اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2025/01/13 الإنسان القرآن (مقدمة في تفسير القرآن الكريــم) .24 الباب الثاني: العلوم المتعلّقة بالقرآن الفصل الثامن :النَّسخ
مسألة النّسخ، من أعوص ما يتعلّق بالقرآن في نظر الفقهاء؛ والأصل فيها عندنا القول بعدم ورود النسخ فيما هو مـُثبَت في المـُصحف. وقد سبقت لنا الإشارة في الباب الأول وفي الفصول السابقة من هذا الباب، إلى أصل هذه المسألة، وعندما ذكرنا أن الله من كونه متكلّما مختارا، فله أن يُثبت من كلامه ما يشاء، وله أن يعدل عمّا يشاء؛ وذكرنا أن الآية الدّالة على هذا المعنى، هي قوله سبحانه: {یَمۡحُوا۟ ٱللَّهُ مَا یَشَاۤءُ وَیُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥۤ أُمُّ ٱلۡكِتَـٰبِ} [الرعد: 39]. ويُفهم من الآية، أن المحو والإثبات يكونان من مستوى اللوح المحفوظ، بما أن له وجها للإثبات ووجها للمحو؛ كما قد يتعلّقان بالإنزال على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان منوطا بأسباب النزول من جهتَيِ الغيب والشهادة فيما يعود على التخصيص إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من كونه الخليفة الأعظم لله في الأرض؛ ولا يتعلّقان بمستوى "أم الكتاب"، وهذا لأن قول الله تعالى {وَعِندَهُۥۤ أُمُّ ٱلۡكِتَـٰبِ} قد جاء في عجز الآية كالاستدراك على ما جاء في صدرها. ورغم أن هذا الذي ندلّ عليه، من معنى الآية، يُشبه معنى النّسخ الذي قال به قائلوه، إلا أنه ليس منه؛ وإنما هو من تحقيق معنى الآية بحسب المراتب. ونعني أن ما ذكره الله تعالى في حق خلافة آدم عليه السلام عند قوله: {وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ إِنِّی جَاعِلٌ فِی ٱلۡأَرۡضِ خَلِیفَةً} [البقرة: 30]، يتنزّل على حقيقة نبينا صلى الله عليه وآله وسلّم، قبل خلق آدم، وبعد البعثة المحمّديّة الشريفة. والحقيقة المحمّديّة هي أم الكتاب كما سبق لنا أن أوضحنا فيما سبق؛ وما يتعلّق من القرآن بشؤون الحقيقة أو الخلافة المحمديّتيْن، هو من جهة أصله لا نسخ فيه، إلا من الباب الذي سندل عليه لاحقا. ونحن عندما ندلّ على هذا الحكم من القرآن، فإننا نعلم أن الأمر ليس بالسهولة التي يظنّها الفقهاء القائلون بالنسخ، ولا بالتي يظنّ القارئ أنه قد ظفر بها من كلامنا، إن كان لا يقول به. وهذا، لأن النسخ الذي نتكلم نحن عنه، لا يصحّ إلا في حضرة المشيئة الإلهية، التي هي مـُطلقة عن التعليل. وقبل أن نستمر في الكلام، نرى أن تبيين بعض ما يتعلّق بالمشيئة قد بات ضروريا، من أجل البناء عليه، فنقول مستعينين بالله: 1. المشيئة -كما يقول شيخنا الأكبر عليه السلام- هي ألصق الشؤون قاطبة بالذات الإلهية؛ وهذا يدل على معنى طلاقة المشيئة عن التعليل من حيث التعلّق، ولسنا نعني إلا أنه كما أن الذات لا تُقيّد، فكذلك المشيئة من جهة العلّيّة لا تُقيّد. ولا بأس هنا من التذكير بمعنى إطلاق الذات، الذي هو الإطلاق عن التقييد وعن الإطلاق معا؛ وذلك لأن الإطلاق تقييد أيضا، في مقابلة التقييد؛ والذات أعظم وأجلّ من أن تتقيّد في نفسها. وهكذا يظهر أن الإطلاق والتقييد المعلوميْن للناس، هما من مرتبة الألوهية، لا من مرتبة الذات. فلولا الأسماء الإلهية، وما لها من مقتضيات، ما ظهر إطلاق ولا تقييد؛ وما نعني بالإطلاق هنا هو ما يتعلّق بالاسم الجامع "الله" من جهة العموم، وما يتعلّق بكل اسم على حدة في نفسه، لا في مقابلة الأسماء الأخرى؛ وذلك لأن كل اسم إلهي عدا الاسم الجامع وخليفته، هو في مقابلة الأسماء الأخرى تقييد؛ بل هو بالنظر إلى الاسم الجامع وخليفته تقييد فيهما. وهذا القدر من الكلام هنا كاف بإذن الله تعالى... 2. إن ما ينتج عن المشيئة، هي الأشياء، على معنى المفعولية: فالله سبحانه من اسمه الجامع، ومن وجه الاسم "الشائي"، والذي لا ذكر له على الألسن، يشاء سبحانه الأشياء. ويدخل في معنى الأشياء، كل ما هو متعيّن من جهة الحسّ أو من جهة المعنى؛ مما هو متعلّق بالحق أو مما هو متعلّق بالخلق. وإن أعمّ شيء لكلّ الأشياء هو الحقيقة المحمّديّة الجامعة. ويكفي دلالة على طلاقة المشيئة، شمولها لكل شيء، مما هو معلوم ومما هو مجهول. ولا نقصد بالمجهول من الأشياء، إلا الممكن الذي خرج إلى مرتبة العيْن، ومع ذلك بقي مجهولا لبعض العالِمين؛ أو الممكن الذي لم يخرج بعد من حضرة العلم الإلهي؛ أو المحال الذي لا يقبل الخروج من العلم إلى العين. وأما الله تعالى، فلا يصح أن يُنسب إليه الجهل أبدا؛ وذلك لأن علمه تعالى محيط بكل المعلومات، كما تدل عليه أسماء الأجناس التي خصصناها بالذكر، وكما يدل عليه قول الله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمٌ} [البقرة: 29]؛ ومن الأشياء الحق نفسه، من كونه شاء أن يتجلّى لنفسه في مختلف المراتب. وقد سألني مرة أحد اليساريّين من زملائي في المهنة، يريد أن يُربكني ليُثبت لنفسه ولإخوانه من الشياطين أنهم أقدر منّا أهل الدين في ضبط المعاني قائلا: هل الله شيء؟ فأجبته على الفور: نعم!... لأن اسم "الشيء" أعمّ النّكرات، وهذا الاسم النكرة متضمّن لكل اسم معرفة بعدُ، وعلى رأسها الاسم "الله"؛ {فَبُهِتَ ٱلَّذِی كَفَرَۗ} [البقرة: 258]. وحقيقة النكرة من هذه المرتبة، ليست إلا من عدم تعلّق العلم، لا من معنى النكرة في اللغة؛ بل هذا المعنى الذي نُثبته، هو أصل المعنى اللغوي ذاته. وهنا لطيفة، وهي ما وجه تعلّق علم الله بذاته سبحانه؟... فنجيب: لا مراء في كون الله تعالى يعلم ذاته، ولكنّه لا يُحيط بها سبحانه. وليس معنى الإطلاق الذاتي حقيقة، إلا هذا؛ أي عدم إحاطة العلم به؛ مع الجزم بأن صفة العلم الإلهي في حق الله تعالى، مطلقة كما سبق أن بيّنّا؛ ولكنّ بين الإطلاق العلمي الذي هو من إطلاق الصفات، والإطلاق الذاتي، فرقانا؛ يُعلم من جهة الحقائق، بالله، ولا يُعلم من دلالة اللفظ؛ وهذا، لأن اللفظ عند عوامّ الناس ومنهم الفقهاء والعقلاء (الفلاسفة)، يدل على معناه بحسب إدراك السامع؛ ولا يدلّ على الحقيقة إلا عند أهل الحقائق. وعلى هذا، فمما شاءه الله سبحانه، أن يعلم ذاته علما ذاتيّا، هو ما يُسمّيه أهل الكلام "نفسيّا"؛ وشاء سبحانه بعد هذا الصنف من العلم، أن يتجلّى لنفسه بنفسه، فيعلم نفسه من تجلّيه بحسب كل مرتبة. وهذا العلم الثاني، هو العلم القديم الذي يتكلّم عنه المتكلّمون؛ ما دام الصنف الأول من العلم لا يتّصف بقدم ولا حدوث؛ ثم يعلم الله بصنف من العلم حادثٍ، ذاته وصفاته وأفعاله؛ لكن من وجه اسمه تعالى "القيّوم". وأقصى ما يتوصّل إليه المخلوقون من العلم، هو شيء من علم الله الحادث؛ وأما العلم القديم، بالإضافة إلى العلم الحادث، فينال منه الأنبياء والورثة نصيبهم من جهة تحقّقهم بالحق، لا من جهة مخلوقيتهم؛ ولنبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم من جهة حقيقته، ومن جهة خلافته، التحقق بهذا العلم الإلهي على التمام؛ لكن لا دُفعة واحدة في المظهر المحمديّ الشريف. وربما سنذكُر العلة في ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى، فنذكّر بهذا المحل من الكلام، حتى يكمل للقارئ اللبيب تصوّره. وأما العلم الذاتي، فهو وإن حصل شيء منه للأنبياء والورثة، إلا أنه يُنسب إلى الذات لا إليهم عليهم السلام... 3. إن كثيرا من الناس، وفي مقدَّمهم علماء الدين، لا يتمكنون من إدراك المشيئة، ويخلطون بينها وبين الإرادة؛ ونحن سنبيّن -على عادتنا- الأصل في المسألة، لنعين من شاء الله له أن يتعلم على يدينا على تبيّنها. ومن أوّل ما يقع به التفريق بين المشيئة والإرادة، هو سبق المشيئة لجميع الصفات الإلهية، بحيث لا يكون من مستنَد لها إلا الذات كما ذكرنا؛ وأما الإرادة، فهي صفة تأتي في الترتيب، بعد صفتَيِ "الحياة"، و"العلم"؛ ولا يستوي ما هو سابق بما هو لاحق من هذا الوجه البتّة. ورغم ما دللنا عليه من افتراق المعنى بين المشيئة والإرادة، فإن الإرادة كسِواها من الصفات تبقى تابعة للمشيئة اتباعا معنويّا خاصا. فمن فهم من الإرادة المشيئة بمعنى ما، فإن ذلك يكون صحيحا؛ لكنّ ضبط هذا المعنى مع الإبقاء على الفارق، ليس في طاقة جلّ العقول، وإن كان أهلها من العارفين أحيانا. وأما ثاني ما يتعلّق به التفريق بين المشيئة والإرادة، فهو الإطلاق عن الزمان، أو التقيّد به. وليس الأمر كما قد يتوهّم أهل الفكر، من أن المشيئة مطلقة عن الزمان، وأن الإرادة مقيّدة به؛ فرغم صحّة هذا الفهم من بعض الوجوه، إلا أنه ليس عامّا في الصفتيْن. ونعني أن من المشيئة ما هو خارج الزمان، ومنها ما هو داخله؛ ومن الإرادة ما هو خارج الزمان، ومنها ما هو داخله. وإن من أصعب ما يُدرك -بحسب ما عاينّا من الناس- معنى المشيئة في الزمن الفرد؛ وهذا لأنه لا شيء يبلغ إطلاق المشيئة في المـُطلقات، ولا شيء يبلغ الزمن الفرد في التقييدات. فسبحان من أعجز العقول عن إدراكه، وإن هو أَدْرَكها، فإنها لا تعلم منه إلا ما أذن لها بعلمه. يقول جلّ من قائل: {وَلَا یُحِیطُونَ بِشَیۡءٍ مِّنۡ عِلۡمِهِۦۤ إِلَّا بِمَا شَاۤءَۚ} [البقرة: 255]، ويقول سبحانه أيضا: {یَعۡلَمُ مَا بَیۡنَ أَیۡدِیهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡ وَلَا یُحِیطُونَ بِهِۦ عِلۡمًا} [طه: 110]. ومعنى قول الله في الآية {مَا بَیۡنَ أَیۡدِیهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡ}: ما يسبقهم وما يلحقهم، في المرتبة وفي الزمان... ولنعد الآن إلى معنى النسخ المتعلّق بمستوى المشيئة، لنقول: إن هذا الصنف من النسخ، هو المعتبر عندنا وحده، وإن بدا الأمر منوطا بمرتبة دون المشيئة، كما سيظهر لنا عند تفصيل الكلام في النسخ؛ خصوصا عند ردّنا لبعض أقوال الفقهاء. وهذا النسخ العالي، يعلمه الله، ويعلمه الأنبياء والورثة بتعليم الله؛ ونعني أن الله يعلم منه الناسخ والمنسوخ ووجه النسخ، ويُعلّم سبحانه من شاء من عباده ما يشاء من ذلك. وبما أن فقهاءنا لا قدم لهم في هذا المستوى من العلم، ولأنهم لا يعلمون من النسخ إلا ما يكون من نسخ الآيات بعضها لبعض، أو نسخ الأحكام بعضها لبعض، على ما يناسب قصورهم، كنا نحن لا نوافقهم على القول بالنّسخ من الأصل؛ لا لننكره والله قد أثبته، ولكن لننكر عليهم ما يفهمونه منه ليس غير؛ وهذا، لأن قول الله تعالى {وَإِذَا بَدَّلۡنَاۤ ءَایَةً مَّكَانَ ءَایَةٍ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا یُنَزِّلُ قَالُوۤا۟ إِنَّمَاۤ أَنتَ مُفۡتَرِۭۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ} [النحل: 101]، لا يُبقي على أصل معنى الإنكار، ويجعل المـُنكِر متهما للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم في بعض ما يبلّغ؛ وهو كما أخبر الله في آخر الآية، جهل بحقيقة الأمر. ولكنّ تبديل بعض الآيات المنزلة له محاذير، ينبغي أن نتوقّاها؛ وإلا صرنا إلى هدم ما نبغي إثباته. وسيأتي الكلام عن هذه المحاذير في محلّها... وبعد أن أوضحنا ما كنّا نرى توضيحه ضروريا في بداية تناولنا لمسألة النسخ، فلنمر الآن إلى ما يتعلق بالنسخ طورا بعد طور: 1. تعريف النسخ: وهو في اللغة بمعنى الإزالة والإلغاء والتبديل: ومنه يُقال: نَسَخَت الشمس الظل؛ وقد يأتي بمعنى النقل: ومنه قول القائل: نسخت الكتاب، وقول الله تعالى على لسان الملائكة الكتبة: {إِنَّا كُنَّا نَسۡتَنسِخُ مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} [الجاثية: 29]، والمراد نقل الأعمال من صورة فعل المـُكلّفين، إلى الكتابة في الصّحف، وهي صورة أخرى تابعة. وأما في اصطلاح الفقهاء، فهو الانتقال من حكم شرعيّ إلى حكم شرعيّ آخر، بواسطة خطاب شرعيّ. وسنرى فيما يأتي، ما مدى صحة القول بنسخ الأحكام الشرعية، وما حدوده... 2. أدلة النسخ: ا. الأدلة المباشرة: إن أقوى ما يستدلّ به القائلون بالنسخ، قول الله تعالى: {مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَایَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَیۡرٍ مِّنۡهَاۤ أَوۡ مِثۡلِهَاۤۗ أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءٍ قَدِیرٌ} [البقرة: 106]، وقوله سبحانه: {وَإِذَا بَدَّلۡنَاۤ ءَایَةً مَّكَانَ ءَایَةٍ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا یُنَزِّلُ قَالُوۤا۟ إِنَّمَاۤ أَنتَ مُفۡتَرِۭۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ} [النحل: 101] ورغم أن النسخ بالمعنى الوارد في الآيات المتلوة، على الوجه الذي أسلفنا إليه الإشارة، هو متعلَّق معنى النسخ، إلا أن معنى "الآيات" ينصرف إلى الآيات المخلوقة (الرقّ المنشور)، بأكثر مما ينصرف إلى غيرها؛ والعلّة فيما نقول هي استقرار الآيات المتلوة من الكتاب المسطور على ألفاظ بعينها، لا تقبل الزيادة أو النقصان؛ في حين تتغيّر الآيات المخلوقة بحسب المظاهر المختلفة للظاهر الثابت، بل وتتغيّر المظاهر في كل زمن فرد، وإن كان جلّ الناس لا علم لهم بهذا المستوى من التبديل. ومقصودنا من تغيّر الآيات الخلقية هنا، هو مما يدخل ضمن اختلاف التلاوات المتعاقبة والمتعدّدة، المستدعية لمختلف الفهوم بحسب ما يأذن به الله، مع كون القرآن في أصله غير متغيّر، ولا قابلا للتعدّد. وعندما جهل الفقهاء التفريق بين وجهَيِ القرآن: ما لا يتغيّر، وما لا يفتأ يتغيّر، فقد خلطوا بين المعنييْن، وجعلوا النسخ أحديّ المعنى مع خلطهم، فضلّوا بقدر ذلك كله... وإن نحن نظرنا إلى ألفاظ آية النسخ من سورة البقرة، فإننا سنجدها جامعة لمعنيَيِ النسخ (لا التبديل) معا: - الأول: هو نسخ الآية المتلوة، أو إنساؤها. وقد ذكرنا الإنساء، عندما ربطناه بفعل المشيئة سابقا، وهو مخصوص بالقرآن قبل استقرار صورته الثابتة في المصحف... - الثاني: وهو الإتيان بخير من الآية المنسوخة أو بمثلها؛ وهذا يعني أن الإتيان بأقل من الآية المنسوخة ممتنع. والإتيان بالمثل يظهر بالنظر إلى الآيات الخلقية في الزمن الواحد، وتشابهها في عدّة أزمان؛ وهذا المعنى يشملها جميعها؛ وأما التي هي خير، فهي لتفضيل الآية المتلوة أو المخلوقة، المـُثبتة على التي نُسخت؛ وذلك لأن الله جواد لا يكون إنعامه (وهو هنا التكليم) إلا بأفضل ما يمكن، وفي اطّراد. وهذا المعنى داخل في قول الله سبحانه: {وَلَوۡ أَنَّمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ مِن شَجَرَةٍ أَقۡلَـٰمٌ وَٱلۡبَحۡرُ یَمُدُّهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦ سَبۡعَةُ أَبۡحُرٍ مَّا نَفِدَتۡ كَلِمَـٰتُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِیزٌ حَكِیمٌ} [لقمان: 27]. وقد أوضحنا سابقا بأن عدم نفاد كلمات الله التي هي أشخاص المخلوقات، هو من أثر اسمه تعالى "الواسع". وإن كان القرآن من جهة المعنى واسعا لا يقبل الحدّ، فهذا يعني أن المعنى المنوط بكل آية من وجه تعيّنها، هو ما يقع فيه النسخ، على وصف الاطراد الذي ذكرناه... وأما معنى الخيرية المنوط بالخلق، فهو لأن كل زمان متضمّن لكل خير مرّ في الأزمنة التي قبله، وإن تشابهت المظاهر في عين الناظر. ومن قارن أحوال الناس من جهة الظاهر على الخصوص، وعبر الأزمان كلها، وجدها تتقدّم من الحسن إلى الأحسن؛ وهو ما يجعل النّاس يُقرّون بـ "التقدّم"، من دون أن يضبطوا حدوده ومناطاته. وأما ما قد يتوهّمه -مثلا- القائل بضعف المتقدّم في العمر واختلال وظائفه الحيويّة، فهو مما يثبت عُرفا لا حقيقة؛ ولولا مخافة الإطالة، لذكرنا تفاصيل ذلك. وكون الزمن الفرد الواحد يتضمّن كل ما تفرّق في كل الأزمنة التي قبله، مع زيادة يمتاز بها، هو ما جعل أهل الله يحكمون بأن من فاته تجلّي الوقت، كان ما فاته أكثر مما أدركه في ذلك الوقت خاصة... ب. الأدلة غير المباشرة: وهي كل آية يتعلّق بها النسخ المعلوم للفقهاء. وإن من أعجب ما يُقال في هذا الصنف من النسخ، هو إناطته بالزمان. ونعني أن القائلين به قد اشترطوا له أمريْن: = أن يكون الخطاب الشرعي الناسخ مـُعقِبا للخطاب المنسوخ، أي آتيا في زمان بعد الزمان الأول المنوط به المنسوخ. كل هذا فيه نظر من جهة كون كلام الله (القرآن) قديما، ولكونه قديما، لا بد له من الخروج عن حكم الزمان؛ على الأقل من مرتبة مخصوصة. وهذا، يؤيّد كلامنا السابق -بخصوص مرتبة الحقيقة المحمدية- بعدم القول بالنسخ فيها، على المعنى المراد للفقهاء... = ألا يكون المنسوخ مقيّدا بزمان معيّن؛ وإلا، فالحكم ينتهي بانتهاء زمانه. ونحن لا نقول بهذا، لأننا نرى أن ما ورد في القرآن خاصة، منوطا بزمان ما، لقرائن تدلّ عليه، فنحن نراه من خلف القرائن المخصّصة، منوطا بالاسم الذي هو عليه آية. وهذا يدخل فيما ذكرناه عن اختلاف مظاهر الأسماء الإلهية، مع كون الأسماء هي هي. فمن أدرك ما نرمي إليه، وحكم بالنسخ في المظاهر، فنحن نقرّه على مذهبه؛ ومن غاب عنه ما نرمي إليه، فليعدّ نفسه كليلا وليتأدّب. ونحن بإذن الله تعالى، سنبيّن مخالفتنا لما قصده الفقهاء، عندما سنتناول الآيات التي استدلّوا بها على النسخ... وقد وجدنا لبعض الفقهاء المنكرين للنسخ، أقوالا مفادها أن النسخ لا يقع في قرآن يُتلى ويُنزل. ولا يخفى ما في هذا الكلام من شطط؛ ونحن نقبل منه عدم تعلّق النسخ بما ثبت من القرآن في المصاحف، لأن هذا الثبات، هو ما يُبقي للقرآن قيمته وحُجّيّته. ولو فرضنا أن قائلا يقول بالنسخ فيه، لجاز أن يستحدِث فيه من شاء ما شاء، بالزيادة أو بالإنقاص أو بالتبديل، على مرّ الأزمنة؛ وهذا لا يقول به أحد. وأما تعلُّق النسخ بما ينزل، فقد ذكرناه، وجوّزناه، على المعنى الذي أردنا. ومما يتعلّق به منكرو النسخ أيضا، قولهم بأن الله لا ينسخ شيئا بعد نزوله والعمل به؛ وكأن العمل يجعل الحكم أثبت وأقوى، وما هو إلا توهّم تحكم به العقول القاصرة. والدليل على ما نذكر، هو أن قيمة الأحكام الثابتة من القرآن والسّنة، لا تنقص ذرّة، إن نحن قارنّا زمن الصحابة إلى زماننا هذا؛ وهذا مع إقرارنا بأن كثيرا من أحكام الدين في زماننا، هي معطّلة من غير أدنى شكّ. وقد أنكر منكرو النسخ على مثبتيه، بدعوى أنهم على مذهب اليهود من الفرار من القول بـ "البداء". ومن فهم عنّا كلامنا بخصوص المشيئة، فإنه سيعلم أن معنى البداء، من وجهه الحق، هو طلاقة المشيئة لا غير؛ وأما من فهم البداء على المعنى القاصر، فإنه -خصوصا إن كان من أهل التنزيه- سيُنزّه الله عنه تنزيها تامّا. ولو تفطّن منكرو البداء، لعاد عليهم قولهم، عند النظر إلى نسخ القرآن للكتب السابقة، مع أنها كلها من عند الله. واليهود والنصارى، ما ثبتوا على ضلالهم، إلا لأنهم حكموا بأن كلام الله لا يُنسخ؛ مع عدم تحقّق الحفظ للكتب السابقة من جهة النّص، كما نعلم جميعا؛ ومع أن الكلام في أصله كلام، سواء كان من الله أم من المخلوقين. ونعني أن المتكلّم هو على الخيار في إثبات ما فرط منه، أو في العودة عنه؛ ولولا هذا المعنى، ما تعدّدت الكتب المنزّلة بالنظر إلى المتكلّم بها سبحانه ومُنزِلها؛ ولا تمكن أحد من العباد من تغيير كلامه. وليتحفّظ القارئ هنا، من الاسترسال في هذا المعنى (وهو القول بالبداء)، ومن التمادي فيه بعد نزول القرآن، كما تفعل الرافضة؛ لأن الله قد أخبر عن القرآن بأنه ختام الرسالات، وبأنه محفوظ بحفظ الله لفظا. فالقرآن لا يُنسخ بغيره من الكتب المنزلة على فرض بقاء الجزء المنظور فيه منها على أصله، فكيف يقول الضّلال من الروافض بنسخه بكلام الأئمة من آل البيت عليهم السلام؟!... {مَا سَمِعۡنَا بِهَـٰذَا فِی ٱلۡمِلَّةِ ٱلۡـَٔاخِرَةِ إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا ٱخۡتِلَـٰقٌ} [ص: 7]... وهنا يظهر أن الدين لا يؤخذ بالعقل، وإلا لبقي كل قائل على قوله، من دون اعتبار لما يُخالفه من أقوال أو للحق الذي تُراز به مختلف الأقوال؛ في الزمان الواحد، أو في الأزمنة المتتالية... وقد قال بعض الفقهاء، بخصوص آية النسخ السابقة: إن ما يكون مثل الآية المنسوخة أو خيرا منها، وهي قرآن، لا يكون إلا قرآنا. وهذا يحصر الناسخ والمنسوخ بحسبهم فيما هو قرآن، أي في زمن النزول وقبل الاستقرار اللفظي، كما نقول نحن؛ وهم يُنكرون نسخ السّنّة للقرآن من هذا الوجه. وأما نحن، فلا نقول بنسخ السّنّة للقرآن، وذلك من اعتبار المرتبة؛ ونعني أن القرآن أعلى في المكانة من الحديث القدسيّ أو النبويّ، والنّسخ -إن وُجد- فينبغي أن يكون من مرتبة المنسوخ أو من أعلى منها. أما النسخ المنكوس، فهو مخالف لما تحكم به الحقائق. وقد وافقَنا الشافعيّ على عدم جواز القول بنسخ السنة للقرآن، عند إبايته العمل بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» الذي سيأتي الكلام عنه. وقد ردّ بعضهم على الشافعيّ مذهبه في المسألة، بقوله هو نفسه، في إسقاط الجلد في حدّ الزنا عن الثيّب الذي رُجم، ولا مـُسقط له إلا السّنّة. وهذا عندنا -كما سيَبين بعد حين- ليس نسخا للقرآن بالسّنّة، وإنما هو تفصيل لما أُجمِل، أو تخصيص للمعنى فحسب. فإن قيل: إن التفصيل هو ما وردت به الآية من حكم الزاني! قلنا: إن التفصيل الناسخ عندنا لا يكون دائما في صورة الجزء من إجمال المنسوخ، ولكن قد يكون تفصيلا مكمّلا للتفصيل المنصوص عليه في القرآن، ويكون الإجمال مجموع التفاصيل المستقرّة في الذّهن. ومن هنا يظهر أن السّنّة داخلة في إجمال الوحي، وإن كانت مرتبة فيه دون القرآن من غير شك. وسيظهر من هذا، مدى ضلال من يزعم التمسّك بالقرآن وحده دون السّنّة؛ لأنه لا يعلم ما يفوته من العلم بالقرآن من السنّة. وهذا باب عجيب من العلم، لا يعلمه على حقيقته حتى من يوافقوننا على ظاهر كلامنا. وأما نسخ السنة بالسنة، فهو ثابت ومتعدّد؛ وهو من أحد وجوهه، متعلّق بالزمان. ونعني أن الحكم في زمان مخصوص، قد لا يوافق من كل الوجوه زمانا آخر؛ ولو لم يقع النسخ من هذه المرتبة، لبقي التشريع والتعريف بعده ناقصا؛ والحال أن التشريع قد كمل، لقول الله تعالى في محكم القرآن: {ٱلۡیَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِینَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَیۡكُمۡ نِعۡمَتِی وَرَضِیتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَـٰمَ دِینًاۚ} [المائدة: 3]. وهنا قد يسأل سائل: فما القول في الأزمنة التي أتت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وانقطاع الوحي؟ فنجيب: إن كل الأزمنة المتأخرة، يُغطّيها بالإضافة إلى القرآن والسنة، اجتهاد المجتهدين من كل زمان، بحسب الحاجة؛ غير أن هذا الاجتهاد الذي نتكلم عنه، من شرطه أن يكون من المدد النبوي الواصل إلى أولئك المجتهدين؛ سواء علموا بكون ما توصّلوا إليه مددا نبويّا لهم، أم لم يعلموا. وهذا يجعل في النهاية الأحكام كلها، في زمَنَيِ النبوة كليهما: الأول الذي هو من البعثة إلى الوفاة النبوية الشريفتَيْن، والثاني من البعثة النبوية إلى قيام الساعة، معتبرة. وهذا، يرفع الخوف من الفراغ التشريعي عند الجاهلين؛ ويجعل الأمة في حماية الله ورسوله، لا تفقد الهداية في عمومها، وإن كان شطر من أفرادها سيفقدونها، عند تحكيم عقولهم القاصرة في الدين، وعند اتباع وحي الشياطين!... ج. ما يُقال في أنواع النسخ في القرآن وحده: يُقسّم الفقهاء النسخ إلى ثلاثة أنواع: - الأول: نسخ التلاوة والحكم معا: ومثاله عندهم قول عائشة أم المؤمنين عليها السلام: "كانَ فِيما أُنْزِلَ مِنَ القُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ؛ ثُمَّ نُسِخْنَ بخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ؛ فَتُوُفِّيَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وَهُنَّ فِيما يُقْرَأُ مِنَ القُرْآنِ."[1] ؛ وكون هذا القول غير ثابت في المصحف، يجعله منسوخا. ولا داعي إلى ربط النسخ هنا بالتلاوة والحكم، ما دام المنسوخ تلاوة سيكون منسوخا حكما حتما بحسب مذهبنا. وقد ذكر القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه "الانتصار للقرآن"، أن قوما أنكروا هذا القسم لأن الأخبار فيه أخبار آحاد. وخبر الآحاد يُفيد الظنّيّة، ولا يفيد القطع، ومسألة النسخ في القرآن خطيرة، فلا تجوز العودة فيها إلى الظنّ؛ وهذا، بخلاف من فرّق بين ثبوت نزول القرآن في نفسه، وثبوت النسخ. ومن قال بهذا التفريق، قد جوّز الاستدلال على النسخ بخبر الآحاد. وأما نحن فلا نقول بثبوت النسخ من خبر الآحاد وحده، إلا إن ثبتت قرآنية الآية المنسوخة تلاوة؛ وهو ما لا ندخل في تفصيله هنا... وأما النظر في وجه نسخ الحكم وحده، فينبغي أن يُعيَّن المنسوخ منه: هل هو مما أُهمل، فعاد إلى حكم الإباحة الأول؛ أو هو مما نصّت عليه آية أخرى إثباتا أو نفيا؟... - الثاني: نسخ الحكم وبقاء التلاوة: ومثاله عندهم: نسخ حكم آية العدّة بالحول، مع بقاء التلاوة. وهم يعنون قول الله تعالى: {وَٱلَّذِینَ یُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَیَذَرُونَ أَزۡوَ ٰجًا وَصِیَّةً لِّأَزۡوَ ٰجِهِم مَّتَـٰعًا إِلَى ٱلۡحَوۡلِ غَیۡرَ إِخۡرَاجٍ} [البقرة: 240]، مع قوله سبحانه: {وَٱلَّذِینَ یُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَیَذَرُونَ أَزۡوَ ٰجًا یَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٍ وَعَشۡرًاۖ} [البقرة: 234]. وهذا لا يُعدّ عندنا نسخا للحكم؛ وسنتكلم عن الآيتيْن فيما سيأتي بإذن الله... وأما من أثبت هذا النوع من النسخ لحكمةِ: = التلاوةِ المجرّدة التي تبقى عليها الآية المنسوخة، فنحن لا نقول به؛ لأن التلاوة عندنا يتبعها الحكم وإلا عُطّلت. وقد أدخلوا في هذا المعنى قول الله تعالى: {إِن یَكُن مِّنكُمۡ عِشۡرُونَ صَـٰبِرُونَ یَغۡلِبُوا۟ مِا۟ئَتَیۡنِۚ وَإِن یَكُن مِّنكُم مِّا۟ئَةٌ یَغۡلِبُوۤا۟ أَلۡفًا مِّنَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟} [الأنفال: 65]؛ ونحن نراه تحديدا للحدّ الأدنى من الحكم؛ مع الإبقاء عليه مفتوحا من الجهتيْن بحسب حال الفرد من المؤمنين أو حال الجماعة. وهذا العلم، كما هو ظاهر، ليس منوطا بالفقه المجرّد الذي لا يكاد الفقهاء يعلمون غيره؛ ولكن هو متطلّب لعلم الأحوال، التي ينفرد بها علماء السلوك والتزكية، وقبلهم أئمة الدين. وأما عدم فهم الفقهاء للأحكام التفصيلية المنوطة من جهةٍ بالناسخ، ومن جهةٍ بالمنسوخ من الآيات بحسبهم، فهو من قصورهم، لا من العلم. والقصور الذي هو جهل، لا يُمكن أن يُجعل اعتبارا في إثبات النسخ... = التخفيفِ: بحيث أبقيت التلاوة من المنسوخ، لتدل على نعمته (التخفيف)، فهو بعيد؛ لأن التلاوة في نفسها على حكم مخصوص بها، يعلمه من يعلمه ويجهله من يجهله. وفي بعض ما ذكرنا، من مختلف مفاصل هذا الفصل، ما يدلّ على ما نقول... - الثالث: وهو نسخ التلاوة مع بقاء الحكم: وقد ذكروا له أمثلة منها آية الشيخ والشيخة؛ ونحن قد ذكرنا أن هذا النوع من النسخ غير معتبر، بما أن المـُصحف لم يتضمّنه. وذكروا له أيضا ما ورد في الصحيحيْن عن أنس في قصة أصحاب بئر معونة الذين قُتلوا وقنت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يدعو على قاتليهم. قال أنس ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رُفع: {أَن بلِّغوا عنّا قوْمَنا أنّا لقينا ربنا فرَضِيَ عنّا وأرضانا}؛ والكلام فيه على غرار سابقه... 3. الناسخ والمنسوخ من الأحكام: - قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَیۡكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ إِن تَرَكَ خَیۡرًا ٱلۡوَصِیَّةُ لِلۡوَ ٰلِدَیۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِینَ بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ} [البقرة: 180]، مع قوله سبحانه بعد ذلك: {وَلِأَبَوَیۡهِ لِكُلِّ وَ ٰحِدٍ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُۥ وَلَدٌ فَإِن لَّمۡ یَكُن لَّهُۥ وَلَدٌ وَوَرِثَهُۥۤ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ ٱلثُّلُثُۚ} [النساء: 11]: = فمن قائل في هذا، بأن الآية المتأخّرة ناسخة للسابقة؛ وهكذا فإن الحكم بالوصية للوالديْن منسوخ... = ومنهم من قال: الآيتان، لا ناسخ فيهما ولا منسوخ؛ وإنما النسخ قد وقع بالحديث النبويّ الشريف الذي جاء فيه: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ.»[2] ؛ ونحن قد قلنا آنفا إن الحديث لا ينسخ القرآن. وبقي الآن أن نبيّن مذهبنا: وهو أن الحديث المذكور مفصل لمجمل آية الوصية، مع الإبقاء على جواز العمل بحكم الوصية، في الأحوال التي تقبل ذلك، وهي معلومة في علم المواريث، كالوصية للجدّ والجدّة لكونهما والديْن؛ خصوصا عند ورود الحجب عليهما إن وُجد، أو كما هو الشأن عند إسقاط الابن تعصيب الأب. والأصل في هذا، اعتبار الأجداد والجدّات والِدِينَ؛ وبما أن معنى الوصيّة في أصله يتضمّن الخيار، فكأنها جُعِلت ليتفادى الموصِي بعض الأضرار التي تلحق الوالدِين بالمعنى العام بعد توزيع المواريث. وهذا من كمال التشريع وإتقانه... - قول الله تعالى (بخصوص معاملة أهل الكتاب): {فَٱعۡفُوا۟ وَٱصۡفَحُوا۟ حَتَّىٰ یَأۡتِیَ ٱللَّهُ بِأَمۡرِهِۦۤۗ} [البقرة: 109]، مع ناسخه (بحسب الزعم): {فَٱقۡتُلُوا۟ ٱلۡمُشۡرِكِینَ حَیۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ} [التوبة: 5]، ثم مع ناسخه مرة أخرى: {حَتَّىٰ یُعۡطُوا۟ ٱلۡجِزۡیَةَ عَن یَدٍ وَهُمۡ صَـٰغِرُونَ} [التوبة: 29]: وهذا عندنا بعيد، لبقاء الأحكام الثلاثة على أصلها؛ فإن قيل: فكيف يُحكم في المسألة الواحدة بثلاثة أحكام؟ قلنا إن ترجيح أحد الأحكام على غيره، يكون إما من حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الوقت (أي في نازلة بعينها)، أو من حكم خليفة من الخلفاء، أو حكم فقيه مجتهد معتبر. وهو مما يُحدّده الحال والظروف والقرائن... والفقهاء القائلون بالنسخ عند تعدّد الأحكام ظاهرا، في المسألة الواحدة، هو من انعدام النور لديهم في فهم القرآن، ومن ترجيح بعض التصوّرات العقلية الخاضعة للمنطق العقلي؛ وهو أمر مردود عندنا من حيث الأصل، لأن الأصل في التشريع حكم الله وحكم رسوله، وإن لم يُدرِك العبد ما يوافق منطقه العقليّ فيه. وهنا لطيفة ينبغي أن نذكرها، وهي أن المنطق العقلي الذي يُدرك من وراء الأحكام، ليس مؤسِّسا لها؛ فليحتط العبد من أن يأخذ أحكام الله ورسوله عن عقله، فيُحرَم بركة الحكم الشرعيّ. وأما المنطق العقلي، فهو يُعتبر في الأحكام فيما بعد حكم الله ورسوله، من قبيل قبول صدقة الله على عباده فإفهامهم بعض ما يُقوّي إيمانهم بالأحكام وعملهم بها... - قول الله تعالى: {لَكُمۡ دِینُكُمۡ وَلِیَ دِینِ} [الكافرون: 6]، مع ناسخه أيضا (بحسب الزعم): {فَٱقۡتُلُوا۟ ٱلۡمُشۡرِكِینَ} [التوبة: 5]، ثم مع الناسخ الآخر: {حَتَّىٰ یُعۡطُوا۟ ٱلۡجِزۡیَةَ عَن یَدٍ وَهُمۡ صَـٰغِرُونَ} [التوبة: 29]: وهذه الآيات لا نسخ فيها أيضا، وذلك -زيادة على ما ذكرنا آنفا- منقسم بين ما هو حكم عقدي، وما هو حكم عملي يندرج في معاملة أهل الكتاب. فقول الله تعالى من سورة "الكافرون"، هو تفريق حكميّ بين المؤمنين والكافرين، سابق على كل حكم عملي؛ لذلك فلا وجه للنظر إليه مقابلا للأحكام العملية. ونعني هنا أنّ الحكم العقدي حكم شامل لكل حكم عملي يندرج تحته، فلا يجوز النظر إليه على أنه مقابل لأحدها البتّة... - قول الله تعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ عَلَیۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ لَا یَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَیۡتُمۡۚ} [المائدة: 105]: قيل: إن هذه الآية قد نسخ آخرها أولها؛ وهو من أشنع الأقوال. وكأنهم فهموا أن آخر الآية يثبت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بينما أولها لا يُثبتهما. والحق هو أن المسألة تتعلّق بترتيب الأحكام، لا بالنسخ: ونعني أن العبد مكلّف أوّلا بالعمل بالأحكام في نفسه، فإن عمل، فبعد ذلك يأمر غيره؛ وإلا صار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبثا. ومن شاء أن ينظر إلى المعنى ماثلا لناظريْه، فلينظر إلى إسلاميّي زماننا وإلى فقهائه، الذين يُحسنون أمر غيرهم، مع إقامتهم على المخالفات البيّنة، من دون حياء... وهنا ينبغي أن نذكر مسألة متفرعة عن التي كنّا بصددها، وهي: هل يجوز للعاصي أن يأمر غيره بالطاعة؟... وقد أفتى الفقهاء المعتبرون بوجوب الأمر بالطاعة، وإن كان الآمر عاصيا؛ وهذا، حتى لا تندرس أحكام الشريعة في المجتمع المسلم. ونحن من غير شك، نوافق هؤلاء الفقهاء على رأيهم؛ ولكنّنا لا نقول بإطلاقه: ونعني أن العاصي الذي ينبغي عليه أن يأمر غيره بالطاعة، هو العاصي في الوقت، أو العاصي المخالف المتردّد بين الطاعة والمعصية؛ وأما العاصي المقيم على المعصية، فعليه أن يشتغل بخاصة نفسه؛ لأنه سيصير مستهينا بالشريعة. والمستهين بالشريعة، لا يُنظر فيما يتعلّق به من تكاليف، لأنه يُشابه الكافر!... فلا يُتصوّر منهما أمر بمعروف ولا نهي عن منكر. وعلى رأس هؤلاء العباد إبليس نفسه، فقد أجمع أولياء الله ذوو النور في فهم الشريعة، على وجوب عصيانه، إن هو أمر عبدا بطاعة بعينها؛ ومن يطعه فإنه يضلّ بتلك الطاعة. وهذا لأن اللعين لا يأمر بطاعة خالصة لله، ولا يُتصوّر منه ذلك؛ ومخالفته أصل ينبغي على الناظر أن يُقدّمه على النظر في الطاعة المأمور بها. نقول هذا من باب العموم، وإلا فإن من كان على بصيرة، فإنه يعلم مراد إبليس من أمره بالطاعة، في الحال!... وهنا مسألة فرعية أخرى، نبغي الإفادة بذكرها، وهي: هل الكافر مكلّف بتفاصيل تكاليف الإسلام؟ والجواب هو نعم، لكنّ تلك التكاليف لا يُنظر فيها على التفصيل، ما دام الكفر مقابلا لمـُجمل الإيمان. وفي هذا القدر كفاية لطالب العلم... - قول الله تعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ إِنَّاۤ أَحۡلَلۡنَا لَكَ أَزۡوَ ٰجَكَ ٱلَّـٰتِیۤ ءَاتَیۡتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتۡ یَمِینُكَ مِمَّاۤ أَفَاۤءَ ٱللَّهُ عَلَیۡكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّـٰتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَـٰلَـٰتِكَ ٱلَّـٰتِی هَاجَرۡنَ مَعَكَ وَٱمۡرَأَةً مُّؤۡمِنَةً إِن وَهَبَتۡ نَفۡسَهَا لِلنَّبِیِّ إِنۡ أَرَادَ ٱلنَّبِیُّ أَن یَسۡتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَۗ} [الأحزاب: 50]، مع قوله تعالى: {لَّا یَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَاۤءُ مِنۢ بَعۡدُ وَلَاۤ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنۡ أَزۡوَ ٰجٍ وَلَوۡ أَعۡجَبَكَ حُسۡنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ یَمِینُكَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءٍ رَّقِیبًا} [الأحزاب: 52]: والقول في هذا، هو أن الآيتيْن مخصوصتان بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ولا تتعدّيانه إلى عموم أمته. ثم إن هذا النسخ، متعلّق بحال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عند نزول القرآن؛ وقد ذكرنا هذا الأصل من العلم بالقرآن فيما سبق من الكتاب، وإن كنّا نعلم أنّ أهله قلة من الخواصّ. وأما إن قيل: لمَ أثبت الله هذا الصنف من النسخ في القرآن، مع كونه مخصوصا بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وحده؟... فإننا نجيب: إن القرآن لا يكمل لعبدٍ فهمه، حتى يكون له إذن بالاطلاع على باطن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيزداد من علمه بالله في كلامه بحسب علمه بباطن النبي عند نزول الآيات. وهكذا، فإن ظهر أن الحكم منسوخ من جهة المخاطَب صلى الله عليه وآله وسلم، وما يتعلّق بحاله، فإن ذلك كله لا ينفصل عن العالِم بالقرآن التالي له؛ وهذا من كون الوارث النبويّ مظهرا للقرآن في الزمان، كما أخبرنا غير ما مرّة. ونعني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من مرتبته الجامعة الشاملة، هو من يدور عليه القرآن بمجمله ومفصّله، بمحكمه ومتشابهه، بناسخه ومنسوخه؛ وإن العلم به عليه وآله الصلاة والسلام، هو من صميم العلم بالله. ولا أحد يعلم مقدار ما ننبّه إليه كالورثة المحمّديّين، لأنهم يجدون ذلك من أنفسهم كما وجده النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ حتى لا يبقى فرق بين الوارث والموروث، إلا ما يكون من إمامة الموروث للوارث، التي تُبقي المسافة البينيّة ثابتة أبداً... - قول الله تعالى: {قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِی ٱلسَّمَاۤءِۖ فَلَنُوَلِّیَنَّكَ قِبۡلَةً تَرۡضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَیۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّوا۟ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥۗ} [البقرة: 144]، مع قوله سبحانه: {سَیَقُولُ ٱلسُّفَهَاۤءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّىٰهُمۡ عَن قِبۡلَتِهِمُ ٱلَّتِی كَانُوا۟ عَلَیۡهَاۚ} [البقرة: 142]: وقد رأى بعض المتفقهة وجها للنسخ هنا، مع ثبوت تأخّر الآية التي يرونها منسوخة؛ وهذا من انطماس بصيرتهم؛ فلا دخل للنسخ فيه. وأما معنى الآيتيْن فهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، كان يعلم من جهة الكشف النبويّ بأن قبلته هي الكعبة المشرّفة، ولكنه من أدبه مع مَن سبقه من الأنبياء عليهم السلام، ومع الإذن الربّانيّ، فإنه قد أبقى على بيت المقدس قِبلة له، إلى حين حكم الله في الأمر؛ فاستجاب له ربّه، فأناله مطلوبه. وتقلّب وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هو من تقلّب قلبه الشريف بحسب حكم مرتبته المنيفة، وليس من تقلب الوجه في الظاهر وحده. ولو علم المسلمون ما في جعل قبلتهم المسجد الحرام، من تشريفات، لاتخذوا كلّ أيّامهم عيدا!... ولكنّ الله شاء لهم ألا يعلموا حقيقة ما تفضّل به عليهم إلا في الآخرة، حيث سيُقْدِرهم سبحانه على احتمال منتهى الإنعام!... وأما قول السفهاء (الذين لا يعقلون حكمة الله في تغيير القبلة) من أهل الكتاب المنتقدين، فهو لتوهّمهم أنهم على أكمل التشريع؛ وهو ما لا يصحّ!... لأن الله تعالى لم يشهد في كتبه لأمة من الأمم بكمال تشريعها إلا لهذه الأمة المشرّفة، وفي القرآن الخاتم، في قوله تعالى: {ٱلۡیَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِینَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَیۡكُمۡ نِعۡمَتِی وَرَضِیتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَـٰمَ دِینًاۚ} [المائدة: 3]؛ وهذه كسابقتها، لو علم المسلمون حقيقتها لاتخذوا كل أيامهم عيدا!... ويكفيهم دلالة على ما نقول، أنهم نالوا من الله ما لم تنله أمة أخرى على الإطلاق. فاللهم حمدا وشُكرا يكافئ إنعامك، وتثبيتا على الإسلام حتى نلقاك به وأنت راض عنّا، بجاه سببك إلينا ووسيلتنا إليك صلى الله عليه وآله وسلم، يا اَللهُ يا اَللهُ يا اَلله!... - قول الله تعالى: {مَّاۤ أَفَاۤءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡیَتَـٰمَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِیلِ} [الحشر: 7]، مع قوله سبحانه: {وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّمَا غَنِمۡتُم مِّن شَیۡءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُۥ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡیَتَـٰمَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِیلِ} [الأنفال: 41]: فقد رأى الشافعيّ ومن وافقه، أنّ الآية الثانية ناسخة للأولى. أما نحن فلا نرى نسخا، وإنما نرى تخصيصا وتفصيلا في الحكم العام المجمل الأول؛ وذلك لأن كلّ ما حكم به الله لعباده، فهو حاكم به لنفسه تعالى قبلهم. ولولا أن العباد لا يعدون أن يكونوا مظاهر لأسماء الله الحسنى، ما صحّ هذا القول منّا. وقد نبّه نبيّنا ومـُعلِّمنا صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا الأصل في الأحكام الشرعية، بقوله: «إِنَّ الصَّدَقَةَ تَقَعُ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي يَدِ السّائِلِ، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللهِ بِمَكانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ.»[3]. ولهذا رُوِي أن عائشة عليها السلام (وهي راوية الحديث) أنها كانت تطيِّب الدنانير عن طريق مسحها بمنديل معطّر، قبل إخراجها للمساكين. وما رأينا من يعمل بهذه السّنّة من العاملين (وإن كان الزمان لا يخلو منهم كما ننبّه دائما)؛ بل ما رأينا من يُثبتها من الفقهاء، وهي ثابتة في السنّة النبوية!... - قول الله تعالى: {إِنَّ هَـٰذَا لَفِی ٱلصُّحُفِ ٱلۡأُولَىٰ . صُحُفِ إِبۡرَ ٰهِیمَ وَمُوسَىٰ} [الأعلى: 18-19]: وذكروا فيه أن صحف إبراهيم لا يُعرف منها اليوم شيء؛ وكأنهم أرادوا القول بأن المقارنة التي هي أصل في القول بالنسخ، غير متاحة. والحقيقة، هي أن الحكم الذي أثبته الله في قوله تعالى: {بَلۡ تُؤۡثِرُونَ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا . وَٱلۡـَٔاخِرَةُ خَیۡرٌ وَأَبۡقَىٰۤ} [الأعلى: 17- 18]، هو من الثابت المشترك بين كل الكتب المنزّلة، لا من المنسوخ. وقد قال الإمام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه: "إن الله ما أنزل الكتب من عنده، إلا ليدلّ على ذمّ الدنيا". وهذا الحكم من جهة الفقه الظاهر، لا يُجادل فيه أحد. وأما من جهة أخرى، فإن الآيتيْن من سورة الأعلى تدلّان على أن القرآن ناسخ لكل الكتب السابقة عليه زمانا؛ فالله يُبقي فيه ما يشاء من الأحكام السابقة ويؤكّدها، أو يستبدل منها ما يشاء سبحانه. وهذا أيضا، مما لا يُجادل فيه أحد... - قول الله تعالى: {قُلۡ مَا كُنتُ بِدۡعًا مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَاۤ أَدۡرِی مَا یُفۡعَلُ بِی وَلَا بِكُمۡۖ} [الأحقاف: 9]: قيل فيه إنه منسوخ قد ثبت حكمه ستّ عشرة سنة؛ والحقيقة هي أنه لا نسخ فيه، وذلك لأن هذه الآية حكمها من حكم الحقيقة، لا من حكم الشريعة. ونعني أنها من حكم باطن الشريعة، لا من حكم ظاهرها الذي يعلق به الفقهاء في الغالب. والمعنى هو أن النبيّ من جهة الحقيقة، لا يمتاز عن أحد من الرسل عليهم السلام؛ مع ثبوت إمامته لهم واستمدادهم جميعا منه، من جهة أحكام ظاهر الرسالة. وعلى القارئ أن يتنبّه إلى قاعدة أصوليّة نثبتها هنا، وهي أن النسخ إن وقع، فإنه يكون دائما منوطا بظاهر الشريعة؛ أما باطنها، فلا يلحقه نسخ. ولو أن الفقهاء تبيّنوا هذه القاعدة، لأعانتهم في النظر إلى النسخ، وفي ترتيب أحكامه عند القول به. وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم، المأمور به من قِبل ربّه: {وَمَاۤ أَدۡرِی مَا یُفۡعَلُ بِی وَلَا بِكُمۡۖ}، فهو من أدبه مع المشيئة، التي قد أبرزنا مرتبتها فيما سبق من هذا الفصل خاصة. ومما يدخل في معنى هذه الآية، قول النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: «مَنْ قالَ: أَنا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى، فقَدْ كَذَبَ!» [4]، وإخبار عائشة أم المؤمنين عليها السلام بقولها: " (...) وَكانَ (أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم) إذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيحًا، عُرِفَ فِي وَجْهِهِ. قالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ، إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْغَيْمَ فَرِحُوا رَجَاءَ أَنْ يَكونَ فِيهِ الْمَطَرُ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عُرِفَ فِي وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةُ؟! فَقالَ: «يا عَائِشَةُ، ما يُؤْمِنِّي أَنْ يَكونَ فِيهِ عَذَابٌ؟ عُذِّبَ قَوْمٌ بالرِّيحِ، وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ فَقالُوا: هَذا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا.» [5]. وهذا المعنى مما يغيب عن إدراك الفقهاء، بما أنه متعلّق بعلم المشيئة وبعلوم الأحوال؛ وهو يُفيد أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم كان أخوف الناس من انقلاب حكم المشيئة. ولا يعلم حقيقة ما ندلّ عليه، إلا الورثة المحمّديّون حصرا؛ من جهة الذوق حصرا أيضا. ومن ذاق رشحة من حال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإنه سيتعجّب من تماسك تركيبه الشريف، مع ثقل مواجيده العليّة. فسبحان من جعله (عليه وآله الصلاة والسلام) الآية الكبرى في الأخلاق والأذواق!... - قول الله تعالى: {خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَـٰهِلِینَ} [الأعراف: 199]: ومن أغرب ما قيل فيه: إن أول الآية وآخرها منسوخان (والمقصود ما ذكرناه آنفا من الأحكام المتعلّقة بالمشركين)، ووسطها محكم [6]؛ وهذا عندنا لا يصحّ، لأن النسخ بمعناه الأصلي، لم يرِد في مقابلة المـُحكم؛ ونعني من قولنا، أن معنى النسخ مختلف عن معنى المتشابه. ولولا أن الفقهاء قد أدمنوا على تحكيم عقولهم فيما لا إذن لهم فيه من القرآن، ما كانوا لينطقوا بمثل هذه الشناعات... - قول الله تعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا نَـٰجَیۡتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدِّمُوا۟ بَیۡنَ یَدَیۡ نَجۡوَىٰكُمۡ صَدَقَةً} [المجادلة: 12]، مع قوله تعالى: {ءَأَشۡفَقۡتُمۡ أَن تُقَدِّمُوا۟ بَیۡنَ یَدَیۡ نَجۡوَىٰكُمۡ صَدَقَـٰتٍ فَإِذۡ لَمۡ تَفۡعَلُوا۟ وَتَابَ ٱللَّهُ عَلَیۡكُمۡ فَأَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۚ} [المجادلة: 13]: وهو عندنا من النسخ المتعلّق بتبديل الأحكام جزئيّا، لا من النسخ التام. وهذا يعني أن حكم تقديم الصدقة بين يدي مخاطبة المؤمن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، باق على وجه الاستحباب، مع ثبوت حكم التخفيف في حقّ من لم يُطق ذلك من جهة المال، أو من جهة الحال. وهنا لطيفة، وهي: أن هذه الأحكام الداخلة في معاملة المؤمنين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ليست معطّلة، بوفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ومع غياب شخصه عن شهود العامّة، كما يفهم الفقهاء؛ بل هي مستمرّة إلى قيام الساعة، في معاملة مظاهر الخلفاء وعموم الورثة. وهذا المعنى المشابه لقول الله تعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تُقَدِّمُوا۟ بَیۡنَ یَدَیِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ} [الحجرات: 1]، ولقوله سبحانه أيضا: {لَّا تَجۡعَلُوا۟ دُعَاۤءَ ٱلرَّسُولِ بَیۡنَكُمۡ كَدُعَاۤءِ بَعۡضِكُم بَعۡضًاۚ} [النور: 63]، يدخل ضمن تلاوة القرآن الطّريّة، التي تكون لخواصّ المؤمنين في كل زمان. وأما من كان محجوبا بموت النبي صلى الله عليه وآله وسلّم عن القرآن، فإنه سيعلم عند اطلاعه على كلامنا، مدى نقصه وحرمانه؛ إلا أن تتداركه رحمة الله ببركة كلامنا، إن كان على تسليم... - قول الله تعالى: {إِنَّمَا وَلِیُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱلَّذِینَ یُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَیُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمۡ رَ ٰكِعُونَ} [المائدة: 55]: ونسخ هذه الآية، يقول به من أناطها بعليّ عليه السلام حصرا؛ وهو مذهب الرافضة، كما هو معلوم. وأما نحن، فإننا نراها تنطبق على كلّ من وفّقه الله للعمل بها، وهم لا يغيبون في الأزمنة؛ وأقل من تتحقّق فيه الآية، واحد ممن يأتي بفعل التصدّق وهو في حال الركوع. ويدخل في معنى الآية، من خطر له التصدّق وهو راكع، وإن وقع فعل التصدّق منه بعد الخروج من الصلاة؛ ولا شك أن هذا الصنف سيكون أكثر عددا من الصنف الأول. وأما من يكون الركوع صفة معنوية لهم، فهم كثيرون في كلّ زمان بحمد الله... - قول الله تعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ عَلَیۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ لَا یَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَیۡتُمۡۚ} [المائدة: 105]، مع قوله سبحانه: {وَأۡمُرۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱنۡهَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَاۤ أَصَابَكَۖ} [لقمان: 17]: وأمثاله مما يُفيد وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فلا نسخ فيه، وإنما هو منوط بالأحوال. ونعني أن الحال من العبد قد يجعل صاحبه من أهل الرُّخصة، وقد يجعله من أهل العزيمة؛ إمّا وجوبا وإمّا استحبابا. ونعني من الاستحباب هنا، ما يأتيه المؤمنون من أفعال على وجه النّدب والتنافس في الخيرات؛ ونعني من الوجوب، ما لا يتمكّن العبد من التملّص منه؛ وذلك كحال العالم الفقيه، الذي يجب عليه الجهر بالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر بين قومه، وإن كان في ذلك حتفه. ومن ترك هذا الصنف من الواجب فإنه يكون آثما إثما كبيرا، وقد يستحقّ تعجيل العقوبة له بسبب ذلك. وقد دلّ على هذا المعنى من الوجوب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ما مِنْ قَوْمٍ يُعمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعاصي، ثُمَّ يَقْدِرونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّروا، ثُمَّ لا يُغيِّروا، إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ مِنْهُ بِعِقابٍ.»[7] . ومن راعى مرتبتَيِ الرخصة والعزيمة في كلّ الأحكام الشرعية، فإنه سيرى عجباً من إِحكام الله لأحكامه. ومن أنفس ما أُلِّف في هذا العلم كتاب "الميزان الخضريّة"، لعبد الوهّاب الشعراني رضي الله عنه... - قول الله تعالى: {وَٱلَّـٰتِی یَأۡتِینَ ٱلۡفَـٰحِشَةَ مِن نِّسَاۤىِٕكُمۡ فَٱسۡتَشۡهِدُوا۟ عَلَیۡهِنَّ أَرۡبَعَةً مِّنكُمۡۖ فَإِن شَهِدُوا۟ فَأَمۡسِكُوهُنَّ فِی ٱلۡبُیُوتِ حَتَّىٰ یَتَوَفَّىٰهُنَّ ٱلۡمَوۡتُ أَوۡ یَجۡعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِیلًا} [النساء: 15]، مع قوله سبحانه: {ٱلزَّانِیَةُ وَٱلزَّانِی فَٱجۡلِدُوا۟ كُلَّ وَ ٰحِدٍ مِّنۡهُمَا مِا۟ئَةَ جَلۡدَةٍ وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٌ فِی دِینِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِۖ} [النور: 2]، أو مع حكم الرجم المستند إلى عمل الصحابة المرضيّين: وقد قيل في هذا الصنف من النسخ (عند من يقول به): إنه نسخ إلى بدل أثقل؛ وذلك لأنهم رأوا في النسخ أنه إما نسخ إلى بدل أو نسخ إلى غير بدل، وهذا قد جعلوه -كما أسلفنا- نسخا إلى بدل، لكنه أثقل. ونحن على ما ذهبنا إليه في كلّ كلامنا، لا نرى هذا النسخ؛ وإنما نُبقي على كل حكم بحسب حال عموم الناس وأفرادهم، وهذا الذي نحن بصدده هو أدخل في الأحوال العامة. وإن نحن نظرنا إلى زماننا، حيث قد نبذ المسلمون أحكام الله بصفة شبه كلّيّة، فإننا سنجد العمل بحكم الحبس في البيوت على من ثبت عليهن الفعل من النساء، أولى بالاعتبار: أولا: لأن الحكم مخصوص بالنساء، ولا يعم الرجال معهنّ، كما يعم حكم الجلد والرجم. ثانيا: لأن العمل بحكم الحبس في محلّه، أولى من نبذ أحكام الله جملة؛ لأن نبذ أحكام الله يُدخل الناس في معنى من معاني الكفر، وهو أمر خطير... ولم نر من الفقهاء، من تنبّه إلى هذه الفروق في الاعتبار، بغية تقريب العمل بالشريعة لأهل الأزمنة المتأخرة؛ مع أن هذا يبقى ضمن ما لا يُتجاوز، بل ضمن ما لا تنبغي مجاوزته. وأما تقليد الكافرين في هذه المسائل، أو العمل بالتوصيات "الدولية"، فهو من الكفر الصريح الذي ينبغي للناس الفرار منه... - قول الله تعالى: {وَعَلَى ٱلَّذِینَ یُطِیقُونَهُۥ فِدۡیَةٌ طَعَامُ مِسۡكِینٍ} [البقرة: 184]، مع قوله سبحانه: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡیَصُمۡهُۖ} [البقرة: 185]: فنحن لا نرى النسخ فيه، بالمعنى المراد للفقهاء، ولكن نراه نسخا جزئيّا في الأحكام الأصلية. ودليلنا قول الله تعالى، في تمام الآية الأولى: {فَمَن تَطَوَّعَ خَیۡرًا فَهُوَ خَیۡرٌ لَّهُۥۚ وَأَن تَصُومُوا۟ خَیۡرٌ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} [البقرة: 184]، وهو تدرّج في الأحكام غير خفيّ. فبقي أنّ المستخلص من كل ما سبق، هو أن الإفطار في رمضان لا يكون إلا بعذر، مما ذكره الله تعالى في قوله: {وَمَن كَانَ مَرِیضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنۡ أَیَّامٍ أُخَرَۗ } [البقرة: 185]؛ لكن أصحاب العذر أنفسهم، يكونون على اختلاف في احتمال مشقّة الصيام؛ فبهذا الاختلاف في الطاقة، يتعلّق جواز الترخّص، ويُستحبّ الصيام مع وجود الأعذار. ونحن هنا نخالف من قال بأن الإفطار في السفر، هو عمل بالسنّة؛ وذلك لأن العمل بالفرض الذي هو الصيام، أولى بالاعتبار؛ ولأن السّنة نفسها ترخّص، ولا يمكن أن تعتبر في مقابلة إيجاب الصيام بالقرآن أبدا... - قول الله تعالى: {وَإِن تُبۡدُوا۟ مَا فِیۤ أَنفُسِكُمۡ أَوۡ تُخۡفُوهُ یُحَاسِبۡكُم بِهِ ٱللَّهُۖ} [البقرة: 284]، مع قوله سبحانه: {لَا یُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ} [البقرة: 286]: فهذا عندنا لا نسخ فيه؛ لأن الآية الأولى منوطة بعلم الله بما يُبديه الناس وبما يُخفونه؛ ومحاسبته سبحانه لعباده تابعة لعلمه؛ وأما الآية الثانية، فهي منوطة بأحوال النفوس، واعتبار وُسعها وإطاقتها تابع لها؛ وبين الأمريْن فرقان لا تحسن مجاوزته... - قول الله تعالى: {ٱنفِرُوا۟ خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَـٰهِدُوا۟ بِأَمۡوَ ٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِۚ} [التوبة: 41]، مع قوله سبحانه: {لَّیۡسَ عَلَى ٱلضُّعَفَاۤءِ وَلَا عَلَى ٱلۡمَرۡضَىٰ وَلَا عَلَى ٱلَّذِینَ لَا یَجِدُونَ مَا یُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا۟ لِلَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ} [التوبة: 91]، وقوله سبحانه أيضا: {وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِیَنفِرُوا۟ كَاۤفَّةً} [التوبة: 122]: وهذا من نسخ درجة الحكم تجوّزا، كما سبق أن ذكرنا في مواضع أخرى؛ وهو متعلّق بالأحوال كما لا يخفى. فالمريض الغني لا يسقط عنه الجهاد بالمال، كما لا يسقط الجهاد بالنفس عن الصحيح؛ والعالم (في شتى مجالات العلم) مكلّف بأن يُجاهد بعلمه وإن كان فقيرا ومريضا، وهكذا ينبغي أن يُنظر في تنزيل حكم الجهاد الأصلي الواجب. وإن تحقيق المناطات وتحقُّقها في هذا الأمر، سهل في زماننا على إدراك الناس، إن وجدوا الفقيه الناصح... 4. محاذير القول بالنسخ: ا. الإكثار: وهو يتحقّق بالنظر إلى بعض القائلين بالنسخ، عند اعتباره في غير محلّه؛ ونحن نرى أن هذا الإكثار وإن كان محدودا، قد دخل فيه جلّ الفقهاء. ومن تأمل كلامنا السابق، فإنه سيعلم ذلك على وجه التفصيل بإذن الله تعالى... وإنّ أشنع هذا التعدّي لحدود النسخ، هو تجريد الآية من حكمها على التمام، مع ثبوتها تلاوة بالنّصّ، مما أثبتنا مخالفتنا له آنفا. ولا ندري السبب الباعث لبعض الفقهاء على الوقوع في هذه المصيبة، إلا طغيان الظلمة على البصائر، والإنصات إلى وحي الشيطان... ب. زعم التحري: وهو ما وقع فيه جلّ الفقهاء، من مخالفة الحق، وإن زعموا أنهم حريصون عليه. والسبب المؤدّي إلى هذا الصنف هو: الجهل بالمـُجمل والمـُفصّل أحيانا، والجهل بالتخصيص والتعميم أحيانا أخرى، والجهل بعلوم الأحوال التي لا تكاد تُذكر في فقه الفقهاء. ونعني بهذا التقابل في هذه العلوم: النِّسَب التي تكون بين المعلومات المختلفة، والتي قد تُعلم أحيانا، وتُجهَل أُخرى؛ أو قد يُعلم بعضها وبعض وجوهها أحيانا، مع تحقُّق الجهل بالبعض الآخر. وهذا عام في الفقهاء من مرتبتهم، بسبب عدم تمام علمهم... ج. التقيُّد بسبب النزول في غير محلّه: وهذا وإن كان معتبرا فيما يُناسبه من أحوال، فإنه لا يُسلّم به في غير ذلك؛ لأن التشريع ينبغي أن يُغطّي كلّ أفعال المكلّفين، كما هو معلوم بالضرورة. وأما التقيّد بسبب النزول حصرا، فهو من الجهل بتعلّق القرآن بجميع الأزمنة، مهما تباعدت، أو مهما تباعد أصحابها في الأحوال. وهذا العلم، مما ينبغي تجديده في زماننا، لئلا يظنّ الناس أن الدين جامد الصورة، فيدخلوا في مرتبة الكتابيّة المخصوصة بالمسلمين، كما هو الشأن الآن بلا شكّ. وإنّ النّظر في سبب النزول، ينبغي أن يقع التفصيل فيه عند تحقيق الحكم، من جِهتَيْن: الصورة، والمعنى. ولو تنبّه الفقهاء إلى وجوب التفريق في الاعتبار، بين الصورة والمعنى، لوقعوا على علم جديد عليهم، يكاد يُعادل في الكثرة والقيمة، علمهم الذي هم عليه... د. عدم اعتبار نسخ القرآن لأحكام كانت ثابتة في الشرائع السابقة: وهذا، لأننا لسنا مستقلّين عن الأمم السابقة على التمام، ونخص أهل الكتاب قبل غيرهم. ومن لا يعتبر هذا العموم في التشريع، فإنه سيغيب عنه كون الناس من أولهم إلى آخرهم أمة واحدة، كما أخبر الله في قوله تعالى: {كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَ ٰحِدَةً فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِیِّـۧنَ} [البقرة: 213]، وفي قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلَّاۤ أُمَّةً وَ ٰحِدَةً فَٱخۡتَلَفُوا۟ۚ} [يونس: 19]؛ خصوصا عند اعتبار كون نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، هو النبيّ العام لكل الأمم. ثم بعد ذلك سيغيب عن الناس التخفيف في التشريع المحمدي، الذي خُصّت به هذه الأمة، من دون سواها من الأمم، إكراما لها. وإن العلم بهذا الاختصاص، باب خاص من أبواب شكر الله تعالى؛ فلا ينبغي لأهل العلم إغفاله!... ه. سوء إدراك الزمان: وهو ما كنّا نرجئ الكلام عنه إلى هذا المحلّ. والسبب الأساس في القول بالنسخ، هو أن النّاظر في القرآن، عندما ينظر إلى آيتيْن متقاربتيْن من حيث المناطات، ويعلم أنّ إحداهما متأخّرة في النزول عن الأخرى، فإنه يُسارع مع ضعف عقله عن استيعاب الاختلاف في المعاني أو الأحكام، إلى القول بنسخ الآية الثانية في الترتيب الزماني، للآية الأولى؛ وهذا، لا يكون دائما صحيحا؛ وإنما هو من تحكّم العقول، كما لا يخفى. والعقل لا مدخل له في إدراك معاني القرآن، من نفسه، وإن كان من أقوى العقول من جهة التعقّل؛ وهذا، هو ما دللنا عليه في مواضع عدّة من كتاباتنا. وقد ذهل جلّ الفقهاء عن هذا الأصل، واستزلّهم الشيطان بحيله، فضلّوا وهم يحسبون أنهم على شيء!... والحقيقة التي كان ينبغي أن ينطلق منها كل قارئ للقرآن، هي أن القرآن مهيْمن على الزمان؛ والمقصود من الكلام هو أنه دهريّ. وأما الزمان المعلوم للناس، والذي هو إما ماضٍ أو حاضر أو مستقبل، فله اعتبارات داخل القرآن، بالنظر إلى المظاهر المتعاقبة، لا إلى الحقائق. وقد سبق لنا أن ذكّرنا -إما فيما سبق من هذا الكتاب أو في غيره- أن الحقائق، هي ما يُسمّيه الله في القرآن العزيز: "سنّة الله"؛ فيقول جلّ من قائل: {سُنَّةَ ٱللَّهِ فِی ٱلَّذِینَ خَلَوۡا۟ مِن قَبۡلُۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ قَدَرًا مَّقۡدُورًا} [الأحزاب: 38]، ويقول سبحانه أيضا: {سُنَّةَ ٱللَّهِ فِی ٱلَّذِینَ خَلَوۡا۟ مِن قَبۡلُۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبۡدِیلًا} [الأحزاب: 62]، ويقول سبحانه أيضا: {فَهَلۡ یَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ ٱلۡأَوَّلِینَۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبۡدِیلًاۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحۡوِیلًا} [فاطر: 43]، ويقول سبحانه أيضا: {سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِی قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلُۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبۡدِیلًا} [الفتح: 23]. ومن أنعم النظر في الآيات الكريمة، فإنه سيجد نفسه أمام وجهيْن لها: وجه لا يتبدّل، ووجه لا ينفكّ عن التبدّل. والأول الذي لا يتبدّل، داخل ضمن معنى قرآنية القرآن؛ في حين يدخل الوجه الذي لا يقرّ، ضمن معنى فرقانية القرآن. ونعني من هذا، أن ما لا يتبدّل، هو المراتب والمقامات والمنازل؛ وأن ما يتبدّل هو مظهر صاحب المرتبة، ومظهر المقيم والنازل. ومن أدرك ما نقول، فإنه سيعلم طريقة النظر إلى الأشخاص المذكورين بأعيانهم في القرآن، ويعلم من أي حقيقة هم؛ ويعلم أيضا طريقة النظر إلى الأحداث المنوطة بأزمنة مخصوصة، ومن أي الحقائق هي؛ ويعلم مع هذا وذاك، القرآن من الفرقان، والمتعيّن في الزمان والمكان خارجهما (أي خارج المكان والزمان)؛ أي من مرتبة أعلى منهما وسابقة عليهما في الترتيب، ولسنا نعني إلا التعيّن الأول المسمّى بالحقيقة المحمّديّة. ومن هذا الباب قال أئمتنا في الطريق، ونقول نحن من بعدهم: إن لكل زمان آدم، وله نوح وإبراهيم وموسى وعيسى من محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ وله فرعون وأبو جهل وأبو لهب وغيرهم، في المقابل؛ وله طوفانه، ورجفته، وصعقته، وغير ذلك من الظروف والأحوال والأسباب. ولا ينبغي أن ينحجب أحد بثبوت وقف صنوف البلاء التي كانت معهودة لدى الأمم السابقة ظاهرا، في زمان هذه الأمة المحمديّة، إكراما لنبيّها صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن ذلك كله ثابت من الجهة المعنوية، ولا يتخلّف منه شيء في كل زمان. ولولا هذا، ما تحقّق اعتبار الإخبار القرآني، بما وقع للأمم السابقة، فيما هو عائد إلى خصوص أحوال هذه الأمة!... ولكان بعض القرآن تاريخا من جملة التاريخ، وهذا محال!... تعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا!... وقد سقط في هذه الآفة، بعض مَن يعدّون أنفسهم مفكّرين في هذه الأزمنة المتأخّرة، فما أبانوا إلا عن ضعف عقولهم!... وإن تنزيل القرآن، كل القرآن، على هذه الأزمنة، لا يُطيقه إلا أهل القرآن: أهل الله وخاصته؛ وهو علم بديع، يكشف به الله لعباده ما لا تناله العبارة، ولا تحدّه الإشارة من الجمال والإتقان. وهذا الوجه، هو حقيقة القرآن الذي أنزله الله على عبده الأخصّ محمد المحمود عليه وآله الصلاة والسلام. وأما ما اعتاد الفقهاء تناوله على مرّ القرون، فهو أبعاض القرآن، بحسب ما يأذن الله لهم، ومن الوجوه التي يُتيحها لهم فحسب. فهم -رحمهم الله- من هذا الوجه داخلون من جهة الحقيقة، في قول الله تعالى: {أَفَتُؤۡمِنُونَ بِبَعۡضِ ٱلۡكِتَـٰبِ وَتَكۡفُرُونَ بِبَعۡضٍ} [البقرة: 85]؛ ولا يُخرجهم من تبعات حالهم، إلا التسليم للخواصّ من أمثالنا فيما يُخبرون به عن كلام الله. ولن يُطيقوا التسليم، إلا إن دُلّوا من قِبل الراسخين في العلم، على مواطن نقصهم وقصورهم. ونحن نرجو أن ينفع الله بكلامنا هذا فقهاء زماننا، حتى يترقّوا بفضل الله، إلى مصافّ الفقهاء المعتبرين عنده سبحانه... وليعلم القارئ في ختام هذا الفصل، بأننا قد طفنا بمسألة النسخ طوافا، ولم ندقّقها تدقيقا أو نحقّقها تحقيقا؛ وذلك لاتساعها واتساع تفصيل الكلام في كل علمها. [1] . أخرجه مسلم، عن عائشة عليها السلام. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.