اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2024/12/03 الإنسان القرآن (مقدمة في تفسير القرآن الكريــم) .22 الباب الثاني: العلوم المتعلّقة بالقرآن الفصل السادس: المحكم والمتشابه
يقول الله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ مِنۡهُ ءَایَـٰتٌ مُّحۡكَمَـٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَـٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِهَـٰتٌ فَأَمَّا ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمۡ زَیۡغٌ فَیَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَاۤءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَاۤءَ تَأۡوِیلِهِۦۖ وَمَا یَعۡلَمُ تَأۡوِیلَهُۥۤ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّ ٰسِخُونَ فِی ٱلۡعِلۡمِ یَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلٌّ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا یَذَّكَّرُ إِلَّاۤ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ} [آل عمران: 7]. وإنّ تصدّر الآية بذكر الكتاب المنزل مع حرف التفصيل "منه"، هو للدلالة على أن المحكمات قرآن، والمتشابهات قرآن أيضا. ومعنى القرآن هنا -وبالأصالة- الذات... ويترتّب على هذا الأصل، أن كل الموجودات محاطة بالذات؛ فلا مجال إلى القول بالغيرية من هذا المستوى. وكل غيرية معقولة للفقهاء قبل غيرهم، فهي غيرية أحكام لا غيرية ذات. ومن قال بوجود شيء مع الذات، فهو مشرك شركا أكبر؛ لا يُنجيه منه إلا عدم الدخول في هذه المسائل بلسانه، إن كان من العامة. فما دام ساكتا، فهو معفوّ عنه بإذن الله؛ فإن نطق، أو علّم ذلك غيره، فليُجهّز نفسه للسؤال بين يدي ربه!... يقول الله تعالى: {مَّا یَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَیۡهِ رَقِیبٌ عَتِیدٌ} [ق: 18]؛ والأقوال كما هو معلوم، لها صلة وثيقة بالعقائد القلبية؛ ومن هذا الباب سميت العقائد بالكلام عند أهله... ولنعد الآن، إلى معنى المحكم والمتشابه؛ ولنقُل: إن المحكم هو ما انفرد بحكم واحد في نفسه، وليس إلا الوجود من جهة، والعدم من الجهة الأخرى المقابلة. ونعني من هذا، أن الوجود داخل في معنى المحكم، وأن العدم أيضا داخل في معناه؛ وهما متساويان من هذه الجهة، ولا يتفاضلان. وهذا وحده، من أعوص ما يُتناول ويُعرض أمام العقول!... وسيظهر بعد هذا، بسهولة، أن المتشابه هو الممكن؛ والممكن لا يخلص لوجه واحد من الأحكام كما خلص سابقاه، ولكن له في نفسه وجه إلى هذا، ووجه إلى ذاك: أي إن الممكن، له وجه إلى الوجود، ووجه إلى العدم؛ وهذه هي حقيقته التي لا يخرج عنها البتة. من أجل هذا الملحظ، أخبر شيخنا الأكبر عليه السلام، بأن المتشابه يبقى متشابها، ولا يخرج عن هذه الحقيقة؛ وهذا بخلاف ما يظنه عوام المفسّرين، من أن المتشابه يكون متشابها في حال انبهامه فقط؛ فإذا فُسّر واتضح معناه، فإنه يعود محكما؛ وكأن الآيات المحكمات -بحسب هذا القول- لن تبقى محكمة، والمتشابهات لن تبقى متشابهة، بما يجعل الحقائق منقلبة؛ وهو محال. وهذا قول في القرآن بغير علم، وهدم للأسس التي شيّدها هو نفسه... ولنذكر هنا أمرا متعلّقا بمرتبة الذات، قد تستبعده العقول، على الخصوص إن داخلها التنزيه؛ وهو أن العدم كالوجود، هو شأن من شؤون الذات؛ وهذا قبل اتصافها بالحق، الذي هو الوجود. يقول الله تعالى عن نفسه من هذه المرتبة: {ذَ ٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ وَأَنَّ مَا یَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ هُوَ ٱلۡبَـٰطِلُ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡعَلِیُّ ٱلۡكَبِیرُ} [الحج: 62، ولقمان: 30]؛ والحق هنا ذات، والباطل ذات أيضا. لذلك، لم يستثن الله الباطل من كل وجه، وإنما من الوجه الذي يدعوه المشركون ظانّين أنه غيرٌ، وهو المعبّر عنه بـ "مِنْ دُونِهِ". ولو فرضنا أن عبدا من العباد علم الباطل من وجهه الذاتي، فإنه سيعلمه عدما أو ممكنا؛ لا غير. ولقد ختم الله الآيتيْن من الحج ومن لقمان، بالاسميْن "العلي" و"الكبير"، ليدلّ أن الله أعلى مما يعلمه العباد من اسمه الحق، وأكبرُ مما يتصوّرون. وتسمية القرآن للآيات المحكمات بأم الكتاب، يتضمّن معنى كونهن أمّهات للآيات المتشابهات؛ لأن القرآن ليس إلا الآيات المحكمات والمتشابهات جميعا. وإن نحن عدنا إلى الوجود والعدم، بالاصطلاح الفلسفي، فإننا سنجدهما أُمّيْن للممكن؛ أي أصليْن له. لكن لا بد هنا من التنبيه إلى أن الفلاسفة، لا يعلمون من هذه المصطلحات، معناها القرآني؛ لأن ذلك ممتنع من طريقهم. هذا، مع الإبقاء على هيمنة القرآن من جهة المعاني، على الفلسفة بما هي فلسفة ولا بد. ونحن عندما كنّا ندرس الفلسفة مع دارسيها في معهدنا، فإنما كنا نتناولها من طريق القرآن، لا من طريقها الفرقاني. وهذا أمر لم يحرص على بقائه الدارسون، فانقطعنا عن ذلك العمل، على عظم نفعه للمسلمين... وقد ذكر الله في الآية من آل عمران، التي استهللنا بها الفصل، أن المتشابه، سينفرد بتتبعه مرضى القلوب الزائغون، ابتغاء الفتنة، وطلبا لتأويله[1] من غير طريقه. والتأويل، لا يعلمه إلا الله المتكلّم بالقرآن العظيم، ويعلمه بتعليم الله الراسخون في العلم. وعلى هذا، فإن الوصل في القراءة بين قول الله تعالى: {وَمَا یَعۡلَمُ تَأۡوِیلَهُۥۤ إِلَّا ٱللَّهُۗ} وقوله: {وَٱلرَّ ٰسِخُونَ فِی ٱلۡعِلۡمِ}، يكون أحيانا مستحبّا. ومن قرأ تارة بالوصل وتارة بالفصل، فهو عندنا أفضل وأكمل. ونحن نبغي من قراءة الوصل، أن ندلّ على مكانة الراسخين في العلم، الذين يأخذون علمهم عن الله ورسوله؛ لأنهم أجدر بالإمامة الدينية في الأمة من سواهم. وأما حمل الفقهاء معنى الرسوخ في العلم على ما يُدركون من أنفسهم أو من أشياخهم، فهو جهل بيّن، لا يُلتفَت إليه. ولعلّ كل كتاباتنا، تدل على تفاصيل مسألة الرسوخ في العلم، لمن رزقه الله الفهم عنّا. وأما قول الله تعالى في ختام الآية: {یَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلٌّ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا یَذَّكَّرُ إِلَّاۤ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ}، فهو أولا، للدلالة على أن علم الراسخين يجعلهم يُدركون أن المحكم والمتشابه، على ما بينهما من فوارق في الشهود وفي العلم، فهُما جميعا من الله. وذكرهم لله، باسم "ربنا"، هو من باب شكر الله مربيهم بعلمه، ومن باب الاستزادة من العلم. فإن الله لم يأمر نبيّه من الاستزادة من شيء إلا من العلم، في قوله سبحانه: {وَقُل رَّبِّ زِدۡنِی عِلۡمًا} [طه: 114]، مع تخصيص الاسم "الرب" بالذكر. وهؤلاء الراسخون، من غير شك، هم من أتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العلم وفي الحال. وأما قول الله تعالى: {وَمَا یَذَّكَّرُ إِلَّاۤ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ}، فهو يدل على أن علم المحكم والمتشابه، لا يكون إلا بتعليم الله كشفا، وما يذّكّر أن هذا العلم يكون من هذا الطريق، إلا أولو الألباب (ج: لب، وهو باطن الشيء وقلبه). ومن هذا الباب، كنّا ننكر نحن على الفقهاء (غير الجامعين بين الظاهر والباطن)، عند خروجهم عن صفة أولي الألباب، عدَّهم لأنفسهم من طبقة الراسخين. والأمور لا تؤخذ عنوة وبالهوى، ولكن لا بدّ لكل من ادّعى مقاما، ظاهرا أو باطنا، أن يشهد له القرآن الحكيم؛ وإلا بقيت دعواه من غير دليل ولا برهان... وأما الزيغ الموصوف به المتلاعبون بمدلولات ألفاظ القرآن، فإنه انحراف يصيب القلوب، كما تصيب الانحرافات الطبيعية الأبدان. وهذا الانحراف عن السّواء والصحّة، هو المعبّر عنه بالمرض؛ وهو لا يكون إلا باتّباع الأهواء، لأن الأهواء مُحرِّفة عن الحقّ. وقد ذكر الله مرض القلوب، في مثل قوله تعالى: {فِی قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضًاۖ} [البقرة: 10]؛ والمعنى هو أن المرض الثاني المزيد، يكون جزاءً على المرض الأصلي الأوّل. ومن راعى هذا الحكم في أحوال القلوب، فإنه سيفوز بعلم نفيس. ويقول سبحانه أيضا: {فَتَرَى ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضٌ یُسَـٰرِعُونَ فِیهِمۡ یَقُولُونَ نَخۡشَىٰۤ أَن تُصِیبَنَا دَاۤىِٕرَةٌ} [المائدة: 52]، ويقول سبحانه أيضا: {إِذۡ یَقُولُ ٱلۡمُنَـٰفِقُونَ وَٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـٰۤؤُلَاۤءِ دِینُهُمۡۗ} [الأنفال: 49]. وقد عطف الله ذكر المرضى على المنافقين، والواو للمغايرة؛ أي إن المنافقين المعلومين بالاصطلاح، والذين هم من لهم وجه إلى الإيمان ووجه إلى الكفر، ليسوا وحدهم أهل مرض القلوب؛ ولكن المرض يتجاوزهم إلى الكافرين الخُلَّص، وهم أصناف عديدة؛ وإلى صنف من المؤمنين، لا يسلم من الانحرافات القلبية؛ وما أكثرهم!... ولن نتتبع هنا الآيات الوارد بها ذكر مرض القلوب، طلبا للاختصار؛ وفي المقابل، لن نفوّت الفرصة للإشارة إلى أن النفاق نموذج جليّ لحكم المتشابه، بخلاف الكفر والإيمان اللذيْن هما من المحكم. وهكذا، نجد تنزيلات معنى المحكم والمتشابه، في كل مرتبة بحسبها، وفي كل علم بحسبه. وكل من رام حصر معنى المصطلحيْن فيما يعقله عوام الفقهاء، فإنه يكون رائما لتحجير الواسع. و"الواسع" كما هو معلوم، اسم من أسماء الله الحسنى؛ والأسماء الحسنى يكون بعضها صفة لبعض، كما هو الشأن هنا، عندما كان "الواسع" صفة لـ "المتكلم". والأسماء يتصف بعضها ببعض، من كون الاسم الجامع "الله" هو مسمّاها جميعها. ومن هذا الباب قول القائل: الله العظيم، الله الكبير، الله المحيط، إلى غير ذلك من الأسماء المعلومة... وقد تكلمنا عن سعة القرآن، في غير هذا الموضع، فلن نكرر الكلام هنا... ومن أجل التدليل على فساد قول جلّ الفقهاء، في مسألة المحكم والمتشابه، سنورد نقلا عن "مناع القطّان"، من كتابه "مباحث في علوم القرآن"، حيث يقول: [أنزل الله الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، فرسم للخلق العقيدة السليمة والمبادئ القويمة في آيات بيّنات واضحة المعالم؛ وذلك من فضل الله على الناس، حيث أحكم أصول الدين لتسلم لهم عقائدهم ويتبيّن لهم الصراط المستقيم. وتلك الآيات، هي أم الكتاب التي لا يقع الاختلاف في فهمها سلامة لوحدة الأمة الإسلامية وصيانة لكيانها {كِتَـٰبٌ فُصِّلَتۡ ءَایَـٰتُهُۥ قُرۡءَانًا عَرَبِیًّا لِّقَوۡمٍ یَعۡلَمُونَ} [فصلت: 3]. وقد تأتي هذه الأصول الدينية في أكثر من موضع بالقرآن مع اختلاف اللفظ والعبارة والأسلوب، إلا أن معناها يكون واحدا، فيُشبه بعضها (البعض) الآخر، ويوافقه معنى دون تناقض. أما ما عدا تلك الأصول، من فروع الدين، فإن في آياتها من العموم والاشتباه، ما يُفسح المجال أمام المجتهدين الراسخين في العلم، حتى يردوها إلى المحكم ببناء الفروع على الأصول، والجزئيات على الكليات، وإن زاغت بها قلوب أصحاب الهوى. وبهذا الإحكام في الأصول والعموم، في الفروع، كان الإسلام دين الإنسانية الخالد، الذي يكفل لها خير الدنيا والآخرة، على مرّ العصور.][2] : وهذا الكلام جلّه، خارج محلّ البحث؛ وسنتناول الآن العبارات واحدة واحدة، لندل على جهل القائل، من باب النّصح لمن يجاريه في هذيانه: - [أنزل الله الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا]: الكاتب، لا يعلم مدلول لفظ "الفرقان"، وإن كان إيراده له في بداية كلامه عن المحكم والمتشابه، لا يخلو من تناسب؛ ونقصد التفريق في التعريف، بين المحكم والمتشابه، والذي لم يقاربه ولو قليلا... - [فرسم للخلق العقيدة السليمة والمبادئ القويمة في آيات بيّنات واضحة المعالم؛]: ومسألة المحكم والمتشابه، لا دخل لها في العقيدة، ولا في المبادئ القويمة بحسب الكاتب، إلا من حيث الشمول الذي للآيات كلها. وهذا القول يُبين عن جهل المتفقّهة، الذين يُرجعون كل شيء، إلى معاييرهم، وعلى قدر مبلغ علمهم. وأما قوله "واضحة المعالم"، عن عقيدته، فلا يتوهّمه إلا هو. ولا شك سنعرض إن شاء الله في الباب الثالث من هذا الكتاب لبعض مفردات عقيدته، وسنبيّن حينذاك بإذن الله أنها في مجملها من صنف المتشابه؛ وهو ما يُقصيه عن جدارة الإمامة العلمية، كما يظنّ هو وأمثاله... إن مسألة المحكم والمتشابه، متصلة بالقرآن من حيث هو قرآن، لا بالدين؛ لأن الدين هو تفصيل من التفاصيل التي تناولها القرآن فحسب. وذِكر الكاتب للناس، ثم عودته إلى الكلام عن العقائد، يدل على جهله بشمولية القرآن لجميع العقائد العالمية، قديما وحديثا؛ ويتوهّم أن على كل الناس أن يكونوا مسلمين. نعم، من جهة الخطاب التكليفي، الأمر هو كذلك؛ لكن من جهة الخطاب التعريفي، الأمر أوسع من ذلك. وهذا المستوى من العلم بالقرآن، الذي تكلّم به، لا يتجاوز مستوى عوام العوام؛ فليته سكت... وأما استقامة الصراط، التي يتكلم عنها، فإنه لا يعلم منها إلا الاستقامة الشرعية؛ وهي شطر الاستقامة العامة، والتي يكون عليها كلّ ربّ (اسم) رابّ للمظهر المربوب. وهذا المعنى الشامل، هو المذكور في قول الله تعالى: {مَّا مِن دَاۤبَّةٍ إِلَّا هُوَ ءَاخِذُۢ بِنَاصِیَتِهَاۤۚ إِنَّ رَبِّی عَلَىٰ صِرَ ٰطٍ مُّسۡتَقِیمٍ} [هود: 56]. والاستثناء بـ "ما مِن"، يفيد الاستغراق؛ فيكون المعنى إن الله آخذ بناصية كل دابة، أي بكل فرد من أفراد كل نوع من أنواع الدواب، لا يغادر واحدا منها. وإن نحن حصرنا الكلام في عقائد الناس، مجاراة للكاتب، فإننا سنجد الله من وجوه أسمائه المختلفة، آخذا بناصية كل فرد من الناس: فإذا اعتقد الفرد عقيدة ما، فإنها حتما تجعل صاحبها على الصراط المستقيم، باعتبار ذلك الاسم المخصوص. ومن هذا الوجه، لا يُسأل اسم من الأسماء عما يفعله بمظهره؛ لأن الله يقول عن نفسه سبحانه: {لَا یُسۡـَٔلُ عَمَّا یَفۡعَلُ} [الأنبياء: 23]، ومن يتنزّه عن السؤال، ففعله هو الحق وهو الخير؛ ومظهر فعله على صراط مستقيم دائما. فهذا المعنى، هو ما سيتعلّق بالاستقامة الشاملة؛ وأما ما يتعلّق بالاستقامة الشرعية، فهو معنى فرعي للمعنى العام. والفقهاء، لا يعقلون من الاستقامة، إلا هذا المعنى الثاني الفرقاني، ويُحجبون به عن المعنى الأول القرآني؛ فيكونون ممن يُسألون، كما أخبر الله في عجز الآية المذكورة، حيث يقول تعالى: {وَهُمۡ یُسۡـَٔلُونَ} [الأنبياء: 23]. وبعد هذا كله، كيف يتكلم الكاتب، عن عقيدته، وهو يروم الوقوع على معنى المحكم والمتشابه من القرآن؟!... وإن نحن أردنا التوسّع في الكلام، فإن العقيدة الموافقة للتعرّف الإلهي الشرعي، ستكون مـُحكمة؛ وتبقى العقائد الأخرى كلها، من متشابهها؛ وهذا بالنظر إلى العقائد وحدها، ومجاراة للكاتب؛ لا من باب محكم القرآن ومتشابهه... - [وتلك الآيات، هي أم الكتاب التي لا يقع الاختلاف في فهمها سلامة لوحدة الأمة الإسلامية وصيانة لكيانها {كِتَـٰبٌ فُصِّلَتۡ ءَایَـٰتُهُۥ قُرۡءَانًا عَرَبِیًّا لِّقَوۡمٍ یَعۡلَمُونَ} [فصلت: 3].]: المسكين يجعل الأمة أصلا والقرآن فرعا، وذلك لانعكاس تديّنه، المخالف للتديّن الأصلي. وجلّ الفقهاء، لا يعلمون من القرآن إلا بعضا من الدين، وهو أوسع منه، كما أسلفنا؛ ولا يعلمون من الدين، إلا بعض أحكام الشريعة التي لا يرونها إلا نمطية وجامدة وقاصرة. فكيف يعلمون بعد هذا الجهل كله معنى المحكم والمتشابه القرآنيّيْن؟!... وأما الآية التي أوردها، فهي بعيدة نسبيا، عن المعنى الذي كان يجدر به أن يُدركه. وكان ينبغي عليه أن يُفرّق بين معنى الكتاب ومعنى القرآن، إن كان يبغي الوقوع على مدلول الآية... وأما كون المحكم أُمّا للمتشابه، فهو ما أسبقنا الكلام فيه، من كون الوجود والعدم، أصليْن للممكن. وسنذكّر بهذا الأصل -إن شاء الله- إذا مررنا بآية متشابهة، عندما نبيّن محكمها... - [وقد تأتي هذه الأصول الدينية في أكثر من موضع بالقرآن مع اختلاف اللفظ والعبارة والأسلوب، إلا أن معناها يكون واحدا، فيُشبه بعضها (البعض) الآخر، ويوافقه معنى دون تناقض]: والكاتب هنا، يبغي الحفاظ على عقيدته، التي تكاد تعصف بها المعاني القرآنية نفسها؛ فيلجأ إلى طريقة الفقهاء في المصادرة على المطلوب، وتقرير النتائج قبل الاستدلال، فيخرج بكلام عجب لا هو من العلم ولا هو من الجهل الخالص؛ ولكن بالتأكيد هو من ضعف النور والإيمان، ومن قصور العقل... وليعلم الفقهاء الذين هم من هذه الطبقة السفلى، أن التناقض نفسه معنى قرآني، فكيف يُنكرونه؟!... وعندما يقول الله تعالى في كلامه العزيز: {مَّا فَرَّطۡنَا فِی ٱلۡكِتَـٰبِ مِن شَیۡءٍ} [الأنعام: 38]، ويكون التناقض من بين الأشياء، بحسب ما تُعطيه ألفاظ الآية من جهة عمومها، فكيف يفرّون هم منه؟!... والمصيبة هي أنهم ينفونه عن القرآن، ويتوهّمون أنهم مُبقون على ما يليق به من فهم. ولا يشعرون أنهم يُحكّمون عقولهم القاصرة في كلام الله!... فما أقبح ما وقعوا فيه، وما أشنعه!... وما أوضح معنى كلام ابن عمر رضي الله عنهما في وصف الصحابة، بكونهم كانوا يُلقَّون الإيمان قبل القرآن؛ لأن هؤلاء المتفقهة تلقوا القرآن على خواء من الإيمان!... وقد دخل الكاتب في صنف من المتشابه، هو من نتاج عقله السقيم، وهو تشابه الآيات المحكمات فيما بينها؛ وهذا المعنى بعيد عن معنى المحكم والمتشابه اللذيْن انطلقنا منهما. وهذا الانحراف، هو مِن تتبع اللغة من غير نور هادٍ؛ كما يتتبع الأعمى الطريق بتلمّس الأشياء، فربما قد يحسب كل مستطيل عصا، وكل مستدير كرة... يقول الله تعالى: {قُلۡ هَلۡ یَسۡتَوِی ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِیرُۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام: 50]. نعم، قد لا يتوقع العامّة، أن يكون من بين "علماء القرآن" عميٌ لا يبصرون؛ ولكن هذا هو الواقع!... - [أما ما عدا تلك الأصول، من فروع الدين، فإن في آياتها من العموم والاشتباه، ما يُفسح المجال أمام المجتهدين الراسخين في العلم، حتى يردوها إلى المحكم ببناء الفروع على الأصول، والجزئيات على الكليات، وإن زاغت بها قلوب أصحاب الهوى]: المسكين لا يعلم ما يقول، ويظنّ أن الرجوع إلى ما قاله سابقوه من أئمته، بخصوص فهم آيات الأحكام الشرعية الفقهية، سينفع في الكلام عن قرآنية القرآن. ولو سكت، لكان خيرا له؛ ولكنه أبى إلا أن يُبين عن انطماس بصيرته!... ثم يتكلم بالتنقيص عن أصحاب الأهواء، وهو قد لا يبلغ مبلغهم في بعض تعقّلهم. ثم قبل ذلك يُبين على أنه لا يعلم مدلول "الإمام المجتهد"، ولا مدلول "الراسخين في العلم"، بل هو يخلط خلطا، ويخبط خبطا. فما أسوأ ما قال، وأسوأ ما خطّته يده!... والأصل في هذه المسألة، هو أنه من لم يتبيّن معنى المحكم والمتشابه، على ما ذكرناه نحن؛ فإنه سيبقى عالقا في كلام لا معنى له. وكل ما يقوله الفقهاء من جهة الأحكام الشرعية، ليس إلا تنزيلات في مرتبة دنيا، للمعنييْن الأصليين. ونحن عندما كنّا ندرس الفقه وأصوله في المعهد، فقد كنّا نربط بين المحكم ووجوه إحكامه في الأحكام، وبين المتشابه ووجوه تشابهه من ذاك المستوى أيضا. أما إدراك الأمريْن من مستوى واحد مشترك، فهو دليل على الجهل فحسب... - [وبهذا الإحكام في الأصول والعموم، في الفروع، كان الإسلام دين الإنسانية الخالد، الذي يكفل لها خير الدنيا والآخرة، على مرّ العصور.]: يتوهم المسكين أن كلامه السابق معتبر، وما بقي إلا أن يستخلص خلاصة تُلزم البشرية جمعاء؛ وما علم أنه بمستواه العقلي هذا، يُخشى أن يُنفّر المسلمين أنفسهم من دينهم. هذا، وإن جلّ الملحدين من أبناء المسلمين اليوم، إنما فرّوا من الفقهاء وانحطاطهم، وفروا بعدُ من إرادة هيمنتهم على الناس، وفيهم من هو أعقل منهم، وأقرب إلى الله!... ولا زلنا نعاني جميعا من إفساد الفقهاء للدين، ومن تحالفهم مع السياسيّين المتسلّطين على رقاب الناس وأموالهم؛ ولكن عسى أن تنجلي هذه الظلمة عن الأمة قريبا!... وهكذا، يظهر لنا أن المتفقّهة (ومنهم مناع القطان)، لا خبر لهم عن معنى المحكم والمتشابه، مع ثبوت إحكام الآية الواردة بذكرهما من آل عمران. وهذا من إفلاس القرآن للمفلسين، عندما يبرهنون عن جهلهم بآية محكمة. وليتهم بقوا على أصل الإيمان، من دون تنطّع، ليبقَوْا أقرب إلى النجاة؛ ولكنّهم توهّموا العلم في أنفسهم، ونطقوا بما يهوون به في دركات الجهل. ولنبيّن هنا أصل هذا الحكم منّا على المتفقّهة، من جهة الشريعة. وحتى نتوصّل إلى مبتغانا، فعلينا أن نفهم أمرا أساسا، وهو أن الإيمان علم مُجمل، في مقابل العلم بما هو علم؛ والذي هو مـُفصَّله. ومن عجز عن العلم بمسألة ما، مذكورة صراحة في القرآن، فليلزم الإيمان بها، فإن ذلك يُبقيه على الأصل؛ وقد يمنّ الله عليه معه وفيما بعد، بالعلم. وأما إذا تسرّع الجاهل، ونزّل الألفاظ على معان في ذهنه، لم يأذن بها الله تعالى، فإنه سيحكم على نفسه بالحرمان من العلم؛ إلا أن يتوب الله عليه، ويتغيّر حاله. وعموم الفقهاء، على هذه الصفة، وكأنهم يأنفون من ظهور الجهل عليهم؛ فيقعون بذلك فيما هو أسوأ من الجهل الأصلي، والذي هو التقول على الله بغير علم. وهو ما يقع لهم نفسه مع الحديث النبوي الذي لا يبلغونه بعقولهم، فيتقّولون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما يضمن لهم الوعيد المنوط بفعلهم؛ إلا أن يعفو الله ويتجاوز... يقول الله تعالى مـُعلِما بفعل إبليس: {إِنَّمَا یَأۡمُرُكُم بِٱلسُّوۤءِ وَٱلۡفَحۡشَاۤءِ وَأَن تَقُولُوا۟ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} [البقرة: 169]، ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «(...) وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ.»[3] . ولأجل كل ما مر من الكلام، فإن من أراد أن يسلك طريق العلم، فعليه أن يحافظ على أصل إيمانه بداية؛ لأن ذلك الأصل، يُبقيه منفتحا للمدد النبوي التعلمي الذي يجود به الله على من يشاء من عباده. وهو مدلول قول الله تعالى في إخباره عن تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلم الكتاب: {وَیُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ} [الجمعة: 2]. وأما عند السبق في الفهم، أو عند ترداد كلام السابقين من غير فهم، ليُقال فلان عالم؛ فإن العبد يسدّ باب المدد النبوي عن نفسه، فيأتيه المدد الشيطاني من غير تخلّف، فيصير ممن يتكلم في الوحي الإلهي به، فيضل ضلالا بعيدا. وهذا المعنى من الأدب مع الله ورسوله، داخل في قول الله تعالى: {لَا یَسۡبِقُونَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ وَهُم بِأَمۡرِهِۦ یَعۡمَلُونَ} [الأنبياء: 27]، والذي هو ثناء على المـُوَفَّقين. ولعلّ القارئ، سيجد لنا عذرا، في انتقادنا الشديد للفقهاء، عندما يُدرك الأصل الشرعي لفعلنا. وأما نحن في نفسنا، فإننا نشتد على الفقهاء أو على عموم المسلمين، من محبّتنا لهم، ومن حرصنا على فوزهم عند ربهم؛ وإلا فما كان أغنانا عن هذا التعب والنصب اللذيْن نكابدُهما!... ويفهم الفقهاء إحكام المـُحكم، ضمن الآية التي يقول الله تعالى فيها: {الۤرۚ كِتَـٰبٌ أُحۡكِمَتۡ ءَایَـٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتۡ مِن لَّدُنۡ حَكِیمٍ خَبِیرٍ} [هود: 1]. والإحكام هنا، غير الإحكام الذي كنّا بصدده؛ وإن كان الأصل اللغوي يعمّ. وهذا من الضلال في القرآن باللغة، وقد حذّرنا منه منذ بداية الكتاب. وكلام الفقهاء تبعا لهذا الفهم السقيم، بأن القرآن كلّه مـُحكم، والذي يظنّون أنهم به يدفعون عنه احتمال ورود الشك فيه؛ لم يعلموا أنهم قد وقعوا به في تكذيبه، وهو أفدح. ونعني أن من يقول عن القرآن إنه كلّه مـُحكم، فقد أنكر متشابهه، وبذلك فإنه قد رمى بنفسه إلى طريق الكفر، من أوسع باب... وليعلم هؤلاء الجهلة المتمسّحون بالقرآن زورا وبهتانا، أن إحكام آيات القرآن، من هذا الوجه الثانوي، هو خروجها على أقوى الأبنية اللغوية، المؤسّسة على الحقائق الإلهية؛ ولا أمتن من هذا ولا أقوى (لا أحكم)؛ أما المتشابه الذي هو في مقابلة المـُحكم، فلا سبيل إلى رفعه، من المستوى الأول... وأما قول الله تعالى: {ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِیثِ كِتَـٰبًا مُّتَشَـٰبِهًا مَّثَانِیَ} [الزمر: 23]، والذي يتوهم المتفقّهة أنه يُعضّد فهمهم المـُعوَجّ، فهو أمر آخر؛ وبما أنّ الذكر قد وقع لتنزيل أحسن الحديث (الحديث قد يؤخذ على أنه المـُحدَث، بما أن صيغة "فعيل"، تكون من صيغ المفعول به)، فيكون المقصود الإنسان والقرآن المـُنزَل؛ وهو ما لا علم للمتفقّهة به. وبما أن الذات لا تتثنّى، فالمقصود من التثنية هنا: تثنية الصفات. وقد ذكرنا هذا، عند تفسيرنا لسورة الفاتحة، في أول باب من هذا الكتاب، فليُراجع هناك. وعلى هذا، فإن هذا التشابه المذكور هنا، هو من المتشابه المقابل للمحكَم؛ لكن لا بفهم الفقهاء؛ لأنهم لا قدم لهم في العلم بالله، الذي يدور عليه القرآن محكَما ومـُتشابها. وكل كلام لهم بغية تحرير معنيَيِ المحكم والمتشابه، ليس إلا إمعانا في البعد عنهما. والمتشابه، كما أسلفنا في الفقرات الأولى من هذا الفصل، ليس إلا المخلوق (العالم والإنسان) بعد خروجه من العدم إلى الإمكان؛ أو لنقل (والمعنى هو نفسه): بعد خروجه من الإمكان العلمي إلى الإمكان العيني. وهذه المعاني التي نُعبِّر عنها بهذه الألفاظ، لا تنال إلا كشفا بفضل الله؛ وأما المتفلسفة والمتفقّهة، فهي لا تزيدهم إلا بعدا. ونحن نذكرها، ليؤمن الناس بها أولا، لا ليعلموها... وهذا، لأن العلم الذي يناله العباد، لا يكون إلا بتعليم الله وحده. وأما توهّمهم بأنهم ينالون العلم بإعمال عقولهم (التفكر)، وهو الشائع منهم، فهو وهْم قد ضلّ به إبليس قبل غيره، عندما تفكر في خلق نفسه وفي خلق آدم، فانتهى إلى نتيجة كونه أفضل منه. فضلّ على علم، كما يضلّ الفقهاء على علم في مجالهم. ورغم أن الله قد أخبر بأن العلم لا يؤتيه إلا هو سبحانه، في آيات محكمة، كقوله جلّ من قائل: {خَلَقَ ٱلۡإِنسَـٰنَ . عَلَّمَهُ ٱلۡبَیَانَ} [الرحمن: 3-4]، فإن المتفقهة لا يحلو لهم إلا اجترار بعضهم لأقوال بعض؛ وكأنهم قد ورثوا الدين، وما هم بوارثين. ونعني هنا بالوارث، من كان متصفا باسم الله تعالى "الوارث"؛ وأما غيرهم فهم من جملة الإرث، وإن كانوا لا يشعرون... وقد جهل الفقهاء أيضا مناط الإحكام والتشابه، عند جعلهم المتشابه، هو ما لا يُدركون كيفيته؛ وذلك كاستواء الرحمن على عرشه، الذي يجهلون كيفيته على التحقيق؛ وآية الاستواء التي هي قول الله تعالى: {ٱلرَّحۡمَـٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ} [طه: 5]، وإن كانت من مرتبة المتشابه، فهذا لا يعني أن حقيقتها لا تُعلم. وقد سبق أن دللنا على أن المحكم يُعلم من وجهه، وأن المتشابه يُعلم من وجهه. وعلم المتشابه (ومن ضمنه العلم بآية الاستواء)، يُعلم به محكم الآية من جهتَي الوجود والعدم، ثم يُعلم وجه الجمع بين الوجهيْن. ويدخل ضمن هذا العلم الأخير، العلم بالكيفية التي تتوقّف فيها العقول القاصرة. والفقهاء يقعون هنا في الخلط بين معنييْن للمحكم، وهم لا يشعرون... وأما قول الله تعالى: {كُلُّ شَیۡءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجۡهَهُۥۚ} [القصص: 88]، فهو متشابه إن نحن اعتبرنا المظاهر؛ ولكن إن نحن اعتبرنا الآية المتلوة، فهي محكمة من جهة هلاك الأشياء (فنائها)، ومحكمة من جهة استثناء الوجه الإلهي؛ أي من جهة البقاء؛ ولا تكون متشابهة، إلا عند اعتبار المظاهر المشهودة من الجهتيْن. وهي (أي الآية) مثال واضح على تضمّن المتشابه لحكميْن محكميْن، بحيث لا يكون التشابه منوطا إلا بالمظهر من جهة جمعه. وأما التشابه في مثل قول الله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِینَ یُبَایِعُونَكَ إِنَّمَا یُبَایِعُونَ ٱللَّهَ یَدُ ٱللَّهِ فَوۡقَ أَیۡدِیهِمۡۚ} [الفتح: 10]، فهو أقوى، لكون المظهر المبايَع الذي هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم ممكن يقينا. فيده العدمية محكمة الحكم، ولكنّ يد الله المذكورة، متشابهة ما دمنا ننظر إلى حكم اليد المحمدية؛ فإن نحن غبنا عنها بحكم كونها يد الله الوجودية، فإنها تكون محكمة الحكم من جهة وجودها، مع أن المظهر لا يتعدّد. فمن فهم الإحكام والتشابه من هذه الآية، فإنه سيعلمه من القرآن كله؛ ومن لم يؤذن له في فهم المعنى كما هو، فمن الأفضل له أن يؤمن بالإحكام والتشابه، من غير تقصّيهما... وهنا يجدر بنا أن نبيّن أن الشك في القرآن، من قِبل الشّاكّين، لا يكون إلا في الآيات المتشابهة، لكونها بين حُكميْ الوجود والعدم من طرفيْها؛ فيناسبها التردّد الباعث على الشك. وأما الآيات المحكمة، فإن الشاك فيها، لا يُعرب بشكّه إلا عن جهله التام؛ أي عن انطماس بصيرته. وعلى هذا، فإن الشاك في قول الله تعالى (مثلا): {ٱللَّهُ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة: 255]، شكّه لا أساس له من جهة ما كنّا بصدده؛ فإن تنبّه إلى النفي الوارد في الآية والذي هو: {لَاۤ إِلَـٰهَ}، فليعلم أنه من حكم الوجوب هنا؛ لذلك فلا يُفهم منه إلا أنه محكم. وهذا من أعوص المباني اللفظية القرآنية، على العقول غير الكاملة... وإن نحن عدنا إلى الإحكام والتشابه في مظهريْ العالم والإنسان على عمومهما، فإننا سنجد المشهود متشابها حيث كان، ونجد ما يقوم به المظهران هو المحكم؛ وهذا من جهتَي القائم والقيّوم سبحانه. وهو، بخلاف ما يعطي الانطباع الأولي لغير أولي الألباب. ونقصد من كلامنا، أن الكافر عندما يكفر، فإنه يكفر بالمعنى والمدلول، ولا سبيل له إلى الكفر بالمشهود؛ بينما لو أدرك المشهود على حقيقته، لأدرك معناه ووجه كونه آية إلهية. ولو افترضنا أن الكافر على علم صحيح، لكان عليه أن يتوقّف في مرتبة مشهوده من العالم ومن الإنسان، حتى يتجنّب الضلال. فلو علم الكافر أن العالم والإنسان هما من مرتبة الإمكان، لما جعلهما مـُنطَلَقا لعقيدته؛ أو على الأقل لطلب حقيقتهما، من دون أن يكتفي بهما. وهذا أمر فوق متناول إدراكه، من غير شك؛ لكننا نحن هنا نخاطب جميع الأصناف، ونعمل على جعلها تتبيّن ما هي عليه، ولو قليلا. وليس الكافر وحده من يقع في الالتباس، بل العامة أيضا لا يشهدون العالم والإنسان إلا وجودا؛ وهذا هو ما يُدخلهم في الشرك. لكن شرك العوام معفوّ عنه من مرتبتهم بفضل الله، ما لم يدخلوا في الكلام (التنظير للشرك)، وفي تعليم غيرهم ما يعتقدون. ولقد سبق لنا تحذير المشتغلين بالكلام من آفة السؤال الملاحقة لهم في الدنيا والآخرة، فليتنبّه من كان حريصا على سلامة نفسه... ولا يختلف الكافر الذي هو مـقيّد بالحس، عن الكافر الذي يُجرّد مشهوداته، ويستخلص ما يظنّه أقوى في الاعتبار من الحس، والذي ليس هو إلا المعقول. ولنتدبّر حال هذا الذي يتعقّل الأمور، ولنسأل: هل هو حقيقة -كما يزعم- قد أفضى إلى عالم أقوى وأمتن من الذي انطلق منه؟ أم إنه قد اشتبه عليه الأمر؟... ولنعد إلى مسألة المحكم والمتشابه، بما هي وجود وعدم وإمكان، لنتثبّت من مستخلصات الكافر العقلية: فهل هي ترقى إلى مرتبة الإحكام، كما يتوهّم هو؟ أم هو متنقل بين الممكنات العقلية، بعد أن كان محصورا من جهة حسّه في الممكنات المشهودة له حسّا؟... وحتى يعلم القارئ الحكمة من ربطنا بين الحسّ والعقل، ويعلم مقارنتنا أحدَهما إلى الآخر، من باب مجاراة طبقة من الناس بعينها؛ فليعلم أن إدراك الحس على ما هو عليه، كان دافعا للعقلاء إلى طلب اليقين من جهة التعقّل. وذلك عندما شاهدوا المحسوس محاطا بعدميْن: الأول سابق على شهوده (ولا نقول وجوده)، والثاني لاحق به. وما كان محاطا بالعدم من جهتيْه، لا يُمكن أن يكون وجودا؛ بل أقصى ما يُنسب إليه هو الإمكان. فكأن المتعقّل للأشياء، كان يروم بتعقّله الفرار من الإمكان، وبالتالي من العدم؛ إلى ما يظنه وجودا، فلم يُفلح. وهذا، لأن العقول تعلم بداهة بأن الوجود ثبات ويقين، وأن الإمكان تردّد وشك؛ فكانت دائما تطلب الوجود من كل منطلقاتها، وليس أمامها من جهة الحس والعقل معا، منطلَقا، إلا الممكنات. وما زاد في تعقيد المسألة، هو أن العامة لا خبرة لهم بتمييز المراتب العقلية التي هي: الوجود والعدم والإمكان؛ ولكن ليس أمامهم في الوقت ذاته، إلا ما بيدهم، والذي هو العالم وأنفسهم، بحسب إدراكهم. ومن الآيات الإلهية الظاهرة في خلقه، هو أنهم لا يُعيدون النظر في منطلقاتهم الأولى، ولا يتمكنون؛ لذلك فإن كل صنف من الناس، يُقيّم الأشياء بحسب ما يطمئن إليه، ولا يشك فيه فحسب؛ لأن الشك الحقيق والتام، لا يُطيقه مخلوق أيا يكن. وقد غلط المتفلسفون من أمثال "ديكارت" وغيره، عندما توهّموا أنهم قد شكّوا؛ وهيهات!... وأقصى ما يكون عليه المفكرون المتفلسفون من شك، هو الشك المنهجي، حيث يبقى الناظر على الحياد الوجداني عند ممارسته للنظر. وإن أغلب العوام، ومن دون أن يشعروا، يُخطئون في ترتيب العالم ومن ضمنه أنفسهم؛ وذلك عند توهّمهم أن العالم موجود، وأنهم هم أنفسهم موجودون. ومن توابع نقصهم العقلي، فإنهم يقفزون بسرعة إلى ما وراء ذلك من استنتاجات على قدرهم، ومن دون تمحيص. ولو سأل العامي نفسه: ما الدليل على أنه والعالم موجودان، لتوقّف، أو لأحال على الحس. والحاصل، هو أن العامي قد صار يعتبر العالم ونفسه موجوديْن، وصار يبني على ذلك نتائج قد تقرب وقد تبعد، بحسب النسق المبني لديه. والذي أعطى الانطباع للعامي بأنه موجود، ليس هو التعقل وحده، بما أن المسلّمات لا تُبرهن؛ وإنما هو وجدانه في نفسه. فهو يجد أنه موجود، ويُسلّم بذلك، من دون أن يكون له سند من خارجه. ورغم أن المتفلسف هو أقدر من العامي على الجدل، إلا أنه لا يختلف عنه كثيرا من هذه الناحية؛ بل إن العامي بانطلاقه من الوجدان غير المبرهن، هو أقرب إلى الحق من المتفلسف، وإن كان الاثنان لا يعلمان. وحتى نكشف حال المتفلسف بإزاء العامي، فإننا نقول: إن المتفلسف ينطلق من أمريْن ثالثهما ما يجمع بينهما، وهما: الحسّ، والعقل؛ وأما الجامع فهو الخيال. وكما أن العاميّ لم يُمحّص وجدانه، وبنى عليه؛ فكذلك المتفلسف لم يُمحّص حسّه ولا عقله، وبنى عليهما. ولو أن الفيلسوف، نظر إلى حسّه نظرة متشكّك، لارتدّ إليه نظره وهو حسير. ولو شكّ العاميّ في حواسّه، لانهدّ عليه عالمه؛ ولسنا نعني بالشكّ هنا، إلا إدراكه بأن حواسّه منها منطلَقه، وإليه تعود (والعقل داخل ضمن هذا الاعتبار). فهو -سواء شكّ أم لم يشكّ- غير خارج عن نفسه؛ ومن لم يخرج عن نفسه، فكيف له أن يزعم بأنه يُدرك غيره؟!... وهذا وجه واحد من المسألة، نجادل به عموم الناس؛ وإلا فإن الوجدان الشخصي من أوثق سبل المعارف عند أهل الله. وكذلك المتفلسف، فلو أنه علم أن عقله لا يتعدّاه، لما وثق به في العلم بغيره. وهذه البرهنة المتعجّلة، تجعل الإنسان بدل أن يثق بنفسه، كان عليه أن يثق بربه، وأن يُصدّقه فيما أخبر به في وحيه. وليلاحظ القارئ أن هذه النتيجة هي عكس ما يخلص إليه أهل الظلمة، عندما يعودون إلى أنفسهم، أو إلى نظرائهم في القصور العقلي، ويتوهّمون مع ذلك أنهم على شيء، وهيهات!... وأما الرجوع إلى الله، فإنه لا يكون بالعقل، وإنما بإذنه سبحانه للعقل في الرجوع. وربما قد نوفي هذه المسألة حقها، عندما نجد فسحة وداعيا إليها، إن شاء الله ربّنا... ولنتناول بهذه المناسبة مطلع سورة المـُلك، لنتبيّن بعض ما كنا نحوم حوله: - يقول الله تعالى: {تَبَـٰرَكَ ٱلَّذِی بِیَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءٍ قَدِیرٌ} [الملك: 1]: والذي بيده المـُلك، هو الاسم "الله"، من وجهَيْ اسميه "المـَلِك" و"المالِك". وبين الاسميْن فرقان، وهو زيادة الألف في الاسم "المالك". وهي (أي الألف) تحكم بظهور مُلك المالك للمُلك، بأكثر مما يكون للملِك في المعتاد؛ هذا مع أن الاسميْن الإلهييْن هما اسمان لصفة واحدة هي المـُلك. ومعنى {تَبَـٰرَكَ}: تنامى وتعاظم وتعالى، والضمير يعود على الذات الموصوفة والمسمّاة بالأصالة، أو يعود إلى اسم مرتبة الألوهية بالتَّبع. وهذا، حتى لا يتوهّم أحد أنه سيعلم صفة ملك الله للعالم وللإنسان الذي هو جزء منه، علما تاما، من دون أن يعلم حقيقة النسبة التي بين الله والعالم. فهو كلما علم قدرا من هذه الصفة، تعاظمت، فكأنه يصير جاهلا بها بعد أن كان عالما... وهذا الذي نذكره هنا، يصلح للمساكين الذين يأخذون المعلومات في أذهانهم على أنها قارة وثابتة؛ ويبغون بذلك بناء أنساق معرفية، يتوهمون أنهم سينالون بها علما حقيقا، وهيهات!... وعبارة {ٱلَّذِی بِیَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ}، تدلّ على أن المالك قاهر لملكه الذي هو العالم، ولا يخرج شيء منه مهما دقّ أو عظُم، مع ذلك القهر، عن قبضته. يقول الله تعالى في موضع آخر: {وَمَا قَدَرُوا۟ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦ وَٱلۡأَرۡضُ جَمِیعًا قَبۡضَتُهُۥ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ وَٱلسَّمَـٰوَ ٰتُ مَطۡوِیَّـٰتُۢ بِیَمِینِهِۦۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا یُشۡرِكُونَ} [الزمر: 67]، وما يُشركون إلا أنفسهم والعالم. والمـُلك الذي هو مصدر فعل مَلَكَ، يُقصد منه هنا المملوك (اسم مفعول)؛ وهذا من باب الاختصار، وحتى لا نتكلم عن الصفة من حيث هي. وقوله تعالى: {وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءٍ قَدِیرٌ}، تأكيد على التمكّن من الملك؛ لأن خلق المملوك يكون بالقدرة، والتحكم به وتدبيره يكون أيضا بها. فكل ما هو معتبر من ذوات المملوكين أو من أحوالهم، إنما هو مقدور لله تعالى، ولا يخرج عن قبضتها... - ويقول سبحانه: {ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَیَوٰةَ لِیَبۡلُوَكُمۡ أَیُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلًاۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡغَفُورُ} [الملك: 2]: والمعنى هو أن من دلائل قدرة الله على مـُلكه، خلقه الموت الذي هو قاهر لكل حيّ؛ والاسم "المميت" هنا، سيكون تابعا للاسم "الملِك". وقد ذكر الله الحكمة من خلق الموت، بالنظر إلى المـُكلّفين خاصة، وهي ابتلاؤهم حتى يمتاز المـُحسن من المسيء. والمـُحسن -كما لا يخفى- سيكون هو من يعتبر الموت ويستعدّ له؛ أما المسيء، فهو من يغفل عنه ويتبع هواه. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «اَلْكَيِّسُ مَنْ دانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِما بَعْدَ الْمَوْتِ؛ وَالْعاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَواها، وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ الْأَمانِيَّ.»[4] . ومعنى الكيّس: العاقل؛ والعاجز: القاصر والكليل. وأما دينونة النفس، فهي اتهامها؛ والاتهام هو الشك المنهجي الذي مررنا به. وليتنبه القارئ إلى مكانة الموت في كل ذلك، فإنها مما ينبغي ألا يُغفل. ولقد ختم الله الآية بذكر الاسميْن: "العزيز" و"الغفور" ليدلّ على أن أمر استجابة المكلّفين لما يدعوهم الله إليه، لا يكون بغير إذنه سبحانه، بخلاف ما يتوهّم الجاهلون؛ وإذا أذن الله لبعضهم بالاستجابة، فإنهم لا ينجون إلا بمغفرته سبحانه لسيئاتهم وتجاوزه عنها. وهذا، لأنه لا وجود لحسنة خالصة لعبد من العباد، إلا إن غفر الله؛ وأما إن لم يغفر، فإن كل حسنة تعود سيئة في حق عاملها. والسبب الأصلي في هذا الاعتبار، هو أن لا أحد يُقدّر الله حقّ قدره، وإن كان يزعم أنه عامل له؛ وهكذا فإن كل عمل يعود وبالا على صاحبه، ما لم يفن العامل فناء تاما عن نفسه، يتحقّق له معه البقاء بربه. وحتى هذا، فإنه لا يُبقي للعبد على حسنة، لأنه يُذهِب نسبة العمل إليه، ليعود عمل العبد معه (أي الفناء) فعلا لله وحده. ومن علم هذا، فإنه سيُدرك حتما أن كل الحسنات المـُثبَتة للعباد، إنما يُثبتها الله بفضله، لا باستحقاق العبد. ويدخل ضمن هؤلاء العباد، كل الأنبياء والرسل والأولياء -عليهم السلام- الذين خلّد الله ذكرهم في القرآن الكريم. ونعني بكلامنا، أن لا أحد يحق له أن يحتجّ بالقرآن على نسبة الحسنة إلى العبد المخصوص، من كل وجه؛ لأنها ثبتت بفضل الله في سابق العلم، منّة وفضلا، لا غير. وقد دل نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم على الأدب مع الله في الأعمال، عندما أخبر بأنه لا أحد من العباد يدخل الجنة بعمله، ولا هو سيد المخلوقين وحبيب رب العالمين. فقد جاء في الحديث النبوي: «سَدِّدُوا وقارِبُوا، وَأَبْشِرُوا؛ فَإِنَّهُ لَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ أَحَدًا عَمَلُهُ. قالوا: وَلا أَنْتَ يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: وَلا أَنا! إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ مِنْهُ برَحْمَةٍ. (...)»[5] . ومعنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم «سَدِّدُوا وقارِبُوا، وَأَبْشِرُوا؛» أي: تأدّبوا في العمل مع العامل سبحانه. واستخراجه صلى الله عليه وآله وسلم لسؤال الصحابي: "وَلا أَنْتَ يا رَسولَ اللهِ؟"، وجوابه عنه، هو لرفع أي احتمال لاستثنائه عليه وآله الصلاة والسلام؛ خصوصا وهو يعلم أن قوما من المسلمين سيُعظّمونه بغير علم. فاستبق عليه وآله الصلاة والسلام، ما لم يحدث بعد، وبيّن حكمه قبل حدوثه، من باب كمال تبليغه عن ربه سبحانه. فما أسعدنا برب عفوّ غفور، ونبيّ رؤوف بنا رحيم، والحمد لله رب العالمين... - ثم يقول سبحانه: {ٱلَّذِی خَلَقَ سَبۡعَ سَمَـٰوَ ٰتٍ طِبَاقًاۖ مَّا تَرَىٰ فِی خَلۡقِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ مِن تَفَـٰوُتٍ فَٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ هَلۡ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ} [الملك: 3]: يمتنّ علينا سبحانه بخلق السماوات فوقنا، ويمتن بجعلها طبقات بعضها فوق بعض. ويُخاطب ربنا الناظر في عالم الخلق ملكا وملكوتا، بأنه لن يجد في الخلق جميعهم تفاوتا. والمقصود بالتفاوت هنا، ما يكون خارجا عن النسق الرحمانيّ العام. ثم يأمر الله عبده الناظر في الخلق، بأن يُعيد النظر كرّة أخرى، ليسأله: {هَلۡ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ}: أي: هل ترى من تباين يُخالف مبدأ الوحدة العامة؟... ليكون جواب كل عبد: ما نرى ربَّنا في خلقك من فطور!... كل هذا، إن كان الناظر سويّا، وكان النظر سليما؛ فإن كانا بخلاف ذلك، كما هو شأن المتطفلين على النظر العقلي، فإنهما يكونان خارج الاعتبار فيما يخلُصان إليه، مما يُخالف الحق... - ثم يُعقِب الله سبحانه بقوله: {ثُمَّ ٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ كَرَّتَیۡنِ یَنقَلِبۡ إِلَیۡكَ ٱلۡبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِیرٌ} [الملك: 4]: ولنذكر لطيفة في مسألة تكرار النظر من العبد بأمر الله وبإذنه سبحانه، والذي سيكون النظر به مربّعا: نظرتان بحسب ما دلّت عليه الآية الثالثة من المـُلك، ونظرتان بحسب مدلول الآية الرابعة. فالنظرة الأولى هي نظرة الحس، وعلى الرأس منها هنا العين؛ والنظرة الثانية، هي تعقّل العبد للمحسوس بعقله؛ وأما النظرة الثالثة، فهي فحص المعقول وتفكيكه، بحسب المقدرة العقلية للعبد وبحسب دُربته؛ وأما النظرة الرابعة، فهي الرجوع بالعقل إلى الأصول الإلهية. وهذه النظرات الأربع، هي جُماع أصول ما ينطق به كل ناطق، وهي قرآن هذه المسألة خاصة. وهذا يعيدنا إلى ما كنّا بصدده، عند كلامنا عن العوام والمتفلسفة؛ وإلى الخلاصة التي ينبغي أن نخرج بها، وهي أن كلّ نظر من كلّ ناظر، يشهد بأن العالم (ومنه الإنسان)، مخلوق لله، وأن كل شؤونه منه مبدؤها وإليه تعالى معادها ومرجعها. وهذا يعني أن القائلين لمقولات الكفر، بعد نظرهم إلى المخلوقات، فإنما حيل بينهم وبين نتائج حواسّهم وعقولهم. ونعني من هذا، أن الحواس من حيث هي، والعقول من حيث هي، كلها مقرّة لله بخلقه لها، وبقدرته عليها؛ ولكنّ الإذن الوارد من "الملِك" هو ما يجعل العبد الناظر يعلم ذلك من نفسه أو يجهله، ويجعله إما مُقرّا بعبوديته لربه، أو يجعله كافرا من جهة قوله الصادر عن تركيبه، وإن كانت مفردات عينه الثابتة، على عبودية خالصة لله. ومن هنا نفهم قول الله تعالى في قرآنه: {لَّا یَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنۡ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحۡمَـٰنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38]. فذلك الإذن الظاهر هناك، هو الإذن الباطن هنا؛ فلا يغالط أحد نفسه؛ ونفهم أيضا قول الله تعالى: {یَوۡمَ تَشۡهَدُ عَلَیۡهِمۡ أَلۡسِنَتُهُمۡ وَأَیۡدِیهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم بِمَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ} [النور: 24]، وهذا لأن العبد من حيث مفرداته -كما أسلفنا- مؤمن، وعابد، وصالح. ومن آمن بما يدل عليه قول الله تعالى هذا، فإنه يستعين بجوارحه وبحواسه وعقله، على الشياطين المريدة لإضلاله، كما يستعين المؤمنون في دنياهم بعضهم ببعض على مواجهة أعدائهم. ومن باب عدم الإذن للناظر، ما يدلّ عليه قول الله تعالى أيضا: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱسۡتَجِیبُوا۟ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا یُحۡیِیكُمۡۖ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ یَحُولُ بَیۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَقَلۡبِهِۦ وَأَنَّهُۥۤ إِلَیۡهِ تُحۡشَرُونَ} [الأنفال: 24]. وإن بعض أحوال العبد التي ذكرناها آنفا، هي من أثر حيلولة الله بين المرء وقلبه (عقله). ولينظر القارئ هنا، إلى مدى بُعد المدّعين للعقلانية من الناس أجمعين، إن هم لم يعودوا فيها إلى ربهم!... وإن أولى الناس باعتبار ما ذكرنا، هم الدارسون للفلسفة، في الجامعات العالمية، لو كانوا يعقلون!... وأما انقلاب البصر بعد كل نظرة من النظرات سالفة الذكر، خاسئا وهو حسير، فهو بسبب العزة الإلهية التي للاسم "العزيز" السابق ذكره من الآية الثانية من السورة ذاتها. والخاسئ هو الذليل، والحسير هو المقهور بتقييده، حتى لا يجترئ على رفع بصره إلى ما لم يُؤذن له فيه. وعلى هذا، فإن كل عبد كامل، لا بد له من خفض بصره الحسّي والعقلي، في حضرة ربه. ولا يكمل العبد، حتى يتحقّق بالذلّ لربه؛ ولا يحصل الذل إلا بحصول الخشية؛ ولا تحصل الخشية إلا إذا تحقّق العلم. وهكذا، فإننا نعلم أن العباد المجترئين على الله، بمقولاتهم التي تُنبئ عن جهلهم، لا يفعلون ذلك إلا بعد حصول غفلتهم عن أنفسهم. ومن غفل عن نفسه، فكفى بذلك حقارة له وحِطّة... وكلمة "فطور" التي وردت في الآية الثالثة من سورة المـُلك، هي ما يتعارف عليه المفكّرون باصطلاح "الفجوات المعرفية". ومن هنا نجيب المتسائلين، بأن النسق المعرفي للعالم، لا وجود لفجوة به مهما صغُرت؛ ومن قال بذلك، فإنما هو يُعرب عن جهله وانطراده من دائرة العالِمين، أيا يكن اعتباره في العالَمين!... وهكذا، يتضح من كل ما سبق، أن العلم بحقيقة العالَم، لا يتم إلا بمعرفة إحكامه الذي هو الإتقان، الذي يقول الله عنه: {صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِیۤ أَتۡقَنَ كُلَّ شَیۡءٍۚ} [النمل: 88]؛ ومن ثمّ العودة من متشابهه، إلى محكمه. ومن لم يتبيّن وجود العالم من عدمه، فليعلم أنه ما أدرك شيئا من مسألة المحكم والمتشابه كما يدلّ عليها القرآن العظيم. ومن لم يُدرِك، فمن رحمته بنفسه سكوتُه عما لا يُدرك!... [1] . قد ذكرنا معنى التأويل، في فصل "التفسير"، فليراجع هناك... |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.