اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2025/03/25 الإنسان القرآن (مقدمة في تفسير القرآن الكريــم) .26.(ج5) الباب الثاني: العلوم المتعلّقة بالقرآن الفصل العاشر: إعجاز القرآن (ج5) (تابع) 4. "الإعجاز العلميّ للقرآن": ونحن لا نوافق على المصطلح، على المعنى المراد منه؛ لما ينجم عنه من التباس في إدراك معاني القرآن، وإدراك كونها علما إلهيّا. بل نحن نرى ما يُسمّيه غيرنا إعجازا علميا، من الإحداث العلمي لله، إن كان حقّا؛ لكن لا ينبغي حصره فيما حُصر فيه، ولا في الوجوه التي تعلّق بها علم "علمائه". ولنتناول الآن آيات، مما أدرجه الناس في باب "الإعجاز العلمي": - وحدة الكون وكون الماء أصلا لكل حياة: وإليها يشير قول الله تعالى: {أَوَلَمۡ یَرَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ أَنَّ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقًا فَفَتَقۡنَـٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَاۤءِ كُلَّ شَیۡءٍ حَیٍّۚ أَفَلَا یُؤۡمِنُونَ} [الأنبياء: 30]. ومعنى الرتق: الشيء المتجانس الذي لا كثرة فيه؛ والفتق: هو إبراز الكثرة المغطّية على التجانس، بعد الوحدة السابقة في الاعتبار؛ وهذا يُبقي بين المخلوقات المختلفة، مشتركات هي أصل الوحدة، ودالة عليها. وهذا، وإن كان ظاهرا لعلماء الطبيعة الآن من علومهم التخصّصيّة؛ إلا أن الأصل فيه، الحقائق الإلهية المسمّاة في القرآن "السنّة الإلهية". ومن علم من الآية الأكوان وحدها، فإنه يشهد على نفسه بالعمى؛ لأن الطبيعة، هي العالم السفلي فحسب؛ حسّا ومعنى؛ ويبقى فوق العالم السفلي عالم الأرواح العلوي؛ ثم عالم الجبروت. وإن الجهل بثلثي ما يتعلق به العلم من جهة الخلْق وحدهم، لهو جهل عظيم!... وأما كون الماء أصلا لكل حياة، والذي هو بين ذرّتيْن للهيدروجين وذرّة للأوكسيجين، فهو يقتضي العلم بصنوف الحيوات؛ وإلا سيبقى العلم منوطا بمرتبة واحدة من الحياة، وهي الحياة البيولوجية. ويبقى في الطبيعة وحدها، ما لا يربطه الناس بالحياة، وهو صنف المعادن، الذي لم نسمع إلى الآن من علمائه بما يدلّ على إدراك حياته. وأما حياة الأرواح، فهي عالم مخصوص، متصل بكل العوالم التي أومأنا إليها، إذ لا حياة في الحقيقة، من كلّ عالَم، إلا بالأرواح. وما يجدر أن يُبحث، هو صلة الأرواح بالجسم المسمّى ماء؟ ولِمَ جعل الله الماء أصلا للأجسام الحيّة؟ وهل الماء هو الجسم الكلّ الذي تكلم عنه الفلاسفة، أم هو غيره؟ فإن كان هو فكيف؟ وإن كان غيره فكيف؟... وما ينبغي أن نشير إليه في تركيب الماء، هو أنه خُلِق على صورة زوْجَيْن، كما أخبر الله تعالى عن كل مخلوقاته، بقوله: {وَمِن كُلِّ شَیۡءٍ خَلَقۡنَا زَوۡجَیۡنِ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49]؛ ونقصد هنا الهيدروجين والأوكسيجين. وليتنبّه القارئ إلى اسم السورة "الذاريات"، الذي هو اسم للملائكة التي تذرو. ومعنى "ذَرَا، يَذْرُو"، هو نثَرَ الذّرّات، كما هي معلومة لنا اليوم؛ لا كما كانت معلومة للأوّلين وحدهم. وإنّ زوْجَيْ، الهيدروجين والأوكسيجين، من حيث النوع، هما كالمقدّمتيْن العقليتيْن اللتيْن هما أساس الإنتاج الفكري؛ وكالذكر والأنثى من عالم الحيوانات، اللذيْن يكون عنهما النسل... ومن عجائب قدرة الله، أن مخلوط الهيدروجين والأوكسيجين، والمسمّى "أوكسيهيدروجين" (Oxyhydrogen)، هو مخلوط انفجاري، بالنسبة الجزيْئيّة: 1:2؛ وهي النسبة ذاتها التي يتكوّن عنها الماء السائل، عند الظروف القياسيّة من الضغط ودرجة الحرارة. وأما تجمّد الماء، فيكون عند درجة التجمّد (0 درجة)؛ وتحوّله إلى غاز فيكون عند درجة الغليان (100 درجة). وينفجر مخلوط الأوكسيهيدروجين، بالنسبة الجزيْئيّة 1:2، من ذاته، عندما تصل درجة حرارته: 570 درجة مئويّة، وعند الضغط الجوّي القياسي (1 بار بالتقريب). وأقل شرارة تُحدث الاحتراق، ينبغي أن تبلغ 20 ميكروجول؛ ويُمكن حرق المخلوط وفق حرارة الغرفة، عند بلوغ الهيدروجين بين 4 في المائة، و95 في المائة من الحجم. يتحوّل المخلوط، إلى بخار ماء بالاشتعال، وتنتج عنه حرارة (تفاعل ناشر للحرارة)، تعمل على استمرار الاشتعال. وينتج عن تفاعل 1 مول[1] من الهيدروجين: 241,8 كيلوجول، من الطاقة. ولا يعتمد مقدار الطاقة الناتج، على طريقة الاشتعال، ولكن درجة حرارة الشعلة قد تختلف... ولعلّ قول الفيزيائيّين بـ "الانفجار الكبير"، من الناحية المعرفيّة[2]، عائد من أحد وجوهه، إلى اعتبار الاشتعال من مخلوط الأوكسيهيدروجين؛ وأما القرآن فإنه أثبت المائيّة، التي هي أصل لكل حياة؛ وهي قد تكون بغير الاعتبار الأول. والانفجار الكبير عند الفيزيائيّين، لا يتعلّق بالانفجار حقيقة، وإنما هو انفجار معنوي؛ يرون أن العالم كان فيه نقطة عالية الكثافة، ثم انفجر وبدأ بالتمدّد. ونحن لا نوافقهم على جعل المعنى، ذا مدلول مادّي، من غير أن يعقلوا الحدّ الفاصل في هذا الانفجار، بين مادّته ومعناه. ونحن نقول هذا، لأننا نعلم أن الفيزيائيّين لا يعقلون من العالم إلا المادة؛ وإن الانفجار بالمعنى المادّي وحده، لا ينتج عنه العالم بما هو مجموع أصناف لموجودات، يختلف بعضها عن بعض من حيث مراتب حياتها، ومن حيث مراتب وجودها. ومما يجمع بين معنى المائيّة والانفجار، إخبار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم، عن تآلف النار والثلج في خَلْق أحد الملائكة، بقوله: «إِنَّ لِلَّهِ مَلَكاً نِصْفُهُ مِنَ النَّارِ وَنِصْفُهُ مِنَ الثَّلْجِ، يَقُولُ: اَلَّلهُمَّ كَمَا أَلَّفْتَ بَيْنَ الثَّلْجِ وَالنَّارِ، كَذَلِكَ َأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِ عِبَادِكَ الصّالِحِينَ!»[3] . وهذا الحديث من الإعجاز النبويّ من غير شك، وهو دالّ على القدرة الإلهية كما أسلفنا، وعلى ارتباط الحسّ بالمعنى، الذي تدلّ عليه خلقة الملَك المذكور من جهة، ويدل عليه دعاؤه وتسبيحه من الجهة الأخرى. فما أعظم الله! وما أحكمه!... - نشأة الكون (مخلوقيته): يقول بعض الفلكيّين: إن مادة الكون بدأت غازا منتشرا خلال الفضاء (هو عندنا الخلاء) بانتظام، وإن المجموعات الفلكية خُلقت من تكاثف هذا الغاز. ولقد تكلّمنا نحن عن هذه المسألة ضمن الباب الأول من هذا الكتاب، عند ذكرنا لخلق العرش فما دونه؛ مما يُطابق قول الفلكيّين من نظريّتهم التي ما تزال قاصرة، بسبب عدم علمهم بما هو سابق على خلق الزمان الناتج عن حركة الأفلاك. وهذا، لأن القائلين منهم بالانفجار الكبير، يجعلونه نقطة الصفر (البدء) زمانا ومكانا. وهو غلط شنيع!... يقول الله تعالى: {مَّاۤ أَشۡهَدتُّهُمۡ خَلۡقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَا خَلۡقَ أَنفُسِهِمۡ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلۡمُضِلِّینَ عَضُدًا} [الكهف: 51]. وهذا يعني أن من غاب عن خلق السماوات والأرض، وعن خلق الإنسان وإنزاله إلى الأرض، لن يتمكّن من العلم بحقيقة هذا الخلق: كيف بدأ، وكيف تطوّر... لذلك، فنحن نجزم بعدم تمكّن علماء الفلك، من العلم بحقيقة خلق الكون؛ وإنّ أقصى ما تتوصّل إليه عقولهم، هو التنظير التأويلي، الذي يُقاربون به بعض الأصول؛ زاعمين أنهم مع تطوّر "علمهم"، سيصلون يوما ما إلى الحقيقة؛ وهيهات!... وإنّ كل ما وصلوا إليه من افتراض وتنظير إلى الآن، سبق لنا أن ذكرنا عنه أنه تعبير طفولي عمّا يكون بداية للخلق. وأما الربّانيّون، فإنهم إن تكلّموا عن خلق الكون، كما فعل شيخنا الأكبر عليه السلام، فإنهم يعلمون ذلك من علم الله؛ ونعني أنهم عند علمهم ذاك، يكونون شاهدين لذلك الخلق؛ فيخرجون من زمرة من تعلّق بهم النفي الإلهي لإشهاد الخلق، ويدخلون في شهود الحق نفسِه، عند خلق خلقه. وإن هذا المستوى من العلم، هو المعتبر، وهو ما يُؤسَّس عليه عند الكلام في هذه المسألة؛ وكل علم سواه، فهو ظن. والله يقول في مرتبة الظنّ: {وَمَا یَتَّبِعُ أَكۡثَرُهُمۡ إِلَّا ظَنًّاۚ إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا یُغۡنِی مِنَ ٱلۡحَقِّ شَیۡـًٔاۚ} [يونس: 36]. وإن الدليل على أن جُلّ ما يُسمّيه علماء الأكوان علما، لا يعدو أن يكون ظنّا؛ هو إقرارهم بتطّور "النظريّات العلميّة"، وبتبدّلها أحيانا، فتكون الثانية ناقضة للأولى أو مغيّرة لها. ولن يتمكّن أحد من العقلاء، من زعم أن ما يقع له ذلك النقض أو التغيير، يكون من صنف العلم الحق!... ومن هنا يظهر جليّا تهافت "علماء الطبيعة" بكل فِرقهم، وتهافت من يتمسّكون بهم، بدل أن يتمسّكوا بالحق الذي نزل من عند الله، على أول مخلوق له تعالى: مرتبة ومكانة؛ فأنطقه الله بالقرآن، من داخل الزمان والمكان، بما لا يُتصوَّر إلا من الله حصرا. وهذا المعنى المخاطِب لكل المخلوقين من دون استثناء، هو ما جاء في قول الله تعالى: {لَقَدۡ جَاۤءَكُمۡ رَسُولٌ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِیزٌ عَلَیۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِیصٌ عَلَیۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِینَ رَءُوفٌ رَّحِیمٌ} [التوبة: 128]، وجمع المخاطَب "كُمْ" هم جميع الخلق من رؤساء الملائكة، إلى السماوات والأرض، وما بينهما. وعلى هذا يكون معنى قوله سبحانه {مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ} عاما لجميع أصناف الخلق. ولقد ذهل عوام علماء الدين وسائر الناس من بعدهم، عن هذا المعنى، لانحجابهم باللسان الذي نزل به القرآن من جهة الظاهر، فتوهّموا أنه محصور في جنس الإنسان، وعلى الأخص فيمن يفهم اللسان العربي (العرب). وهذا معنى بعيد عن حقيقة كلام الله، المـُخاطِب لجميع أصناف الخلق، بما يُناسبهم. فمثلا، إن الخطاب التكليفي المخصوصَ به الجن والإنس وحدهم، لا يكون تكليفيّا في حقّ الملائكة، ولا النباتات والمعادن وسواهم؛ ولكن يُنتج لهم علما في أنفسهم بتكاليف الإنس والجن، ينتفعون به إن هم علموه، ويندرج ضمن معرفتهم بربّهم. ولنضرب مثلا بسيطا هنا، نقيّد به المعنى في أذهان الناظرين لكلامنا، وهو الدساتير والقوانين التي تخصّ الدول: فهل ينتفع الداخل إلى دولة ما، بعلمه بقوانينها، إن كان دخوله عابرا؟ أم لا؟... والجواب هو: من غير شك سينتفع انتفاعا عظيما؛ وذلك في المرتبة الأولى، لأنه سيتمكّن من اجتناب المحظورات المهلكة في ذلك البلد!... فليُقس على هذا المثال، ما ذكرناه عن انتفاع المخلوقين من غير المكلّفين، بالخطاب التكليفي النازل على الإنسان، مع عمومه لخصيصة لديه، الجنَّ معه؛ مع ثبوت اختلاف الصنفيْن من جهة الطبيعة. ولم نر -وهو قد يوجد- من بحث من الفقهاء، في الفقه المخصوص بالجن؛ وكيف يكون وضوؤهم، وهم أجسام ناريّة؟... وهذا باب، لو خُدِمَ، لانتفع منه الإنس من جهتهم، لا من باب التكليف المنوط بهم!... وإن في انفجار خليط الأوكسيهيدروجين، ما يدلّ على هذا الأصل في فقه الجنّ... وأما قول الله تعالى: {ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰۤ إِلَى ٱلسَّمَاۤءِ وَهِیَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلۡأَرۡضِ ٱئۡتِیَا طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهًا قَالَتَاۤ أَتَیۡنَا طَاۤىِٕعِینَ} [فصلت: 11]، فقد تكلّمنا عنه في موضعه من الباب الأول من الكتاب؛ وسنذكّر هنا بما يليق بهذا الموضع، وهو أن الخطاب ضمن الغاز المتجانس الذي جعله الله أصلا للكون، كان لحقائق السماء والأرض، وقبل أن تظهر أعيانهما؛ عندما كانتا في ذلك الغاز كما تكون البذور مطمورة في التربة قبل إنباتها. وقولهما بلسانهما {أَتَیۡنَا طَاۤىِٕعِینَ}، هو عينه ظهور أعيانهما كما هي معلومة للعالِمين الآن؛ وهذا بعد تحقُّق السماع منهما لفعل الأمر بالإتيان {ٱئۡتِیَا طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهًا} من قِبل الله الخالق وما يتبع الاسميْن من الأسماء المرؤوسة. وأما ذكر الطوع والكره، فليس من باب التخيير، كما يُعطي اللسان عموما؛ ولكن هو من القهر، فيكون معناه: اِئْتِيا، فإنه لا خيار لكما إلا الإتيان؛ وهو من أساليب القصر الحقيقي في علم البلاغة والبيان. وهذا الأمر من الله، والائتمار من المخلوقين، هو ما يذكره الله تعالى في مثل قوله: {إِنَّمَاۤ أَمۡرُهُۥۤ إِذَاۤ أَرَادَ شَیۡـًٔا أَن یَقُولَ لَهُۥ كُن فَیَكُونُ} [يس: 82]؛ والشيء كما كنّا نقول دائما: هو أعمّ النكرات، لذلك فهو يعمّ جميع الأجناس وجميع الأشخاص (الأفراد). والقول من الله قول للحقائق الإمكانية في حال عدمها؛ تسمعه بإقدار الله لها، وتعقله؛ فتكون عند بروز أعيانها على الصفات التي كانت عليها في العلم، وتصير مشهودة للشاهدين؛ وذلك بحسب مرتبة طبقتها، وبحسب من يُؤذَن لهم في شهودها والعلم بها. ونحن نقول هذا، لأن علم العالِم لا يُحيط بجميع طبقات الخلق ومراتبهم، ولا بجميع أفرادهم؛ إلا القطب الغوث في زمانه، وعلى نوع إحاطة مخصوصة به؛ لا على الإحاطة التي لله تعالى في علمه، والتي يقول عنها: {وَخَلَقَ كُلَّ شَیۡءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمٌ} [الأنعام: 101]. وللقارئ أن يستشف من وراء ما ذكرنا صنوف الغيب وتراكب طبقاته، انتهاءً إلى العلم بالغيب والشهادة المحيط، الذي لا يكون إلا لله وحده. يقول الله تعالى عن نفسه: {عَـٰلِمُ ٱلۡغَیۡبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ ٱلۡكَبِیرُ ٱلۡمُتَعَالِ} [الرعد: 9]، سبحانه، سبحانه!... - شكل الأرض: يقول الله تعالى: {خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۖ یُكَوِّرُ ٱلَّیۡلَ عَلَى ٱلنَّهَارِ وَیُكَوِّرُ ٱلنَّهَارَ عَلَى ٱلَّیۡلِۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلٌّ یَجۡرِی لِأَجَلٍ مُّسَمًّىۗ أَلَا هُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡغَفَّـٰرُ} [الزمر: 5]. وقد ورد لفظ التكوير في هذه الآية وفي غيرها، ليدل على شكلها، وعلى شكل الأجرام الأخرى كوكبيّة كانت أم نجميّة. وإننا لنعجب لقوم، ما يزالون يجادلون في كرويّة الأرض، مع دلالة القرآن عليها صراحة؛ والله المخبر عن ذلك يقول عن نفسه سبحانه: {أَوَلَمۡ یَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءٍ شَهِیدٌ} [فصلت: 53]، وشهيد هنا بمعنى "شاهد"؛ أي إنه سبحانه إذا أخبر عن شيء فعن شهود. فكيف يشك قوم في المـُخبَر به، وهو كما دلّ عليه الله؟!... غير أن شكل الأرض، ليس على الاستدارة التامة، أو الكرويّة التامة؛ بل هو شكل قريب من ذلك؛ حتى لقد عبّر عنه أحدهم بشكل حبّة البطاطس. والمقصود من هذا، أن شكل الأرض مركّب، من حيث جسمها، ومن حيث مدارها؛ وهذا يعني أن من أراد أن يحسب شيئا من ذلك، بدقة، فعليه أن يكون عالما بتفاصيل ذلك التركيب. وهذا التركيب، عامّ في الأجسام الطبيعية، حتى ليعدّ وحده من الإعجاز الإلهي فيها. فمن أراد أن ينظر إلى جبل فإنه لن يجده مثلثا بسيطا، ولكن يجده مجموعة من الأشكال المتداخلة والمختلفة الأحجام (ما بين كبير ومتوسط وصغير)؛ وهكذا، فليُنظر إلى كل جسم طبيعي... ولقد رأينا أحد الفلكيّين وهو يصف بقايا آلة صنعت بمدّة قبل ميلاد المسيح عليه السلام[4]؛ فلما صنعوا على غرارها، وجدوها، تصحح الفوارق الزمنية بين مئات السنين وآلافها، بما هو من قيمة الساعات والدقائق والثواني؛ من دون أن يعلم علماء العصر، كيف توصّل أولئك الناس إلى ذلك الحساب الدقيق. ومن أجمل ما سمعت من ذلك العالم الذي درس تلك الآلة، أنّ من صنعوها، لا يفكّرون بطريقتنا ذاتها!... وتصحيح الزمان، في المدد الطويلة، يدل على أن الأجرام الفلكيّة، والأفلاك ذاتها، ليست على تمام الاستدارة الهندسية، بل هي مركّبة تركيبا لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم. ولهذا، فإن من لم يراع ذلك، عند الحسابات الفلكيّة المختلفة، فإنه يكون مجازفا ومقاربا فحسب. ومن تتبع الأمر في الواقع، فإنه سيجده كما ذكرنا... وأما الذين يصرّون على كون الأرض مسطّحة، ويستدلّون بمثل قول الله تعالى: {وَإِلَى ٱلۡأَرۡضِ كَیۡفَ سُطِحَتۡ} [الغاشية: 20]، فإن ذلك باعتبار الإنسان الذي جُعلت له؛ ونعني باعتبار حجم الإنسان، الذي سيجدها مسطّحة، لصغر حجمه. وأما هي في نفسها، فهي مكوّرة كما أسلفنا. وأما قول الله تعالى: {وَٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ ذَ ٰلِكَ دَحَىٰهَاۤ} [النازعات: 30]، فإن الدحو المذكور فيها، هو التمهيد لا التسطيح؛ والدحو هو ما يجعل الأرض مناسبة لسكن الإنسان عليها... ثم إن الأفلاك مجموعة منظومة، تحكمها القوانين الفيزيائيّة ذاتها؛ فلا يمكن أن تكون الشمس والقمر وسائر الكواكب ضمن مجموعتنا مكوّرة، وتكون الأرض وحدها مسطّحة؛ لأن ذلك لا يستقيم!... وأما قول الله تعالى: {بَلۡ مَتَّعۡنَا هَـٰۤؤُلَاۤءِ وَءَابَاۤءَهُمۡ حَتَّىٰ طَالَ عَلَیۡهِمُ ٱلۡعُمُرُۗ أَفَلَا یَرَوۡنَ أَنَّا نَأۡتِی ٱلۡأَرۡضَ نَنقُصُهَا مِنۡ أَطۡرَافِهَاۤۚ أَفَهُمُ ٱلۡغَـٰلِبُونَ} [الأنبياء: 44]، فإنه يدل على أن الأرض من جهتَي قُطبيْها هي مسطّحة قليلا؛ ويدل على أن ذلك التسطيح متزايد مع المدّة، بما يجعل أطراف الأرض عند الحافة تتناقص. ولقد توصل علماء الفلك المحدثون، إلى أن النسبة بين قطريِ الأرض تتناقص باستمرار. وهذا جدير بأن يُعدّ من قبيل الإعجاز القرآني التأويلي، الذي أثبتناه فيما قبل... - حركة الليل والنهار: الليل والنهار آيتان؛ يقول الله تعالى عنهما: {وَجَعَلۡنَا ٱلَّیۡلَ وَٱلنَّهَارَ ءَایَتَیۡنِۖ فَمَحَوۡنَاۤ ءَایَةَ ٱلَّیۡلِ وَجَعَلۡنَاۤ ءَایَةَ ٱلنَّهَارِ مُبۡصِرَةً لِّتَبۡتَغُوا۟ فَضۡلًا مِّن رَّبِّكُمۡ وَلِتَعۡلَمُوا۟ عَدَدَ ٱلسِّنِینَ وَٱلۡحِسَابَۚ وَكُلَّ شَیۡءٍ فَصَّلۡنَـٰهُ تَفۡصِیلًا} [الإسراء: 12]. وعلى معنى "الآية" الذي قررناه سابقا، فإن الليل والنهار ينبغي أن يدُلّا على اسميْن إلهييْن مخصوصيْن، وليسا إلا: الظاهر والباطن. فالليل آية على الاسم "الباطن"، والنهار آية على الاسم "الظاهر". وبما أن البطون في حقّ الله تعالى، سابق على الظهور في المرتبة، فإن الليل خُلِق سابقا على النهار، وهو ما سمّاه الله في الآية محوا؛ من كون المـَمْحُوِّ ينبغي أن يكون أوّلا. ومن سعة دلالة الألفاظ القرآنية، فإن المحو يعني أيضا محو أعيان الأشياء عند إسدال الظلام عليها ليلا؛ حتى لتبدو وكأنها لم تكن. وأما آية النهار التي جعلها الله مبصِرة، فلأنها تُتيح إبصار المخلوقين فيها للأشياء الظاهرة بالاسم "النور" الذي تكون الشمس مظهرا له، فيميّزوا عندها بين الأشياء المختلفة من حيث الأحجام والألوان والمسافات. وقد خصّ الله النهار بالعمل، للأسباب المذكورة كلّها؛ ومن هنا يُعلم أن العمل في الليل هو مخالف لأصل فطرة الإنسان؛ ويُعلم أن إضاءة المدن، حتى يعود أمر الليل فيها كالنهار، هو أيضا مخالف للأصل. وما خالف الأصل، فإنه ينتج عنه أمراض عقلية (نفسية)، وأمراض متعلّقة بوظائف الأعضاء، لا يتمكّن أحد من إنكارها؛ خصوصا إن كان من علماء الطبّ. وإن الأمراض الناتجة عن الانحراف الحاصل عن أصل النشأة، لا علاج لها إلا العودة إلى اعتبار حكمة الله في خلقه. وإن هذه العَوْدة التي نتكلّم عنها، قد لا تكون دائما طبيعيّة، بل قد تكون اصطناعيّة، بحسب تطوّر العلوم المختلفة. وأما المهدّئات، وما يُعدّل بعض وظائف الأعضاء، فإنه علاج وقتي، لا يلبث أن يقلّ مفعوله؛ وهو ما يتطلّب الزيادة في الجرعات، التي قد تنشأ عنها أمراض خطيرة، من قبيل ما هو شائع في زماننا. نسأل الله العافية والسلامة لنا، ولجميع المسلمين... وبتعاقب الليل والنهار، تنشأ الحوادث المختلفة على الأرض. يقول الله تعالى عن ذلك: {إِنَّ فِی خَلۡقِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَـٰفِ ٱلَّیۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلۡفُلۡكِ ٱلَّتِی تَجۡرِی فِی ٱلۡبَحۡرِ بِمَا یَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مِن مَّاۤءٍ فَأَحۡیَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَبَثَّ فِیهَا مِن كُلِّ دَاۤبَّةٍ وَتَصۡرِیفِ ٱلرِّیَـٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلۡمُسَخَّرِ بَیۡنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِ لَـَٔایَـٰتٍ لِّقَوۡمٍ یَعۡقِلُونَ} [البقرة: 164]، والاختلاف، هو التعاقب؛ كقولنا: إن الناس يختلفون إلى السوق كل يوم؛ أي يذهبون إليه على الأقل مرة في اليوم. وإن تعاقب الليل والنهار، ينشأ عنه اليوم الأرضيّ[5]، والذي هو أربع وعشرون ساعة. تزيد فيها ساعات الليل في الشتاء، وتزيد ساعات النهار في الصيف؛ وهو ما سمّاه الله إيلاجا، بأحد المعنييْن. يقول سبحانه وتعالى: {ذَ ٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ یُولِجُ ٱلَّیۡلَ فِی ٱلنَّهَارِ وَیُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِی ٱلَّیۡلِ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِیعُۢ بَصِیرٌ} [الحجّ: 61]. فهذا الذي ذكرناه هو الإيلاج الأكبر، ويوجد في مقابله إيلاج أصغر، تكلم عنه شيخنا الأكبر عليه السلام، يكون بين ساعات الليل وساعات النهار، بحساب لا يعلمه إلا أهل الكشف؛ عنه تكون الأحداث في الأيام، وتختلف الشؤون والأحوال. وليلاحظ القارئ أن الآية، من سورة الحج، الذي هو العمل الشرعيّ المخصوص بالسّنة؛ وهذا من المناسبة. وأما الإيلاج الأكبر، فتكون عنه أحداث السنوات، والتي ذكر الله تعالى منها في الآية من سورة البقرة: جريان الفلك في البحر بما ينفع الناس، وما ينزل من السماء من ماء فتحيا الأرض بسببه بعد موتها، ونشر الدواب التابع لتزاوجها وتناسلها، وجريان الرياح بما يشاء الله من تصاريف الأحوال، وغير ذلك مما هو دقائق هذه الأمور كلّها، التي هي آيات دالات على أسمائها المخصوصة. وكما نبّهنا سابقا، فإن من لا تدله الآية، على اسمها المخصوص، لا تكون في حقّه آية؛ وإنما هي كذلك في حق غيره العالِم. ومن هنا يعلم العبد مقدار علمه ومقدار جهله؛ أي بحسب علمه بالآيات وأسمائها. وهل يستوي من ينسب كل الآيات إلى الله (الجامع) إيمانا، بمن يعلم تفاصيل الآيات وتفاصيل الأسماء؟!... يقول الله تعالى: {أَفَمَن یَعۡلَمُ أَنَّمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ كَمَنۡ هُوَ أَعۡمَىٰۤۚ إِنَّمَا یَتَذَكَّرُ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ} [الرعد: 19]... ولا ينبغي للقارئ أن يخفى عنه معنى الإيلاج المذكور في القرآن، والذي هو النكاح الأكبر؛ وكما يكون عن الإيلاج من مستوى الحيوانات نسل، فكذلك يكون عن إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل، ما يحدث على الأرض من أحداث صغيرة أو كبيرة. فمن زلازل وبراكين وفيضانات، وتولية حكم بلد بعينه لشخص بعينه، أو عزله عنه، إلى ميلاد مخلوقات أو موتها، إلى ما يعتريها بين مولدها وموتها من أحوال تختلف عليها... وقد اعتنى أهل التنجيم بعلم الحوادث من حساباتهم الفلكيّة، ولكنّ هذا العلم يكاد يندثر في زماننا، ولا يكاد يبقى منه إلا عموميات؛ بسبب طغيان منطق "العلومية" على العلوم المعلومة للناس فيما قبل... وإنّ كثيرا مما يُخبر به من يدّعون علم التنجيم اليوم، إن لم يكونوا على علم فيه بالتفاصيل، لا يكون إلا عموميات، قد تصدق على عمومها فحسب. وإنّ مِن جهل المتأخّرين بعلم التنجيم، أن سمعت مرّة أحد المحللين السياسيّين، يصف تحليله بأنه علميّ وليس تنجيما!... وهو لم يعلم أن التنجيم علم أدق في صفة العلميّة من علم السياسة!... نعوذ بالله من الجهل والجهالة!... - تثبيت الجبال للأرض: يقول الله تعالى: {وَأَلۡقَىٰ فِی ٱلۡأَرۡضِ رَوَ ٰسِیَ أَن تَمِیدَ بِكُمۡ وَأَنۡهَـٰرًا} [النحل: 15]؛ والإلقاء هنا بمعنى الجعل. والرواسي هي الجبال، من كونها سببا لرسوّ طبقات الأرض. وقد عبّر عنها سبحانه في آية أخرى بالأوتاد، فقال جلّ من قائل: {وَٱلۡجِبَالَ أَوۡتَادًا} [النبأ: 7]؛ ومعنى كونها أوتادا، هو نزولها في باطن الأرض، بما يكفل أن تؤدّي وظيفة الأوتاد، وهي تثبيت طبقات الأرض. وقد توصّل علماء التكتونيا، من باب تأويل هذه الآيات، إلى أن الجبال أحيانا يفوق عمقها الذي لا يُرى، ارتفاعها فوق الأرض المرئيّ... ولقد طابق علماؤنا الأسبقون، في كثير من المظاهر، بين الأرض وجسم الإنسان، إذا اعتبرناها جسما وسطا، بين جسم الإنسان والجسم الكلّ. فكانت الجبال، نظيرا للعظام التي يتماسك بها الجسم؛ كما كانت الأنهار المذكورة معها في الآية من سورة النحل نظيرا للأوعية الدموية. ومن شاء أن يستمر في تحقيق المضاهاة، فإنه سيجد لها مظاهر أخرى، ينفعه تبيّنها، وقد يهتدي بها إلى بعض الأسرار، بإذن الله تعالى... - الشمس والقمر: والشمس كما هو معلوم نجم، وأما القمر فهو كوكب مظلم يعكس نورها ليلا، عندما تكون في مواجهته. ونعني من هذا، أن نور الشمس في النهار، يكون مباشرا؛ وفي الليل يكون بواسطة القمر. وقد أخبر الله عن اختلاف إنارة الشمس والقمر فقال سبحانه: {تَبَارَكَ ٱلَّذِی جَعَلَ فِی ٱلسَّمَاۤءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِیهَا سِرَ ٰجًا وَقَمَرًا مُّنِیرًا} [الفرقان: 61]، والسراج هو ما يكون نوره عن اشتعال، والمنير هو ما يكون عن عكْس للأشعّة. ويقول الله أيضا عن الشمس: {وَجَعَلۡنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} [النبأ: 13]؛ والمعنى هو أن الشمس قائمة على الاحتراق وإنتاج الطاقة، وانقسام الطاقة فيها إلى ضوء وحرارة... يقول الله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِی جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِیَاۤءً وَٱلۡقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُوا۟ عَدَدَ ٱلسِّنِینَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَ ٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ یُفَصِّلُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ لِقَوۡمٍ یَعۡلَمُونَ} [يونس: 5]، ففرّق سبحانه بين الضياء والنور؛ فعلمنا أن الضياء (المسمّى عند الفيزيائيّين ضوءا)، هو الأصل الذي لا يُطيق الإنسان النظر إليه من دون واسطة؛ وأن النور هو ما يُطاق النظر إليه. وعلمنا بالتجربة، أن النظر إلى الضياء، يعود عمى؛ لأن العين لا ترى إلا في مجال مخصوص، محصور بين عتبتيْن، فإذا تعدّت قوة الضوء ذلك المجال، انتفى الإبصار. وأما النظر إلى النور (القمر)، فإنه يكون مريحا للعيْن، ومتيحا للتملّي والإمعان. أما النظر إلى الأجسام التي ينعكس عليها الضوء والنور، فلا شك أنه يكون تحت ضوء الشمس في وقت النهار، أشدّ وضوحا، منه في وقت الليل، وعندما يكون تحت نور القمر... ولنلاحظ كيف أن الله قد ربط جريان الشمس بالأبراج السماوية، التي عددها اثنا عشر. وقد سبق أن ذكرنا أن الاثني عشر هي نهاية مراتب العدد، وكل عدد بعدها هو واقع ضمنها؛ والحركة المناسبة لاستمرارها، هي الدوران. لهذا كانت دورة الشمس تستغرق سنة، ثم تعود من حيث بدأت... وأما القمر، فقد ربطه الله بالمنازل، التي عددها ثمانية وعشرون، وهي تابعة في وجودها للأبراج. والأبراج والمنازل، باعتبار جريان الشمس والقمر فيها، تدلّ على الحساب الفلكي، الذي يكون عنه بإذن الله تعالى خلق الحوادث على الأرض. وكما أرجعنا في فقرة سابقة الليل والنهار إلى البطون والظهور، فإننا نُرجع هنا الشمس والقمر إلى الاسم "النور". غير أن النور منه نور الحق، الذي يُرى به ولا يُرى؛ فهو كضياء الشمس. ومنه نور النبوة، الذي يُرى ويُرى به؛ فهو كنور القمر. وإن كل مَن عرف الحقّ من العارفين، فإنما يرى نوره في حقيقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا كما يتوهم أنه يراه كفاحا. وهذه أعظم منّة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، على العارفين؛ إذ لولاه ما تمكنوا من معرفة ربهم معرفة شهود. وأما مواجهة نور الحق مباشرة، فلا تكون إلا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحده، ولا يُطيقها إلا هو بإطاقة الله له. وهذا المعنى هو ما عبّر عنه صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: «حِجابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَها لَأَحْرَقَتْ سُبُحاتُ وَجْهِهِ كُلَّ شَيْءٍ أَدْرَكَه بَصَرُهُ.» [6]. والمعنى هو أن كل ذي بصر، لو أبصر الحق من غير واسطة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، لعاد إلى العدم الذي كان فيه. وهذا هو معنى إحراق ذاته، عند إبصاره سبحات الذات الإلهية. وهذا هو المعنى الذي نحوم حوله دائما، من كون العلم لا يكون إلا عند الإبصار عينا أو عقلا؛ ولا يكون ذلك الإبصار إلا بنور النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيه. فما أعظمه من فضل، رزقنا الله شكره!... وهذا الذي نذكره، هو ما يُشير إليه عجُز الآية السابقة من سورة يونس، عند قول الله تعالى: {مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَ ٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ یُفَصِّلُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ لِقَوۡمٍ یَعۡلَمُونَ}، ومعنى بالحق: بالوجود الحق؛ لأنه لولا الوجود ما ظهرت الممكنات. كل ذلك تفصيل للآيات، وتمييز للمراتب التي تعود إليها الأسماء الظاهرة بمظاهرها؛ لكن لقوم يعلمون، لا لغيرهم. ومعنى يعلمون: أي يعلمون مراتب الحق في المظاهر الكونيّة. وهكذا، فإن مراتب الحق تكون نظير الأبراج؛ ومراتب الخلق (الإمكان) تكون نظير المنازل. وهذا يجعل الأبراج حقّيّة، ويجعل المنازل نبويّة؛ حكمةً إلهية... - التقويم الشمسي والقمري: الفرق بين التقويم القمري والشمسي في الحساب، ما بين عشرة أيام وأحد عشر يوما في السنة، ومن هنا فإن ثلاثمائة عام شمسية، تعادل تماما ثلاثمائة وتسعة أعوام قمرية. وقد ذكر الله هذا الفرق بدقة في قوله تعالى: {وَلَبِثُوا۟ فِی كَهۡفِهِمۡ ثَلَـٰثَ مِا۟ئَةٍ سِنِینَ وَٱزۡدَادُوا۟ تِسۡعًا} [الكهف: 25]. وإن التفريق في ذكر مدّة اللَّبْث وذكر ما يزيد عليها، هو تفريق بين الحساب بالتقويم الشمسي، والحساب بالتقويم القمري. وقد ذكر الله الحساب بعمومه، في قوله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِی جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِیَاۤءً وَٱلۡقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُوا۟ عَدَدَ ٱلسِّنِینَ وَٱلۡحِسَابَۚ} [يونس: 5]، فأناط سبحانه الحساب، بالشمس والقمر معا؛ وهو ما يُعلم عند الناس بالملاحظة، وبحسب الثقافة أو الدين. ونعني من الدين أن اليهود والمسلمين يتبعون في حسابهم حركة القمر لسرّ يخصهم، بخلاف النصارى الذين يعتمدون التقويم الشمسي أيضا لسرّ يخصّهم. وأما ما تسرب إلى المسلمين في زماننا، من تقليد النصارى في الحساب، فهو من أثر الاستعمار، ومن أثر الهزيمة الحضاريّة، التي ما تزال مستمرّة إلى الآن... - الجنّ والشهب: إن الجن كما هو معلوم، عقول مدبِّرة لأجسام ناريّة؛ كما هم الإنس عقول مدبِّرة لأجسام طينيّة. وبما أن الأجسام الناريّة، لها خاصيّة الارتفاع في الجوّ، بعكس الأجسام الطينيّة الثقيلة؛ فإن الجنّ كانوا يقاربون السماء الدنيا، ليسترقوا السمع إلى كلام الملائكة، العامرين لكلّ السماوات. وهذا من جهة، ليعلموا بعض الحوادث التي ما تزال لم تتحقّق على الأرض، ومن باب فضولهم في أنفسهم؛ ومن جهة أخرى ليستعملوا بعض تلك العلوم، في تقوية جانب الكهنة والعرّافين، من أجل التحكّم في الإنس المصدّقين بهم. ولقد كان بعض الإنس، خصوصا قبل البعثة المحمّديّة الشريفة، يجدون أنفسهم مـُكرَهين على خدمة العرّافين ومن ورائهم الشياطين، بسبب صدق بعض ما يُخبرون به. وأما عندما بُعث خاتم النبيّين صلى الله عليه وآله وسلّم، فإن الله قد منع الجنّ من الاقتراب من السماء، إكراما للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم؛ وحرّم على المسلمين التصديق بما يُخبر به العرّافون. وهذا كله، حتى يعلم الناس أن نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم، ليس في المرتبة كسواه من الأنبياء الذين سبقوه عليهم السلام. يقول الله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسۡنَا ٱلسَّمَاۤءَ فَوَجَدۡنَـٰهَا مُلِئَتۡ حَرَسًا شَدِیدًا وَشُهُبًا} [الجن: 8]. ومعنى اللمس هنا: طلب الجن للاقتراب من السماء. والحرس الذين وجدوهم على السماء، هم الملائكة عليهم السلام؛ وهم عقول مدبِّرة لأجسام نوريّة؛ والنور له المرتبة على النّار، ومحلّه السماوات خاصّة، بسبب اللطافة التي هم عليها الملائكة، وعِظم الخِلقة. وأما الملائكة المقيمون على الأرض، فهم مخالفون في خِلقتهم لملائكة السماء، وإن كانوا نوريّين هم أيضا في أصلهم. ولقد تكلّمنا في الباب الأول من هذا الكتاب، على أن للملائكة الأرضيّين صعودا، ولملائكة السماء نزولا. وإنّ لهذا الصعود والنزول عتبتيْن: إحداهما دنيا، وهي السماء الدنيا، التي هي مبلغ صعود أرواح غير المؤمنين بعد الموت؛ والعتبة الأخرى عليا، وهي سدرة المنتهى التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حيث انتهى عروج جبريل وتوقَّف؛ وهي أيضا سقف الجنة، التي تسكنها نفوس المؤمنين بعد الموت. وأما فوق هذا المستوى، فلا صعود إلا للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم، ولحقائقه الجزئيّة من أرواح الأنبياء والورثة عليهم السلام... وأما التحريم في الشريعة المحمّديّة لتصديق العرّافين، فقد جاء في قوله عليه وآله الصلاة والسلام: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً.» [7]، وجاء في حديث آخر: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِما يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِما أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.» [8]؛ أي كفر بالقرآن!... ولنعد إلى الجنّ الذين صاروا بعد البعثة المحمّديّة، يُمنعون من الاقتراب من السماء الدنيا، من قِبل جيوش الملائكة عليهم السلام؛ فتتجلّى مطاردة الملائكة للجنّ في صورة شهب، هي في أصلها أجزاء من أجسام فضائية، تتفتّت بقوة الملائكة، وتُرمى بها الجنّ كما يرمي رماة الجيش الحجارة الثقيلة بالمنجنيقات على جيوش الأعداء؛ وكما يُرمى الأعداء في زماننا بالرصاص والقنابل والصواريخ. وإن هذه الصواريخ الأرضيّة، المعروفة في زماننا، أشبه ما تكون بالشّهب السماويّة التي تَرمِي بها الملائكة الجن المتطاولين. وإن هذه الحرب القريبة من السماء، لم يتمكّن علماء الطبيعة الأرضيّون، من إدراكها؛ وبالتبع لجهلهم هذا، فإنهم لا يعلمون حقيقة الشّهب، التي ليست هي عندهم إلا فضائيّة، دخلت الغلاف الجوّي الأرضي، أو بقيت خارجه. وإن هذه الشهب، مختلفة الأحجام؛ فمنها الكبير الذي يُرى بالعين المجرّدة إن دخل الغلاف الجوي؛ حتى لَيُرى بسبب احتكاكه به مشتعلا ونازلا، إلى أن يبلغ مكانه من الأرض. وقد يصل منه شيء معتبر، كما قد تصل بقيّة صغيرة واحدة أو متفتّتة؛ أو قد تكون هذه الشهب بالغة الصغر فلا تُرى إلا بالآلات المكبّرة (التليسكوبات)، أو بعد فحص التّربة في محلّ الوقوع فحصا مخبريّا... ويقول الله تعالى عن هذه المسألة في موضع آخر من القرآن الكريم: {إِلَّا مَنۡ خَطِفَ ٱلۡخَطۡفَةَ فَأَتۡبَعَهُۥ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10]، وهو استثناء، لبعض الجنّ الذين قد يُفلِحون في الظّفر ببعض أخبار السماء، مجازفين بحيواتهم. وهؤلاء هم أمام نتيجتيْن: فإما أن يتمكنوا بإذن من الله من الإفلات من الشهب التي ترميهم بها الملائكة لحكمة يريدها الله، من بلوغ بعض الأخبار إلى كبار الشياطين ورؤسائهم؛ وإمّا أن تصيبهم الشهب، فيموتوا من شدّة الصدمة أو احتراقا. وقد يعجب بعض المؤمنين من إنجاء الله لبعض الشياطين، كما أخبرنا، ظنّا منهم أن الله يُحارب عن طريق تسليط ملائكته الشياطينَ، كما تُحاربهم الملائكة؛ أو كما يُحاربهم المؤمنون من الإنس أثناء المعارك الأرضيّة؛ وهذا وهْمٌ محرِّف لعقائد كثير من العامّة. والحق في المسألة، هو أن الله هو ربّ الملائكة والشياطين، كما هو ربّ المؤمنين والكافرين؛ وربوبيته للفريقيْن، تعني أنه يُمدّ الجميع بما يحتاجونه من مدد، يمكّنهم من محاربة أعدائهم. وفي هذا المعنى، يقول الله تعالى: {كُلًّا نُّمِدُّ هَـٰۤؤُلَاۤءِ وَهَـٰۤؤُلَاۤءِ مِنۡ عَطَاۤءِ رَبِّكَۚ وَمَا كَانَ عَطَاۤءُ رَبِّكَ مَحۡظُورًا} [الإسراء: 20]؛ أي ما كان مدد الله محظورا عن فريق الشياطين، كما يتوهّم الجهلة من عوامّ المسلمين. وعلى هذا، يظهر أنّ ما حدث بعد البعثة المحمّديّة، هو إضعاف جانب الشياطين إضعافا كبيرا، أصبح معه تغلب حزب الله على حزب الشيطان أمرا ميسورا، بحيث لا ينهزم من المؤمنين أمام الكافرين، إلا من كان ضعيف الإيمان مدخولَه. وهذا، كما يحدث في زماننا، وفي أزمنة مضت، من وقوع المسلمين تحت هيمنة الاستعمار الكافر لبلادهم، ومن قهر فكريّ وُظّفت فيه الفلسفات والأيديولوجيات المختلفة. ولولا ظلمة الفكر التي خالطت إيمان المسلمين، ما تمكّن أحد الكافرين من غلبتهم. ورغم أن الأسباب التي ذكرناها، جليّة وواضحة؛ ورغم أنها منوطة بمسبَّباتها إناطة لا تخفى، ولا تتطلّب كثير تتبُّعٍ؛ إلا أن العامّة من شدّة ضعف عقولهم، ومن كثرة تلاعب الشياطين بها، يكادون لا يفقهون منها شيئا. ولا نجد إبانة لحال مَن ذكرنا، كقول الله تعالى: {مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِی ٱسۡتَوۡقَدَ نَارًا فَلَمَّاۤ أَضَاۤءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِی ظُلُمَـٰتٍ لَّا یُبۡصِرُونَ} [البقرة: 17]: وعندما نسب الله فعل استيقاد النّار إلى أولئك العباد المخذولين، علمنا أنّ النور الذي كانوا يسيرون عليه، هو نور عقولهم (فكرهم)، لا نور إيمانهم الذي يستمدّونه من الله بواسطة النبوّة. فعاقبهم الله لركونهم إلى أنفسهم، بإذهاب أنوار عقولهم، عند هبوب رياح الشبهات القويّة عليهم، فصاروا في ظلمات الطبيعة وظلمة جهلهم الأصليّ، لا يُبصرون شيئا من الحقائق وإن ظهرت للأبصار المتّحدة بنور البصائر. وإن علماء الطبيعة، الذين يتوهّمون أنهم قد أدركوا شيئا، عند معاينتهم للظواهر الطبيعيّة، بعيدا عمّا وراءها من أسباب غيبيّة، تعود إلى فعل الله في مخلوقاته السماوية والأرضية جميعا؛ لا يخرجون عن الصفة التي ذكرها الله عن عُمي العقول، الذين ينقطعون مع ظاهر الظواهر؛ ومع ذلك يظنّون أنهم على شيء!... ولو أنهم علموا حقيقة حالهم، لتواروا من سوئها، خوفا من الفضيحة بين النّاس!... وقد يتساءل بعض العامة، بقولهم: لمَ لمْ يُسلّط الله ملائكته دائما على الشياطين، لينتصر المؤمنون في جميع المعارك، إن صحّت تسميتها معارك عندئذ؟... فنجيب: إن عدم فعل ذلك من قِبل الله تعالى، يستند إلى أمريْن: الأول: هو أن الملائكة ليسوا معنيّين بمغالبة الشياطين، لأنهم غير مكلّفين؛ وإنما يقع إمداد الله للمؤمنين بهم في الحرب، عندما يجدهم (المؤمنين من الإنس) سبحانه قد فعلوا ما عليهم... الثاني: هو أنّ التكليف منوط بالإنس والجنّ، وحدهم؛ وهذا يعني أن المؤمنين، هم من عليهم اتخاذ أسباب غلبة الشياطين، من دون نظر إلى الملائكة بالأصالة. وإذا شاء الله أن يُمدّ المؤمنين بجنود من الملائكة زائدين، في حروبهم ضدّ الكافرين، كما أخبر سبحانه في قوله: {إِذۡ تَسۡتَغِیثُونَ رَبَّكُمۡ فَٱسۡتَجَابَ لَكُمۡ أَنِّی مُمِدُّكُم بِأَلۡفٍ مِّنَ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ مُرۡدِفِینَ} [الأنفال: 9]؛ فإن ذلك يقع جزاء على الإيمان، واستجابة للدعاء، لا ابتداء. وهذا، لأن الله غنيّ عن المؤمنين، كما هو غنيّ عن الكافرين؛ وهو سبحانه لا يُفضّل نُصرة المؤمنين على الكافرين ابتداء، لكونه الممدّ لهؤلاء وهؤلاء، ولكونه مريدا لحكمة في أفعاله، التي من ضمنها المعارك. فإذا وقع الإمداد بالملائكة للمؤمنين، فهو فعل لله من المرتبة الثانية، لا الأولى؛ وهو ما أخبر عنه سبحانه في قوله: {قُلۡ مَا یَعۡبَؤُا۟ بِكُمۡ رَبِّی لَوۡلَا دُعَاۤؤُكُمۡۖ} [الفرقان: 77]. وهذا يعني، أن المسلمين في أزمنة هزائمهم، موكولون إلى أنفسهم، بسبب معاصيهم واعتمادهم على الأسباب الذي يُدخلهم في الشرك. ولو نظرنا إلى حالهم اليوم، وهم يحسبون عدّتهم في مقابل عُدّة أعدائهم؛ ويتسابقون في شراء الأسلحة بمبالغ باهظة؛ من دون التفات إلى طاعة لربّهم أو دعاء؛ لعرفنا حتما، من أين يؤْتَوْن، وعرفنا من أين يأتيهم النصر إنْ أذن الله به... وقد ذكرنا عن الملائكة، الذين يمدّ الله بهم المؤمنين في حروبهم، أنهم زائدون؛ لأن كل فعل للناس مما هو معلوم لهم أنه من أفعالهم، هو من الملائكة المدبّرة لأجسامهم. وهذا هو معنى قول الله في الآية السابقة من سورة الأنفال "مُرْدِفِينَ" أو "مُرْدَفِينَ"، على قراءتيْن... وقبل أن نختم هذا الجزء، ندلّ على أن القتال عندما يكون تحت راية إمام، فإن الملائكة يكونون معينين لجيش المؤمنين بداهة؛ لكون الملائكة، على اختلاف مراتبهم وتعدّد عديدهم، ليسوا إلا بعضا من قوى هذا الإمام وشطرا من خَدَمِه. وأما إن كان المسلمون يقاتلون قتالا جاهليّا، من دون إمام أو بغير شروط الضرورة، فإن الله لا يعتبر قتالهم؛ وبالتالي فإنه يكلهم إلى أنفسِهم: فإن كانت عُدّة الأعداء وعديدهم، وإيمانهم بما هم عليه، أقوى وأكثر، فإن الغلَبَة تكون للأعداء. وقد جهل بعض السفهاء هذه الأصول، فكفروا عندما رأوا المسلمين ينهزمون أمام الكفار، ظنّا منهم أنّ ربّ الكافرين (وهو في نظرهم غير ربّ المسلمين) أقوى، أو أن المسلمين لا ربّ لهم؛ تُعسا لهم وسُحقا!... فهؤلاء هم كما خاطبهم الله بقوله الحق: {وَذَ ٰلِكُمۡ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِی ظَنَنتُم بِرَبِّكُمۡ أَرۡدَىٰكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم مِّنَ ٱلۡخَـٰسِرِینَ} [فصّلت: 23]... ويقول الله تعالى أيضا: {فَذَ ٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمُ ٱلۡحَقُّۖ [ أي الذي هزمكم] فَمَاذَا بَعۡدَ ٱلۡحَقِّ إِلَّا ٱلضَّلَـٰلُۖ فَأَنَّىٰ تُصۡرَفُونَ} [يونس: 30]؛ أي أنى تُصرفون عن طلب العون من الله ربّكم، مع أنه لا معين لكم مِن أحد مِن دونه!... - ضيق النّفَس مع الارتفاع: يقول الله تعالى: {فَمَن یُرِدِ ٱللَّهُ أَن یَهۡدِیَهُۥ یَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَـٰمِۖ وَمَن یُرِدۡ أَن یُضِلَّهُۥ یَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَیِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا یَصَّعَّدُ فِی ٱلسَّمَاۤءِۚ كَذَ ٰلِكَ یَجۡعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجۡسَ عَلَى ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ} [الأنعام: 125]؛ وقد قال علماء الأرض، بأن ظاهرة ضيق التنفس، كلما ارتفع المرء عن سطح الأرض، هي مما اكتشفوه هم في القرون الأخيرة؛ بينما لم يكن يخفى ذلك على الناس بالملاحظة منذ الزمن القديم. ولكنّ هذا الفعل، من إيهام العموم بأن العلوم تسير في طريق التقدّم مع مرور الزمان، وهو من الأضاليل المقصودة. ويكفي أن نتفحّص قليلا من العلوم، لنقف على الحقيقة، والتي هي أن بعض العلوم كانت في السابق أكثر تقدّما مما هي عليه اليوم. وقد ذكرنا سابقا علم التنجيم وما يتّصل به من علم للفلك، وعلم بطبيعة الجسم البشري، وطبيعة العالم. فهذه العلوم كانت متطوّرة، بكيفيّة لا تُتصوّر اليوم؛ ولكن الناس في الزمن الأخير مقتنعون بعكس ذلك، بل لا يقبلون التشكيك في هذا الرأي الذي ارتقى إلى مرتبة المسلّمة. ومن العلوم التي كانت أكثر تطوّرا في الأزمنة الماضية، علم السحر؛ الذي يجعل الناس يشهدون ويسمعون ويفهمون، ما يُخالف الواقع؛ من دون أن يتمكنوا من التصدّي لذلك، إلا إن كانوا أكثر تمكُّنا في هذا العلم نفسه، أو كانوا ممن يستمدّون من نور النبوة... ولقد سمعنا أكثر من واحد، من رجال العلوم المتأخّرين، يشهدون للأمم السابقة والحضارات القديمة، كالحضارة السومرية (الألفية الثالثة ق.م)، والحضارة البابلية (ما بين القرن 18 والقرن 6 ق.م)، والحضارة المصرية (أكثر من 3 آلاف سنة ق.م)، والحضارة اليونانية (خصوصا ما بين القرن 9 ق.م، والقرن السادس بعده)، والحضارة الصينية (منذ حوالي 2000 ق.م)، بالسّبق في علوم مختلفة على رأسها الميكانيكا والهندسة والرياضيات والطب؛ بما لم يبلغه المتأخّرون إلى اليوم. ومع هذا، فإن الشائع لدى العامّة، هو سبق الحضارة الغربية المعاصرة وحدها، من دون تمحيص!... وعلى كل حال، فإن من يرون في آية التصعّد في السماء دليلا على الإعجاز العلمي في القرآن، فإنهم غفلوا -كما غفل غيرهم- عن كونها آية على حال الإيمان مع حال الكفر؛ وإن لم يُدرك الناظر فيها ذلك، فإنها تعود في حقّه عمى، كما أسلفنا مرارا... فعندما يقول الله تعالى: {فَمَن یُرِدِ ٱللَّهُ أَن یَهۡدِیَهُۥ یَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَـٰمِۖ}، فهذا يعني أن الهداية (الإسلام) التي هي منبنية على النور، تكون سببا في اتساع صدر الإنسان؛ كما ينشرح صدر من يسير ليلا على ضوء مصباح. وإن الانشراح، يكون على قدر النور، كما لا يخفى؛ لأن المعادلة تناسبيّة. وأما قول الله بعده: {وَمَن یُرِدۡ أَن یُضِلَّهُۥ یَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَیِّقًا حَرَجًا}، فهو منوط بالكافرين. ومعنى "يُضلَّه": يسلك به سبيلا غير السبيل المستقيم، فيتيه عن الحق ويبعد، فينشأ عن ذلك ضيق في صدره، كمن يمشي في ظلمة، متوجّسا ومتوقّعا لكل سوء؛ وعلى قدر الظلمة، أيضا يكون الضيق، طردا وعكسا. ومعنى الحرج: الصعوبة، وهو على قرائتيْن: بفتح الراء وبكسرها، وهو صفة للصدر، وهو بفتح الراء أبلغ. وأما قوله سبحانه: {كَأَنَّمَا یَصَّعَّدُ فِی ٱلسَّمَاۤءِۚ}، الذي هو محلّ الاستدلال، فهو تشبيه للكافر في حاله، بمن يرتفع عن سطح الأرض، عندما يقلّ عنه الأوكسيجين، فيصير تنفسّه صعبا كلّما ازداد ارتفاعا. وهذا كما ذكرنا، ليس من العلوم المنوطة بالمتأخّرين، إلا من جانب قياسات نسبة الأوكسيجين في الهواء، إلى جانب الغازات الأخرى. وأما خلاصة الأمر فهي ما اختتم به الله الآية الكريمة عند قوله: {كَذَ ٰلِكَ یَجۡعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجۡسَ عَلَى ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ}، حيث يدلّ الرجس على الحبس واللعن؛ وهو حال الكافر الذي تُحيط به الظلمة من كل جوانبه. وما النار الحسيّة التي تكون دارا للكافرين في الآخرة، إلا تجسيد للظلمة، فيكون انتقال الكافر من ظلمة معنويّة دنيوية، إلى ظلمة حسّيّة أخروية، جزاء وفاقا. وقد ذكرنا بعضا من معنى إحاطة الظلمة بالكافرين، عند كلامنا عن مطلع سورة يس، فلا داعي إلى الإطالة به هنا... (يُتبع) [1] . وحدة قياس كيميائيّة. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.