اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2024/11/21 الإنسان القرآن (مقدمة في تفسير القرآن الكريــم) .21 الباب الثاني: العلوم المتعلّقة بالقرآن الفصل الخامس: اختلاف القراءات
ليس صدفة في أن يوافق عدد الأحرف التي تعلّمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ربه، في قراءة القرآن، عدد أئمة القرّاء السبعة، الذين انتهى إليهم العدد مع المدة؛ لأن الصدفة لا يُقال بها في أفعال الله الصادرة وفق علمه سبحانه. وربما قد لاحظ القارئ في كتاباتنا، أننا نحرص على عدم التفريق في العلم بين النسخة القرآنية المسطورة والأخرى المخلوقة (الكتاب المنشور)؛ وهذا هو ما يجعلنا نعتبر فعل القُرّاء فعلا إلهيا، قبل أن يكون بشريا. وهذه قاعدة عامة، كان ينبغي أن يؤصّل لها في القواعد الفقهية، من غير شك. ولنبدأ بذكر أسماء أئمة القراءات السبعة في مستهل هذا الفصل تبركا، وهم: 1. أبو عمرو بن علاء بالبصرة، الملقب بشيخ الرواة: وهو زيان بن العلاء بن عمار المازني البصري. وقيل اسمه يحيى، وقيل اسمه كنيته. وتوفي بالكوفة سنة 154ه. وروى عنه الدوري، والسوسي: فأما الدوري فهو أبو عمر حفص بن عمر بن عبد العزيز الدوري النحوي؛ والدور، موضع ببغداد. تُوُفِّيَ الدوري سنة: 246ه. وأما السوسي، فهو أبو شعيب صالح بن زياد بن عبد الله السوسي. توفي سنة: 261ه. 2. نافع بالمدينة: وهو أبو رويم نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي. أصله من أصفهان، وتوفي بالمدينة سنة 169ه؛ وروى عنه قالون وورش. فأما قالون، فهو عيسى بن منيا المدني، معلم العربية؛ ويكنى أبا موسى، وقالون لقبه؛ وتوفي بالمدينة سنة 220ه. وأما ورش، فهو عثمان بن سعيد المصري؛ ويكنى أبا سعيد، وورش لقب له. وتوفي بمصر سنة 197ه. 3. عاصم ابن أبي النجود بالكوفة: وهو عاصم بن أبي النجود، ويلقب بابن بهدلة أبي بكر؛ وهو من التابعين، وتوفي بالكوفة سنة 128ه؛ وروى عنه شعبة وحفص الدوري الضرير. فأما شعبة، فهو أبو بكر شعبة بن عباس بن سالم الكوفي. توفي بالكوفة، سنة 193ه. وأما حفص، فهو حفص بن سليمان بن المغيرة البزّاز الكوفي؛ ويكنى أبا عمرو، وتوفي سنة 180ه. 4. حمزة الكوفي: وهو حمزة بن حبيب بن عمارة الزيات الفرضي التيمي؛ ويكنى أبا عمارة، وتوفي بحلوان في خلافة أبي جعفر المنصور، سنة 156ه؛ روى عنه خلف وخلاد. فأما خلف، فهو خلف بن هشام البزاز؛ ويكنى أبا محمد، وتوفي ببغداد سنة 229ه. وأما خلاد، فهو خلاد بن خالد (أو خليد) الصيرفي الكوفي؛ ويكنى أبا عيسى، وتوفي بالكوفة سنة 220ه. 5. الكسائي الكوفي: وهو عليّ بن حمزة إمام النحاة الكوفيّين؛ ويكنى أبا الحسن، ولقِّب بالكسائي، وتوفي بقرية من قرى الري في عهد الرشيد، سنة 189ه؛ وروى عنه أبو الحارث وحفص الدوري. فأما أبو الحارث، فهو الليث بن خالد البغدادي؛ توفي سنة 240ه. وأما حفص الدوري، فهو الراوي عن أبي عمرو، وقد سبق ذكره. 6. ابن عامر الدمشقي بالشام: وهو عبد الله بن عامر اليحصبي، قاضي دمشق في خلافة الوليد بن عبد الملك؛ ويكنى أبا عمران، وهو من التابعين، وتوفي بدمشق سنة 118ه؛ وروى عنه هشام وابن ذكوان. فأما هشام، فهو هشام بن عمار بن نصير القاضي الدمشقي؛ ويكنى أبا الوليد، وتوفي بدمشق سنة 245ه. وأما ابن ذكوان، فهو عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان القرشي الدمشقي؛ ويكنى أبا عمرو. ولد سنة 173ه وتوفي بدمشق سنة 242ه. 7. ابن كثير بمكة: وهو عبد الله بن كثير المكي، من التابعين، وتوفي بمكة سنة 120ه. وروى عنه البزّي وقنبل. فأما البزّي فهو أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بزّة المؤذّن؛ ويكنى أبا الحسن، وتوفي بمكة سنة 250ه. وأما قنبل، فهو محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن خالد بن سعيد المكي المخزومي، ويكنى أبا عمرو، ويلقَّب قنبلا؛ ويقال هم أهل البيت بمكة، يعرفون بالقنابلة. وتوفي بمكة سنة 291ه. والقول بالحصر في القراءات من جهة الظاهر لا يصح، ما دام القرّاء في القرن الثالث كانوا يُجاوزون العشرين؛ وإن كان العلماء قد حصروهم في القرون التي تلي الرابع، في عشرة؛ من باب التوسيع، وتسهيل قراءة القرآن على الناس، لا غير. والثلاثة الذين يزيدون على السبعة الأُول، هم: 1. أبو جعفر المدني: وهو يزيد بن القعقاع، وتوفي بالمدينة سنة 128ه أو بعدها بقليل؛ وروى عنه ابن وردان، وابن جُمّاز. فأما ابن وردان، فهو أبو الحارث عيسى بن وردان المدني؛ وتوفي بالمدينة حوالي 160ه. وأما ابن جماز فهو الربيع سليمان بن مسلم بن جمّاز المدني؛ توفي بالمدينة بُعيد 170ه. 2. يعقوب البصري: وهو أبو محمد يعقوب بن إسحاق بن زيد الحضرمي؛ توفي بالبصرة سنة 205ه أو قبلها بقليل؛ وروى عنه رٌويس ورَوْح. فأما رويس، فهو أبو عبد الله محمد بن المتوكل اللؤلؤي البصري؛ ورويس لقب له. وتوفي بالبصرة سنة 238ه. وأما روح، فهو أبو الحسن روح بن عبد المؤمن البصري النحوي. وتوفي سنة 234ه أو بعدها بقليل. 3. خلف بن هشام البزّار: وهو أبو محمد خلف بن هشام بن ثعلب البزّار البغدادي. وتوفي سنة 229ه (؟)، وروى عنه إسحاق وإدريس. فأما إسحاق، فهو أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن عثمان الورّاق المروزي البغدادي؛ وتوفي سنة 286ه. وأما إدريس، فهو أبو الحسن إدريس بن عبد الكريم البغدادي الحدّاد؛ توفي سنة 292ه. وقد زاد بعضهم أربع قراءات على العشر السابقة، وهي: قراءة الحسن البصري (ت: 110ه)، وقراءة ابن محيصن (ت: 123ه)، وقراءة يحيى بن المبارك النحوي (ت: 202ه)، وقراءة أبي الفرج الشنبوذي (ت: 388ه). وهذه القراءات معلومة لعلماء القراءات، وأما عموم المسلمين المنتشرين في أغلب دول العالم الإسلامي وعددهم يقدر بمئات الملايين، فيقرؤون في الغالب في دول المشرق، برواية الكوفي حفص عن عاصم، وفي بلاد المغرب العربي، بقراءة الإمام نافع وهو إمام أهل المدينة، سواء برواية قالون أو برواية ورش. وأما أهل السودان وفي حضرموت، فيقرؤون بالرواية التي رواها الدوري عن أبي عمرو. وهذه القراءات كلها صحيحة، ولا يعترض عليها إلا الجهلة من العامة، الذين يعرفون قراءة بلدهم دون غيرها من القراءات. ويجوز قراءة الناس للقرآن -مِن غير مَن يؤمّون في الصلاة- بما يشيع بينهم من نطق مخصوص لبعض الحروف، كنطق اليمنيين للقاف مشابهة للجيم المصرية غير المـُعطَّشة (وهو صوت غير موجود في اللسان العربي)، وكنطق أهل الشام وبعض أهل فاس للقاف همزة؛ بل وكنطق عموم الجزائريّين للصاد سينا. فهم يقولون عن الصاروخ مثلا: ساروخ، وعن الصّديق: السّديق. فهذا كله لا يضر، إن غلب على اللسان شيء منه؛ وتجويز القراءة به للعموم، هو من تسهيل قراءة القرآن على الناس، بخلاف ما قد يرى بعض الفقهاء. وذلك التسهيل، يأتي في مقابل ما يشترطه بعض المتأخرين على القارئين للقرآن من ضبط لقواعد التجويد؛ لكون ذلك، مما يدخل في أسباب تنفير الناس من قراءة القرآن أحيانا. وقد ذكرنا مرة ما وقع لنا في بداية توبتنا، مع أمير لجماعة من الإخوان في المغرب، وكنّا قد انتهينا من الصلاة، ففسّر لنا قول الله تعالى: {ٱلَّذِینَ ءَاتَیۡنَـٰهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ یَتۡلُونَهُۥ حَقَّ تِلَاوَتِهِۦۤ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ یُؤۡمِنُونَ بِهِۦۗ} [البقرة: 121]، بأنه إتقان قواعد التجويد؛ فرددت عليه قوله فورا، على غير عادتي من التأنّي وإيثار السكوت. فلم يقبل مني إلا بشاهد من التفاسير المعتمدة، وقد ناله الحرج بسبب الفارق الواضح في التنظيم بين منزلتيْنا؛ فتناول تفسيرا كان قريبا منه ونظر في تفسير الآية، فوجد الأمر كما ذكرتُ أنا: وهو أن تلاوة القرآن حق تلاوته تكون بإتقان العمل به. وهذا لأن العمل تلاوة، وإن كانت العادة لدى علماء الدين، هي أن يفرّقوا في القرآن بين التلاوة المعهودة، والتلاوة العمليّة. وقد حدث معي ردّ الفعل هذا، مرات أخرى، في أمور لم يسبق لي العلم بها؛ سأذكرها في المواضع المناسبة لها، أو في كتاب "رحلتي إليّ"، الذي هو بمثابة مذكّراتي، إن أذن الله بظهوره... وعلى كل حال، فإنه يجب على من يُعامل الأجانب وعوام الناس، أن يقبل منهم قراءة القرآن كما يُطيقون، فإن عسّر عليهم من دون سعي إلى تعليمهم النطق العربي الشائع والمستطاع، فليعلم أنه ممن يصدون عن سبيل الله، وليخف على نفسه سوء المصير. والكلام هنا عن حكم شرعي، له تبعات في الدنيا والآخرة؛ لا عن أهواء موافقة لسياسات بعينها... وإن علماء القراءة، يعتبرون شروط الصحة في القراءة، ولا يقتصرون من حيث المبدأ على السبعة ولا على العشرة ولا على أكثر منهما أو أقل. وقبل أن نخوض في شروط الصحّة في القراءة، علينا أن نتكلّم في صنوف القراءات، على جهة الإجمال، والتي هي: القراءة المتواترة، وقراءة الآحاد، والقراءة الشاذة؛ على أن نعود إليها بقليل من التفصيل فيما بعد، إن شاء الله... وقد قال أبو شامة في كتابه "المرشد الوجيز": [لا ينبغي أن يُغترّ بكل قراءة تُعزى إلى أحد السبعة، ويُطلق عليها لفظ الصحة، وأنها أُنزلت هكذا؛ إلا إذا دخلت في ذلك الضابط. وحينئذ لا ينفرد بنقلها مصنِّف عن غيره، ولا يُختصّ ذلك بنقلها عنهم؛ بل إن نُقلت عن غيرهم من القُرّاء، فذلك لا يُخرجها عن الصّحّة؛ فإن الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف، لا على من تُنسب إليه: فإن القراءة المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة وغيرهم، منقسمة إلى المـُجمَع عليه والشّاذ. غير أن هؤلاء السبعة لشهرتهم وكثرة الصحيح المـُجمع عليه في قراءتهم تركن النفس إلى ما نُقل عنهم، فوق ما يُنقل عن غيرهم.] [1]. وهذا الكلام كله، وأمثاله، إنما هو معتبر لدى علماء الرسوم المتخصصين، ومن جهة الظاهر وحدها؛ لأنه من جهة الباطن والحقيقة: الله هو من أنزل القرآن، وهو حافظه؛ بغض النظر عن الأسباب، وعن النظر إلى الاحتمالات التي يستدعيها عقل الناظر. أما العامة من المسلمين، فإنه لا يصلح لهم الكلام في اختلاف القراءات؛ وذلك لاحتمال دخول الوساوس عليهم في صحة القرآن من الأصل، مع ما هم عليه في هذه العصور المتأخّرة من ضعف في الإيمان، ومن انحراف في العقائد... وأول ما ينبغي أن نلاحظه الآن، هو أن القراءة للقرآن هي المقصودة؛ والكتابة المعلومة، لا تعدو أن تكون خادمة للقراءة في عالمنا السفلي هذا. ويدلّ على ما نقول أمران: - الأول: أن القرآن المنزل على نبينا صلى الله عليه وآله وسلم اسمه "القرآن"، وهو مشتق من فعل "قَرَأَ". وأما الكتاب، فهو اسم ثان، أو صفة. يقول الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ ٱلۡقُرۡءَانُ فَٱسۡتَمِعُوا۟ لَهُۥ وَأَنصِتُوا۟ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ} [الأعراف: 204]، وغير هذه الآية كثير... وأما الكتاب، فقد ورد في مثل قول الله تعالى: {أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ ٱلۡكِتَـٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} [البقرة: 44]. ورغم أن معنى الآية -كغيره- يعم ولا يخص؛ فإنه لا بد من ملاحظة أن لفظ "الكتاب" حيث ورد من القرآن، فهو يعني ما هو أصل للكُتُب المنزلة كلها، ومنها القرآن. وهذا الكتاب، لا خبر للناس عنه في صورته الأصلية العليا؛ لذلك فلا يُقال إن أهل الكتاب قد قرأوا "الكتاب"، إلا عند قصد ما هو سابق، من الكتب المنزلة، كالتوراة والإنجيل، قبل نزول القرآن. وقد يُطلق على كتاب منزل بعينه لفظ الكتاب، من باب تخصيص العام، لا بمعنى المطابقة؛ إلا القرآن، فهو الكتاب، بمعنى المطابقة؛ وقد تكلمنا عن هذا المعنى من خصوصية القرآن، في فصول سابقة؛ وكلامنا هنا هو من باب التذكير فحسب، لا إعادة منّا للتناول. ومع هذا، فإننا نؤكّد على أن القراءة (التلاوة) هي المناسِبة لاسم القرآن، بعد حفظه عن ظهر قلب، كما كان الصحابة المرضيّون يفعلون، هم ومَنْ بعدهم... وتبقى قراءة الكتاب في حق الأميّين، واقتداء بالنبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم، قراءة الوجود المخلوق (العالم)، والذي هو نسخة قرآنية مخلوقة كما قد بيّنّا في غير هذا الموضع. وقد ذكرنا في الباب الأول، أن الآيات الأولى النازلة من القرآن، والتي هي مطلع سورة العلق، نزلت في هذه القراءة الثانية، لا في القراءة بالمعنى المعهود للفقهاء، وإن كان هذا المعنى الأخير مشمولا -من غير شك- باسم القراءة العام. والمعنى الفقهي للقراءة، منوط بخلق صور معاني القرآن في أذهان القرّاء والمفسّرين؛ ما دام معنى القرآن الأصلي، لا يطّلع عليه إلا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، من مكانة حقيقته. ومن باب صور المعاني المخلوقة في الأذهان، كنا نحن نقول بالوجه المخلوق من القرآن؛ ولعلنا سنعود إلى تفصيل الكلام في هذه المسألة، عند كلامنا في مسألة خلق القرآن. ويبقى التفريق بين قراءة القرآن غيبا، وقراءته من المصحف، واجبا، من الناحية العلمية؛ حتى لا تختلط المعاني على القارئين من عموم الناس، ومن الفقهاء خاصة... - الثاني: هو أننا أمة أميّة في الأصل. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّا أمَّةٌ أمِّيَّةٌ لا نَكْتُبُ وَلا نَحْسُبُ.» [2]. وهذا يعني أن الأصل في اعتبار أمورنا، التواتر اللفظي؛ وأما التواتر الكتابي، فهو من أجل القياس عليه فيما بعد، عند اتخاذه مرجعا. ويدل على هذا، أن عثمان عليه السلام، قد أرسل إلى كل مصر نسخة واحدة من المـُصحف؛ قيل هي سبعة في مجموعها[3]: بعث واحدا إلى مكة، وآخر إلى الشام، وآخر إلى اليمن، وآخر إلى البحرين، وآخر إلى البصرة، وآخر إلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحدًا. ومن هنا نفهم أن مجاوزة القراءات للسبعة، راجعة إلى الاختلاف في اللفظ (طريقة نطق الكلمة)، لا إلى الاختلاف في الكتابة. وأكثر الاختلاف هو مما يدخل في لسان القوم، ومما يصب في ترجيح الناطق لمعتاده، على معتاد غيره. ومثال ذلك إثبات ألف "مالك" في الفاتحة، في مقابل حذفها. وإن كنا نحن نجد لها أصلا في نزول الفاتحة مرّتيْن: إحداهما بمكة، والأخرى بالمدينة؛ ونرجّح أن إحدى القرائتيْن نزلت بإثبات الألف والأخرى من دونها. ومثال ذلك أيضا عند اختلاف القراءات بسبب غياب التنقيط والتشكيل: {تَعْلَمُونَ}: بالتاء والياء؛ و{يَغْفِرْ لَكُمْ}: بالياء والنون. ولكل ذلك تخريجات محمودة من جهة التفسير، لا ينبغي أن تُنكر، وإن تأخّر اعتبارها. وإن التفريق بين التقدّم في الزمان والتأخّر، من هذا الوجه المتعلّق بمعاني القرآن، لا محل له؛ وذلك باعتبار الدهر المحيط بالأزمنة كلها، وباعتبار المعنى القرآني المحيط بكل التجليات، والتي من ضمنها كل المخلوقات. ونحن هنا ندلّ على باب خاص من التوحيد، هو الأصل في اعتبار كل توحيد فقهي أو كلامي. ومن لم يعتبر ما ذكرنا، ولو من جهة العلم المجرّد وحدها، فإن علمه بالمسألة يظلّ ناقصا بداهة... ولا يُشترط في القراءة الصحيحة أن تكون موافقة لجميع المصاحف، لأن ذلك سيذهب بمعنى تعدّد القراءات من الأصل، ومن حيث المبدأ. الأمر هنا، ليس قياسا عقليا منهجيا وحده، كما يبدو لضيّقي الأفق؛ وإنما هو أصل في فهم معنى التعدّد نفسه. ويكفي أن توافق القراءةُ القراءةَ في بعضها؛ وذلك كقراءة ابن عامر: {وَبالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ} [آل عمران: 184]، بإثبات الباء مرتيْن، فإنها موافقة لما في المصحف الشامي، فلا يُقال بإنكارها البتة. وأصول إثبات صحة القراءة ثلاثة، هي: الأصل الأول: إن موافقة القراءة لأحد المصاحف العثمانية، أصل في ضبط تصحيح القراءة عند القُرّاء، وهو الأصل الأول عندنا من جهتنا أيضا... الأصل الثاني: هو أن تكون القراءة صحيحة الإسناد؛ وهذا لأن القراءة سنّة متّبعة، يُحرص فيها على سلامة النقل وصحة الرواية. ومن هنا لا يُعتبر إنكار أهل اللغة على أهل القراءات؛ لأن الأمر ليس قياسيا دائما. وقد سبق لنا الكلام في القول بأن كتابة القرآن توقيفية من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا داعي إلى إعادته هنا. الأصل الثالث: هو موافقة القراءة للسان العربي في عمومه، لا في خصوص رسم بعض الكلمات أو خصوص لفظها. وهذا، لأن اللسان تواطئي في أصله، والتواطؤ معنى من معاني العموم. وأما التوقيف النبوي، فإنه يؤكّد التواطؤ ولا يخالفه، لأنه لم يُعدّل إلا على أقل عدد من الكلمات؛ والاستثناء كما هو معلوم، حيث كان، هو يؤكّد القاعدة العامة. وأول ما ينطبق عليه هذا الحكم، هو المصاحف المترجمة، التي يحرم عدّها قرآنا، بأي وجه من الوجوه. وهنا ينبغي التفريق بين القرآن من حيث هو قرآن متلوّ، وبين بعض المعاني القرآنية التي تخرج عن لفظ القرآن ولا تخرج عن معناه. وهذا باب واسع من العلم، قد يضِلّ به من ليس من أهله إذا سمعه. وإن أذن الله لنا في الكلام عن ظاهر هذا الباب من علوم القرآن، فإننا سندلّ عليه من أقرب طريق إن شاء الله... وكل قراءة تخرج عن هذه الضوابط، تعدّ ضعيفة، أو شاذّة، أو باطلة؛ وأما مخالفة القراءة لبعض القواعد النحوية، فلا تُعتبر؛ لأن قواعد النحو متأخرة على نزول القرآن، ولأن القرآن من حيث ضبط الرواية، هو ما ينبغي أن يُقاس عليه لا القواعد النحوية. يقول ابن الجوزي: [وكم من قراءة أنكرها بعض أهل النحو أو كثير منهم، ولم يُعتبر إنكارهم: كإسكان {بَارِىِٕكُمۡ} [البقرة: 45]، و{يَأْمُرْكُمْ} (في أكثر من موضع)، وخفض {الْأَرْحامِ} (في قول الله تعالى: {وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ٱلَّذِی تَسَاۤءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ} [النساء: 1])، ونصب {لِیَجۡزِیَ قَوۡمَۢا} [الجاثية: 14]، والفصل بين المضافيْن في قول الله تعالى: {قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكائِهِمْ} [الأنعام: 137]، وغير ذلك...][4] . وقال أبو عمرو الداني: [وأئمة القرّاء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل. وإن ثبتت الرواية، لم يردّها قياس عربية ولا فشوّ لغة؛ لأن القراءة سنّة متّبعة، يلزم قبولها والمصير إليها.] [5]. وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: "اَلْقِراءَةُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ" [6]، وقال البيهقي في تفسيره للكلام: "أراد أنّ اتّباع مَن قَبلنا في الحروف سنّة متّبعة، لا يجوز مخالفة المصحف الذي هو إمام، ولا مخالفة القراءات التي هي مشهورة، وإن كان غير ذلك سائغا في اللغة.". وهذا الكلام في تفسير معنى السّنّة هنا، من البيهقي يبقى مبهما، ولا يُحيل على معنى السنّة النّبويّة، كما قد يُظنّ؛ وإنما يدلّ على قاعدة شرعية معمول بها بين العلماء، بعد زمن جمع القرآن. وهذا الاعتبار في العلم وفي الاصطلاح، لا ينفي كون القراءات كلها مأخوذة لفظا وكتابة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لذلك فهذا العمل هو سنّة وكفى!... ولنذكر الآن أنواع القراءات، بحسب العلماء، والتي جعلوها ستة؛ وسنعلق على أقوالهم إن كنا نرى داعيا إلى ذلك: 1. المتواتر منها: وهو ما نقله جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب، عن مثلهم، إلى منتهاه؛ وهذا هو الغالب في القراءات. قلنا: ومنتهاه هو الصحابي الراوي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا هو ما أثبته جامعو المصحف في جمعهم، وهو ما بعث به عثمان عليه السلام إلى الأمصار. غير أن لنا كلاما في قولهم: "لا يمكن تواطؤهم على الكذب"، من وجهيْن: - الأول: عدم القطع بالصدق، لغير المعصوم، من الجهة الشرعية. وهذا يدعو العلماء إلى التنازل عن قولهم، أو إلى القول بعصمة الصحابة؛ وهو ما يخالف عقائدهم. وكلامنا هذا، إنما هو من باب التحقيق العلمي، لا من باب عدم القول بالتواطؤ الثابت لدينا بإثبات الله العليم الحكيم. - الثاني: وهو اعتراض من الناحية العقلية، ما دام العقل لا يُحيل كذب أحد من الناس. وإن التصديق الإيماني، من حيث هو، لا يُلزِم العقلاء. وهذا الأصل ينبغي أن يُعتبر، وألا يُقال فيه من العلماء بقول يظنّون أنهم به يكونون مناصرين للدين، وهم يفتحون على أنفسهم أبوابا قد تكون مسيئة إليه، كما هي الحال هنا. ولا حرج على الناس في أن يعتقدوا أن التصديق بما جاء من عند الله، هو من فضل الله، لا من عقلانية الناس؛ لأن الأصل في المسألة هو هذا. وهو ما يُشير إليه مثل قول الله تعالى: {لَّیۡسَ عَلَیۡكَ هُدَىٰهُمۡ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ یَهۡدِی مَن یَشَاۤءُۗ} [البقرة: 272]، وفي المقابل مثل قوله سبحانه: {إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ وَظَلَمُوا۟ لَمۡ یَكُنِ ٱللَّهُ لِیَغۡفِرَ لَهُمۡ وَلَا لِیَهۡدِیَهُمۡ طَرِیقًا} [النساء: 168]. وأما فهم الفقهاء لمعنى الآية، فهو: ما كان الله ليهدي الكافرين بعد كفرهم وظلمهم، جزاء لهم على ما اقترفوا من كفر وظلم؛ والحقيقة هي: ما كان الله ليهدي الكافرين، لأنه أخرجهم على صورة ما علم منهم سبحانه بعلمه القديم. وهو لم يعلم منهم هداية، حتى يهديهم؛ وإنما علم كفرهم وظلمهم، فمنع عنهم مدد الهداية والتوفيق. ومن لم يفهم المعنى على وجهيْه، فإنه يكون في الحال الأول مشركا شرك أهل مرتبة الإسلام، وفي الحال الثاني، إن كان من دون اعتبار للأسباب، فإنه يكون من غلبة الحال، ومن نقص العلم. فلينظر كل فريق من الناس، ما يكمّل نقصه؛ لأن الدين كامل يقتضي صفة الكمال من العبد. يقول الله تعالى: {ٱلۡیَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِینَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَیۡكُمۡ نِعۡمَتِی وَرَضِیتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَـٰمَ دِینًاۚ} [المائدة: 3]. فكمال الدين يتجلّى في كمال التشريع بمعناه العام الواسع، ولكنه من دون كمال في الإدراك سيبقى ضمن الإيمان وحده. ومن فهم عنّا قولنا، فإنه سيعلم أن تحقيق الكمال في نفسه فرض عليه، وأن التزكية بالمعنى الكامل، والتي هي سبب إلى تحقيق الفرض، هي أيضا فرض. نقول هذا، للجهلة من المتفقّهة، الذين يظنّون أنهم قد حصّلوا شيئا من دون تزكية، وهيهات!... وما أسوأ حالهم لو نظروا إلى أنفسهم في مرآة مجلوّة!... وأما من جهة العلم، فإن سيئة واحدة من سيئات الفقهاء، إن لم يتجاوز عنها الله بفضله، ويغفرْها، لكانت كفيلة بهدم كل حصيلة أعمالهم؛ ولكانوا ممن قال الله فيهم: {وَیَقُولُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَهَـٰۤؤُلَاۤءِ ٱلَّذِینَ أَقۡسَمُوا۟ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَیۡمَـٰنِهِمۡ إِنَّهُمۡ لَمَعَكُمۡۚ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فَأَصۡبَحُوا۟ خَـٰسِرِینَ} [المائدة: 53]. وقد اختلف القُرّاء في هذه الآية: فأهل المدينة يقرؤونها بحذف الواو في بدايتها، لتكون موصولة بما قبلها، وهو قول الله تعالى: {فَیُصۡبِحُوا۟ عَلَىٰ مَاۤ أَسَرُّوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ نَـٰدِمِینَ} [المائدة: 52]؛ أي: نادمين، يقول الذين... فيكون المعنى متعلّقا بانفضاح المنافقين، عندما يأتي الفتح من عند الله أو يأتي أمره، فيصبح المنافقون نادمين، ويقول المؤمنون في أنفسهم تعجّبا: "أهؤلاء الذين كنا نعُدّهم منا؟!...". وقرأ بعض البصريّين بالواو، مع نصب {يَقولَ}؛ عطفا على: {أَنْ يأْتَيَ}. فيكون المعنى: فعسى الله أن يأتي بالفتح، وعسى أن يقول المؤمنون. وقرئت الآية في مصاحف العراقيّين وخصوصا عند أهل الكوفة، بالواو ورفع يقولُ؛ على الابتداء ومعنى الاستقبال. فيكون المعنى: فـيصبحوا علـى ما أسرّوا فـي أنفسهم نادمين، ويقول الـمؤمنون: أهؤلاء الذين حلفوا لنا بـالله جهد أيـمانهم كذبـاً إنهم لـمعنا. وهو إخبار من الله تعالى بعلمه بحال المنافقين ومآلهم، قبل علم المؤمنين الذي لا يكون إلا بإعلام الله؛ من باب ترتيب العلم الحادث على العلم القديم. وهو باب من العلم، مجهول لأهل الفقه الظاهر؛ من تفطّن إلى ما ندلّه عليه فيه، فإنه سينتفع انتفاعا لا يعلم قدره إلا الله تعالى!... ويُفهم أيضا من قوله تعالى السابق عن المنافقين: {فَأَصۡبَحُوا۟ خَـٰسِرِینَ}، حدوث العلم لهم بحالهم، علما منفصلا عن علم المؤمنين به؛ وهذا هو ما يليق بمجمل معنى الآية الكريمة، من غير دخول في باطنها... 2. المشهور: وهو ما صحّ سنده، ولم يبلغ درجة التواتر، ووافق العربية والرسم، واشتهر عند القرّاء، فلم يعدّوه من الغلط ولا من الشذوذ. وذكر العلماء في هذا النوع أنه يُقرأ به، وأغلب القراءات المشهورة في الأمصار، تقع ضمن هذا الصنف. وقد علمنا من طريق الذوق، أن اقتصار القارئ على قراءة واحدة مشهورة، لا يقدح في علمه من جهة الكشف بمعاني القرآن؛ وهذا، لأن الكشف لا يتقيّد. وإن يسّر الله لنا أن نذكر بعض ما وقع لنا من ذلك في موضعه، فسنشير إليه ونبيّن القراءة القريبة من تأديته، إن كان لنا علم بها... وينبغي أن نُشير بعد ما تقدّم، إلى أن موافقة العربية عند اشتراطها في التعريف، لا تكون إلا شرطا ثانويا؛ وهذا حتى لا نناقض التعريف الأصلي للقراءة. والشرط الثانوي، يُعتبر عند إرادة تعضيد قراءة ما، فهو يُشبه اعتبار الحديث الضعيف عند إرادة التعضيد والاستشهاد لحديث آخر، كما هو معلوم لأهله... 3. الآحاد: وهو ما صحّ سنده، وخالف الرسم أو العربية، أو لم يشتهر الاشتهار المعلوم؛ وهذا الصنف، لا يُقرأ به. ومن الأمثلة عليه، ما رُوي عن أبي بكرة من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قد قرأ: {مُـتَّكِئِينَ عَلَى رَفَارِفَ خُضْرٍ وَعَبَاقِرِيَّ حِسَانٍ} والآية هي: {مُتَّكِـِٔینَ عَلَىٰ رَفۡرَفٍ خُضۡرٍ وَعَبۡقَرِیٍّ حِسَانٍ} [الرحمن: 67]. ومن الأمثلة أيضا، ما رُوي عن ابن عباس عليهما السلام، أنه قرأ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفَسِكُمْ} (بفتح الفاء)، والآية هي: {لَقَدۡ جَاۤءَكُمۡ رَسُولٌ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ} [التوبة: 128]. وقراءة ابن عباس لا تخالف في شيء من الرسم الآية المشهورة، وتحيل من جهة المعنى إلى وجه معتبر. فلا ينبغي لأحد التوقف فيها... 4. الشاذ: والشذوذ في اللغة الخروج عن المعتاد من الأعراف. وهو يُعرّف اصطلاحا بما لم يصح سنده، وهذا قول السيوطي؛ أو بما صح سنده ووافق اللسان العربي ولو من وجه، ولكنه يُخالف المصحف. وممن اعتمدوا التعريف الثاني: ابن الجزري، ومكي القيسي، وأبو شامة المقدسي. وتنقسم القراءات الشاذة من وجه شذوذها إلى ما هو شاذ، وما هو أكثر شذوذا، ومنها: - القراءات التي لم يثبت نقلها. 5. الموضوع: وهو ما لا أصل له. وهذا يعني أنه غير معدود من القرآن، وتحرم نسبته إليه حرمة مغلّظة. 6. المـُدرج: وهي القراءة الشاذّة التي ضمّنها الصحابيّ شرحا للآية بعبارة مـُدرجة من قِبله، قد يظنها من لا علم له أنها قرآن. ومن الأمثلة على ذلك، قراءة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: {وَلَهُ أَخٌ أَوُ أُخْتٌ (مِنْ أُمٍّ)}، وهذا للدلالة على أن الأخوة هنا مخصوصة بالأخوة من الأم. والآية في أصلها هي: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ یُورَثُ كَلَـٰلَةً أَوِ ٱمۡرَأَةٌ وَلَهُۥۤ أَخٌ أَوۡ أُخۡتٌ فَلِكُلِّ وَ ٰحِدٍ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُۚ} [النساء: 12]. ومن هذا الصنف أيضا قراءة ابن عباس عليهما السلام: {لَیۡسَ عَلَیۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَبۡتَغُوا۟ فَضۡلًا مِّن رَّبِّكُمۡۚ (فِي مَواسِمِ الْحَجِّ) فَإِذَاۤ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَـٰتٍ فَٱذۡكُرُوا۟ ٱللَّهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِۖ}، والآية في أصلها: {لَیۡسَ عَلَیۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَبۡتَغُوا۟ فَضۡلًا مِّن رَّبِّكُمۡۚ فَإِذَاۤ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَـٰتٍ فَٱذۡكُرُوا۟ ٱللَّهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِۖ} [البقرة: 198]. وقد يأخذ العامة كثيرا من كلام الفقهاء بعد قراءتهم لآية ما، على أنه أيضا من القرآن. ولقد رأينا من يفعل ذلك منهم، ويعيده أمام الناس. ومن أدب المتكلّمين في أحكام القرآن أو في معانيه، أن يُشعروا السامع منهم بانتهاء الآية. كقول من يقول "الآية"، إعلاما بنهايتها، وقياسهم في ذلك بقولهم "الحديث"، عند انتهاء ألفاظه؛ وهو أمر جيّد... وأما التدليل بالقراءة الشاذة، من هذا الصنف، على تبيين المعنى، فهو كقراءة عائشة وحفصة عليهما السلام: {حَـٰفِظُوا۟ عَلَى ٱلصَّلَوَ ٰتِ وَٱلصَّلَوٰةِ ٱلۡوُسۡطَىٰ (صَلاةِ الْعَصْرِ)}، في مقابل الآية: {حَـٰفِظُوا۟ عَلَى ٱلصَّلَوَ ٰتِ وَٱلصَّلَوٰةِ ٱلۡوُسۡطَىٰ} [البقرة: 238]؛ وكقراءة جابر رضي الله عنه: {فَإِنَّ ٱللَّهَ مِنۢ بَعۡدِ إِكۡرَ ٰهِهِنَّ (لَهُنَّ) غَفُورٌ رَّحِیمٌ}، في مقابل الآية: {فَإِنَّ ٱللَّهَ مِنۢ بَعۡدِ إِكۡرَ ٰهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِیمٌ} [النور: 33]. وقد منع الفقهاء من القراءة بالأصناف الأربعة الأخيرة، لا في الصلاة، ولا في غيرها. وهذا، لأن الوعيد في نسبة كلام لم يقله الله إليه، شديد. يقول الله تعالى: {وَإِنَّ مِنۡهُمۡ لَفَرِیقًا یَلۡوُۥنَ أَلۡسِنَتَهُم بِٱلۡكِتَـٰبِ لِتَحۡسَبُوهُ مِنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَمَا هُوَ مِنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَیَقُولُونَ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَمَا هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَیَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ یَعۡلَمُونَ} [آل عمران: 78]؛ ولا يتوهّمنّ أحد أن الوصف منوط بأهل الكتاب وحدهم، على ما يُعطيه الظاهر وأسباب النزول؛ وهذا، لأن الألفاظ عامة، تنسحب على كل مستحقّ لها من هذه الأمة خاصة... أما فوائد اختلاف القراءات، فمنها: 1. دلالة الشاذ على المتواتر دلالة خُلفية: وهذا يعني أن معرفة القرّاء بالأصناف الأخرى غير المتواتر، قد جاءت من تمحيصهم له. 2. الدلالة على سعة القرآن لفظا ومعنى: وقد سبق لنا الكلام عن أوجهٍ من سعة القرآن فيما سبق من الكتاب، فلنكتف بذلك ولا نزيد... 3. التخفيف عن الأمة: وذلك، بعدم إلزامها بغير ما يثبت لديها من القراءات، بحسب الأمصار المختلفة. وأما العلماء المتخصصون، فحكمهم مختلف... 4. تعدّد الأحكام من الآية الواحدة عند اختلاف القراءة: وهو من السعة القرآنية سابقة الذكر، لكن من وجه الأحكام خاصة. وهذا كقول الله تعالى: {وَٱمۡسَحُوا۟ بِرُءُوسِكُمۡ وَأَرۡجُلَكُمۡ إِلَى ٱلۡكَعۡبَیۡنِۚ} [المائدة: 6]، مرّة بالنصب في {أَرْجُلكم} ومرة بالخفض. وهكذا فسيكون من أثر النصب، بيان حكم غسل الرجليْن في الوضوء؛ ويكون من أثر الخفض بيان حكم مسح الرجليْن فيه، أو بيان حكم جزئي عند الاقتضاء، وهو المسح على الخفّيْن. 5. تتميم قراءة لقراءة أخرى من جهة الظاهر: وقولنا من جهة الظاهر، نعني منه الجهة العلمية الرسمية؛ وإلا فإن الله يفتح لعباده في قراءة واحدة ما يجمع أسرار جميع القراءات، كما سبق أن أشرنا. وهذا وجه من قرآنية كل قراءة، وإن كان هذا المعنى لا يعلمه العلماء المتخصصون أنفسهم. والمثال على تتميم قراءة لقراءة أخرى هو قول الله تعالى: {وَلَا تَقۡرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ یَطۡهُرۡنَۖ} [البقرة: 222]، فقد قرئ بالتخفيف {يَطْهُرْنَ}، ليدلّ على انقطاع الحيض في نفسه؛ وقُرئ بالتشديد {يَطَّهَرْنَ}، ليدل على الطهارة الشرعية بالغسل أو ما يحلّ محلّه. ومن الأمثلة أيضا، قول الله تعالى في قراءة: {فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}، التي تدل على مجرّد الذهاب، لا على الإسراع فيه الذي يُفهم من الآية: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا نُودِیَ لِلصَّلَوٰةِ مِن یَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡا۟ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ} [الجمعة: 9]؛ والدلالة على هيئة الفعل تتميم لوصف الفعل كما هو ظاهر، لكن في الدلالة على الفعل من غير تقييد سَعة لا تُنكر؛ وكله خير. ومن الأمثلة أيضا، قول الله تعالى في قراءة: {وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوۤا۟ أَیۡمَانَهُمَا} بينما في القراءة الأخرى: {وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوۤا۟ أَیۡدِیَهُمَا} [الجمعة: 38]. وأما جمع الأيدي والأيمان، فهو للدلالة على جمع السارق والسارقة؛ فيكون ذكر السارق والسارقة في البداية ذكرا لنوع السارقين. وقد كانت بعض المجتمعات، لا تحكم على النساء بحكمها على الرجال عينه، زعما منها لمراعاة خصوصية المرأة. فجاء القرآن ليؤكّد قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّما النِّساءُ شَقائِقُ الرِّجالِ» [7]؛ بل إن سعي بعض الصحابة إلى دفع الحد عن امرأة، كان من باب التفريق بين الرجال والنساء في الأحكام الموروثة عن الجاهلية؛ وإن عدم معاقبة النساء أحيانا، كان في مقابل هضم حقوقهن من الوجوه الأخرى غالبا. وقد أخبرت أمنا عائشة عليها السلام: "أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمـَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتي سَرَقَتْ، فَقالُوا: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقالوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ! حِبُّ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟!» ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قالَ: «إِنَّما أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ؛ وَأَيْمُ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا!»[8] . صدقت يا رسول الله، وحاشا فاطمة عليها السلام أن تفعل!... وقد ذكرنا هذا الاستطراد تتميما للفائدة، وتنبيها إلى إساءة كبيرة يزعمها النواصب لفهم الحديث من السوء الذي في باطنهم، وهي احتمال أن تفعل الزهراء الطاهرة عليها السلام ذلك؛ نعوذ بالله من الخذلان... وأما ذكر الأيمان بدل الأيدي في قراءة، فيُستنبط منه البدء بقطع الأيمان دون الأيسار. فإن عاد بعد قطع يده اليمنى، قُطعت رجله اليسرى؛ فإن عاد حُبس. وهذا الحد، الذي هو قطع يد السارق، يدل على ما يُدرأ به عن المجتمع المسلم من فساد، يبدو الآن للناس عيانا. وقد علمنا من بعض أحوال السارقين الذين لم يتمكنوا من التوقف عنها، أنهم طالبوا المحكمة (في مجتمع أوروبي) بقطع يدهم؛ ومنهم من قطعها بنفسه، بوضع يده على سكّة القطار قبل مروره... وعند كلامنا عن فوائد اختلاف القراءات من جهة الظاهر، لا نقول نحن كما قال بعض العلماء: "باختلاف القراءات، يظهر اختلاف الأحكام."، لأن الأحكام لا تختلف بالقراءات المختلفة، وإنما تكمل صورتها فحسب؛ والتكميل ليس شيئا غير تفصيل المجمل أو تخصيص العام. وأما كلمة "اختلاف" التي يعتمدها الفقهاء، فإنها قد تشمل التقابل والتناقض، وهو ما لا يجوز في القرآن جملة. قال أبو عبيدة في "فضائل القرآن"، من باب التدليل على تبيُّن بعض الأحكام من القراءات الشاذة: "فهذه الحروف (الكلمات) وما شاكلها، قد صارت مفسّرة للقرآن. وقد يروى مثل هذا (والمقصود الإدراج)، عن التابعين في التفسير، فيُستحسن؛ فكيف إذا رُوي عن كبار الصحابة، ثم صار القراءة نفسها؟!... فهو أكثر من التفسير وأقوى. فأدنى ما يُستنبط من هذه الحروف معرفة صحة التأويل.". يقصد معرفة صحة التفسير، وأما التأويل فهو بمعنى مختلف بيّنّاه في فصل سابق. ونحن لا نقول بالتساهل في اعتبار الشاذ من القراءات، إلا من عالم تقيّ، له وجهٌ معتبر في باب الاجتهاد... ومما يتعلق بالقراءات واختلافها، مسألة الوقف والابتداء؛ ومما يجب الوقف عليه، وهو أوضح الوقف وأجلاه، هاء السكت، كما في قول الله تعالى: {یَـٰلَیۡتَنِی لَمۡ أُوتَ كِتَـٰبِیَهۡ . وَلَمۡ أَدۡرِ مَا حِسَابِیَهۡ} [الحاقة: 25-26]، وقوله سبحانه: {مَاۤ أَغۡنَىٰ عَنِّی مَالِیَهۡۜ . هَلَكَ عَنِّی سُلۡطَـٰنِیَهۡ} [الحاقة: 28-29]. وهذا يعني أنه لا يجوز الوصل مع هاء السكت في الآيات، موافقة للمصحف، لا للغة وحدها التي تقبل الوقف وتقبل الوصل. ويجب الوقف أيضا على الآيات التي يؤدّي الوصل فيها إلى انعكاس المعنى، كقول الله تعالى: {وَلَا یَحۡزُنكَ قَوۡلُهُمۡۘ إِنَّ ٱلۡعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِیعًاۚ} [يونس: 65]؛ وهذا لأن الوصل يقتضي أن قولهم هو {إِنَّ ٱلۡعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِیعًاۚ}، وهو يُحزنه؛ وهذا خلاف المقصود. ومن هذا كله، يتضح أن للوقف أحكاما، تنبغي مراعاتها؛ وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: "لقد عِشنا بُرْهة من دهرنا وأحدُنا يؤتى الإيمانَ قبل القرآنِ، وتَنزل السورةُ على محمدٍ صلى الله عليه وسلم فيتعلَّمَ حلالَها وحرامَها، وآمِرَها وزاجِرَها، وما ينبغي أن يقفَ عنده منها، كما تعلمون أنتم اليومَ القرآنَ؛ ثم لقد رأيت اليومَ رجالاً يُؤتى أحدُهم القرآنَ قبلَ الإيمانِ، فيقرأ ما بين فاتحتِه إلى خاتمتِه، ما يدري ما آمِرُه ولا زاجرُه، ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه؛ فيَنْثُرَه نثْرَ الدَّقَل."[9] . وسنعود إلى هذه القاعدة "العمرية" فيما بعد، للإشارة إلى ما حوته من دلالات... ولنذكر الآن أقسام الوقف، التي اختلف فيها العلماء؛ فمنهم من توسّع وجعلها ثمانية: تام، وشبيه به، وناقص، وشبيه به، وحسن، وشبيه به، وقبيح، وشبيه به. ومنهم من جعلها ثلاثة: تام، وجائز، وقبيح. ومنهم من اقتصر على التام، والقبيح. والمشهور من ذلك: التقسيم الرباعي، وهو: تام مختار، وكاف جائز، وحسن مفهوم، وقبيح متروك. ولنبرزها تباعا كما يلي: 1. التام: وهو الذي لا يتعلّق بشيء مما بعده. وأكثر ما يوجد، عند رؤوس الآي، كقول الله تعالى: {وَٱلۡكَـٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} [البقرة:254]، ثم يبتدئ: {ٱللَّهُ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَیُّ ٱلۡقَیُّومُۚ} [255]. وقد يوجد بعد انقضاء الفاصلة كما في قول الله تعالى: {وَجَعَلُوۤا۟ أَعِزَّةَ أَهۡلِهَاۤ أَذِلَّةً} [النمل: 34]، الذي تنتهي به حكاية كلام بلقيس؛ ليكون رأس الآية قول الله تعالى معقّبا على كلامها: {وَكَذَ ٰلِكَ یَفۡعَلُونَ} [النمل: 34]. وإقرار الله لكلام بلقيس، هو للدلالة على حكمتها؛ وقد قال الله تعالى عن نفسه: {یُؤۡتِی ٱلۡحِكۡمَةَ مَن یَشَاۤءُۚ وَمَن یُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِیَ خَیۡرًا كَثِیرًاۗ} [البقرة: 269]. والحكمة في أصلها، هي موافقة الحق والصواب. 2. الكافي الجائز: وهو ما يكون فيه اللفظ منقطعا، ويكون المعنى متصلا. ومن أمثلته: كل رأس آية بعده لام كي؛ كقول الله تعالى: {ثُمَّ یُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَایَـٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمٌ} [الحج: 52]، الذي يأتي بعده: {لِّیَجۡعَلَ مَا یُلۡقِی ٱلشَّیۡطَـٰنُ فِتۡنَةً لِّلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَٱلۡقَاسِیَةِ قُلُوبُهُمۡۗ} [الحج: 53]؛ وكقول الله تعالى: {إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٌ وَقُرۡءَانٌ مُّبِینٌ} [يس: 69]، الذي يأتي بعده: {لِّیُنذِرَ مَن كَانَ حَیًّا وَیَحِقَّ ٱلۡقَوۡلُ عَلَى ٱلۡكَـٰفِرِینَ} [يس: 70]. 3. الحسن: وهو الذي يحسن الوقف عليه، ولا يحسن الابتداء بما بعده، لتعلّقه به لفظا ومعنى. وهذا، كقول الله تعالى: {ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ} [الفاتحة: 2]، والذي بعده: {ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلرَّحِیمِ} [الفاتحة: 3]. 4. القبيح: وهو الذي لا يُفهم منه المراد، كالوقوف على قول الله تعالى: {لَقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِینَ قَالُوۤا۟} [المائدة: 72]، والابتداء بعده بقوله سبحانه: {إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡمَسِیحُ ٱبۡنُ مَرۡیَمَۖ} [المائدة: 72]؛ وهذا لأن المعنى على الابتداء يكون كفرا. ومثيله قول الله تعالى: {لَّقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِینَ قَالُوۤا۟ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلَـٰثَة} [المائدة: 73]. ومن هذا الصنف أيضا، الوقوف على رأس الآية من قول الله تعالى: {كُلُّ مَنۡ عَلَیۡهَا فَانٍ} [الرحمن: 26]، فينبغي الوصل بالآية التي بعدها، وهي قوله سبحانه: {وَیَبۡقَىٰ وَجۡهُ رَبِّكَ ذُو ٱلۡجَلَـٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ} [الرحمن: 27]؛ وهذا لأن معنى الفناء ملازم لمعنى البقاء، ولا يكون الاختلاف إلا من الوجه المنوطة به الصفة، لا غير. وأما فهم العامة (ومنهم الفقهاء) الفناء على أنه الموت، فهو غير صحيح إلا جزئيا؛ وذلك لتضمّن الموت بمعناه الصحيح، لفناء الصور الجزئية المتعلّقة بالتركيب. فغير هذا الفناء، لا يعني الموت، ولا يتعلّق به. وأما تعبير الصوفية أحيانا بالموت عن الفناء، فهو من باب المجاز؛ ولكونهم يعلمون دلالات الاصطلاح إن سمعها بعضهم من بعض في سياقاتها. وهذا الوصل الذي دللنا عليه في آية الفناء والبقاء، هو من أحسن ما يكون منه؛ وإن قارئ الآية من دون وقف، له من الأجر في قراءته، ما لا يعلمه إلا الله. وهذا الصنف من الوقف القبيح، هو مما يجهله كثير من علماء القراءات، لعدم إدراكهم للمعنى الأصلي. وهنا سنعود إلى كلمة عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- الآنفة، والتي جاء فيها: "لقد عِشنا بُرْهة من دهرنا وأحدُنا يؤتى الإيمانَ قبل القرآنِ..."؛ والمعنى هو أن قارئ القرآن من الصحابة، كان يسبق إليه من المدد النبوي الذي يدل عليه قول الله تعالى: {وَیُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ} [الجمعة: 2]؛ فيكون به إما على علم إجمالي، وهو مـُسمّى الإيمان حقيقة، أو على علم مفصل، وهو مـُسمَّى العلم بالله. وهكذا، فالصحابي الذي يكون على علم أو على إيمان، يكون محفوظا من فهم القرآن على غير وجهه؛ وهذا يحفظه من الوقف في القراءة حيث لا ينبغي، أو من الوصل حيث لا ينبغي. وبعد القرون الخيّرة الأولى، انتشرت الغفلة بين الناس، فلم يسلم منها علماء الدين، الذين منهم القّراء؛ وهكذا، ما أدركوه من جهة الرواية قبلوه ولو بالتسليم ومن دون علم، وما لم يُدركوه بقوا فيه على أصل الجهل. وهذا الصنف من الجهل، هو مما ينبغي أن يُعتبر كثيرا، حتى لا يُصبح الرأي والهوى في نظر المتأخرين، يُؤخذ على أنه علم... ومن أمثلة الوصل القبيح، ما يكون منه في قول الله تعالى: {قُلۡ إِن كَانَ لِلرَّحۡمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡعَـٰبِدِینَ} [الزخرف: 81]: فيمن وصل بين "أنا" وما بعدها؛ وأما نحن فنرى الوقف هنا واجبا، ما دام المعنى سيختل؛ لأن المعنى سيختل حتما مع الوصل. وسنورد هنا بعض ما قيل في تفسير الآية، لندل على قصور المفسّرين في فهمها: -يقول الطبري في تفسيره "جامع البيان": [اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}، فقال بعضهم في معنى ذلك: قل يا محمد إن كان للرحمن ولد في قولكم وزعمكم أيها المشركون، فأنا أوّل المؤمنين بالله في تكذيبكم، والجاحدين ما قلتم من أن له ولدا.]: فنقول: لا يخفى ما في كلام المفسّر من تكلّف وتنطّع!... لأنه قد تجاوز دلالات الألفاظ ودلالة السياق في العربية؛ فذهب يؤكّد عقيدته التي هو عليها، من غير تمحيص لا لها، ولا للآية... - ويقول الطبري أيضا: [ذِكر من قال ذلك: نقول: ولا يخفى ما في هذا التفسير من تكلّف أيضا، ومن تحريف لمقتضى الألفاظ والسياق جميعا. وهو أيضا من ترسيخ عقيدة القارئ، لا من معنى الآية... - ويضيف الطبري: [حدثنا ابن عبد الأعلى قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}، قال: قل إن كان لله ولد في قولكم، فأنا أول من عبد الله ووحده وكذّبكم. وقال آخرون: بل معنى ذلك: قل ما كان للرحمن ولد، فأنا أول العابدين له بذلك.]: قلنا: وهذا أيضا من تقرير عقيدة القارئ، لا من موافقة الآية؛ وفجاجته جلية لا تحتاج مزيد إيضاح... - ويُضيف الطبري: [ذِكر من قال ذلك: فنقول: قول ابن عباس عليهما السلام، هو أقرب الأقوال إلى الصواب ظاهرا. ومرة أخرى نقول ظاهرا، لاعتبارنا الوجه الباطن للآية مع الظاهر. وباطن القرآن، لم يتكلّم فيه مفسّرو القرآن، من غير العلماء بالله؛ لذلك، فقد كان التفسير المقصور على ظاهر الآيات في مواضع كثيرة، مخالفا للحق؛ بل أحيانا مقرّا للشرك ودالا عليه. فأما الذي أصاب فيه ابن عباس عليهما السلام، فهو امتناع أن يكون للرحمن ولد، بالمعنى المفهوم من اللفظ، وعلى ما تعطيه العادة؛ أي بقياس الحق على الخلق. وأما من وجه آخر كما سنرى، فلا يمتنع... - ويُضيف الطبري: [ذكر من قال ذلك: نقول: يقصد أن العبارة أسلوب من أساليب العرب، ويقصدون فيه باستعمال إنْ النفي، كما سبق؛ ولكن هذا يبقى منوطا بظاهر الألفاظ. - ويضيف المصنّف: [حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} قال: هذا الإنكاف (يقصد التنزيه): ما كان للرحمن ولد، نكف الله أن يكون له ولد. و"إنْ" مثل "ما" إنما هي: ما كان للرحمن ولد، ليس للرحمن ولد؛ مثل قوله: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} إنما هي: ما كان مكرهم لتزول منه الجبال. فالذي أنـزل الله من كتابه وقضاه من قضائه أثبتُ من الجبال؛ و"إن" هي "ما" إن كان ما كان تقول العرب: إن كان، وما كان الذي تقول. وفي قوله: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}: أول من يعبد الله بالإيمان والتصديق، أنه ليس للرحمن ولد على هذا أعبد الله.]: فنقول مستعينين بالله: إن معنى التنزيه موافق لظاهر الآية، من دون قياس لـ "إنْ" على "إنْ" التي في قول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}؛ لأن النفي في الآية من سورة إبراهيم، موافق لما يُفهم من السياق، بخلاف الآية من الزخرف، التي يقتضي اعتبار "إنْ" نافية منها، فهمَ {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} غير مرتبط بما سبقه، خصوصا إن فهمنا على أن الفاء السابقة لأنا سببية. وحينئذ سيكون المعنى شركيا، يفيد أن لو كان للرحمن ولد، لكنت أنا أول من يعبد ذلك الولد. وهذا غير بعيد عن أذهان الناس، وهم يسمعون النصارى يُثبتون بنوة عيسى عليه السلام لله؛ {تَعَـٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا یُشۡرِكُونَ} [النمل: 63]. وعلى كل حال فالأقوال المؤكّدة لما يوافق ظاهر الآية كثيرة، ونحن نبغي الاختصار باقتصارنا على ما نقلنا منها. ولنمرّ الآن إلى تفسيرنا للآية، والذي ندخله من باب الإعراب: - {قُلْ}: الأمر بالقول من الله إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ومناط الأمر، هو كل ما سيأتي بعد فعل الأمر. والفاعل ضمير مستتر وجوبا تقديره أنت. وجملة: "كان للرحمن ولد"، في محلّ نصب "مقول القول" (مفعول به). وجملة: "أول العابدين"، في محلّ رفع نعت لجواب الشرط. ولو وُجدتْ قراءةٌ يكون فيها "أوّلَ" منصوبا على التخصيص، لآثرناها على غيرها؛ ولكن لا ندري قول القُرّاء فيها من هذا الوجه. وعلى كل حال، فسواء ثبتت القراءة بالنصب أم لم تثبت، فإن المعنى الذي ندل عليه هو باطن الآية تحقيقا. ولعله سيضح مع ما يأتي من الكلام... وأما المعنى فهو: إن كان للرحمن ولد من باب القياس على قول النصارى خاصة، فأنا. وهذا يعني أن الوقف واجب على كلمة "أنا"، ليستقيم المعنى. وهذا يعني أن القول بالبنوة باطل من جهة ما يُفهم في العادة من الكلمة؛ وأما ما يُفهم من الحقائق، فله وجه وجيه. ومن هذا الوجه، يجوز للعلماء بالله، أن يصفوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بأنه الصادر عن الله، إن كانوا يعلمون ما يقولون؛ لأنه أجدر بهذه الصفة من غيره، لو جاز أن يُنسب الولد إلى الله سبحانه. وهذا الوجه الذي دللنا عليه في الحقائق، هو مستند القول الباطل بالبنوة لله؛ وذلك، لأن الباطل -كما نقول دائما- لا يقوم إلا بالحق. والحق الذي يقوم عليه قول النصارى الباطل، هو ما دللنا عليه. وعلى هذا فإن جواب الشرط يكون "أنا"، وتأتي الجملة التي بعده نعتا؛ أي أنا أول العابدين بمعنى أول المخلوقين، ما دام كل مخلوق عابدا لله قهرا، وقبل ورود خطاب التكليف؛ وهو ما يدل عليه قول الله تعالى: {وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِیَعۡبُدُونِ} [الذاريات: 56]. وهذه المرتبة (العبادة الأولى)، ليست إلا للحقيقة المحمدية التي فصّلنا فيها الكلام عند بداية الكتاب. ومعنى البنوة الذي نشير إليه في باطن الآية، هو السر الذاتي الذي تكلمنا عنه عند تفصيل القول في التجلّي الأول. ومن هذا الباب قول الناس في المثل السائر: "الولد سرّ أبيه". وليس أحد مستحقّا لهذه الصفة، من مكانته عند الله إلا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم. وأما عيسى (وغيره)، فهو من مرتبة ثانوية؛ ولذلك كان يلقِّب نفسه بـ "ابن الإنسان". ولكن العامة دائما يتوهّمون أن التعظيم الحق، ينبغي أن ينتهي إلى أعلى الدرجات من التنزيه؛ وهو ما يوقعهم في الشرك. وهذا المعنى الذي أوضحناه، هو من الأدلة النافعة في مخاطبة النصارى، وكل من زعم أن لله ولدا... وحتى لا ينسبنا القِشريّون إلى الشرك الصريح، فإننا نضيف: إن شرط أخذ المعنى الذي دللنا عليه، بحسب معاني القرآن، لا غيره مما تولّده العقول؛ هو اعتبار محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدما في جنب وجود الله. وأما من اعتبره عليه وآله الصلاة والسلام وجودا، فإنه يقع في الشرك حتما، ونحن برآء من الضالّين الزاعمين الاتباع لنا. وأول المشركين الأحقّاء، ومن جهة الظاهر، هم الفقهاء الذين لا يميّزون معنى العدم الذي نتكلم عنه؛ بل لا يميّزون العدم إلا من كونه صفة لا حقيقة؛ وهذا قصور منهم، يحول بينهم وبين إدراك ما نقول. وقد كنّا نجهد إبّان تدريسنا في معهدنا، أن نجعل المتعلمين يميّزون معنى العدم، فلم نُفلح؛ وهذا لأن هذا العلم لا يُحصّل إلا من باب الكشف الإلهي... ومع ذلك، فلنجعل الفصل القادم متعلّقا به، أي بتقريبه من طلبة العلم على قدر المستطاع...
[1] . كتاب الإتقان في علوم القرآن لجلال الدين السيوطي: ج: 1، ص: 75. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.