اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2024/12/30 الإنسان القرآن (مقدمة في تفسير القرآن الكريــم) .23 الباب الثاني: العلوم المتعلّقة بالقرآن الفصل السابع: القرآن بين التعريف والتشريع
ينقسم الخطاب القرآني إلى قسميْن رئيسيْن هما: - خطاب التعريف، وهو غالب القرآن. - وخطاب التشريع، وهو أقل القرآن. هذا، مع اشتراك القسميْن فيما هو حقائق إلهية، ينبني عليها الخطابان معا؛ وهذا يعني أن التعريف في القرآن عام، يشمل التشريع أيضا. ولعلّ هذا التفريق وهذا الاشتراك، سيَبينان عند إيرادنا للآيات القرآنية الكريمة، وإبراز ما فيها من خصائص... ورغم أن الفقهاء لا يكادون يعلمون من القرآن إلا جزءه التشريعي، فإن القرآن لا يخلو من تعريف بالمتكلِّم سبحانه، هو ما ينبغي اعتباره أولا؛ حتى في الآيات التشريعية التي لا يعلم الفقهاء منها إلا أحكامها العلمية والعملية. وهذا يعني أن القصد الأول من الكلام الإلهي، هو تعريف العباد بالله من حيث ذاته وصفاته وأفعاله؛ أي من حيث أسماؤه سبحانه وتعالى. وهذا التعريف القرآني، ليس مقصورا على الإخبار كما يتبادر إلى الأذهان، ولكن هو تعريف ذوقيّ بعد ذلك، على ما يعلمه الكُمّل من الأولياء. وعندما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلو القرآن على المشركين من قريش وعلى أهل الكتاب، عن أمر ربّانيّ، فإنه كان يقصد أن يتعرّف العباد على ربّهم، لا أن يعلموا الحلال والحرام في البداية. ولا شك أن أول ما نزل من القرآن، والذي استُهِلّ بقول الله تعالى: {ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِی خَلَقَ} [العلق: 1]، يظهر منه جليّا أن المقصود من قراءة القرآن على النفس وعلى الغير، هو التعرف على خالق الخلق سبحانه. وعندما كان العباد الذين يستمعون إلى القرآن، يتأثرون لأول وهلة، وإن كانوا أحيانا لا يعلمون اللسان العربي، فإن ذلك كان يحدث بسبب ما تتعرّف النفوس -عن طريق اللسان أو من دونه- من ربّها. وهذا التأثّر -كما يعلمه العالِمون- لا قُدرة لأحد على مقاومته. وقد جاء في سيرة ابن إسحاق: [وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أنه حدث: أن أبا سفيان بن حرب، وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي، حليف بني زهرة، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي من الليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه، وكلٌّ لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا. فجمعهم الطريق، فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا؛ حتى إذا كانت الليلة الثانية، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا؛ حتى إذا كانت الليلة الثالثة، أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود: فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرقوا. فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها، ولا ما يراد بها. قال الأخنس: وأنا الذي حلفتَ به (أي كذلك). قال: ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت، تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاذينا على الركب (انتصبوا عليها في المنافسة)، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء! فمتى ندرك مثل هذه، والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه. قال: فقام عنه الأخنس وتركه. وعن المغيرة بن شعبة قال: إن أول يوم عرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أني كنت أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة، إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لأبي جهل: «يا أبا الحكم، هلمّ إلى الله وإلى رسوله! أدعوك إلى الله.». فقال أبو جهل: يا محمد، هل أنت منته عن سب آلهتنا؟ هل تريد إلا أن نشهد أنك قد بلغت؟ فنحن نشهد أن قد بلغت؛ فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حق لاتبعتك. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عليّ (أبو جهل) فقال: والله إني لأعلم أن ما يقول حق، ولكن يمنعني شيء: إنّ بني قصيّ، قالوا: فينا الحجابة. فقلنا: نعم. ثم قالوا: فينا السقاية. فقلنا: نعم. ثم قالوا: فينا الندوة. فقلنا: نعم. ثم قالوا فينا اللواء. فقلنا: نعم. ثم أطعموا وأطعمنا، حتى إذا تحاكّت الركب، قالوا: منا نبي. والله لا أفعل!... قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا عليهم القرآن، ودعاهم إلى الله، قالوا يهزأون به: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه، لا نفقه ما تقول، وفي آذاننا وقر لا نسمع ما تقول، ومن بيننا وبينك حجاب قد حال بيننا وبينك؛ فاعمل بما أنت عليه إننا عاملون بما نحن عليه، إنا لا نفقه عنك شيئا. فأنزل الله تعالى في ذلك: {وَإِذَا قَرَأۡتَ ٱلۡقُرۡءَانَ جَعَلۡنَا بَیۡنَكَ وَبَیۡنَ ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡـَٔاخِرَةِ حِجَابًا مَّسۡتُورًا} [الإسراء: 45]، إلى قوله: {وَإِذَا ذَكَرۡتَ رَبَّكَ فِی ٱلۡقُرۡءَانِ وَحۡدَهُۥ وَلَّوۡا۟ عَلَىٰۤ أَدۡبَـٰرِهِمۡ نُفُورًا} [الإسراء: 46].[1]] . والآن علينا أن نتبيّن حقيقة ما يقع فيه الناس بإزاء القرآن: ا. إن العباد في البداية، كلهم يعرفون الحق من ربّهم؛ ويدخل ضمنهم الذي سينشرح قلبه للإسلام، والذي سيعود إلى الكفر. ولولا أن الأمر هكذا، لم تقم الحجّة على الكافرين؛ ونعني أن الكافر سيشهد على نفسه بمعرفة الحق ثم جحوده. وهذا هو معنى الكفر حقيقة... ب. وينقسم الناس بعد معرفة الحق، ثم الإيمان أو الكفران، إلى قسمين: = قسم يقرّه الله على إيمانه، ويزيده إيمانا بحسب اتباعه للرسول صلى الله عليه وآله وسلم. = وقسم يعود إلى ظلمة الكفر، جزاء على جحوده الحق. وهذا هو معنى جعل الله بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم (السراج المنير)، حجابا مستورا؛ ومعنى جعل الأكنة على القلوب والأوقار على الآذان، كما في قول الله تعالى: {وَمِنۡهُم مَّن یَسۡتَمِعُ إِلَیۡكَۖ وَجَعَلۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً أَن یَفۡقَهُوهُ وَفِیۤ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرًاۚ} [الأنعام: 25]. فهذا من الجزاء، لا بالأصالة؛ ولولا هذا، لما كان الكفر بالاصطلاح، كفرا بالمعنى اللغوي، والذي هو تغطية الإيمان؛ ولكان الكفر انقطاعا عن الله على التمام، وهو ما لا يصحّ من جهة الحقائق... ج. إن الناس يبقون على هذا التقسيم، إلى قيام الساعة؛ ونحن نذكر هذا، رفعا لتوهّم اختلاف الحال بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وهو ما يؤكّد استمرار الدين من غير زيادة ولا نقصان، بما يُقيم الحجّة على كل أهل الأزمنة المتأخّرة... كل الذي مرّ، هو من جهة فهم الكلام عن طريق السمع المعتاد؛ وأما الذوق، الذي تُدرك فيه معاني القرآن، من باطن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن طريق الاستمداد، فهو مخصوص بخواص هذه الأمة، وفيه قد ورد قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم على التحقيق: «يُقالُ لِصاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَارْتَقِ، وَرَتِّلْ كَما كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنيا، فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُها.»[2] . وكما هو واضح من الألفاظ، فإن هذه القراءة قراءة العمر، بما أنها منوطة بدنيا العبد كلها. والمقصود من المنزل، المنزلة في الجنّة، وهي المناسِبة للمقام الذي يُحصّله العبد من سلوكه. ولننبّه أولا، إلى الأقسام الكبرى المتعلّقة بقراءة القرآن الذوقية، والتي منها (وقد جعلنا الفهم المعتاد مرتبة دنيا عامة): - مَن هم عموم أهل الدين: وهم المسلمون والمؤمنون والمحسنون. يقول الله عن أهل الإسلام وأهل الإيمان: {قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُوا۟ وَلَـٰكِن قُولُوۤا۟ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا یَدۡخُلِ ٱلۡإِیمَـٰنُ فِی قُلُوبِكُمۡۖ} [الحجرات: 14]، وهذا يعني أن الإسلام والإيمان مرتبتان مختلفتان ومتمايزتان؛ ويعني أن أهل الإسلام (العوام)، ليس لهم من القرآن إلا أجر القراءة، وما يحصلونه من علم بالأحكام الشرعية، إن كانوا من أهل الفقه، أو من فهم في عموم اللسان. وأهل مرتبة الإيمان، لهم ذوق في القرآن؛ لكنهم يكونون من أهل الفرقان حقيقة، والذي يُعدّ شركا من هذه المرتبة، إن قورن أهلها إلى من هم فوقهم. وأما الإحسان فجاء فيه مثل قول الله تعالى: {ثُمَّ ٱتَّقَوا۟ وَّءَامَنُوا۟ ثُمَّ ٱتَّقَوا۟ وَّأَحۡسَنُوا۟ۚ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِینَ} [المائدة: 93]؛ و"ثم" هنا للترتيب، بما أن الإحسان مرتبة فوق مرتبة الإيمان. والإحسان -كما أخبرنا عنه في كتبنا السابقة- هو إحسان للإيمان؛ ورغم ما قد يظنّه من لا خبرة له، فأهل الإحسان هم أيضا أهل فرقان؛ لكن نهاية السلوك الديني، المؤذنة بنهاية الإحسان نفسه، والتي تُسمّى في عرف أهل الطريق "الوصول"، هي وحدها ما تتحقّق به للعبد قرآنيته في نفسه. ونعني من هذا، أن الفرقان نفسه، سيُعلم من هذه المرتبة فصاعدا، من وجه قرآنيته. وخلاصة هذا كله، هي أن الفرقان يُعلم من مرتبتيْن: إحداهما مع الغفلة وإن اختلفت درجاتها؛ والأخرى بعد التحقّق بالقرآن، ليعود الفرقان تفصيلا فيه فحسب. - العارفون: وهم مَن تحقّق لهم الوصول بالمعنى الاصطلاحي. وينقسمون إلى عوام وخواص؛ فالعوام هم عموم الواصلين ممن أسلفنا ذكرهم، والخواص وهم المتحقّقون بالأسماء التفصيلية؛ وهاتان المرتبتان هما من الوراثة. والوراثة تنقسم إلى عامة وخاصة: فالعامة هي وراثة عارف لعارف، كما يرث المريدون أشياخهم بعد انتقالهم؛ والخاصة هي وراثة النبوة. ووراثة النبوة منها عامة وخاصة: فالعامة، هي وراثة الأنبياء السابقين عليهم السلام، لكن من محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ والخاصة هي الوراثة المحمدية الكبرى والشاملة. وهي جامعة لكل ميراث، لكن على قدر الوارث، لا على قدر الموروث؛ وهذا حتى يتفاضل الورثة المحمديون فيما بينهم عبر الزمان كله، كما أخبر الله عن موروثيهم فقال سبحانه: {وَلَقَدۡ فَضَّلۡنَا بَعۡضَ ٱلنَّبِیِّـۧنَ عَلَىٰ بَعۡضٍ} [الإسراء: 55]؛ والقاعدة في هذا هي أن حكم الموروث يتعدّى إلى الوارث، ما لم يرد مخصّص من الله ورسوله. وقد جهل عموم الفقهاء هذا الأصل العظيم، فجهلوا بالتبع كل ما يتفرّع عنه من أحكام... وبحسب المراتب التي دللنا عليها، فإن العامي من مرتبة الإسلام، لا يكون له من ذوق القرآن، إلا ما هو من التلاوة العامة؛ وقد لا يكون له منها إلا تلاوة اللسان وحده، والتي هي مناط الأجر، كما ألمحنا آنفا. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثالِها؛ لا أَقولُ آلم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلامٌ حَرْفٌ، وَميمٌ حَرْفٌ.»[3] . فظاهر الحديث النبوي الشريف، يدل على أن القارئ الذي لا ذوق له في القرآن، لا يخرج من قراءته القرآن خاوي الوفاض، لأنه سيخرج بالأجر العظيم. وهذا، لأن الله تعالى جواد كريم؛ من المحال ألا يعتبر قراءة عباده لكلامه. وأما الفقهاء فلهم أجر التلاوة كسائر الناس، ويزيدون عليهم بأجر تتبع الأحكام الفقهية من الآيات التشريعية. ويزيد على هؤلاء جميعا أصحاب الاجتهاد من الفقهاء، الذين ينالون أجر إعمال عقولهم في استنباطهم للأحكام التفصيلية التي لا تُعلم من القرآن مباشرة. وزيادة على هذه الأجور التي يُثبتها الله للفقهاء المجتهدين، فهم ينالون أجر عمل العاملين باستنباطاتهم، وأجر من يعمل بها من بعدهم. فلا يخفى ما لهذه الطبقة من الأجر عند الله، خصوصا إن تعدّدت نياتهم في إنتاجهم لهذا العلم المخصوص... وأما الخواص الذين هم أهل الذوق في القرآن، فإنهم يذوقون ما يُطيقهم الله من ذوق النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وذوقه عليه وآله الصلاة والسلام ينقسم إلى قسميْن: ما هو من مرتبة حقّه، وما هو من مرتبة خلافته. وهكذا يتفاضل الذائقون في مقدار ذوقهم: فمنهم من يذوق القرآن كلّه، وهؤلاء هم الكُمّل؛ ومنهم من يذوق نصفه أو ربعه، بحسب حظّه الأزلي. وتفسير الذائقين للقرآن، يختلف عن تفسير المؤمنين؛ ومن بين ما يُعربون عنه: حال باطن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند نزول الآية؛ فيكون ذلك بمثابة أسباب النزول الغيبية. كما يُعربون عن الشؤون الإلهية والأسماء، التي يعود إليها حكم الذات في التجلّي المخصوص. وبهذا يكون تفسير الخواص للقرآن خاصا، لا يتمكن من هم من غير طبقتهم من إدراك معانيه. وأقصى ما يبقى بيد غيرهم معهم، التسليم؛ وهو نافع جدا. وتسليم الناس للورثة، تابع في الحكم لتسليمهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، الذي هو داخل في معنى الوجوب، والذي جاء فيه عن الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا یُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ یُحَكِّمُوكَ فِیمَا شَجَرَ بَیۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا یَجِدُوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ حَرَجًا مِّمَّا قَضَیۡتَ وَیُسَلِّمُوا۟ تَسۡلِیمًا} [النساء: 65]. وعلى هذا، فإن من لا يسلّم لنا فيما نذكره من أحكام متراتبة، جاء بها القرآن أو جاءت بها السّنّة، فإنه يكون ممتنعا عن التسليم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وذلك، من إعمال القاعدة المذكورة سابقا، والتي مفادها أن الوارث في حكم موروثه. ومن فهم عنّا مرادنا، فإنه سيعلم من أي جهة أُتيت الأمة، حتى توالت عليها صنوف الفتن المدلهمّة؛ وسيعلم في مقابل ذلك، من أي جهة سيأتي الأمة الشفاء من أدوائها؛ والله المستعان، ومنه وحده التوفيق، وعليه وحده التكلان... ولنعد الآن إلى نماذج من آيات القرآن، ليتبيّن القارئ ما كنّا نعنيه: 1. الآيات التعريفية: وهي أغلب القرآن من جهة الظاهر، لذلك سنقتصر على نماذج بعينها منها، طلبا للاختصار؛ ومنها قول الله تعالى: - {ٱللَّهُ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَیُّ ٱلۡقَیُّومُۚ لَا تَأۡخُذُهُۥ سِنَةٌ وَلَا نَوۡمٌ لَّهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۗ مَن ذَا ٱلَّذِی یَشۡفَعُ عِندَهُۥۤ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ یَعۡلَمُ مَا بَیۡنَ أَیۡدِیهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡۖ وَلَا یُحِیطُونَ بِشَیۡءٍ مِّنۡ عِلۡمِهِۦۤ إِلَّا بِمَا شَاۤءَۚ وَسِعَ كُرۡسِیُّهُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَۖ وَلَا یَـُٔودُهُۥ حِفۡظُهُمَاۚ وَهُوَ ٱلۡعَلِیُّ ٱلۡعَظِیمُ} [البقرة: 255]: فقوله سبحانه: = {ٱللَّهُ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَیُّ ٱلۡقَیُّومُۚ}، هو للذات المشار إليها باسمها "الله". والنفي هو لإثبات مرتبة الألوهية، التي لها الاسم "الله" من الوجه الآخر الذي هو للمرتبة. ومعنى قوله سبحانه: {ٱللَّهُ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ}، هو "لا إله إلا الله"، لأن الضمير هو، عائد إلى الاسم "الله" المذكور أولا. لكن هذا الترتيب يزيد في المعنى على كلمة التوحيد المعلومة، بما أنه يبدأ بإثبات الذات التي هي المتصفة بالصفات؛ بينما كلمة التوحيد تبدأ بنفي صفة الألوهية عن سوى الله؛ وهاتان مرتبتان متمايزتان، وإن كانت الصفات واحدة. وأما ذكر الاسميْن: "الحي" و"القيّوم"، فهو تمهيد لذكر مرتبة الإمكان التي هي مرتبة الخلق. وهذه المرتبة، من توابع الألوهية، ما دامت الذات لا تقبل التكثّر. والاسم "الحي" هو أصل هذه المرتبة الخلقية، وإليها يستند جميع المخلوقين؛ فهي بالنظر إليهم كالأم التي تلد الأبناء، لا إلى مطلق الذات. ومن حياة الله استمدت المخلوقات حيواتها المتراتبة. فأدنى الحيوات: حياة الجماد، ثم تأتي بعدها حياة النبات، ثم حياة الحيوان، ثم حياة الإنسان. وأما حياتا الملائكة والجن، فهي من حياة الأرواح؛ فيكون بذلك الملائكة أرواحا علوية وإن كانوا على الأرض، ويكون الجن أرواحا سفلية وإن صعدوا إلى السماء. والسبب في كون الملائكة أرواحا علوية هو لأنهم كانوا في الأصل خدما للأسماء الإلهية ومستشارين لخليفة الله منذ خلق الله لآدم. وأما الجن فسمّوا أرواحا سُفلية، لأنهم واقعون تحت حكم طبيعتهم كالإنسان والحيوان. وسلطان الطبيعة مع الصراع الناشئ عنه مع نور الروح، هو ما يجعل المعاصي تصدر عن ذيْنك الصنفيْن، بخلاف الملائكة الذين تخلص نشأتهم للنور وحده، وإن كانوا طبيعيّين (أي مدبرين للسماوات والأرض). ويقع التفريق في الملائكة، لأنهم ينقسمون إلى علويّين (فوق الطبيعة بالمعنى الشرعي لا الفلسفي)، وطبيعيّين (مدبرين للسماوات والأرض). والاسم "القيّوم"، هو الذي تقوم به صور المخلوقات العدمية، من كونه حقّا (وجودا)؛ ولولاه لم يظهر شيء من المخلوقات السماوية والأرضية، ولا ما فوقها. وهذا يعني أن الإمكان العلمي، كان مفتقرا إلى قيومية الوجود الحق علما، ليظهر فيما بعدُ بالقدرة إمكانا عينيا؛ وهو ما يتوهّم العوام (ومن جملتهم الفلاسفة) أنه وجود، وهيهات. وقد تكلّمنا في الفصل السابق عن حقيقة الإمكان القائمة بين حقيقتي الوجود والعدم؛ أي عن المتشابه القائم على المـحكم بشقّيْه... = {لَا تَأۡخُذُهُۥ سِنَةٌ وَلَا نَوۡمٌ}: أي لا يتصف بصفات الإمكان، تعالى الله. والسِّنة هي النوم الخفيف الذي يُصيب الناس وهم جلوس؛ والنوم، هو حالة ركود الحواس، الموجبة للغيبة؛ وهو أثقل من السِّنة. والسنة والنوم معا، هما من صفات المخلوق الممكن، لأن أصلهما عدم. وأما الصفة الوجودية فهي العلم، ومن ضمنه السمع والبصر. فمن تعطل سمعه وبصره، فإن ذلك يكون من طروء صفة العدم عليهما، وهذا لا يكون صفة إلا للمخلوق. وقد ذكرنا آنفا أن الله هو قيوم السماوات والأرض، ومن كان قيّوما، امتنع أن يتصف بصفات العدم (كالسنة والنوم هنا)؛ لأنه لو غفل أو نام، لعاد كل ملكه إلى عدمه الأصلي، كأنه لم يكن. ونعني من هذا أن العالم باق بإبقاء الله، ما دامت السماوات والأرض وبعد التبديل وخلق الآخرة... = {لَّهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۗ}: أي هو مالك الملك، وهو قيّومه، ومدبره، ومسيّره نحو غايته بحسب علمه. = {مَن ذَا ٱلَّذِی یَشۡفَعُ عِندَهُۥۤ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ}: أي يستوي عنده الخلق في عبوديتهم، بحيث إن الشفعاء الذين تبدو لهم درجة جزئية على مشفوعيهم، لا يشفعون إلا بإذنه. فيرتفع ما كان من درجة لهم مظنونة، عند عودة الشفاعة بنفسها إليه سبحانه. والشفعاء من العباد، لا بد أن تكون لهم المكانة عند الله، حتى يُشفِّعهم في سواهم؛ وهذا يجعل شفاعتهم عائدة إليه سبحانه في النهاية... = {یَعۡلَمُ مَا بَیۡنَ أَیۡدِیهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡۖ}: أي يعلم مِن قَدَرهم ما ستأتي إليهم به الأيام القابلة، كما يعلم ما جرت عليهم به الأيام الماضية؛ وهذا لأنه سبحانه يستوي في علمه ما كان وما سيكون، ويعلم إلى هذا، ما لم يكن كيف لو كان سيكون. علمه محيط، ولا يُحاط به. وهو ما يدلّ عليه قوله: = {وَلَا یُحِیطُونَ بِشَیۡءٍ مِّنۡ عِلۡمِهِۦۤ إِلَّا بِمَا شَاۤءَۚ}: والمحيطون بشيء من علمه، هم العلماء الذين علّمهم من علمه ما شاء. فلا يحيطون عند تعليمهم إلا بمثل ما أخبر به الخضر موسى عليهما السلام بقوله: "ما نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مِثْلُ ما نَقَصَ هَذا العُصفورُ مِنَ الْبَحْرِ."[4] ؛ بل ما نقص ذلك كله من علم الله شيئا له اعتبار. والنفي مع عبارة "بشيء"، يقارب الصفر، وهو ما شاء الله لهم أن يعلموا. ومن غابت عنه هذه الحقيقة، فإنه سيتيه في لا شيء طول عمره، وهو لا يدري. فيكون تيهه أسوأ من تيه بني إسرائيل في صحراء سيناء أربعين سنة. وما نرى هذا التيه ينطبق على أحد، كما ينطبق على متلقّطي الأفكار عن نظرائهم في العجز والجهل. وفي مثل هؤلاء يُقال: تمسّك غريق بغريق!... = {وَسِعَ كُرۡسِیُّهُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَۖ}: والكرسي هو الفلك المحيط بالسماوات والأرض، لكونهما محل انقسام الكلمة، بعد أن كانت واحدة في مستوى العرش. والمقصود من الآية، إظهار عظم الكرسي الذي هو محلّ القدميْن، وإحاطته بعالمـَيْ الملك والملكوت؛ ومن أجل هذا، سميت هذه الآية آية الكرسي. وأما العرش الذي يظهر الكرسي بالقياس إليه كحلقة في فلاة، فإن الله قد سكت عنه هنا، رحمة بعقول عباده... = {وَلَا یَـُٔودُهُۥ حِفۡظُهُمَاۚ وَهُوَ ٱلۡعَلِیُّ ٱلۡعَظِیمُ}: أي لا يُتعبه ولا يُثقل عليه سبحانه حفظ السماوات والأرض، جملة وتفصيلا، وأبد الدهر. وهو العليّ، فوق خلقه؛ وفي معنى الاسم "الله" من كونه اسما جامعا، هو العلي فوق أسمائه. العظيم: الذي لا يُدرَك إذا قُصد. والمعنى أن الله متجلّ في سماواته وأرضه، ولكنه لعظمته لا يُدرَك. وحتى مَنْ منّ عليه الله بالشهود، فإنه يعلم أنه يشهد مبدأ الأمر، ويعجز عن منتهاه!... فهذه هي العظمة الإلهية!... ولقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في آية الكرسي: «لِكُلِّ شَيْءٍ سَنَامٌ وَإِنَّ سَنَامَ الْقُرْآنِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَفِيهَا آيَةٌ هِيَ سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ: هِيَ آيَةُ الْكُرْسِيِّ.» [5]. وسنام الشيء أعلاه ارتفاعا، وقد جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الصفة من القرآن لسورة البقرة. وذكر الآية التي فيها، والتي هي سيدة آي القرآن، وهي آية الكرسي. ولقد نالت هذه الآية السيادة على جميع الآي، لأنها جمعت بين جميع مراتب التجلّي الذاتي الثلاث: والتي هي الذات، والصفات، والأفعال. فمن الذات، قول الله تعالى: {ٱللَّهُ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَیُّ ٱلۡقَیُّومُۚ}؛ وقد ورد في هذه العبارة أو في مثيلاتها، أنها الاسم الأعظم. وقد أخبر بذلك نبينا صلى الله عليه وآله وسلم في مثل قوله: «اِسْمُ اللَّهِ الأَعظَمُ فِي سُوَرٍ مِنَ القُرآنِ ثَلَاثٍ: فِي "البَقَرَةِ"، وَ"آلِ عِمرَانَ"، وَ"طَهَ".» [6]. واحتار الناس في اسم الله الأعظم، وما انتبهوا إلى أنه اسم من جملة الأسماء، بل هو الاسم الجامع الذي هو عَلم على الذات، من غير شك. لكنّ في مسألة الذكر باسم الله الأعظم سرّا، وهو أنه لا يكون معتبرا من مرتبة اللسان وحده، بل هو ذكر الذات. وربما قد دل على هذا المعنى سيدي الدباغ، وذكر أنه كان لا يُطيق منه عيسى (وهو من هو) إلا بضع عشرة مرة في اليوم. ودل عليه الجيلاني رضي الله عنه بقوله: "الاسم الأعظم هو "الله"، وإنما يستجاب لك إذا قلت "الله"، وليس في قلبك غيره."؛ ويبقى كلام سيدي الجيلاني ملغّزا، لغير أهله، رغم وضوح العبارة. وأما السرّ، فنتركه للقارئ، حتى يكشفه الله له... ثم جمعت آية الكرسي ذكر الصفات، من مثل: "لَا تَأۡخُذُهُۥ سِنَةٌ وَلَا نَوۡمٌ"، و"لَّهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۗ"، وما يعود إليه كل ذلك من الأسماء الإلهية على وجه التخصيص؛ ثم جمعت بعد ذلك ذكر الأفعال، وهي: "السماوات" و"الأرض"، إجمالا وتفصيلا... فبهذا الجمع، كانت آية الكرسي سيّدة الآي. وأما من قال إنها تعدل ثلث القرآن أو ربعه، فإن كلامه لا يصح؛ لأن السيادة لا تكون إلا لمن جمع فضائل القرآن كلها. وأما الفرق بين الفاتحة التي هي أم الكتاب، وبين آية الكرسي التي هي سيدة آيِهِ، فجليّ؛ وذلك لأن القرآن هو ما صدر عن الفاتحة، وأما آية الكرسي، فهي سيّدة ما صدر عن الفاتحة. وهذا يدلّ على مكانة الفاتحة على كل القرآن، لا على بعضه... وكل هذا الذي ذكرناه، يدخل في باب تعرُّف الله إلى عباده. ومع أن آية الكرسي لم يأخذ منها الفقهاء حكما من الأحكام التي يتتبّعون، فإنهم لم يهتدوا -إلا من رحم الله- إلى العلم بها. ونحن نقول: إن بهذه الآية أحكاما، لكنها مخصوصة بالراسخين في العلم، يعملون بها، كما يعمل الفقهاء بالأحكام المعروفة لهم. وهذا، هو ما جعلنا نقول بعدم خلو آيات التعريف من أحكام فقهية، من مستويات الخصوصية؛ كما لا تخلو آيات الأحكام من تعريف... وعلى كل حال، فإن كل آية تنتهي بذكر لاسم أو أكثر من أسماء الله الحسنى، فهي آية تعريفية ولا بد. وقد ذكرنا فيما سبق من هذا الكتاب، أن سورة الإخلاص مـُعرِّفة بمرتبة الأحدية، التي تكون آية الكرسي إلى جانبها معرّفة بمرتبة الواحدية من القرآن. وأما الفاتحة، كما سبق لنا أن ذكرنا، فهي أم القرآن؛ أي هي خارجة عن الترتيب الذي يكون ضمنه. ومن تنبّه، فإنه سيجد -بخلاف ما تدل عليه المكانة العلمية- مراتب التجلّي الدنيا، جامعة لجميع أحكامه. وعلم هذا، سر من الأسرار، لا يحوزه إلا أهل القرآن، أهل الله وخاصته. ولنكتف هنا بهذا الموجز، لنمرّ إلى آيات الأحكام التشريعية... 2. آيات التشريع: ومما اعتنى الفقهاء بتفصيله، العام والخاص من الخطاب، وسنبيّن قولنا فيهما معا، بحسب المناسبة: 1. العام وصيغ العموم: وقد قيل في العام: هو اللفظ المستغرق لما يصلح له، من غير حصر. وذُهِب إلى أن صيغا قد وُضعت في اللغة للدلالة على حقيقة العموم، وتُستعمل مجازا فيما عداه؛ واستدلّوا على ذلك بأدلّة نصّيّة وإجماعية ومعنوية، وهذا بحسب ترتيب الفقهاء أنفسهم: - ا. الأدلة النصية: ومنها قول الله تعالى: {وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُۥ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبۡنِی مِنۡ أَهۡلِی وَإِنَّ وَعۡدَكَ ٱلۡحَقُّ وَأَنتَ أَحۡكَمُ ٱلۡحَـٰكِمِینَ . قَالَ یَـٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَیۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ} [هود: 45-46]. وكان نوح عليه السلام قد تمسّك بقول الله له: {قُلۡنَا ٱحۡمِلۡ فِیهَا مِن كُلٍّ زَوۡجَیۡنِ ٱثۡنَیۡنِ وَأَهۡلَكَ} [هود: 40]. ولولا دلالة لفظ "أهلك" على العموم، ما صح لنوح عليه السلام أن يسأل ضمّ ابنه. غير أن الله قد خصّص العموم بقوله تعالى: {قَالَ یَـٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَیۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَیۡرُ صَـٰلِحٍ فَلَا تَسۡـَٔلۡنِ مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّیۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَـٰهِلِینَ} [هود: 46]. فدلّ هذا، على أن اللفظ من القرآن إن كان مما يُفيد العموم، يبقى على عمومه، ما لم يُخصّص. والتخصيص هنا، لا بد أن يكون بلفظ يفيده، كقول الله تعالى عن ابن نوح: {إِنَّهُۥ لَیۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ}. وأما بغير هذا، فلا يصح تخصيص لفظ "الأهل"... وأما الحكم الشرعي الذي تدلّ عليه النصوص السابقة، من باطن الشريعة، فهو اعتبار النسب المعنوي قبل النسب الحسّي. ومن هذا الجنس، قول الله تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَاۤ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِیِّـۧنَۗ} [الأحزاب: 40]، وذلك لانقطاع نسب النبوة منه، بحيث لا نبيّ بعده من أمّته عليه وآله الصلاة والسلام. ومنه أيضا عدم جواز التوارث بين مؤمن وكافر، وغير ذلك مما يمكن أن يُلحق بهذا الاعتبار في تفاصيل الأحكام... وأما التعرف الإلهي الذي هو حقيقة الآيات المذكورة، فهو عائد بعد الاسم "الله"، إلى الاسم "الولي"، الذي به يثبت النسب وتثبت النسبة. وقد ورد ذكر الاسم "الولي"، في مثل قول الله تعالى: {ٱللَّهُ وَلِیُّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ یُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ وَٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ أَوۡلِیَاۤؤُهُمُ ٱلطَّـٰغُوتُ یُخۡرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَـٰتِۗ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ} [البقرة: 257]. وهذا يعني أن الله يهدي المؤمنين الهداية الخاصة، من اسمه "الولي"، الذي يواليهم. ورغم أن هذه الولاية عامة، فإن الله أخرجها من عمومها، إلى الاعتبار الشرعي؛ فجعلها في مقابلة ولاية الطاغوت للذين كفروا، وهي على التحقيق فرع عنها فحسب. ولكن الاعتبار الشرعي، قد يطغى في الكلام الإلهي، فيخرج الكلام مزدوج المعنى والتعلّق. ولولا هذا، لانطمست الأحكام الشرعية بنور الحقيقة؛ وبالتالي لما انتفع الناس الانتفاع الخاص من الشريعة. وقد غلط بعض المتصوّفة، عندما توهّموا أن الغاية هي الحقيقة من كل الوجوه؛ فأهملوا الشريعة ولو جزئيا، مع أنها من الحقيقة، فضلوا على علم، كما ضل مهمِلو الحقيقة بزعم تعظيم الشريعة ضلالا مقابلا لضلالهم. والحق الحقيق، هو في الجمع بين الوجوه؛ وهو ما دل عليه القرآن خاصة. ومن أجل تبيّن حقائق الآيات المتناولة، فإنه ينبغي على الناظر تمييز مرتبة نوح عليه السلام، والتي هي خلافته عن الله من مرتبة الرسالة. وهذه مكانة عظيمة، لا يكاد الناس (وعلى رأسهم علماء الدين) يعرفونها. ومن أدرك ما نقول، فإنه عليه أن يعلم أن الحوار الدائر بين نوح وربه، كان من حضرتَيِ الاسم الجامع "الله"، والاسم الخليفة "الرحمن". ولقد اعتبر الرحمن في ابن نوح نسبة الرحمة الرحمانية، التي تكون النسبة الدموية فرعا عنها؛ ولكن الله شاء أن يعتبر الرحمة الرحيمية، وأمر نوحا عليه السلام من إسباقها على أمها. والخليفة من كونه عبدا، يُسارع إلى طاعة سيّده، وإن كان في ذلك حتفه. وقد دلّ نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم، على نسبتَيِ الرحمة في قوله الشريف: «الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ؛ مَنْ يَصِلْها يَصِلْهُ، وَمَنْ يَقْطَعْها يَقْطَعْهُ؛ لَها لِسانٌ طَلْقٌ ذَلْقٌ يَوْمَ الْقِيامَةِ.» [7]. ومعنى الشجنة: الشُّعبة. ومعنى الوصل من العبد: اعتبار الرحم والعمل بذلك؛ وأما من الله، فهو اعتبار عمل العبد. والقطع، هو عكس ذلك، من العبد ومن الله. ولنكتف هنا بما ذكرنا... ومن أدلة العموم أيضا، قول الله تعالى: {وَلَمَّا جَاۤءَتۡ رُسُلُنَاۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ بِٱلۡبُشۡرَىٰ قَالُوۤا۟ إِنَّا مُهۡلِكُوۤا۟ أَهۡلِ هَـٰذِهِ ٱلۡقَرۡیَةِۖ إِنَّ أَهۡلَهَا كَانُوا۟ ظَـٰلِمِینَ . قَالَ إِنَّ فِیهَا لُوطًاۚ قَالُوا۟ نَحۡنُ أَعۡلَمُ بِمَن فِیهَاۖ لَنُنَجِّیَنَّهُۥ وَأَهۡلَهُۥۤ إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ كَانَتۡ مِنَ ٱلۡغَـٰبِرِینَ} [العنكبوت: 31-32]. ووجه الدلالة، هو فهم إبراهيم بداية من لفظ {إِنَّا مُهۡلِكُوۤا۟ أَهۡلِ هَـٰذِهِ ٱلۡقَرۡیَةِۖ} العموم، وهو ما دعاه إلى ذكر لوط؛ وكان إخبار الملائكة بإنجاء لوط وأهله، باستثناء امرأته، تخصيصا لذلك العموم. وقد كان هذا التخصيص من الله إكراما لنبوة لوط، لأن العادة عند نزول العذاب (إن كان الناس من طبقة العوام) أن يَعُمّ. والأصل في هذا، قول الله تعالى: {وَٱتَّقُوا۟ فِتۡنَةً لَّا تُصِیبَنَّ ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ مِنكُمۡ خَاۤصَّةً} [الأنفال: 25]، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«يا عائِشَةُ، إِنَّ اللهَ إِذا أَنْزَلَ سَطْوَتَهُ بِأَهْلِ نِقْمَتِهِ وَفِيهِمُ الصَّالِحُونَ، فَيُصابُونَ مَعَهُمْ ثُمَّ يُبْعَثونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ وَأَعْمالِهِمْ.» [8] . وهذا يعني أن معنى العموم، منه ما يدل عليه اللفظ، ومنه ما يكون حكما عاما منوطا باللفظ؛ ويأتي التخصيص، لا ليُخصّص المعنى وحده، وإنما ليُخصّص الحكم أيضا... وإبراهيم، كنوح، عليهما السلام؛ هو ينطق من مرتبة الخلافة الإلهية من مرتبة الرسالة. وهو قد حرص على تكليم ملائكة العذاب في لوط عليه السلام، لخشيته من حكم المشيئة. والمشيئة، قد لا تعتبر أحدا من الناس، نبيا أو رسولا أو غيرهما. وبما أن إبراهيم خليفة، فإنه قد كلّم المشيئة الإلهية من الله، بألا تتجاوز لوطا عليه السلام في الاعتبار. فاستجاب الله بمشيئته لإبراهيم، ونطقت الملائكة بالحكم من كونها مظهرا للحاكم سبحانه، وأخبرت بأنها أعلم بمن في القرية؛ وليس العلم الذي تستمدّه إلا شيئا من علم الله المحيط. وظهر أن المشيئة في هذه النازلة بعينها، قد اعتبرت الشريعة، كما اعتبرتها في أحكام كثيرة أخبر الله عنها في كلامه المـُسمّى قرآنا. وسنترك للقارئ تتبع حكم المشيئة في القرآن، بوجهيْه: عند اعتبار الشريعة، وعند مجاوزتها. وهذا البحر من العلم، هو مما لا يُخاض فيه إلا بين أهله؛ وقد أشار إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من مرة، وهو أولى الناس به من مكانة خلافته الكبرى، وختمية رسالته؛ ولكن قليلا من علماء الدين من يعلم ذلك على وجهه... - ب. أدلة الإجماع: ومنها إجراء الصحابة المرضيّين لقول الله تعالى: {ٱلزَّانِیَةُ وَٱلزَّانِی فَٱجۡلِدُوا۟ كُلَّ وَ ٰحِدٍ مِّنۡهُمَا مِا۟ئَةَ جَلۡدَةٍ} [النور: 2]، وقوله سبحانه: {وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوۤا۟ أَیۡدِیَهُمَا} [المائدة: 38]، على معنى العموم. وهذا الاعتبار من الفقهاء، يؤكّد معنى اللفظ فحسب؛ لأن اللفظ من نفسه في "الزانية" و"الزاني"، و"السارق" و"السارقة" يدل على العموم، لكونه دالا هنا على الجنس، وهذا هو ما يُصرف إليه الاسم المعرّف، إن غابت قرينة التخصيص. ويجدر بنا أن نذكر في هذا المقام، أننا نحن، لا نعتبر الإجماع من مصادر التشريع، كما يعتبره الأصوليون من الفقهاء. ولقد كنّا نُبين عن أصل رأينا لتلاميذنا، عندما كنّا نُدرّس أصول الفقه في معهدنا. ونحن نقول هذا هنا، من أجل الدلالة على حكمنا في المسألة؛ وإلا فإن الكتاب يضيق عن تفصيل الكلام فيها... - ج. الأدلة المعنوية: ويُقصد منها، أن الألفاظ قد تدل على العموم، وإن كانت في أصلها لا تدلّ عليه؛ وذلك كألفاظ الشرط، والاستفهام، والموصول، والنكرة المنفية. وعلى هذا، فإن للعموم صيغه، ومنها على سبيل الإيجاز: = "كل": وذلك كقول الله تعالى: {كُلُّ نَفۡسٍ ذَاۤىِٕقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ} [آل عمران: 185]، وهو جلي لا يحتاج إلى كلام يفصله... = المـُعرّف بـ "الـ" التي ليست للعهد: وذلك كقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَیۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰا۟ۚ} [البقرة: 275]. فـ "البيع"، يُفهم على عمومه، و"الربا" أيضا على عمومه... = النكرة في سياق النفي والنهي والشرط: وذلك كقول الله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِی ٱلۡحَجِّۗ} [البقرة: 197]، وكقوله سبحانه: {فَلَا تَقُل لَّهُمَاۤ أُفٍّ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا} [الإسراء: 23]، وكقوله سبحانه أيضا: {وَإِنۡ أَحَدٌ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ ٱسۡتَجَارَكَ فَأَجِرۡهُ حَتَّىٰ یَسۡمَعَ كَلَـٰمَ ٱللَّهِ} [التوبة: 6]... = ومنها "الذي" و"التي" وما يتفرّع عنهما: وذلك كقول الله تعالى: {وَٱلَّذِی قَالَ لِوَ ٰلِدَیۡهِ أُفٍّ لَّكُمَاۤ أَتَعِدَانِنِیۤ أَنۡ أُخۡرَجَ وَقَدۡ خَلَتِ ٱلۡقُرُونُ مِن قَبۡلِی} [الأحقاف: 17]؛ والمقصود من كان سببا في نزول الآية الكريمة، وكل من تابعه في قوله إلى قيام الساعة. ومن هذا الباب أيضا قول الله تعالى: {وَٱلَّذَانِ یَأۡتِیَـٰنِهَا مِنكُمۡ فَـَٔاذُوهُمَاۖ} [النساء: 16]، وقوله سبحانه: {أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ حَقَّ عَلَیۡهِمُ ٱلۡقَوۡلُ} [الأحقاف: 18]، وقوله تعالى أيضا: {وَٱلَّـٰۤـِٔی یَىِٕسۡنَ مِنَ ٱلۡمَحِیضِ مِن نِّسَاۤىِٕكُمۡ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَـٰثَةُ أَشۡهُرٍ وَٱلَّـٰۤـِٔی لَمۡ یَحِضۡنَۚ وَأُو۟لَـٰتُ ٱلۡأَحۡمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن یَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ} [الطلاق: 4]... = وأسماء الشرط: كما في قول الله تعالى: {فَمَنۡ حَجَّ ٱلۡبَیۡتَ أَوِ ٱعۡتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡهِ أَن یَطَّوَّفَ بِهِمَاۚ} [البقرة: 158]، وفي قوله سبحانه أيضا: {وَمَا تَفۡعَلُوا۟ مِنۡ خَیۡرٍ یَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُۗ} [البقرة: 197]، وفي قوله أيضا: {وَحَیۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّوا۟ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥۗ} [البقرة: 144]، وفي قوله: {أَیًّا مَّا تَدۡعُوا۟ فَلَهُ ٱلۡأَسۡمَاۤءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ} [الإسراء: 110]... = وأسماء الجنس: وذلك كقول الله تعالى: {فَلۡیَحۡذَرِ ٱلَّذِینَ یُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦۤ} [النور: 63]، أي عن كل أمر لله ورسوله؛ وقوله سبحانه: {یُوصِیكُمُ ٱللَّهُ فِیۤ أَوۡلَـٰدِكُمۡۖ} [النساء: 11]، أي في جنس الأولاد... 2. أقسام العام: والعام على ثلاثة أقسام، وهي: ا. الباقي على عمومه: وهو كثير في القرآن، وذلك كقول الله تعالى: {وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمٌ} [البقرة: 282]، وكقوله سبحانه: {وَلَا یَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، وكقوله أيضا: {حُرِّمَتۡ عَلَیۡكُمۡ أُمَّهَـٰتُكُمۡ} [النساء: 23]، فهذه الألفاظ كلها، لا خصوص فيها... ب. العام المراد به الخصوص: وهو عندنا لا يخرج عن عمومه، وهو أيضا كثير في القرآن؛ وذلك كقول الله تعالى: {ٱلَّذِینَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُوا۟ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ} [آلا عمران: 173]، فالمراد من جهة أسباب النزول بلفظة الناس الأولى: نعيم بن مسعود رضي الله عنه، والمراد بالثانية: أبو سفيان. وأما قول من قال بأن معنى التخصيص يبقى منوطا بواحد، على ما يدلّ عليه قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَ ٰلِكُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ یُخَوِّفُ أَوۡلِیَاۤءَهُۥ} [آل عمران: 175]، بخلاف لو قال الله: "إنما أولئكم الشيطان"، فضعيف؛ لأن الشيطان واحد بحسب الوصف المتعلّق بالمرتبة، وإن كان كثيرا بالنظر إلى مظاهره، ومظاهر شيطنته. وذكروا لذلك مثليْن آخريْن، وهما قول الله تعالى: {فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ وَهُوَ قَاۤىِٕمٌ یُصَلِّی فِی ٱلۡمِحۡرَابِ} [آل عمران: 39]، وقوله أيضا: {ثُمَّ أَفِیضُوا۟ مِنۡ حَیۡثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ} [البقرة: 199]؛ فقالوا في الأول: المنادي هو جبريل عليه السلام (كما في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه)، وفي الثاني: المراد بالناس إبراهيم عليه السلام. لكنّ هذا التخصيص مرة أخرى، لا يُلغي العموم، ما دام جبريل واحدا من الملائكة فينطبق عليه اسم الجنس؛ وما دام المفيضون جماعات من الناس جاءت بعد إبراهيم عليه السلام ويشملهم فعل الإمامة في الإفاضة كما شمل إبراهيم. واللسان العربي أوسع من هذه الفهوم الضيّقة التي يرى بعض المتفقّهة أنهم وقعوا بها على شيء... ج. العام المخصوص: ونحن نرى أنه هو الآخر لا يخرج عن عمومه، وهو أيضا كثير في القرآن؛ ومن أمثلته قول الله تعالى: {وَكُلُوا۟ وَٱشۡرَبُوا۟ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَیۡطُ ٱلۡأَبۡیَضُ مِنَ ٱلۡخَیۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ} [البقرة: 187]، وقوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَیۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَیۡهِ سَبِیلًاۚ} [آل عمران: 97]؛ والمقصود به كما هو ظاهر: عموم الخطاب التكليفي، بالنظر إلى خصوص المـُكلّفين المستجيبين له من كل زمان... وأما الفرق بين العام المراد به الخصوص، والعام المخصوص، فقد نظر فيه الفقهاء من وجوه ثلاثة سنبيّن رأينا فيها بعد إيرادها، وهي: - الوجه الأول: هو أن العام المراد به الخصوص، لا يُراد شموله لجميع الأفراد من أول الأمر؛ لا من جهة تناول اللفظ، ولا من جهة الحكم، بل هو ذو أفراد استُعمِل فرد واحد منهم، أو أكثر. ولا يخفى أن هذا الوجه متعلّق من جهة بالمصاديق واختلاف أعدادها، ومن جهة أخرى باعتبار الزمان في تعدّد المصاديق. وهذان معا أمران يعسر على عوام الفقهاء إدراكهما دائما... وأما العام المخصوص، فقد رددنا عليه عند ذكره، وذكرنا أنه لا يخرج عن عمومه. وهو ما غاب عن الفقهاء الذين توهّموا أن عمومه مخصوص باللفظ لا بمعنى الحكم. ونعني من كلامنا أن الحكم يتبع عموم اللفظ، ما لم يرد مخصّص في الوصف أو في الزمان. ومن كان قد فهم عنّا، عندما تكلّمنا عن تعدّد القراءات للقرآن بحسب كل زمان، فإنه سيتبيّن ما نقصده هنا، مما غاب عن أذهان الفقهاء... - الوجه الثاني: هو اعتبار العام الصنفَ الأول مجازا، بسبب نقل اللفظ عن مدلوله الأصلي، وتنزيله على بعض أفراده فحسب؛ وأما الثاني فهو حقيقة؛ وعلى هذا المذهب أكثر الفقهاء. أما عندنا فالعموم حقيقة والخصوص حقيقة؛ والاختلاف إنما يكون بحسب التنزيل في الوقت فحسب. ونحن بهذا القول، لا نخالف من يقول بالمجاز إلا ظاهرا؛ وعدولنا عن قول الفقهاء، هو من حرصنا على تحقيق المعاني، ومن الفرار من التنميط الذي قد يعوق جُلّ العقول عن تبيّنها... - الوجه الثالث: وهو اعتبار قرينة الأول عقلية غالبا، ولا تنفكّ عنه؛ واعتبار قرينة الثاني لفظية وقد تنفكّ عنه. وأما نحن فالقرينتان عندنا عقليتان لفظيتان، مع احتمال الانفكاك تارة، وعدم احتماله أخرى. هذا، فقط!... وخلاصة القول في كل ما سبق من جهة التعريف، هو أن العام من جهة المعنى المتجاوز للفظ، هو كل شأن ذاتي؛ ويليه في المرتبة الاسم الجامع، من كونه متسميا بجميع الأسماء. والعام الباقي على عمومه، هو الاسم الجامع "الله"، وأما العام المراد به الخصوص، فهو الاسم الجامع عينه، عند اعتبار خاص فيه (اسم فرعي)، يدعو إليه حال العبد. وأما العام المخصوص، فهو كل اسم إلهي من جهة معناه، مع اعتبار اختلاف مظاهره. وقد دللنا بهذا الكلام على أصل المسألة، وأما تفصيلها فلا يحتمله الفصل؛ {وَٱللَّهُ یَهۡدِی مَن یَشَاۤءُ إِلَىٰ صِرَ ٰطٍ مُّسۡتَقِیمٍ} [البقرة: 213]... 3. الخاص وبيان المخصّص: ا. الاستثناء: وذلك كقول الله تعالى: {وَٱلَّذِینَ یَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَـٰتِ ثُمَّ لَمۡ یَأۡتُوا۟ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَاۤءَ فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَـٰنِینَ جَلۡدَةً وَلَا تَقۡبَلُوا۟ لَهُمۡ شَهَـٰدَةً أَبَدًاۚ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡفَـٰسِقُونَ . إِلَّا ٱلَّذِینَ تَابُوا۟ مِنۢ بَعۡدِ ذَ ٰلِكَ وَأَصۡلَحُوا۟} [النور: 4-5]، وقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَ ٰؤُا۟ ٱلَّذِینَ یُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَیَسۡعَوۡنَ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن یُقَتَّلُوۤا۟ أَوۡ یُصَلَّبُوۤا۟ أَوۡ تُقَطَّعَ أَیۡدِیهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَـٰفٍ أَوۡ یُنفَوۡا۟ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ ذَ ٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡیٌ فِی ٱلدُّنۡیَاۖ وَلَهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ عَذَابٌ عَظِیمٌ . إِلَّا ٱلَّذِینَ تَابُوا۟ مِن قَبۡلِ أَن تَقۡدِرُوا۟ عَلَیۡهِمۡۖ} [المائدة: 33-34]... ب. الصفة: وهو كقول الله تعالى: {وَرَبَـٰۤىِٕبُكُمُ ٱلَّـٰتِی فِی حُجُورِكُم مِّن نِّسَاۤىِٕكُمُ ٱلَّـٰتِی دَخَلۡتُم بِهِنَّ} [النساء: 23]؛ والمعنى هو أن المحرّمات هنّ الربائب من النساء المدخول بهن وحدهن، لا من عموم النساء... ج. الشرط: وهو كقول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَیۡكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ إِن تَرَكَ خَیۡرًا ٱلۡوَصِیَّةُ لِلۡوَ ٰلِدَیۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِینَ بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُتَّقِینَ} [البقرة: 180]. والمقصود قوله سبحانه {إِن تَرَكَ خَیۡرًا}، الذي يجعل الوصية منوطة بمن خلّف مالا، لا بكل ميّت. وكقول الله تعالى: {وَٱلَّذِینَ یَبۡتَغُونَ ٱلۡكِتَـٰبَ مِمَّا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُكُمۡ فَكَاتِبُوهُمۡ إِنۡ عَلِمۡتُمۡ فِیهِمۡ خَیۡرًا} [النور: 33]. والكتاب كما هو معلوم، هو المكاتبة المخصوصة بالرقيق. والتخصيص بالشرط جاء في قوله سبحانه {إِنۡ عَلِمۡتُمۡ فِیهِمۡ خَیۡرًاۖ}: أي إن توسّمتم فيهم قدرة على الأداء والوفاء به. د. الغاية: وذلك كقول الله تعالى: {وَلَا تَحۡلِقُوا۟ رُءُوسَكُمۡ حَتَّىٰ یَبۡلُغَ ٱلۡهَدۡیُ مَحِلَّهُۥۚ} [البقرة: 196]، وكقوله سبحانه: {وَلَا تَقۡرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ یَطۡهُرۡنَۖ} [البقرة: 222]... ه. بدل البعض من الكل: وذلك كقول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَیۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَیۡهِ سَبِیلًاۚ} [آل عمران: 97]؛ فقوله سبحانه {مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَیۡهِ سَبِیلًاۚ}، بدل من "الناس"، وعلى هذا يبقى الحج واجبا مخصوصا بالمستطيع وحده، لا بكلّ مخاطَب... وأما المخصص المنفصل: فهو ما كان في موضع آخر من القرآن أو من الحديث النبوي خاصة، أو من الإجماع في محلّه، أو ما أوصل إليه اجتهاد. فما خُصّص بالقرآن، فهو كقول الله تعالى: {وَٱلۡمُطَلَّقَـٰتُ یَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَـٰثَةَ قُرُوۤءٍ} [البقرة: 228]؛ ومعناه عام، يشمل كل مطلّقة. وخُصّص بقوله تعالى: {وَأُو۟لَـٰتُ ٱلۡأَحۡمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن یَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ} [الطلاق: 4]، وبقوله سبحانه: {إِذَا نَكَحۡتُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب: 49]... وأما ما خُصّص بالحديث النبوي، فهو كقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَیۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰا۟ۚ} [البقرة: 275]، الذي خصّ من البيع البيوع الفاسدة، كما في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما: "نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ."[9] ؛ وعسب الفحل هو تلقيح ذكر الحيوان لأنثاه. وكما في الصحيحيْن عن ابن عمر أيضا: (أنه صلى الله عليه وآله وسلم) "نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ"[10] ؛ وكان بيعا سائدا في الجاهلية: كان الرجل يبتاع الجزور، إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها... وغير ذلك من الأحاديث... ورُخّص من الربا بالسُّنة، العرايا الثابتة، فهي مباحة. فعن زيد بن ثابت وأبي هريرة رضي الله عنه: "أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ رَخَّصَ في بَيْعِ العَرَايَا بخَرْصِهَا فِيما دُونَ -أو قال: فِي- خَمْسَةِ أَوْسُقٍ."[11] . ومما خُصّص بالإجماع قول الله تعالى: {یُوصِیكُمُ ٱللَّهُ فِیۤ أَوۡلَـٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَیَیۡنِۚ} [النساء: 11]، وقد خُصّص (استثني) من الآية الرقيق، لأن الرق مانع من الإرث... ومما خُصّص بالاجتهاد (القياس)، قول الله تعالى: {ٱلزَّانِیَةُ وَٱلزَّانِی فَٱجۡلِدُوا۟ كُلَّ وَ ٰحِدٍ مِّنۡهُمَا مِا۟ئَةَ جَلۡدَةٍ} [النور: 2]، فخُصّ العبد بالقياس على الأَمَة من قول الله تعالى: {فَإِذَاۤ أُحۡصِنَّ فَإِنۡ أَتَیۡنَ بِفَـٰحِشَةٍ فَعَلَیۡهِنَّ نِصۡفُ مَا عَلَى ٱلۡمُحۡصَنَـٰتِ مِنَ ٱلۡعَذَابِۚ} [النساء: 25]... وأما ما قيل في بقاء العام على عمومه، قبل وبعد التخصيص، فهو واضح لشمول اللفظ للمعنييْن معا. ويبقى القول بالتخصيص أو بالتعميم منوطا بالقرائن، كما هو معمول به... 4. مراتب التعميم والتخصيص: ا. ما يعم الناس كلّهم: وذلك كقول الله تعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُوا۟ رَبَّكُمُ ٱلَّذِی خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]. فهذا الصنف يعمّ المؤمن والكافر، والحرّ والعبد، والذكر والأنثى؛ لأنه لا أعم من لفظ الناس. وقد يغفل الناس هذا العموم، لكثرة انشغالهم بالخطاب الشرعي الذي هو أقل عموما من هذا الأول... ب. ما يعم المؤمنين: وذلك كقول الله تعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱسۡتَعِینُوا۟ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ} [البقرة: 153]، وهذا لأن الصلاة عبادة مشروعة، تكون على هيئة مخصوصة وفي أوقات مخصوصة. والصبر أيضا هو هنا عبادة مخصوصة بالمؤمنين، وليس المقصود منه الصبر الذي يكون من جميع الناس. وكل خطاب لعموم المؤمنين، هو خطاب لآحادهم؛ بحيث يُتصوّر من بعضهم أن يتخلّفوا عن الإتيان بالأمر، ولا يُتصوّر ذلك من جميعهم... ج. ما يخص بعض المؤمنين: وذلك كتخصيص الذكور أو تخصيص الإناث، كما في قول الله تعالى: {وَقَـٰتِلُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِینَ یُقَـٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوۤا۟ۚ} [البقرة: 190]؛ وهو خطاب مخصوص بالذكور في أصله، وليس كما نرى في زماننا من تجنيد الإناث؛ أو كما في قول الله تعالى: {وَلۡیَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُیُوبِهِنَّۖ} [النور: 31]. وكل ما هو خطاب لجماعة المؤمنين أو جماعة المؤمنات، هو خطاب لأفراد تلك الجماعات، ما لم يرد التقييد بصفة ما، أو بفعل ما، أو بحال ما... د. ما يخص النبي ويعم أمته: وذلك كقول الله تعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ ٱتَّقِ ٱللَّهۚ وَلَا تُطِعِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ وَٱلۡمُنَـٰفِقِینَۗ} [الأحزاب: 1]، فتقوى الله مع عدم طاعة الكفار والمنافقين، هو مما يجب على عموم الأمة، بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم... ه. ما يخص النبي ويخص الورثة من بعده: وذلك كقول الله تعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ حَسۡبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ} [الأنفال: 64]، وقوله سبحانه: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ جَـٰهِدِ ٱلۡكُفَّارَ وَٱلۡمُنَـٰفِقِینَ وَٱغۡلُظۡ عَلَیۡهِمۡۚ} [التحريم: 9]؛ وهو مخصوص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم من كونه إماما لأمته، ومخصوص بالخلفاء من كونهم نوابا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها من بعده. وليس لأحد من أفراد الأمة، أو من جماعاتها، أن يُقاتل الكفار والمنافقين من نفسه؛ لأن ذلك سيكون قتالا جاهليّا. وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا الصنف من القتال في مثل قوله: «(...) وَمَنْ قاتَلَ تَحْتَ رايَةٍ عُمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إِلى عَصَبَةٍ، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً، فَقُتِلَ، فَقِتْلَةٌ جاهِلِيَّةٌ؛ وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي، يَضْرِبُ بَرَّها وَفاجِرَها، وَلا يَتَحاشَى مِنْ مُؤْمِنِها، وَلا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ.»[12] . ولا يخفى عن ذي لبّ، أن هذا الصنف المنهي عنه من القتال، قد وقع فيه كثير من المسلمين في زماننا، ولا يزالون يقعون فيه، بسبب غياب أئمة الدين في البلد المخصوص، أو بسبب عصيانهم ومخالفة أمرهم في عموم الأمة. وكل هذا، هو من فشوّ الجهل بالأحكام الشرعية في الناس، ومن ضعف إيمانهم... وقد جهل عموم الفقهاء مرتبة الوراثة النبوية الكاملة، خصوصا عند طائفة "أهل السنة"، وفي الأزمنة المتأخرة؛ فجهلوا تبعا لذلك الأحكام المتعلّقة بها، أو بمعاملة أهلها من قِبل عموم الأمة. وأما ما يتكلمون عنه من وراثتهم هم، فهي إن تحقّقت بشروطها، تخصّ وراثة التبليغ العام عن مرتبة الرسالة، لا النبوة بمعناها. وإن هذا العلم، مما ينبغي تجديده في الأمة، ضمن التجديد العام؛ ومن دونه، ستبقى الفتنة هي الحاكمة، ويبقى المسلمون مخالفين لله ورسوله في مجمل أحوالهم... و. ما يخص النبي وحده: وذلك كقول الله تعالى: {وَٱمۡرَأَةً مُّؤۡمِنَةً إِن وَهَبَتۡ نَفۡسَهَا لِلنَّبِیِّ إِنۡ أَرَادَ ٱلنَّبِیُّ أَن یَسۡتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَۗ} [الأحزاب: 50]. والدليل على التخصيص، هو قوله سبحانه: {مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَۗ}. وأما الحكمة من اشتمال القرآن العظيم على هذا الصنف من التخصيص، فهي الدلالة على فرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مرتبته؛ ومن جهل هذا التخصيص، فإنه سيجهل من الله بقدر ذلك. ومن نظر إلى أحوال علماء الدين قبل العامة، فإنه سيجدهم جاهلين بفرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بحيث لا يعتبرونه إلا واحدا من المؤمنين، وإن علموا أفضليته. وهذا، رغم وجاهته عند العامة، إلا أنه يُخالف الحق الذي عند الله تعالى. وإن كان الله تعالى قد ميّز أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله سبحانه: {یَـٰنِسَاۤءَ ٱلنَّبِیِّ لَسۡتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ ٱلنِّسَاۤءِ إِنِ ٱتَّقَیۡتُنَّۚ} [الأحزاب: 32]، فإن ذلك لم يقع إلا لانتسابهن إليه عليه وآله الصلاة والسلام؛ فهو أولى بالتخصيص بمعناه الأخص. ومن عجيب الأمر، أن ظهر في الأمة على مرّ القرون، من يجعل جهله بقدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجهله بورثته، عمادا لتوحيده المزعوم؛ كابن تيمية ومن تابعه من الأشقياء إلى الآن... وأما دلالة التخصيص في المعارف، فهي ما يعود إلى معاني الأسماء فيما يمتاز به بعضها عن بعض؛ وما يعود إلى مظاهرها في المخلوقات، خصوصا إن علمنا أنه لا تكرار في مظاهر العالم، في الزمان الواحد، وفي الدهر كله، وإن وقع التشابه والاشتراك. وهذا، كما أسلفنا إليه الإشارة مرات، هو من حكم اسم الله "الواسع" سبحانه. ومن بابه قول الله تعالى: {وَأُتُوا۟ بِهِۦ مُتَشَـٰبِهًاۖ} [البقرة: 25]، وقوله سبحانه أيضا: {وَهُوَ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءً فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ نَبَاتَ كُلِّ شَیۡءً فَأَخۡرَجۡنَا مِنۡهُ خَضِرًا نُّخۡرِجُ مِنۡهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ ٱلنَّخۡلِ مِن طَلۡعِهَا قِنۡوَانٌ دَانِیَةٌ وَجَنَّـٰتٍ مِّنۡ أَعۡنَابٍ وَٱلزَّیۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُشۡتَبِهًا وَغَیۡرَ مُتَشَـٰبِهٍۗ} [الأنعام: 99]؛ ومعناه على سبيل المثال لا الحصر، هو أنه لا رمانة، ولا برتقالة، ولا حبة عنب، ولا حبة زيتون، تشبه ثمرة أو حبّة من جنسها... فما أعظم الله في شؤونه، وما أدلّ خلقه عليها!...
[1] . السيرة النبوية لابن هشام. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.