ ومعنى قل في صدر الآية، هو: قل بقولنا لا من عند نفسك؛ حتى يكون المتحدّي نحن لا أنت. وهذا المعنى من كون القرآن قولا لله تعالى، هو ما يجعله خارجا عن طاقة الإنس والجن. وسنعرف مما يأتي من هذا الفصل، لم اختصّ الله الإنس والجنّ بالتحدّي في الآية، دون غيرهم من المخلوقين الذين قد يكونون في الخِلقة أعظم منهم. وإنّ الله لم يتحدّ الإنس والجن بالإتيان بمثل القرآن فحسب؛ وإنما أخبر بنتيجة التحدّي؛ وهي عجز الجن والإنس عن الإتيان بمثل القرآن، ولو ظاهر الجن والإنس بعضهم بعضا على المـُراد؛ أي أعان بعضهم بعضا بما آتاهم الله من خصائص وقوى جبلّيّة... وهذا العجز، هو لخروج المقولات القرآنية، عن إحاطة علم الثقليْن، كما أخبرنا سابقا!... ومن الآيات أيضا، قول الله سبحانه: {أَمۡ یَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ فَأۡتُوا۟ بِعَشۡرِ سُوَرٍ مِّثۡلِهِۦ مُفۡتَرَیَـٰتٍ وَٱدۡعُوا۟ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ} [هود: 13]؛ والمعنى هو إن كان المكذّبون بالقرآن، يتهمون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بالتقوّل له والاختلاق؛ فتقوّلوا أنتم ببعضه لا بكلّه، وهو عشر سور من بين مائة وأربع عشرة سورة؛ واستعينوا في ذلك التقول منكم لبعضه، بمن شئتم من دون الله، إن كنتم صادقين في بهتانكم، ولستم كذلك!... وإنما هو إفحام من الله للمشركين من باب الجدل (المنطق العقلي) الذي لن يجدوا منه مهرباً، إن كانوا من سنخ العقلاء؛ وأما إن كانوا من سنخ من هم أقل من الدواب في المرتبة، والذين قال الله عنهم: {أَمۡ تَحۡسَبُ أَنَّ أَكۡثَرَهُمۡ یَسۡمَعُونَ أَوۡ یَعۡقِلُونَۚ إِنۡ هُمۡ إِلَّا كَٱلۡأَنۡعَـٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ سَبِیلًا} [الفرقان: 44]، فلا يستحقّون أن يُخاطبوا بالآية الفارطة من سورة هود. والعجز هنا، عن الإتيان بالسور، بالإضافة إلى ما ذكرناه عن خصيصة القرآن من الفقرات السابقة، هو لأنه لا وجود لما سوى الله، حتى يُستعان به. فإن رام رامٍ هذا الصنف من الاستعانة، فذلك منه وحده، دليل على الباطل الذي هو عليه في نفسه؛ وذلك قبل أن تُسوّل له نفسه الإتيان بما تُحُدِّي به. وهذا المعنى، هو من أسرار القرآن، التي لا يُهتدى إليها، من مجرّد النظر في الآية الكريمة؛ بل هو مستدعٍ لإذن مخصوص في الفهم، من المـُفهِم سبحانه. وما صحّ في آية واحدة من القرآن العظيم، فإنه يصحّ في جميع الآيات!... وأنى لعبد من العباد، وإن كان من خواصّهم، أن يزعم لنفسه فهم القرآن كلّه، على مـُراد الله من كلامه!!... اللهم إنّا نقرّ بعجزنا، ونُشهدك ونُشهد عبادك، على إقرارنا؛ جللتَ وتعاليْتَ!... ثم يقول الله في آية أخرى: {أَمۡ یَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ فَأۡتُوا۟ بِسُورَةٍ مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُوا۟ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ} [يونس: 38]؛ أي عند إقرارهم بالعجز عن الإتيان بعشر سور من مثل القرآن، فليأتوا بسورة واحدة من مثله فحسب؛ والأمر في الإعجاز هو ذاته، وإنما خُصّ التحدّي بالعدد، لأن السامعين من المـُشركين ومن ضعفاء العقول، أُسارى لاعتبار العدد في كل صنف من المعدودات. وأما نحن، ومن جهتنا، فإننا نُثبت بما لا يقبل المنازعة، أن القرآن لا يتمكّن أحد أن يأتي بمثل حرف من أحرفه؛ وهنا لا بد من الدخول في معنى التحدّي بلغة القرآن، الذي يُخطئه علماء الدين بله غيرهم: - إنّ جُلّ علماء الدين، يرون في الإعجاز البياني للقرآن، ما يجاوز بيان فصحاء العرب، وعلى الرأس منهم الشعراء. وهذا المعنى قد يليق بالسفهاء، الذين لا يرون فارقا كبيرا بين العبد وربّه، تعالى الله؛ وعلى ذلك، فسيكون البيان القرآني المـُعجِز، يُشبه بيان أشعر الشعراء وأفصح الفصحاء. فهل هذا المعنى يفي القرآن حقّه في هذه المسألة؟ بالقطع لا!... نحن نعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، قد أوصى رجلا من عموم المسلمين، بقوله: «أُوصِيكَ أَنْ تَسْتَحِيَ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ كما تَسْتَحِي رَجُلًا مِنْ صالِحِي قَوْمِكَ!»[5] ؛ فهل هذه الدرجة من الحياء من الله، هي ما يكون عليه خواص الأمة؟ أم إن الكلام يخرج على قدر السامع؟... وعلى هذا فليُقس القول في الإعجاز البياني الذي ينسبه من يُسمَّوْن علماء الدين إلى القرآن... - أما البيان القرآني من حيث هو، فهو معجز في إجماله وتفصيله؛ بما لا يخطر على قلب من كنّا نتكلّم عنهم. وأما من أطلعه الله على حقيقة القرآن، فإنه يجده معجزا في كلّ شيء، لا مما يعقله الآخرون وحده. ويكفي أن يكون القرآن كلام الله، ليكون مـُعجِزا، لو كان الناس يعقلون!... وهل يُشبه كلام الله الواحد الأحد، كلام أحد؟!... نعوذ بالله من الخذلان!... ثم يقول الله تعالى: {وَإِن كُنتُمۡ فِی رَیۡبٍ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُوا۟ بِسُورَةٍ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُوا۟ شُهَدَاۤءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ . فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُوا۟ وَلَن تَفۡعَلُوا۟ فَٱتَّقُوا۟ ٱلنَّارَ ٱلَّتِی وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَـٰفِرِینَ} [البقرة: 23-24]؛ وهذه الآية أيضا تتحدى بالإتيان بسورة من مثل سور القرآن، مع دعوة الشهداء (الحاضرين) إلى الاشتراك في الاستجابة للتحدّي بشرط أن يكونوا من دون الله؛ لأن الله إذا تحدّى من جهة مظهر العبد، فإنه يقدر سبحانه. وأما إن ثبت في هذه المرة، كما ثبت في الأخريات، بأنه لا أحد من العباد في إمكانه أن يأتي بمثل بعض القرآن، وهو ما عبّر الله عنه بعدم الفعل الآن أو مستقبلا؛ فالأولى بالعباد الضعفاء العجَزَة، أن يتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة، والتي أُعدّت لهذا الصنف من الكافرين، الذي يبقى على اعتقاد استطاعة الناس لمعارضة القرآن. فعلمنا أن هذا حكم من الله، أثبته لمن تمادى في باطله، بعد المحاججة القرآنية التي لا يصمد لها أحد. ولكن من سبق عليه القول بالكفر، فإنه سيبقى على عناده الفارغ، وإن كفّ غيره من الناس. وهذا يُعلم من الناس بالمشاهدة... والمعنى الذي أومأنا إليه في هذه الفقرة، مما هو داخل تحت قول الله تعالى: {مِّن دُونِ ٱللَّهِ}، ضروري حتى يستكمل القارئ معاني الفقرات السابقة، ويتجنّب الشرك الذي يتوهّمه، إن كان من العوامّ. وعلى كل حال، فحتى إن لم يُدرك المـُراد من العبارة، فليبق على ما دللنا عليه، عند إرادة الله إظهار قدرته من أحد مظاهر خلقه، وإن كان أضعفها في العادة، فإن ذلك مَـقدورٌ له. ولنفترض هنا جدلا، أمرا لم يشأه الله، وهو مقدرة الإنس والجنّ على الإتيان بمثل القرآن؛ ولنفترض ثانية، أن الله شاء أن يُقدر أضعف الإنس أو أضعف الجنّ على الإتيان بمثل القرآن؛ فإنه عندئذ سيأتي بمثله. غير أن هذا الذي ذكرناه، لم يشأه الله، وبالتالي ليس مرادا له ولا ومقدورا (مما تعلّقت به القدرة)؛ ولكنه سيُعين القارئ على فهم أن يشترط الله في المتَحَدَّيْن أن يأتوا بالفعل من دون الله. والعبارة المذكورة من الآية، ينبغي أن يعتبرها التالي للقرآن، حيث وجدها؛ حتى يكتمل فهمه لكلّ آية وردت بها... ب. لمَ وقع التحدي مع ثبوت عجز المـُتحَدَّيْنَ: لقد وقع التّحدّي في المرتبة الأولى للإنسان بالإتيان بمثل القرآن، وذلك لأنه مخلوق على الصورة الإلهية بالقوة. وعندما نقول بالقوة، فهذا يعني أن قلة من الناس هم من حازوا الصورة بالفعل، وهم خلفاء الله الأقطاب الأغواث من كل زمن. ولا يظهر بالصورة الإلهية في الزمن إلا واحد، مشيا على قاعدة التوحيد التي تنتظم العالم كلّه... والخليفة الإلهي، لا يُتصوّر منه رفع طرفه إلى تحدّي القرآن، بسبب العبودية الكاملة التي يكون عليها. فبقي التحدي متصوّرا زعماً، من الإنسان الذي على الصورة بالقوة. وهذا الصنف، يكون على ربوبية في نفسه، لا تخفى. ومن أراد أن ينظر إلى واحد من هؤلاء، فليتفقّدهم في طبقة الفقهاء؛ لأنهم إن فارقهم الإيمان، ظهروا في الناس كالفراعنة. وقد كنت مرة أشاهد فقيها قد انتقل عن الدنيا، فنظرت إليه وقد خاطبه أحد الأمراء، مباشرة على شاشة التلفاز، ثم خاطبه أحد العامة (ربما من المتفقّهة) فانتقده؛ فأما مع الأمير فقد تغيّر لونه، واصفرّ واحمرّ، وخضع في الخطاب ولان، وبدا عليه السرور والامتنان؛ وأما مع الآخر، فلم يُمهله مخاطبا بنبرة فرعونيّة لا تُخطئها عين الخبير: "اعلم أنك تناطح جبلا!". وقد صدق وهو لا يقصد، لأن النفس هي الجبل، الذي قال الله عنه من باب الإشارة: {فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكًّا} [الأعراف: 143]. ومن لم يُدكَّ جبلُه، كيف يُتصوَّر منه أن يسجد لله السجود الشرعي؛ ونقصد هنا معنى السجود لا صورته وحدها!... ومن شاء أن ينظر إلى فرعون آخر، فلينظر إلى رجل قد آتاه الله سلطانا، فظنّ أن الصفة له بالأصالة، فصار ينظر إلى الناس شزرا وكأنهم حشرات؛ أو لينظر إلى رجل آتاه الله مالا، فتوهّم لنقص عقله أنه يملك العالَم؛ فكل هؤلاء المتربِّبين، ما ترببوا إلا لأنهم على الصورة بالقوة، ومن دون تزكية. ومن هذا الباب كانت معصية أبينا آدم عليه السلام، قبل الإنزال، وأما بعده فإنه كان خليفة طاهرا من الربوبية المذمومة في حقّه. وأما الجنّ الذين تحداهم الله بعد الإنس، فلأمريْن: - الأول: أن كفارهم على مذهب إبليس في التكبّر، فأراد الله بتحدّيهم إعادتهم إلى مكانة عبوديتهم. وأما الصورة التي ذكرنا أنها سبب مبارزة الإنسان لربه، فلا يحوزها الجن، وإنما هم على بعضها. ومن هذه الحقيقة، كانوا تحت حكم الخليفة من بني آدم، لا يتمكنون من الخروج من قبضته؛ وكانوا في المذاهب الفقهية -مثلا- تابعين لأئمة الإنس... - الثاني: هو أن الناس اعتادوا على الاستعانة بالجن، في إنجاز بعض الأعمال، كما أخبر الله عنهم في قوله سبحانه: {وَأَنَّهُۥ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلۡإِنسِ یَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَزَادُوهُمۡ رَهَقًا} [الجن: 6]، فأراد الله بدعوتهم مع الإنس بالتحدّي، أن يُخلّص الأناسي من أوهامهم، عندما يعلمون أن الجن أعجز منهم في هذا الباب... ورغم أن العجز عن الإتيان بمثل القرآن، قد تأكّد مع مرور القرون، فإن الضّالّين من الناس، الذين استحوذ عليهم الشيطان، هم إما على طمعهم الأول، من دون اعتبار لِما مرّ من الأمم والأجيال؛ أو هم يقنعون باحتمال ذلك، من جهة ما تُفتي به عقولهم التي يرونها غاية في العقلانية؛ والحقيقة هي أن هؤلاء أكثر تخلّفا من جهة العقل من المشركين الذين عاصروا تنزّل القرآن؛ وهذا لأن أولئك، كانوا حديثي عهد بالقرآن، وتجربة الإتيان بمثله كانت ما تزال طيّ الغيب من جهة الإمكان العقلي؛ أما هؤلاء المتأخرون، فكأنهم يعيشون غيبوبة عقلية، تغيب معها جميع النتائج السابقة على زمانهم. وهذا من دون أن يُمحّصوا نظرهم، كما هم مـُطالبون!... وفي ختام هذا الجزء، نُذكّر بقول الله تعالى: {وَقَالُوا۟ لَوۡلَاۤ أُنزِلَ عَلَیۡهِ ءَایَـٰتٌ مِّن رَّبِّهِۦۚ قُلۡ إِنَّمَا ٱلۡـَٔایَـٰتُ عِندَ ٱللَّهِ وَإِنَّمَاۤ أَنَا۠ نَذِیرٌ مُّبِینٌ . أَوَلَمۡ یَكۡفِهِمۡ أَنَّاۤ أَنزَلۡنَا عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ یُتۡلَىٰ عَلَیۡهِمۡۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَرَحۡمَةً وَذِكۡرَىٰ لِقَوۡمٍ یُؤۡمِنُونَ} [العنكبوت: 50-51]، وقد أثبت الله بهاتيْن الآيتيْن صراحة، أن القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمتلوّ بين الناس إلى قيام الساعة، هو الآية الكبرى التي تندرج فيها كلّ الآيات التي أظهرها الله على أيدي رسله وأنبيائه وأوليائه. وليلاحظ القارئ إجابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مطلع الآية الأولى: {قُلۡ إِنَّمَا ٱلۡـَٔایَـٰتُ عِندَ ٱللَّهِ وَإِنَّمَاۤ أَنَا۠ نَذِیرٌ مُّبِینٌ}، ليعلم أنه كان على عبودية تامة وكاملة، مما يليق بمكانته عند ربه؛ فلم يتطلّع أن يؤتى آيةً ولا سألها بلسانه؛ وإنما دل على الجهة التي تنفرد بملك الآيات، كما تملك كلّ شيء، ألا وهي "الله" وحده!... ولقد قلنا عن القرآن بأنه يشمل كلّ الآيات التفصيلية التي ظهرت على أيدي الخواصّ، لأنها إنما جاءت من نوره. ودليل الصحة على ما نقول، هو أن كل آية حسّيّة، أظهرها الله على يد أحد خواصّه في أي زمن من الأزمنة، فقد ظهر مثلها حذو القذّة بالقذّة، عند خواصّ أمتنا؛ حتى إن مِن أمتنا من أحْيَى الموتى، ومنهم من خلق، ومنهم من أمات بغير سبب ظاهر، ومنهم من ولّى، ومنهم من عزل؛ إلى غير ذلك مما أثبته القرآن من الآيات، أو أثبتته السنّة، أو تناقله الناس من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان... وقد يسأل سائل (وهو يظنّ في نفسه الفطانة): وكيف يقع إحياء الموتى من أحد، في الأزمنة المتأخّرة، ولا يتداعى الناس (وعلى رأسهم وسائل الإعلام)، إلى مشاهدة هذه الكرامة (التي تبقى معجزة لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم[6])؟ مما يجعل الأمر مشتهرا، ومعلوما للعامة والخاصة؟... قلنا إن ذلك حدث من غير شك، ولقد كنّا شهودا على بعض ذلك؛ ولكن عندما لم يشأ الله للأمر أن يُعلم، فقد صرف عنه عقول الناظرين، وكأنهم لم يروه!... ومن كان عقله، على هذه الحقيقة، من خضوعه للصّرف القهري عن أمر ما، كيف يزعم لنفسه عقلانية معتبرة؟!... وكيف يثق بعد ذلك، بما يُثبته عقله له أو ينفيه؟!.. (يُتبع) [1] . أخرجه الترمذيّ وابن ماجة والحاكم، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.