اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2025/03/11 الإنسان القرآن (مقدمة في تفسير القرآن الكريــم) .26.(ج4) الباب الثاني: العلوم المتعلّقة بالقرآن الفصل العاشر: إعجاز القرآن (ج4) (تابع) 5. بطلان القول بالإعجاز العلمي (عند المتأخرين): لقد دأب كثير من المتأخّرين، عندما أخطأوا طريق الإيمان الذي هو التصديق بما أنزل الله، ووقعوا تحت تأثير الفلسفة الغربية خاصة، على أن يجدوا للقرآن مستَنَداً مما سُمّي عند الأوروبيّين علوما؛ فارّين بذلك توهُّما، من تخلّف القرآن عن ركب العلوم؛ تعالى الله!... أو باحثين لدينهم الذي رقّ حتى كاد يندثر، عن هبّة هواء منعشة من جهة "العلوم"، حتى لا يُضطرّوا إلى الكفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وإنهم كانوا يجتنبون إعلان الكفر، الذي أصبح يُعلن عنه تلاميذهم من معاصرينا، لأن المجتمعات المسلمة ما كانت لتقبل ذلك بداية؛ ولأن جلّ الفقهاء، كانوا ما يزالون على تقليد أئمتهم من القرون الماضية. وإنّ صراعا يُراد له أن يكون "علميا" حقيقة أو زيفا، ما كانت لتخرج منه المجتمعات المسلمة كما دخلته، اجتماعيا وسياسيا!... وحتى نبيّن خلفيات أثر "العلومية"[1] على مجتمعاتنا، وعلى نخبها الفكرية الدينية في مقدّمتها، فلنركّز الكلام قليلا، بحسب المستطاع: ا. العلميّة الغربية الزائفة: يأتي عصر "العلمية" في السياق الغربي، مساوقا لما يُسمّونه بحسبهم عصر "النهضة"، أو قبله بقليل؛ حتى يكون مقدّمة له وشرطا من شروطه إن لم يكن أكبرها... وإن "القرون الوسطى" عند الأوروبيّين، قد كانت -وهي السابقة على عصر "العلم"- غارقة في الحيوانية والشيطنة، لسببيْن رئيسيْن: الأول: هو كون الأوروبيّين قد اعتنقوا منذ العصر الروماني، دينا مـُحرّفا، أصبح منذ عهد الإمبراطور "قسطنطين" مع بداية القرن الرابع الميلادي، دين الدولة الرسمي. ولقد نتج عن هذا الوضع: انطماس الدين المسيحي الحق (الإسلام العيسوي)، وحل محلّه الدين الوضعي الذي أنشأه "بولس" الذي تُنسب إليه الرسالة (الصُّحبة عندنا) زورا، مع أنه لم يلق عيسى قبل رفعه عليه السلام، وكان من مضطهِدي أتباعه في زمانه؛ فأنتج "بولس" للناس من غير أدنى شك، عن وحي إبليس، ما سمّاه الله نصرانيّة[2] بالاشتقاق، في مثل قوله تعالى: {مَا كَانَ إِبۡرَ ٰهِیمُ یَهُودِیًّا وَلَا نَصۡرَانِیًّا وَلَـٰكِن كَانَ حَنِیفًا مُّسۡلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ} [آل عمران: 67]. وقد جاءت هذه الآية للردّ على اليهود الذين حرّفوا إسلام موسى، وعلى النصارى الذين حرّفوا إسلام عيسى، عندما أرادت كل طائفة منهم أن يتمسّحوا بالمكانة الإبراهيمية الدينية العامة (الإسلامية)، من أجل أن يجدوا لأنفسهم أصلا يرجعون إليه؛ خصوصا في نظر المتديّنين الذين يعلمون أن الخط الدينيّ في التاريخ واحد، يصدّق بعضه بعضا ويعضّده. فقطع الله عنهم الصلة بإبراهيم عليه السلام، وأثبت لهم اليهودية في مقابل الدين الموسوي، والنصرانية في مقابل الدين العيسوي؛ وأثبت في المقابل لإبراهيم (ومن بعده لموسى وعيسى من باب التضمين) الإسلام الحنيف؛ أي الدين القويم الذي لا يُناقض أوله آخره في الزمان، ولا آخرُه أوّله؛ وإن كان كماله لم يوصل إليه إلا مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم. ولقد خلط الرومان النصرانية المحرّفة مع الإسلام العيسوي (المسيحية)، بشيء من الوثنية الرومانية؛ فحافظوا على بعض تماثيل آلهتهم، ولكنهم نسبوها إلى المسيح عليه السلام، أو إلى مريم أمه عليها السلام، أو إلى غيرهما من الشخصيات الرسالية (الحواريّين) الذين يزعمون أنهم قد عملوا بما نقلوه لهم عن المسيح عيسى عليه السلام. وأما "بولس"، فقد خالف الرومان ومَن بعدهم من الأوروبيّين جميعَ القواعد ليقبلوا تعاليمه... وهكذا، فإن أوروبا في العصور الوسطى المظلمة، لم تكن على دين كما يُزعم لها؛ وإن رام بعض متفلسفة اللاهوتيّين إعادة النصرانية إلى المسيحية، من مثل ما كان عليه الإمام (القدّيس: بالاصطلاح النصراني): أغسطينوس (354-430م)، رغم قصوره عن تناول عناصر العقيدة المسيحيّة، بما تستحقّه دائما من سموّ. وعندما ضاق الأوروبيّون ذرعا بممارسات رجال الكنيسة، فإنهم كانوا يُعربون عن رفضهم لدين منحرف، واستغلال تأباه الفطرة والعقل السليم؛ وإن لم يتفطّنوا إلى أنهم كانوا يرفضون دينا مـُحرَّفا. وهو ما تابعهم فيه جهلة المسلمين، عندما أخذوا عنهم مصطلح الدين كما هو بحمولته النصرانيّة، وأسقطوه على الدين بالمعنى الذي عندنا. وهذا كله، كان من أثر حركة الاستشراق، في شطر منه؛ فنتج عنه تيّار الاستغراب في مجتمعاتنا، من دون أن يُنظر باهتمام في تحقيق النسبَة؛ وهو ما فتح الباب، أمام "العلوميّة" التي أضرّت بالمسلمين ضررا بالغا، لا يزال أثره ممتدّا إلى الآن، وإلى ما شاء الله... ورغم أن "العلمية" التي ستتبلور فيما بعد عند الأوروبيّين، بوصفها نقضا للكنيسة ومقولاتها، فإنها قد نشأت ضمن الكنيسة، بحيث كان كوبرنيكوس (1473-1543م)، الذي هو من أكبر روادها، راهبا قبل أن يكون رياضيا وفلكيا وفيلسوفا؛ ولقد كانت ضربته بنظرية مركزيّة الشمس[3]، ضربة مباشرة للعقيدة النصرانية في صورتها آنذاك. ثم، ما لبث أن ظهرت علوم جديدة متخصّصة، كالتشريح الذي طُوِّر على يد العالم البلجيكي "أندرياس فيزاليوس" (1514-1564م)، وكاعتماد أصلَيِ الملاحظة والتجريب الذي أسّس له "فرانسيس بيكون" (1561-1626م)؛ وهو ما أدّى إلى تطور الطب والكيمياء والفيزياء والفلك والبيولوجيا والجيولوجيا وغيرها من العلوم الكونيّة، تطوّرا غير مسبوق، معتمدا على العمل المخبري والرصد، إلى جانب التنظير العقلي؛ فظهر ما يُسمّى في القرون الأخيرة "العلوم"، باستقلالها المعلوم، وباعتمادها الجانب المادّي أساسا، إلى حدّ التطرف أحيانا عند إنكار الجانب الروحي للإنسان وللعالم... وقد تجلّى هذا التطرف في الجانب السياسي في الثورة على الكنيسة والملَكيّة، ومع إنشاء الجمهوريّات "الحيوانية" الشيطانية؛ فظهر في الجانب الاجتماعي إلغاءً للفوارق الطبقية؛ وفي الجانب الأيديولوجي قولاً بالداروينية والاشتراكية، والليبرالية والحداثة فيما بعد... وهي كما لا يخفى مبادئ حيوانية من جانب -كما ذكرنا- وشيطانية من الجانب الآخر. ولسنا هنا بمعرض التفصيل في بيان تلك الأسس والمبادئ، لأن الكتاب لا يحتمل ذلك من جهة، ولأن المـُراد يتطلّب تصنيفا مخصوصا لسعة جوانبه، من جهة أخرى... ب. القول بالعلميّة في تفسير القرآن عند متأخري الضّالّين: ولقد كان من المتوقّع، ونحن دول عانت من الاستعمار الأوروبي، ومن ضعف التديّن بسبب العوامل الداخلية (داخل الأمة) طيلة قرون، والعوامل الخارجية الإمبريالية؛ أن يصير شطر منّا داعيا إلى المادّيّة الأوروبية الغربية والشرقية (باعتبار أثر الاتحاد السوفياتي في شطر من الدول العربية والإسلامية)، بطريقة ملتوية تقول بتطوير الإسلام، أو بإلغائه كما حدث عند الدولتيْن البعثيتيْن على الخصوص: العراق وسورية. ومن أولئك الذين كانوا سبّاقين إلى التديّن الهجين (إن بقي للتديّن من معنى) محمد عبده، الذي عاد من فرنسا متفرنس العقل والإدراك. فهو [يرى أن هذا (إرشاد الناس إلى سعادتهم الدنيوية والأخروية)، هو المقصد الأعلى للقرآن، وما وراء ذلك من المباحث فهو تابع له، أو وسيلة لتحصيله.][4] . وهو لا يعني بسعادة الدنيا، إلا ما توصّل إليه العقل المجرد، كما يتّضح من شططه في تأويل آيات القرآن. ونلاحظ هنا أن مَقصدَيِ التعريف والتشريع اللذيْن كنا قد أبرزناهما في فصول سابقة من هذا الكتاب، ليسا عند محمد عبده بمورد؛ وكلام الله كما سنرى من بعض النماذج من زعم تفسيره، لا يختلف عن كلام الناس في شيء من جهة المبنى، ولا يختلف عن دساتير الناس في شيء من جهة المعنى والمقصد. فهو يقول عند تفسير قول الله تعالى: {إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1]: [انشقاق السماء، قبل انفطارها الذي مر تفسيره في سورة "إذا السماء انفطرت"، وهو فساد تركيبها، واختلاف نظامها، عند ما يريد الله خراب هذا العالم الذي نحن فيه، وهو يكون بحادثة من الحوادث التي قد ينجرّ إليها سير العالم: كأن يمر كوكب في سيره بالقرب من آخر، فيتجاذبا، فيتصادما، فيضطرب نظام الشمس بأسره، ويحدث من ذلك غمام وأي غمام، يظهر في مواضع متفرقة من الجو والفضاء الواسع، فتكون السماء قد تشققت بالغمام واختل نظامها حال ظهوره.] [5]. ويُلاحظ من هذا المقطع، تأثر محمد عبده بتيّار العلوميّة، الذي دعاه إلى الدخول في تفاصيل انشقاق السماء رجماً بالغيب، وبتصوير شبه صبيانيّ. [ويقول في تفسيره لقول الله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4]، بعد أن شرح معنى النفث والعقد، المراد بهم هنا -يقصد النفّاثات- هم النمامون، المقطعون لروابط الألفة، المحرقون لها بما يلقون عليها من ضرام نمائمهم، وإنما جاءت العبارة كما في الآية، لأن الله جلّ شأنه أراد أن يشبههم بأولئك السّحرة المشعوذين، الذين إذا أرادوا أن يحلّوا عقدة المحبة بين المرء وزوجته -مثلا- فيما يوهمون به العامة، عقدوا عقدة ثم نفثوا فيها وحلوها، ليكون ذلك حلا للعقدة التي بين الزوجين. والنميمة تشبه أن تكون ضربا من السحر، لأنها تحول ما بين الصديقين من محبّة إلى عداوة، بوسيلة خفية كاذبة، والنميمة تضلل وجدان الصديقَيْن، كما يضلل الليل من يسير فيه بظلمته، ولهذا ذكرها عقب ذكر الغاسق..] [6]؛ وهو كفر بمدلول السحر في القرآن، بما لا يخفى من ميل إلى العقلانيّة بمعناها الأوروبّيّ!... ثم هو لم يتنبّه إلى ورود صفة "النفاثات"، مؤنّثة في أصلها؛ وعدل إلى الكلام عن السحرة والمشعوذين بجمع المذكّر، وهو جهل بالخطاب القرآني من جهة، وانحراف في التفسير من جهة أخرى. [وقد ضعّف بعضَ الأحاديث التي وردت في الصحيحين حول إصابة الرسول بالسحر، ولم يأخذ بها لأنها روايات آحاد قال: والذي يجب اعتقاده أن القرآن مقطوع به، وأنه كتاب الله بالتواتر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يجب الاعتقاد بما يثبته، وعدم الاعتقاد بما ينفيه، وقد جاء ينفي السحر عنه عليه السلام، حيث نسب القول بإثبات حصول السحر له إلى المشركين أعدائه، ووبخهم على زعمهم هذا، فإذاً هو ليس بمسحور قطعا. وأما الحديث فعلى فرض صحته، هو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها في باب العقائد، وعصمة النبي من تأثير السحر في عقله عقيدة من العقائد، لا يؤخذ في نفيها عنه إلا باليقين، ولا يجوز أن يؤخذ فيها الظن والمظنون، على أن الحديث الذي يصل إلينا من طريق الآحاد إنما يحصل الظن [به] عند من صح عنده؛ أما من قامت له الأدلة على أنه غير صحيح، فلا تقوم به عليه حجة. وعلى أي حال، فلنا، بل علينا أن نفوّض الأمر في الحديث، ولا نحكّمه في عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب وبدليل العقل، فإنه إذا خولط النبي في عقله كما زعموا، جاز عليه أن يظن أنه بلّغ شيئا وهو لم يبلغه، أو أن شيئا نزل عليه وهو لم ينزل عليه؛ والأمر ظاهر لا يحتاج إلى بيان...][7] . وهذا، كما لا يخفى، تحكيم للعقل في الحديث الصحيح، على طريقة الأوروبيّين في زعمهم للعقلانية؛ في غياب تام لأصل الإيمان لديه. وأما ما رآه لا يحتاج إلى دليل، فهو مجرّد احتمال ألقاه الشيطان على عقل قاصر، فاقد لنور الإيمان؛ وإنّ تقديمه لنتائج فكره السقيم، وكأنها براهين عقليّة، لا ينطلي إلا على من هو أشدّ ظلمة منه. ونحن نلاحظ هنا، كيف أن هذه المنكرات، قد صارت دينا لدى شطر كبير من مسلمي آخر الزمان؛ خصوصا من طائفة الإخوان المسلمين ومن لفّ لفّها... وأما قوله في تفسير قول الله تعالى: {وَأَرۡسَلَ عَلَیۡهِمۡ طَیۡرًا أَبَابِیلَ . تَرۡمِیهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّیلٍ} [الفيل: 3-4]: [فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض، وأن تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الذي تحمله الرياح فيعلق بأرجل تلك الحيوانات، فإذا اتصل بجسدٍ، دخل في مسامّه، فأثار فيه تلك القروح التي تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه...] [8]، فإنه يُلخّص كل مذهبه في التفسير؛ ونعني أنه يحمل ألفاظ القرآن العظيم، على ما يعقله هو من ثقافة عصره؛ ويُجيز مع شططه، لكل فاهم أن يفهم ما يوافق رأيه، وإن كان سقيما. وعلى كل حال، فإن طريقة محمد عبده في فهم القرآن، قد وسمت مرحلة زمانيّة بأكملها، وكانت وسيلة إلى اختطاف "الدين" من قِبل الضّالّين، الذين تمادوا في الانقطاع عن نور النبوة، الذي سبقهم إليه (الانقطاع) بعض الأسلاف. وهو ما سيدخل بهؤلاء المنحرفين في علمانيّة يُلصقونها بالإسلام إلصاقا، ما لبثت أن تبلورت في الفكر السياسيّ الإخوانيّ، الذي ما يزال ينخر في وجدان الأمة إلى الآن!... وممن تابع محمد عبده (1849- 1905م) في ضلاله، قليلا أو كثيرا: رشيد رضا (1865-1935م)، وهو التلميذ المباشر لمحمد عبده، وناقل ضلالاته عنه، وهو من الشام؛ وعبد الحميد بن باديس من الجزائر (1889-1940م)، ومحمد أبو زهرة (1898-1974م) من مصر، ومحدّث المغرب أحمد بن الصدّيق الغماري (1902-1961م)، ومحمد الأمين الشنقيطي (1905-1973م)، الذي هو من أصل موريتاني كما يدلّ عليه اسمه، ومتجنّس بالجنسيّة السعوديّة. وقد بلغ الأمر مداه في الميل إلى العلومية الغربية في تفسير القرآن، مع زغلول النجار (ولد عام 1933م) المصري، ذي التوجّهات الإخوانية غير الخفيّة؛ ومع عبد المجيد الزنداني (1942-2024م) الإخواني اليمنيّ... ج. بطلان القول بالعلومية بمعناها المتأخّر: إن العلوميّة التي زعمها الأوروبيّون لأنفسهم، قد جعلوها مرجعا للعالم كلّه، بسبب السياسة الإمبريالية التي اعتمدوها؛ حتى إنهم منذ نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، قد احتلّوا كثيرا من بلدان الشرق والغرب، بدعوى التمدين الذي يقوم على العلومية بحسب الزعم. ولقد كان التصنيع والتكنولوجيا في زمن الاستعمار الأوروبي، مـُربِكا للشعوب المستعمَرَة، بسبب الهوة الفاصلة في الظاهر، بين تخلّفها الثابت، وتمدّن المستعمِر المحصور في الجانب الدنيوي. وهذا، وإن كان تأثيره وقتيّا، وقتيَّةَ الدنيا نفسها؛ فإنه كان السبب في نبذ شطر من الأمة الإسلامية دينها، إما جزئيا كما فعل مـُعظمها، وإما كليّا كما كانت حال المتفلسفين من أبنائها، وحال "العلميّين"، ولو نسبيّا. ولقد أتى علينا زمان في المغرب، كنّا لا نكاد نجد طبيبا واحدا أو مهندسا واحدا، يُصلّي؛ فإن صلّى، حرص على أن يكون ذلك في بيته، وبعيدا عن الأنظار. ولقد أسهم في هذا التصوّر الفِسْقيّ، سياسة كانت تنهجها الحكومات لدينا -وهي سليلة الاستعمار في جلّ شؤونها- من فصلٍ إجباري بين عموم الشعب، وطبقة المتعلّمين العليا أو المتوسطة، حفاظا على تحكّمها، وخوفا من وحدة الشعوب في مواجهتها. ولقد عشنا هذا الوضع، في مدينة جرادة العماليّة، حيث كنّا لا نرى اختلاطا بين طبقة الأطباء والمهندسين، وطبقة عموم العمّال وعموم السّكّان. ولا شكّ لنا، في أن هذا الوضع "المتخلّف"، قد صادف هوى لدى من كانوا يتوهّمون أنهم طبقة متميّزة من الناس. وهذا -كما لا يخفى- دليل أمراض قلبيّة (نفسيّة)، صادفت خواءً إيمانيّا، فتمكّنت... وإن أول ما ينبغي أن نذكره عن العلوميّة، هو انحصارها من جهة في الجوانب المادّية من العالم؛ وحلولها محلّ المصطلح الأصلي للعلم، والذي هو صفة إلهية في الأصل، من جهة أخرى. ولا يختلف اثنان، في أن المراد من وراء المصطلح الجديد، هو إلغاء التداول للمصطلح الأصلي؛ بما أن النهضة الأوروبية العرجاء، قد قامت مناهضة للدين بمعناه العام، والذي كان مجهولا للأوروبيّين، كما أسلفنا الإيضاح... والعلم -كما ذكرنا- هو صفة من الصفات الإلهية، يتصف الناس بحظّ منها بالجعل الإلهي، لا بالأصالة. وإن العلم الإلهي، محيط بالمعلومات كلها، مما هو مندرج تحت اسم الحق، أو مما هو مندرج تحت اسم الخلق. يقول الله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِی خَلَقَ لَكُم مَّا فِی ٱلۡأَرۡضِ جَمِیعًا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰۤ إِلَى ٱلسَّمَاۤءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَـٰوَ ٰتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمٌ} [البقرة: 29]؛ وإنّ إحاطة صفة العلم، كما تدل عليه الآية، هي بالمعلومات من السماء والأرض، وبالمستوي إلى السماء؛ وهذه هي الصفة العلمية الكلّيّة. أما العلم الجزئي، فيُشير إليه مثل قول الله تعالى: {وَٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ وَمَاۤ أَنزَلَ عَلَیۡكُم مِّنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَٱلۡحِكۡمَةِ یَعِظُكُم بِهِۦۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمٌ} [البقرة: 231]؛ وهذه مناطات العلم التفصيلية، من تعريف وتشريع، كما أوضحنا سابقا. وقد ذكر الله إحاطته العلمية، عقب الآيات التشريعية، ليعلم الناس أن الأحكام الشرعية ليست اعتباطية كما قد يفهم قوم؛ وإنما هي مؤسّسة على علم الله بالحقائق المسمّاة في القرآن "سنّة الله"، والتي يقول فيها سبحانه: {سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِی قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلُۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبۡدِیلًا} [الفتح: 23]. وإن هذا الأصل في الأحكام الشرعية، لا ذكر له عند الفقهاء: أصوليّين أو غيرهم. وعند جهل الفقهاء بهذا الأصل، يَبين عدم إحكامهم لتعّقل الأحكام الشرعية كما ينبغي؛ بل إن هذا القصور، سيكون سببا في شذوذهم عن الأصول الشرعيّة، في كثير من "اجتهاداتهم"، التي ليست إلا قصورا في العلم لا ينفكّون عنه، إلا بتدارك رحمة الله لهم. وينبغي للقارئ أن يُلاحظ معنا، قول الله تعالى آنف الذكر: {وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمٌ}، يُشير إلى انقسام العلم إلى ما هو من صفات الخلق، التي يُشير إليها قوله سبحانه: {وَٱعۡلَمُوۤا۟}؛ وإلى ما هو صفة أصلية للحق، بقوله تعالى: {أَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمٌ}؛ فهو علم متعلّق بعلم... والأول نسبيّ، والثاني (في الذكر) مطلق!... فما أعجب كلام الله، وما أحكمه!... وأما العلوم التي تعلّق بها الأوروبيّون تعلّق الغريق بالقشّة، فهي علوم منوطة بظاهر الأكوان على التحقيق: من كيمياء، وفيزياء، وطب، وبيولوجيا، وفلك، وجيولوجيا، وبحار؛ ومما يدخل في تفاصيل ذلك من: معادن، وفيروسات، وغازات، وذرة؛ وصولا إلى العلم بالأشياء المجهرية الأصغر فالأصغر... وما على هؤلاء الذين يظنّون أنهم بهذا العلم قد ظفروا بشيء، هو أن يعلموا أن متعلَّق كل علومهم هو: الأعدام (جمع عدم). وقد يستغرب البعض من كلامنا، لأنهم يتوهّمون أن معلوماتهم وجودات؛ وهيهات!... وأما إن سأل سائل: كيف للعدم أن يُعلم؟ خصوصا وأنه لا أحد ممن ينسبون أنفسهم إلى العلم (العلمية)، زعمه لنفسه؟ وهل يصح تبعا لهذا أن نُضيف فرعا علميا جديدا إلى كل العلوم، نُسمّيه: علم العدم؟... فنجيب: أولا: أما كيف يُعلم العدم، فذلك يحصل عند ظهور الوجود بصوره. ولولا الوجود، ما ظهر شيء من صور الأكوان التي هي في حقيقتها أعدام... وإن ظهور العدم بالوجود في عين الناظر، هو ما نُسمّيه نحن الإمكان؛ تفريقا له عن الإمكان العقلي الذي للفلاسفة. والخلاصة هي: بما أن المظاهر الكونية كلها أعدام في حقيقتها، فإن العلم الذي يتعلّق بها، ليس علما بالمعنى الذي ينسبه الله إلى نفسه؛ لأن هذا العلم الإلهي، صفة وجودية مطلقة؛ ولكن هو من العلم المجعول في العالِمين، إن صحّ؛ وهو دائما صحيح من حيث البسائط، لا من حيث التركيب. وعلى هذا، فإن العلم الذي يعلم به علماء الأكوان ما أذن الله لهم بعلمه، هو صفة وجودية مجعولة؛ أي هي مما يُفيضه الله على عباده من صفته؛ علموا بذلك، أم لم يعلموا. فإن قيل: فإن كان الأمر هكذا، فلمَ يُشتمّ من كلامك تحقير علم العلماء بالأكوان، وهو من الصفة الإلهية؟ قلنا: إن تعلق الصفة الإلهية، بمحل ظهورها في العالِم الممكن، يجعلها في نفسها ممكنة على التحقيق، لا واجبة. والممكن له وجه إلى الوجود به يكون له الظهور، ووجه إلى العدم، منه يدخل عليه الجهل حيث كان؛ وهو من السوء العام، المذكور في مثل قول الله تعالى: {وَلَوۡ كُنتُ أَعۡلَمُ ٱلۡغَیۡبَ لَٱسۡتَكۡثَرۡتُ مِنَ ٱلۡخَیۡرِ وَمَا مَسَّنِیَ ٱلسُّوۤءُۚ} [الأعراف: 188]. وبما أن الآية واردة على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن أمر إلهي، يدل عليه صدرها: {قُل لَّاۤ أَمۡلِكُ لِنَفۡسِی نَفۡعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاۤءَ ٱللَّهُۚ}، فإن المفهوم العامّ منها، هو أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم، ممكن من جملة الممكنات؛ وإن كان هو "الممكن الأول"، الجامع من حيث حقيقته، جميع حقائق الممكنات، التي لا نهاية لها في الأفراد والأشخاص... لهذا نخلص، إلى أن العلم بالأكوان، هو نفسه علم ممكن، قد يشتمل على علم صحيح موافق لعلم الله، كما قد يشتمل على جهل مخالف للحق. وكون علوم الأكوان قد تشتمل على الجهل، هو مما لا يحتاج إلى تدليل؛ لأنه لولا ذلك الجهل، ما صح أن يتمّ العدول عن مقولات سابقة، كانت علميّة عند أهلها في زمنها، فجاء الوقت الذي بان فيه بطلانها، فتمّ التخلّي عنها إما جزئيّا وإما كليّا. وإن هذا العلم (في حال صحّته)، المتعلّق بالأكوان، قد سماه الله علما بظاهر الدنيا، في قوله تعالى: {یَعۡلَمُونَ ظَـٰهِرًا مِّنَ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَهُمۡ عَنِ ٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمۡ غَـٰفِلُونَ} [الروم: 7]، وليتنبّه القارئ إلى أن ورود هذه الآية كان في سورة "الروم"، الذين هم "الأوروبيّون" بالاصطلاح الحديث؛ وإنّ "أوروبا" في الميثولوجيا الإغريقية، هي ابنة الملك آجينور، ملك صور، الفينيقي (لبنان الآن)؛ ومعناه في اليونانية: الوجه العريض. وعندما يُنيط الله علم الكافرين به، بظاهر الحياة الدنيا، فهو سبحانه يعني وجه عدمها؛ لأنه من كان يعلم حقيقة الدنيا، فذاك العلم منه، هو داخلٌ ضمن العلم بالآخرة نفسه!... ولكن عندما حصر الله علم الغافلين في الدنيا، فقد جعل نتيجته الجهل بالآخرة، كما أخبر سبحانه في عجز الآية. وأهميّة هذه الإناطة، وهذه المقابلة، هي كونهما تدلاّن على أن المنظور إليه (المشهود عقلا)، واحد، ولا ينقسم إلا من حيث اعتبار وجهَيْه (وجودا وعدما) فحسب. ويقول الله قبل الآية المذكورة: {وَعۡدَ ٱللَّهِۖ لَا یُخۡلِفُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ} [الروم: 6]، فوصف سبحانه العباد الذين لا يؤمنون بالدار الآخرة التي هي وعد الله، بأنهم لا يعلمون. والمعنى هو أن علم الكافر بالأكوان، لا يُمكن أن يُلحق بعلم ما؛ وإنما هو مـُلحق بالجهل الأصلي للناس، من حيث كونهم أعداما في الحقيقة. ثم يقول الله سبحانه بعد الآية محور الكلام: {أَوَلَمۡ یَتَفَكَّرُوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۗ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَیۡنَهُمَاۤ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّىۗ وَإِنَّ كَثِیرًا مِّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَاۤىِٕ رَبِّهِمۡ لَكَـٰفِرُونَ} [الروم: 8]؛ فدل سبحانه الكافرين المنكرين للآخرة، على التفكر في أنفسهم وفي خلق السماوات والأرض وما بينهما، ليتوصّلوا بإذنه، إلى ما ينفعهم، فيصيرون به معدودين من العلماء حقّا. والتفكّر، هو إعمال العقل عند النظر؛ وهو كما قد يوصل إلى الحق بإذن الله تعالى، فإنه قد يوصل إلى الباطل عند تحقّق الخذلان؛ وذلك عندما تغلب ظلمة العدم الأصلية على شهود العقل. وهذا الخذلان، هو السبب الذي جعل بعض المتفلسفين والفيزيائيّين، وسواهم من علماء ظاهر الأكوان، ينتهون إلى الإلحاد (بالمعنى المعاصر)، والذي هو إنكار وجود الموجِد للأشياء سبحانه. وما علموا أن إنكارهم للموجد، ينتج عنه انهداد العالم كلّه: علويّه وسفليّه، عقلا؛ وبالتالي، فلن يبقى لهم مستند في إثبات أيٍّ مما يُثبتون زعماً. فما أضعف حجة الكافرين!... وما أعمى عقولهم!... وللقارئ بعدُ، أن يجد ترتيبا، لأقوام عندنا، يتأسّوْن بالعُمي الذين لا يُبصرون... وما أصدق الله في قوله تعالى: {وَجَعَلۡنَا مِنۢ بَیۡنِ أَیۡدِیهِمۡ سَدًّا وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ سَدًّا فَأَغۡشَیۡنَـٰهُمۡ فَهُمۡ لَا یُبۡصِرُونَ} [يس: 9]، وفي قوله سبحانه: {وَإِن تَدۡعُوهُمۡ إِلَى ٱلۡهُدَىٰ لَا یَسۡمَعُوا۟ۖ وَتَرَىٰهُمۡ یَنظُرُونَ إِلَیۡكَ وَهُمۡ لَا یُبۡصِرُونَ} [الأعراف: 198]؛ والمعنى هو: إن تدعوهم أيها المؤمنون بالقرآن، لا يسمعوا؛ لغلبة صفة العدم على سمعهم؛ وتراهم ينظرون إليك (يا محمّد)، بأعينهم الإمكانية، من كونك مظهرا لله ربّك، وهم لا يُبصرون؛ أي لا يُبصرون الحق (الوجود) الظاهر بك. وهذا يعني أن الآيات القرآنية: السمعيّة والبصريّة، لا تكون آيات حقيقة، إلا في حق المؤمنين، عند دلالتها على الأسماء الظاهرة بها؛ وأما في حق الكافرين فليست آيات لانتفاء دلالتها في حقّهم، ولكن يبقى عند انتفاء الدلالة من الآيات، كونها حُجّة على الكافرين بها: يُحاسبون عليها، ويُعاقبون. ولن ندخل هنا في مسألة عدل الله في تعذيب الكافرين على كفرهم، ونكتفي بالإشارة إلى مبدئها، والذي هو زعم الكافر لنفسه أنه على علم، مع اتصافه في الأزل عند الله بصفة الكفر؛ فهذان الملحظان، هما ما يجلب المساءلة على الكافرين. ونحن نريد أن نقول هنا: إن العلماء من أمثالنا، يعلمون الحجة التي لو لُقِّنها الكافر، لدفعت عنه المؤاخذة؛ ولكن لعزّة هذه الحجّة، فإن الكافر إن هو صدّق بها في نفسه، فإنه سينقلب مؤمنا حتما، إن أذن الله له بذلك. فما أحكم الله في أحكامه تعالى!... وما أعدله!... ثانيا: إن الإفراد في العلم أصل، وهو يدل -كما أسلفنا- على الصفة الإلهية؛ وأما الجمع الذي هو "علوم"، فهو جمع للعلوم الإضافية فحسب، وهي من غير شك بالاعتبار الظاهر علوم جزئية. ونعني أن قول القائل: علم كذا، من الأكوان أو من العلوم العقلية كالمنطق والرياضيات، إنما يعني وجها من وجوه العلم فحسب، ولا يعني إحاطةً ما. ونعني من هذا، أن صفة العلميّة التي يزعمها علماء ظاهر الأكوان من الأوروبيّين في البداية، ومن كل العالم فيما بعد؛ هي صفة جزئية في العلم إن صحّت. ويبقى بعد ذلك، كل ما عداها، مما يجهله العالِم بالزعم، مصاحبا لها ورديفا مساوِقا. وهذا يعني أيضا، أن ذلك العالِم، لو قورن علمه إلى جهله أفقيّا؛ أي بالنظر إلى العلوم المجهولة له، لتضاءل، وقارب الصفر. وهذا هو مدلول قول الله تعالى: {وَمَاۤ أُوتِیتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِیلًا} [الإسراء: 85]؛ والقليل، هو ما يُقارب الصفر حقيقة. وهذا المعنى يصدُق على المقارنة في العلم عموديا؛ أي بين العالِم والأعلم؛ وستكون قيمة المعلوم لكلّ عالِم حينها، مقاربة للصفر هنا أيضا. وهذا الذي ذكرناه من معنى الآية الكريمة، لا يُناقض قول الله تعالى وحاشاه: {وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} [آل عمران: 66]؛ لأن الملحظ هنا هو الأصل في المقارنة بين صفة العلم الإلهي، وصفة الجهل الأصلي للمخلوقين؛ أي بين وجود وعدم؛ وليس ترتيبا في مراتب الظهورات العلمية في المخلوقين، لا أفقيّا ولا عموديّا!... وحاشا[9] لله، أن يشتمل كلامه على تناقض، بالمعنى الذي يرومه القاصرون!... د. أصل العلميّة المضلول بها: عندما ضعف إيمان علماء الدين، بسبب غياب التزكية الشرعية، وبسبب الانهزام الحضاري أمام الحضارة الغربية المادّيّة، دلّ إبليس من كانوا يحرصون على المكانة بين الناس، على أن يتحرّوا من بين ما توصّلت إليه العلوم المتعلّقة بالوجوه العدمية، ما يوافق ظاهر الدّين، ليتّخذوا ذلك بابا للدعوة إلى بقاء الدين لدى المسلمين، بحسب المزعوم؛ وهم لم يتفطّنوا إلى ما في طيّ ذلك من الألغام، على عادتهم: 1. إن ما يُبحث له في الآيات من التوافق "العلمي"، شطر من القرآن فحسب؛ وستبقى الأشطار الأخرى، منتظرة لقول فيها، من هؤلاء المدّعين للعلميّة؛ وهو ما سيُعرّض الناس للتوقّف فيها، إن لم يُخالفوها، إذا ما هي "العلمية" المزعومة لم تقبلها، ولو من وجه ما. وعلى الرأس من ذلك كله: القول في الله ربّ العالمين، وهو غير مشهود للكافرين حسّا وعقلا!... وإنّ جلّ ما يَتوصّل إليه العباد في شأنه، هو أن يُستدلّ عليه من باب دلالة الصنعة على الصانع، كما ترى العقول الدنيا؛ أو يستأنسَ مستأنس إلى الإيمان به تحقيقا للطمأنينة اللاحقة بالإيمان، في حدودها الدنيا أيضا. وكلّ هذا، لا يكون مما يدلّ عليه القرآن نفسه في مجمله، أو في تفاصيله مما هو مـُدرَك لأهل المراتب العليا في الدين، من تلك الآيات المعدودة منه ضمن باب الإعجاز "العلمي" الزائف!... 2. وإن نحن نظرنا في الآيات المعتبرة في الإعجاز "العلمي" بحسب القائلين بذلك، فعلى أي شيء ستكون آيات: هل على الأسماء الإلهية، التي يدلّ عليها القرآن الكريم بدءاً من البسملة، عند قوله تعالى: {بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلرَّحِیمِ} [الفاتحة: 1]؟... أم ستكون آيات للدلالة على الأكوان من حيث هي أكوان؛ فتعود الآيات عمى على الناظرين فيها؟... ولنذكّر هنا بقول الله تعالى: {وَلَوۡ جَعَلۡنَـٰهُ قُرۡءَانًا أَعۡجَمِیًّا لَّقَالُوا۟ لَوۡلَا فُصِّلَتۡ ءَایَـٰتُهُۥۤۖ ءَا۬عۡجَمِیٌّ وَعَرَبِیٌّ قُلۡ هُوَ لِلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ هُدًى وَشِفَاۤءٌ وَٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ فِیۤ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٌ وَهُوَ عَلَیۡهِمۡ عَمًىۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ یُنَادَوۡنَ مِن مَّكَانِۭ بَعِیدٍ} [فصلت: 44]. ولنفصّل القول قليلا في ألفاظ الآية المباركة: - {وَلَوۡ جَعَلۡنَـٰهُ قُرۡءَانًا أَعۡجَمِیًّا}: و"لو" هنا حرف امتناع لامتناع؛ والمعنى: لم نجعله أعجميّا. والأعجمي، هو ما لا يُفهِم من الكلام. وهذا يعني أن كلام الله مُفهِمٌ، وهو الإعراب الذي جاء في مثل قول الله تعالى: {إِنَّا جَعَلۡنَـٰهُ قُرۡءَ ٰ نًا عَرَبِیًّا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} [الزخرف: 3]؛ وقد سبق لنا أن بيّنّا في غير هذا الموضع أن العربيّ من الإعراب الذي هو الإفهام، وإن كان الظاهر لا ينفي النسبة إلى اللسان العربي المعلوم من أحد الوجوه، لا من كلّها... - {لَّقَالُوا۟ لَوۡلَا فُصِّلَتۡ ءَایَـٰتُهُۥۤۖ}: فلو جعل الله القرآن أعجميّا، لقال الذين يستمعونه لولا فصلت آياته؛ أي لولا خاطبنا الله بما نعقل!... وهذا مِن نقض الناس لنياتهم. فكأنهم من جهة يطلبون الإفهام، ومن جهة أخرى، يُعرضون عمّا فهموا وكأنهم لم يفهموا، إن هم فهموا... وهذا باب من العلم له متعلَّقات عدّة، أحدها إرادة الناس، التي هي تابعة لاستعداداتهم... - {ءَا۬عۡجَمِیٌّ وَعَرَبِیٌّ}: والهمزة للاستفهام الإنكاري؛ أي: أتريدون القرآن عجميّا عندما لا يُعجبكم خطابه؛ وتريدونه عربيّا إذا كان ما تسمعونه يُعجبكم؟!... - {وَٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ فِیۤ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٌ وَهُوَ عَلَیۡهِمۡ عَمًىۚ}: أما الذين هم في علم الله على نقيض الإيمان، فإنه سيكون بينهم وبين فهم معاني القرآن وقرٌ، بحيث لا يسمعونها حقيقة؛ وعمى، بحيث لا يُبصرونها حقيقة. هذا، مع سماعهم لأصوات الحروف، وإبصارهم لرقمها على صفحات المصاحف. وهذا كقول الله تعالى: {وَلَهُمۡ أَعۡیُنٌ لَّا یُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَانٌ لَّا یَسۡمَعُونَ بِهَاۤۚ} [الأعراف: 179]. وقد جاء لفظ السمع في مواضع من القرآن ويُراد منه الفهم لا السمع المعتاد؛ وهذا، لأن الفهم هو روح السمع، فإذا فقد الروح، صارت الصورة ميتة لا عبرة بها... - {أُو۟لَـٰۤىِٕكَ یُنَادَوۡنَ مِن مَّكَانِۭ بَعِیدٍ}: فهؤلاء الذين لا يؤمنون بالقرآن، وإن تظاهروا بأنهم كانوا يودّون أن يفهموا لو أُتيح لهم ذلك؛ يُنادَوْن إلى لقاء الله، من مكان بعيد. والبُعدُ هنا، كناية عن احتجاب هذا الصنف بظلمتهم الأصلية، وبظلمة الطبيعة. وهذا، لأنه ما من عبد، مؤمن أو كافر، إلا وهو يُنادى إلى ربّه؛ وما منهم إلا وهو مجيب له وملاقيه، لأن هذا النداء نداء قهر؛ ولكن الفرق بين الفريقيْن هو أن المؤمنين يُلبّون النداء من الطريق المستقيم القريب، وأنّ غيرهم يأتون إلى الله من السبُل التي نهى الله عن الإتيان منها، كما أخبر سبحانه في قوله: {وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَ ٰطِی مُسۡتَقِیمًا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُوا۟ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِیلِهِۦۚ ذَ ٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]؛ أي وصاكم به لعلكم تتقون عذابه الذي حقيقته التّيه المعنويّ. وهذا لأن العذاب يطلب أصحاب السبُل، كما يطلب المعلول العلّة، والمـُسبَّب السبب، طلبا ذاتيا تلقائيّا... وأما لقاء الله العام، فقد قال الله تعالى فيه: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلۡإِنسَـٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدۡحًا فَمُلَـٰقِیهِ} [الانشقاق: 6]، والإنسان لفظ عام، يدخل فيه كل أفراد البشريّة؛ لكنّ الفرق بين لقاء ولقاء -كما أسلفنا- هو بين الطّرُق المتبوعة، لا غير!... وتبعا لكلّ ما ذكرنا، فإن الآيات القرآنية، لا تكون آيات إلا في حق من دلّته على الله مباشرة، ومن دون المرور على العذاب الناريّ؛ وأما غيره فإنها تفقد صفة الآيِيّة في حقّه، وكأنه ما سمع ولا رأى... 3. القول في بعض آيات الإعجاز العلمي: وسنذكر هنا بعض الآيات التي نسبها المتأخّرون إلى صفة "العلمية"، أما نحن فقد أبنّا عن معنى العلم والعلميّة فيما قبل. وما سمّاه هؤلاء المتأخّرون "علمية"، هو عندنا من تأويل الله لآيات القرآن. يقول الله تعالى في هذا المعنى: {فَأَمَّا ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمۡ زَیۡغٌ فَیَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَاۤءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَاۤءَ تَأۡوِیلِهِۦۖ وَمَا یَعۡلَمُ تَأۡوِیلَهُۥۤ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّ ٰسِخُونَ فِی ٱلۡعِلۡمِ یَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلٌّ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا یَذَّكَّرُ إِلَّاۤ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ} [آل عمران: 7]. والتأويل الذي كان يبتغيه أهل الزيغ، هو تحقيقه في الواقع بما يوافق أهواءهم، بعد أن كان خبرا يتعلّق به التصديق (الإيمان) والتكذيب (الكفر). ومن هذا التحقيق الذي للقرآن، ما يكون في الدنيا من زمن النزول إلى قيام الساعة؛ وما لا يكون إلا في الآخرة. وتضمّن القرآن للمعاني الدنيويّة والأخروية، هو من قرآنيّته التي هي جمعه، كما هو غير خافٍ... ومما وقع في الدنيا من تأويل القرآن، خروج المخبَرات كما ورد بها الخبر؛ وذلك كتحقق ما جاء في مطلع سورة الروم، من قوله تعالى: {الۤمۤ . غُلِبَتِ ٱلرُّومُ . فِیۤ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَیَغۡلِبُونَ . فِی بِضۡعِ سِنِینَۗ لِلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ مِن قَبۡلُ وَمِنۢ بَعۡدُۚ وَیَوۡمَىِٕذٍ یَفۡرَحُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ} [الروم: 1-4]؛ وقد تحقّق ذلك بعد ست أو سبع سنين من النزول. ولهذه الآيات تحقّقات في كل زمان، بحسب معنى القراءات الذي ذكرناه في محلّه من هذا الكتاب، زيادة على المعنى الأصليّ؛ وهو ما سيجعل المعنى على غير ما يُفهم من ظاهر الكلام بداهة، مع عدم خروجه عن دلالة الآيات ولا بدّ. وهذا من إعجاز الإعجاز، الذي لا يعلمه إلا الراسخون في العلم وأولو الألباب... وقد جاء في هذا المعنى من تأويل القرآن، قول الله تعالى: {بَلۡ كَذَّبُوا۟ بِمَا لَمۡ یُحِیطُوا۟ بِعِلۡمِهِۦ وَلَمَّا یَأۡتِهِمۡ تَأۡوِیلُهُۥۚ كَذَ ٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَٱنظُرۡ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلظَّـٰلِمِینَ} [يونس: 39]؛ والمعنى أنهم ما كذبوك يا محمّد فيما أخبرتهم به؛ ولكن لمـّا لم يفهموا المـُراد، كذّبوا، مِن حرصهم على التأويل. ولمـّا يأتهم بعدُ تحقيق ما أُخبِروا به؛ سواء كان ذلك، مما يقبل التحقيق في الدنيا، أو مما لا يقبله إلا في الآخرة. وعلى كلا الحاليْن، فهم ظالمون لأنفسهم بِعدم إيمانهم؛ لأن العبد لا يشترط على ربّه فهم كل مراده، من كل خطابه؛ بل عليه أن يُصدّقه في كل ما أخبر به على لسان رسوله الذي ارتضاه مبلّغا عنه، صلى الله عليه وآله وسلم... هذا، فحسب!... وهو، كقول الله لرسوله صلى الله عليه آله وسلم عند تنزّل القرآن: {وَلَا تَعۡجَلۡ بِٱلۡقُرۡءَانِ مِن قَبۡلِ أَن یُقۡضَىٰۤ إِلَیۡكَ وَحۡیُهُۥۖ وَقُل رَّبِّ زِدۡنِی عِلۡمًا} [طه: 114]، ونعني أن المـُبَلَّغين، أولى بعدم التعجُّل عند سماع القرآن، من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، الذي هو في أعلى مراتب الإدراك على كل حال!... وعلى هذا المعنى الذي ذكرنا في التأويل، تتخرّج أغلب الآيات التي نسبها الناسبون إلى الإعجاز العلمي؛ ولكن لا بد لنا هنا من أن نصحّح هذه النسبة، ونردّها إلى دلالتها اللفظية كما هي في أصلها. ولسنا نعني، إلا أن من الآيات التي سنقف عندها فيما يأتي بإذن الله، ما هو من قبيل إحداثٍ للعلم بها، مما لم يتسنّ للأولين؛ والمنّة في هذا العلم الحادث، لله وحده، كما كانت قبله؛ وليست لعلماء كافرين لم يعقلوا من الآيات إلا الصور العدمية، ولا إلى علوم زائفة وإن سمّاها أصحابها والمؤمنون بها وبهم "علوما صلبة". وسيأتي الكلام عن صلابة العلوم، في حينه بإذن الله تعالى... (يُتبع)
[1] . نؤثر استعمال مصطلح "العلومية"، على مصطلح "العلمويّة" الركيك، لندل على النسبة إلى العلم. أما النسبة إلى العلم بالإفراد، والتي هي "العلميّة"، فإنه لا يُعبَّر بها عن المعنى المراد للمتأخّرين... |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.