اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2024/11/12 الإنسان القرآن (مقدمة في تفسير القرآن الكريــم) .20 الباب الثاني: العلوم المتعلّقة بالقرآن الفصل الرابع: جمع القرآن إن مسألة جمع القرآن مسألة لم يتمكن فقهاء الأمة من إدراكها على ما هي عليه، لاقتصارهم في تناولها على الاستقراء وحده، وعلى إعمال العقل في المصادر التاريخية؛ وكأن الأمر لا يتعلّق بكلام الله العزيز الحكيم!... ونحن هنا سنعرض للمسألة من حيث عرض لها الفقهاء، وسنبيّن في كل مرحلة ما نراه ضروريا لاكتمال العلم بها. ولنبدأ بحديث ورد عن زيد بن ثابت رضي الله عنه يقول فيه: "أَرْسَلَ إلَيَّ أبو بَكْرٍ مَقْتَلَ أهْلِ اليَمَامَةِ وعِنْدَهُ عُمَرُ، فَقالَ أَبو بَكْرٍ: إنَّ عُمَرَ أتَانِي، فَقالَ: إنَّ القَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَومَ اليَمَامَةِ بالنَّاسِ، وإنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ القَتْلُ بالقُرَّاءِ في الْمَوَاطِنِ، فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ القُرْآنِ إِلَّا أَنْ تَجْمَعُوهُ؛ وَإِنِّي لَأَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ. قالَ أَبو بَكْرٍ: قُلتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ أَفْعَلُ شَيئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! فَقالَ عُمَرُ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ! فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي فِيهِ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ لِذَلِكَ صَدْرِي، وَرَأَيْتُ الَّذي رَأَى عُمَرُ. قالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: وَعُمَرُ عِنْدَهُ جَالِسٌ لا يَتَكَلَّمُ. فَقالَ أَبو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ، ولَا نَتَّهِمُكَ: كُنْتَ تَكْتُبُ الوَحْيَ لِرَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ. فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ ما كانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ القُرْآنِ! قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلَانِ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! فَقالَ أَبو بَكْرٍ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ! فَلَمْ أَزَلْ أُرَاجِعُهُ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ اللَّهُ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. فَقُمْتُ فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الرِّقَاعِ وَالْأَكْتَافِ، وَالعُسُبِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ، حَتَّى وَجَدْتُ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ، لَمْ أَجِدْهُما مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} [التوبة: 128] إلى آخِرِهِمَا. وَكَانَتِ الصُّحُفُ الَّتي جُمِعَ فِيهَا الْقُرْآنُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ؛ ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ؛ ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بنْتِ عُمَرَ." [1]. وهذا الحديث يدل على أن جمع القرآن قد وقع على عهد الخليفة الأول أبي بكر عليه السلام، خلافا للشائع عند المسلمين. وقبل أن نمضي في الكلام، علينا أن نتبيّن أمورا منها: 1. أبو بكر عليه السلام في زمانه، كان خليفة عن الله بالنيابة (النيابة هنا جزئية) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفعل الخليفة من الجهة الشرعية، هو فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما هو فعل النبي فعل الله. وعندما نقيّد الفعل بالشريعة، فهذا يعني أن الأمر دين؛ وليس كما تظن العامة رأيا لرجال من المسلمين. وعلينا هنا أن نُدرك معنى الفعل التشريعي في ملّتنا، والذي يتواصل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مع كل خليفة، وبأي معنى من معاني الخلافة. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «(...) فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرّاشِدِينَ؛ تَمَسَّكُوا بِها، وَعَضُّوا عَلَيْها بِالنَّواجِذِ. وَإِيّاكُمْ وَمُحْدَثاتِ الْأُمورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ.»[2] . فقوله عليه السلام "سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرّاشِدِينَ"، ليس منوطا بالخلفاء الراشدين المعلومين وحدهم؛ لأن الوصف قد ذُكر قبل أن يُعرف الموصوف به (وإن كان هذا أيضا له اعتباره، من كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ناظرا إلى الغيب ومخبرا عنه، قبل حلوله)؛ ولكننا نؤكّد على أن الأمر أوسع وأشمل. وممن يشملهم الحديث: أئمة الفقه، الذين شرعوا للناس من الشرائع التفصيلية، ما لم يكن معهودا في زمن الأوّلين. ومن غير شك، هم خلفاء في مجال الفقه؛ كما أن أئمة الإسلاك خلفاء من جهتهم في التربية. وهكذا كل من كان مواصلا للشريعة النبوية في زمانه، من غير انحراف أو ابتداع؛ وهو ما حذّر منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في نهاية الحديث السابق. 2. لا شك أن الخلفاء الراشدين في القرن الأول، عليهم السلام، كانوا على رأس الخلفاء، لنيلهم من الخلافة سنامها؛ وهي الخلافة الكبرى التي من وجوهها الخلافة في السلطان (المـُلك). ومن هنا يكون أمر أبي بكر لزيد رضي الله عنهما، من مرتبة الخلافة، لا من غيرها؛ سواء علم زيد في الوقت، أم لم يعلم. وإذا كان الأمر من مرتبة الخلافة، فإنه يكون صادرا عن الله ورسوله، من غير شك؛ لأن كل خليفة يوجد خلف مظهره الظاهر به، والذي هو الله ورسوله. فإذا كان الأمر كذلك، فالجامع للقرآن، هو الله ورسوله، لا سواه. وقد جهل فقهاء الظاهر هذا الوجه في المسألة، لحصرهم الدين في الظاهر؛ بينما الدين له ظاهر كما له باطن، ولا انفصال لهذا الوجه عن ذاك البتة. وجانب الباطن يشمل جانب الغيب الخارج عن الحسّ في الزمان. ولكن خروج الغيب عن إدراك الحسّ، لا يعني أنه يمكن مجاوزته في العلم؛ بل إن العلم الذي لا يعتبر الغيب، يبقى ناقصا على الدوام؛ وقد يعود منحرفا، عند تغييبه لعناصر علمية يجب اعتبارها عند النظر إلى المسائل. ولقد وقع افتراق الفقهاء، عن أئمة الدين، منذ القرن الأول، وعند انفراد أهل الظاهر بالظاهر وحده؛ حتى ولَكأنه لا غيب في ديننا!... ولقد انحرفت الأمة الإسلامية منذئذ عن الإسلام الأصيل، وطفقت تزداد انحرافا مع كل زمان (باستثناء الطائفة الظاهرة على الحق)، إلى أن بلغنا في زماننا إسلاما لم يكد يبقى منه إلا اسمه!... قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا اسْمُهُ، وَلَا يَبْقَى مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا رَسْمُهُ، مَسَاجِدُهُمْ عَامِرَةٌ وَهِيَ خَرَابٌ مِنَ الْهُدَى، عُلَمَاؤُهُمْ شَرُّ مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ، منْ عِنْدَهُمْ تَخْرُجُ الْفِتْنَةُ وَفِيهِمْ تَعُودُ.»[3] . ومعنى ألا يبقى من القرآن إلا رسمه، أي حروفه؛ وأما معانيه فإنها ستُرفع من العموم. وإذا ارتفعت معاني القرآن، انحرف العمل من المسلمين، وكان حالهم كمن قال الله تعالى فيهم: {ٱلَّذِینَ ضَلَّ سَعۡیُهُمۡ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَهُمۡ یَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ یُحۡسِنُونَ صُنۡعًا} [الكهف: 104]. وإن علماء الدين بحسب الزعم، هم من سيتزعّمون هذا الانحراف الأكبر، لذلك وصفهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بـ "عُلَمَاؤُهُمْ شَرُّ مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ"؛ ومعناه: شر الناس. ونحن -بحمد الله- نرى هذا الوصف منهم رأي العين!... 3. إن الله تعالى المتكلّم بالقرآن على لسان نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، هو من تولّى حفظه، من اسمه "الحفيظ". وعدد الملائكة الحفظة للقرآن تسعة وعشرون وتسعمائة، تحتهم ما لا يُحصيه إلا الله من الملائكة. فهم يتكفلون به محفوظا كتابة ونطقا، في المصاحف وفي الصدور. وقد أخبر الله عن حفظه لكلامه بنفسه، في قوله تعالى: {إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَـٰفِظُونَ} [الحجر: 9]. وهذا الحفظ العام الذي نتكلم عنه، يكون من جهة الاسم "العليم" والاسم "المحصي"، والاسم "الحفيظ"؛ كلها من الاسم الجامع "الله". وعدد مجموع الملائكة من الصف الأول من هذه الحيثية: خمسة وعشرون وثلاثمائة وألف، تحتهم ما لا يُحصى من الأعوان... ونعني أن المحفوظ من القرآن، هو الكلام المنزل، وأما الذات، فليس لها حافظ؛ لذلك فالقرآن من وجهه الذاتي، لا حافظ له من أي اسم من الأسماء... ولنبدأ مع مرحلة نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حيث اتخذ عليه السلام كَتَبَة يكتبون عنه كل ما نزل. وقد جعل بعض أهل السير كُتّاب الوحي بضع عشرات في مجموعهم، إذا قسمناهم بحسب الموطن والزمان، فإنهم يكونون كالآتي: في مكة: عليّ بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وأبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وخالد بن سعيد بن العاص، وعامر بن فهيرة، والأرقم بن أبي الأرقم، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، وجعفر بن أبي طالب، وحاطب بن عمرو، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الله بن أبي بكر. وفي المدينة: أبو أيوب الأنصاري، وخالد بن زيد، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، ومعاذ بن جبل، ومعيقب بن أبي فاطمة الدّوسي، وعبد الله بن عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وعبد الله بن زيد، ومحمد بن مسلمة، وبريدة بن الحصيب، وثابت بن قيس بن شماس، وحذيفة بن اليمان وحنظلة بن الربيع، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح. وبعد الحديبيّة: معاوية بن أبي سفيان، وخالد بن الوليد، وجُهَم بن سعد، وجهيم بن الصلت بن مخرمة، والحصين بن النمير، وحويطب بن عبد العزى، وعبد الله بن الأرقم، والعباس بن عبد المطلب، وأبان بن سعيد بن العاص، وسعيد بن العاص بن سعيد بن العاص، والمغيرة بن شُعبة، وعمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة، والعلاء الحضرمي. وأغلب الظن أنه قد صار في المدينة لكل كاتب شبه اختصاص: فكان يكتب الوحي علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وزيد بن ثابت، وأبيُّ بن كعب، رضي الله عنهم؛ ويكتب المراسلات للملوك والأمراء: زيد بن ثابت، رضي الله عنه؛ ويكتب للمعاهدات: علي بن أبي طالب، عليه السلام؛ ويكتب لحوائج الناس: المغيرة بن شعبة، رضي الله عنه؛ ويكتب المداينات في المجتمع: عبد الله بن الأرقم، رضي الله عنه؛ ويكتب الغنائم: معيقب بن أبي فاطمة الدوسي، رضي الله عنه. وعندما كان يغيب أي كاتب من هؤلاء، كان يُكتِب عليه السلام حنظلة بن الربيع، رضي الله عنه؛ لذا عرف بالكاتب. فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إذا نزلت عليه الآية، أمر الكُتّاب أن يكتبوها، وإن كانت مما يلحق بأخوات لها ضمن سورة بعينها، عيّن لهم ترتيب الآية، وعيّن لهم السورة. وقد ختم النبي صلى الله عليه وآله وسلّم مراجعة القرآن في آخر عام له من عمره الشريف، في رمضان، مع جبريل عليه السلام مرّتيْن. فقد جاء عن عبد الله بن عباس عليهما السلام، قوله: "كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ؛ وكانَ أجوَدُ ما يَكونُ في رَمَضَانَ، حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ. وَكانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضَانَ، فيُدَارِسُهُ القُرْآنَ؛ فَلَرَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ! (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ بِهذا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ؛ وَرَوَى أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، وفَاطِمَةُ عليها السلام، عَنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّ جِبْرِيلَ كانَ يُعَارِضُهُ القُرْآنَ.)""[4] . وعن فاطمة عليها السلام قالت: «أسَرَّ إلَيَّ (أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم): إِنَّ جِبْرِيلَ كانَ يُعَارِضُنِي القُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي العَامَ مَرَّتَيْنِ؛ وَلَا أُرَاهُ إلَّا حَضَرَ أَجَلِي. وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتي لَحَاقًا بِي. فَبَكَيْتُ، فَقالَ: أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ -أَوْ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَضَحِكْتُ لِذَلِكَ.»[5] . وعلى هذا، فالمعارضة الأولى من جبريل، هي سنّته في كل سنة؛ وأما المعارضة الثانية، فإنها كانت لإعلان اكتمال نزول القرآن. وهكذا، فإن بضعة من الصحابة، كانوا يحفظون القرآن كاملا، وعلى رأسهم علي بن أبي طالب عليه السلام، وابن مسعود، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وأُبيّ بن كعب، وأبو موسى الأشعري، رضي الله عن جميعهم. وأما من كان القرآن متفرقا بينهم، كلٌّ يحفظ أجزاء منه، فكثيرون، رضي الله عنهم. ولا يُتصوّر أن القرآن عندما جُمع في المصحف على عهد أبي بكر الصديق عليه السلام، ثم على عهد عمر الفاروق عليه السلام، ثم على عهد عثمان بن عفان عليه السلام، قد يتخلّله التحريف أو النقصان، تعالى الله عن هذا القول علوّا كبيرا، وهو مَن تولّى حفظ كلامه من فوق عرشه سبحانه. وأما الحفظ من جهة السور والآيات، فقد أشرف عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بنفسه الشريفة؛ ولم يبق بعد وفاته إلا جمع القرآن في المصحف، كما نعرفه اليوم؛ وهو ما أشرف عليه الخلفاء الأربعة. ونحن لا ندري لمَ لا يعتني مؤرّخو المسلمين، بعمل سيّدنا عليّ في هذا المضمار، وهو من تربّى في حجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعاصر كل ما نزل من القرآن معاصرة، لا ينافسه عليها أحد من الخلفاء، فكيف بغيرهم عليهم السلام!... لكننا لا نستبعد عمل النواصب في روْم طمس ذكر عليّ عليه السلام كعادتهم؛ وذلك لأنهم يكرهون ما ينفرد به عليّ دون غيره، من كبار الصحابة ومن الخلفاء... ومما يؤكّد ما ذكرنا من كتابة الآيات أول نزولها، قول البراء بن عازب رضي الله عنه: "لما نزلت {لَّا یَسۡتَوِی ٱلۡقَـٰعِدُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ} [النساء: 95]، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ادْعُوا فُلاَنًا»، فجاءه ومعه الدواة واللوح، أو الكتف.."[6] . بل إن الكَتبة، لم يكونوا يفارقون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حضرا ولا سفرا، سلما ولا حربا؛ حرصا منه عليه السلام، على ألا يترك آية دون إثبات. ولنعد هنا إلى مسألة كتابة القرآن العظيم، وهل كانت توقيفية من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أم كانت كما يقول البعض اجتهادا واصطلاحا من الصحابة؟... وإن نحن عدنا إلى ما ذكرناه في الباب الأول، من أن القرآن له مستويان من حيث اللسان: أحدهما اللسان العربي، والآخر لسان الحروف (لسان الأرواح)، فإن القول بتصرّف الصحابة في كتابته عندئذ يمتنع؛ لأن الصحابة لم يبلغنا عن أحدهم من جهة الظاهر المعتادة، أنهم تكلّموا في مستوى حروف القرآن. ويظهر من هذا بالضرورة، أن القرآن قد كُتب بأمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم توقيفا. ولقد استشكل أمر الكتابة التوقيفية على قوم، بسبب كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمّيّا لا يقرأ ولا يكتب؛ وهذا لا يليق!... وذلك لأنه عليه وآله الصلاة والسلام، كان أمّيّا من جهة العادة والظاهر، لا من كل جهة. ونعني أنه كان يعلم طريقة كتابة الكلمات غيبا، وكشفا نبويا؛ فكان يأمر الكاتب بزيادة حرف أو بإنقاصه، بحسب ما يقتضي ذلك المعنى. وقد عُرف من باب التقريب، عن علماء اللغة، قولهم: "زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني.". فإذا كان هذا في عموم اللغة، فكيف لا يكون في كلمات القرآن الذي هو كلام الله؟!... ونخلص من هذا الكلام إلى القول بأن رسم القرآن ليس قياسيا، وبالتالي فإن ما كُتب منه بغير ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توقيفا، لا يكون عندنا قرآنا البتة؛ ومن ذلك ما يُكتب عن طريق التطبيقات الحديثة، ضمن الكتابة الكمبيوترية. وقد اضطررنا نحن إلى استعمال بعض هذه التطبيقات، في كتابة الآيات من القرآن، فعددنا ذلك من باب الدلالة على الآيات، لا ذكرا مباشرا لها. وهذا كله أتيناه، طلبا لتسهيل الكتابة فحسب، لا تسوية بين الكتابة التوقيفية والقياسية، معاذ الله!... ولنورد هنا وجوه الاختلاف بين الكتابتيْن، مع ذكر بعض الأمثلة عن ذلك: 1. الحذف: (وهو كثير) ويقع في حروف المد التي هي: الألف، والواو، والياء. فمن أمثلة حذف الألف: {ٱلۡعَـٰلَمِینَ} [الفاتحة:2]؛ حيث حُذفت الألف بعد العين، وقد كُتبت كذلك في جميع مواضعها في القرآن، والأصل في كتابتها حسب الرسم الإملائي "العالمين". ومن أمثلة حذف الواو {ٱلۡغَاوُۥنَ} [الشعراء:94 و224]؛ وقد وردت في موضعين من القرآن، والأصل فيها (الغاوون) بواويْن. ومن أمثلة حذف الياء: {ٱلنَّبِیِّـۧنَ} [البقرة:61]؛ وقد وردت كذلك في جميع مواضعها من القرآن، وعدد مواضعها ثلاثة عشر موضعاً، والأصل في كتابتها "النبيين" بياءيْن. ومن وجوه الحذف أيضا: حذف اللام؛ ومثاله في كلمة: {ٱلَّیۡلَ} [آل عمران:190]؛ وقد كُتبت كذلك في جميع مواضعها، وعددها ثلاثة وسبعون موضعاً، والأصل فيها "الليل" بلاميْن. ومنه أيضا: حذف النون من كلمة: {نُـۨجِی} [الأنبياء:88]، وهو الموضع الوحيد في القرآن، الذي حذفت فيه النون من ثلاثة مواضع وردت فيها الكلمة، والأصل في رسمها "ننجي". 2. الزيادة: وتكون بالألف، والواو، والياء. فمثال الزيادة بالألف: {وَجِا۟یۤءَ} [الزمر:69]؛ وردت في موضعين، والأصل فيها "وجيء". ومثال الزيادة بالواو: {سَأُو۟رِیكُمۡ} [الأعراف:145]؛ وردت في موضعين، والأصل فيها "سأريكم". وأما مثال الزيادة بالياء فهو كلمة: {بِأَیۡی۟دٍ} [الذاريات:47]؛ وهو الموضع الوحيد في القرآن، والأصل فيها "بأيد". 3. الهمز: حيث وردت الهمزة في الرسم العثماني تارة برسم الألف، وتارة برسم الواو، وتارة برسم الياء. فمن أمثلة ورودها ألفاً: {لَتَنُوۤأُ} [القصص:76]، وهو الموضع الوحيد؛ والأصل فيها "لتنوء". ومن أمثلة ورودها واواً: {یَبۡدَؤُا۟} [يونس:4]؛ وهي كذلك في مواضعها الستة من القرآن، والأصل فيها "يبدأ". وأما مثالها على مجيئها ياءً، فكلمة: {وَإِیتَاۤىِٕ} [النحل:90]؛ وهو الموضع الوحيد من ثلاثة مواضع، والأصل فيها "وإيتاء". 4. البدل: ويقع برسم الألف واواً أو ياء. فمن مجيئها واواً، كلمة: {ٱلصَّلَوٰةَ} [البقرة:3]؛ وهي كذلك في جميع مواضعها الأربعة والستين، والأصل فيها: "الصلاة" بالألف. ومثلها كلمة {ٱلزَّكَوٰةَ}، وأصلها: "الزكاة". ومن صور رسمها ياءً، كلمة: {یَـٰۤأَسَفَىٰ} [يوسف:84]، والأصل فيها "يا أسفا". ومن ذلك أيضاً، كلمة: {وَٱلضُّحَىٰ} [الضحى:1]؛ ولم ترد إلا في هذا الموضع، والأصل فيها "والضحا"؛ لأن أصل الألف فيها واو من ضحا يضحو. 5. الفصل والوصل: فقد رُسمت بعض الكلمات في المصحف العثماني متصلة مع أن حقها في القياس الفصل، ورُسمت كلمات أخرى منفصلة مع أن حقها الوصل؛ ومن أمثلة ما اتصل، وحقه الفصل، ما يلي: - "عن" مع "ما"؛ حيث رسمتا في مواضع من القرآن الكريم متصلتين، من ذلك قول الله تعالى: {عَمَّا تَعۡمَلُونَ} [البقرة:74]، وقد وردت كذلك في جميع المواضع. - "بئس" مع "ما"؛ فقد رسمتا متصلتين في مواضع، من ذلك قول الله تعالى: {بِئۡسَمَا ٱشۡتَرَوۡ} [البقرة:90]، وهي كذلك في مواضعها الثلاثة كلها. - "كي" مع "لا"؛ فقد رُستما متصلتين في مواضع، من ذلك قول الله تعالى: {لِّكَیۡلَا تَحۡزَنُوا۟} [آل عمران:153]، وهي كذلك في مواضعها الأربعة كلها. - قول الله تعالى: {كُلَّ مَا رُدُّوۤا۟ إِلَى ٱلۡفِتۡنَةِ} [النساء:91]؛ والمراد "كل" مع "ما". وقد جاءتا كذلك في ثلاثة مواضع، وجاءتا متصلتيْن على الأصل (القياسي) في خمسة عشر موضعاً. - قول الله تعالى: {أَیۡنَ مَا تَكُونُوا۟} [البقرة:148]؛ والمراد "أين" مع "ما". وقد جاءتا كذلك في ثمانية مواضع، وجاءتا متصلتيْن على الأصل في أربعة مواضع. ولننظر إلى اختلاف بعض الكلمات من جهة الرسم التوقيفي، ولنبيّن بعض ما يتعلّق بذلك من جهة المعنى: - إبرٰهم، وإبراهيم: وقد قيل إن كتابة إبراهم من دون ياء، قد جاء في بعض المصاحف، مخصوصا بسورة البقرة. وقد قال بعض العلماء إن ذلك كان، لغلبة ذكر بني إسرائيل فيها، وهم كانوا ينطقون هذا الاسم بالعبرانية: إبراهام؛ وقد اعتبروا أن بين الهاء والميم ألفا محذوفة رسما. وإن نحن أخذنا بهذا التوجيه، فإن اسم "إبراهم"، سيكون على أصله، كما ينطقه العبرانيّون؛ وسيكون اسم "إبراهيم" معرّبا. كل هذا من جهة الظاهر، وأمّا من جهة الحقيقة فإن اسم إبراهم، من دون ياء، تنطق هاؤه بالكسر، على الأقل عند المتأخرين؛ كما في قول الله تعالى: {أَمۡ تَقُولُونَ إِنَّ إِبۡرَ ٰهِـۧمَ وَإِسۡمَـٰعِیلَ وَإِسۡحَـٰقَ وَیَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطَ كَانُوا۟ هُودًا أَوۡ نَصَـٰرَىٰۗ قُلۡ ءَأَنتُمۡ أَعۡلَمُ أَمِ ٱللَّهُۗ} [البقرة: 140]. وإن نحن نظرنا إلى المعنى في هذه الآية، وفي الآيتيْن الأخرييْن من البقرة، فإننا سنجد ذكر إبراهيم عليه السلام، ورد في مورد القبض والجلال؛ فناسبه حذف الياء. والكسرة من الهاء تبقى حافظة لمعنى الخفض الذي هو من صفات العبودية، في الحد الأدنى بحسب الأدب في الآيات من سورة البقرة. وأما إن نحن نظرنا إلى آيات أخرى من القرآن، جاء فيها اسم "إبراهيم" بالياء، كقول الله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰۤ ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبۡرَ ٰهِیمَ وَءَالَ عِمۡرَ ٰنَ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ} [آل عمران: 33]، فإننا سنجد معنى البسط واضحا منه؛ وهو ما يسمح بمد ياء إبراهيم، من باب الأدب أيضا. وقد جهل قوم سوَّوا في الأمريْن، وغلّبوا القبض على البسط؛ بينما للقبض أدبه وللبسط أدبه. والتعميم في الأمور يقع فيه العامة من المريدين ومن الفقهاء، قياسا على أحوالهم. أما الكُمّل، فالشأن عندهم أعلى من ذلك، وأدخل في الحقائق منه في الأدب العام... - امرأة، وامرأت: والأصل فيه كتابة التاء مربوطة، لكونها تاء دالة على التأنيث، من اسم "امرؤ"؛ وهذه التاء الأصل فيها أن تكون مربوطة حيث كانت. فبقي أن ورود "امرأت" بالتاء المبسوطة، هو المخالف للقياس، وهو ما ينبغي أن يُخصّ بالكلام. وقد جاءت التاء مبسوطة في مواضع منها قول الله تعالى: {قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡـَٔـٰنَ حَصۡحَصَ ٱلۡحَقُّ} [يوسف: 51]. ولا يخفى أن الله قد ذكر قول امرأة العزيز، بالنصّ. وقولها: {ٱلۡـَٔـٰنَ حَصۡحَصَ ٱلۡحَقُّ أَنَا۠ رَ ٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِۦ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّـٰدِقِینَ} [يوسف: 51]، ليس من شأن النساء؛ وإنما قد فعلت ذلك طاعة لله وتعظيما لنبوة يوسف عليه السلام. فاضطرّت إلى أن تخرج بقولها عن حال النساء الذي يناسبه الضمّ في التاء المصحوب بالربط؛ لتتكلم بما لا يُقبل في العادة من النساء، عند حلول البسط محل الربط، حتى تتمكن من قول ما قالت. وهذا يُشبه في الظاهر تستر النساء، وإسبال الجلابيب على أجسامهن؛ وهو يعني أن تكشّف النساء في زماننا، هو خروج منهن عن حال فطرتهنّ. وإن كانت امرأة العزيز مضطرة إلى ذلك عند قولها ما قالت، فنساؤنا لسن مضطرّات إلى التكشف؛ وهن بفعلهن إنما يُنبئن عن سوء حالهن وضعف إيمانهن فحسب... والمواضع الأخرى التي وردت فيها تاء امرأة مبسوطة (ت)، هي: = قول الله تعالى: {إِذۡ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ عِمۡرَ ٰنَ رَبِّ إِنِّی نَذَرۡتُ لَكَ مَا فِی بَطۡنِی مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلۡ مِنِّیۤۖ} [آل عمران: 35]: وامرأة عمران، هي أم مريم عليها السلام، التي ولدت عيسى عليه السلام. ولا يخفى أن تاءها جاءت مبسوطة مع الضم، لمناسبة حالها؛ لأن الله قد فسح لها في باطنها عند نذرها ما في بطنها لربها جزاء على فعلها؛ وهذا من علم الأحوال. واختلاف الأحوال، يكون باختلاف الأسباب والقرائن من الظاهر ومن الباطن. وهذا علم جليل، من حصّل منه شيئا، ازداد فهمه للقرآن الكريم، من ملاحظة أحوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الظاهرة والباطنة. ولو كشفنا قليلا مما نعلمه في هذا الشأن، ما صدّقنا إلا الصّدّيقون حصرا... = وقوله تعالى: {وَقَالَتِ ٱمۡرَأَتُ فِرۡعَوۡنَ قُرَّتُ عَیۡنٍ لِّی وَلَكَۖ} [القصص: 9]: ولا يخفى أيضا هنا ما كانت عليه امرأة فرعون من انشراح عند وجودها لموسى عليه السلام في اليمّ. وقد كان انشراح باطنها من أثر موسى وهو في مهده، ومن تصرّفه غيبا. وهو لا يخالف هنا عيسى عندما تكلّم في المهد، إلا من حيث النظر في تفاصيل الكلام. وقد مُنع فرعون غيبا من الاستبشار بموسى، فكان قبوله له من أثر امرأته عليه؛ كما هو شأن كثير من صناديد الرجال. جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: «وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ، لَوْ أَقَرَّ فِرْعَوْنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ قُرَّةَ عَيْنٍ كَمَا أَقَرَّتْ، لَهَدَاهُ اللهُ بِهِ كَمَا هَدَى بِهِ امْرَأَتَهُ؛ وَلَكِنَّ الله حَرَمَهُ ذَلِكَ.» [7]. والكلام يطول في هذا، ونحن نريد الاختصار... = وقوله تعالى: {ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِینَ كَفَرُوا۟ ٱمۡرَأَتَ نُوحٍ وَٱمۡرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحۡتَ عَبۡدَیۡنِ مِنۡ عِبَادِنَا صَـٰلِحَیۡنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمۡ یُغۡنِیَا عَنۡهُمَا مِنَ ٱللَّهِ شَیۡـًٔا وَقِیلَ ٱدۡخُلَا ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّ ٰخِلِینَ} [التحريم: 10]: وأما بسط تاء امرأة نوح وامرأة لوط، فهو من أثر الإضافة إلى اسميْن شريفيْن لنبييْن من أنبياء الله عليهم السلام؛ وإن كان الله قد بشّر المرأتيْن بعذاب النار. وهذا يعني أن الخواص من العباد، فإما أن ينتفع بهم الناس في الدنيا والآخرة؛ وإما ينتفعون منهم في الآخرة وحدها، كمن يُصاب بالبلاء جرّاء إيمانه وتصديقه؛ وإما ينتفعون بهم في الدنيا وحدها، كهاتيْن المرأتيْن. ولا يقولنّ أحد أنّ ما ذكرناه هو من عموم أحوال الناس، بحيث لا يخلو واحد منهم مما ذكرنا؛ وربما قد يستدل بالحديث القدسي الذي ورد فيه: «وَعِزَّتِي لا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَأَمْنَيْنِ: إِذا خافَنِي فِي الدُّنيا أَمَّنْتُه يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَإِذا أَمِنَني فِي الدُّنْيا أَخَفْتُهُ فِي الْآخِرةِ.»[8] ؛ فإن الخوف المنصوص عليه في الحديث هو الخوف الشرعي؛ وأما الخوف الجبلّيّ، فلا تخلو منه نفس من النفوس، ولا ذرة من الذرات في العالمين. ونحن في سابق الكلام، كنا نشير إلى انتفاع الناس بالخواص، دلالة على فضل الله الذي أبى أن يُخرج من يرى أو يعاشر الخواص خاوي الوفاض؛ ما لم يكن هو من يأبى الانتفاع. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الحقيقة بقوله: «كُلُّ أُمَّتي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى! قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى.»[9] . فالجود من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، عام؛ والقبول أو الإباية من الأنفس، هو المخصِّص. ولنذكر هنا لطيفة: وهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عدل عن جواب السائل: ومن يأبى؟ إلى وصف ظاهر ما يدل على القبول أو الإباية، وهو: الطاعة والمعصية. ومثل هذا كثير في الكلام النبوي، وهو جدير بأن تُفرد له تصانيف مخصوصة!... وذلك لأن تحت كل كلمة نبوية علوما لا تنحصر... = وقوله تعالى: {وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱمۡرَأَتَ فِرۡعَوۡنَ إِذۡ قَالَتۡ رَبِّ ٱبۡنِ لِی عِندَكَ بَیۡتًا فِی ٱلۡجَنَّةِ وَنَجِّنِی مِن فِرۡعَوۡنَ وَعَمَلِهِۦ وَنَجِّنِی مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِینَ} [التحريم: 11]: ولا يخفى ما في الكلام من بسط وتبشير بالجنة ورفيع الدرجات فيها؛ فهذا هو ما بسط تاء "امرأت" هنا. وقد كنّا نرجو لو سمح وقتنا بالكلام عن كل الكلمات التي تقع فيها مخالفة القياس، ولو اتسع الكتاب؛ ولكننا سنكتفي من ذلك بذكر تلك الكلمات، رجاء أن يتتبعها القارئ بنفسه، إن كان مؤهّلا: ابنة، وابنت: ومما يجدر تتبعه أيضا: الكلمات التي غابت فيها الألف الفارقة كـ: "جاءو"، و"باءو"، و"فاءو"، و"سَعَو"، و"عَتَوْ"، و"يعفُو". فإن ذلك ما وقع إلا لحكمة إلهية، من دون أدنى شك... ولنخلص في مسألة جمع القرآن، إلى أن ذلك الجمع كان من الله ورسوله، وإن نُسب إلى الخلفاء من الصحابة عليهم السلام. وإن كان فقهاء الشريعة في مجملهم، قد جهلوا مرتبة الخلافة، وما يتعلّق بها من خصوصيات؛ فإن ذلك لا يعني أن ما جهلوه ممتنع عن غيرهم. وأما نحن فنقول: إن الخليفة هو الوجه المحمدي في الزمن الثاني، الذي هو ما بعد وفاته عليه وآله الصلاة والسلام. والحقيقة المحمدية التي هي ظاهرة بذلك الوجه الخلافي (من الخلافة)، هي التي يعود إليها الحكم، من حيث كونها الأصل. وقد تكلمنا عن الحقيقة بما يكفي في الباب الأول... ولنمر الآن، إلى ما استشكله ضعفاء العقل والإيمان، من مسألة جمع القرآن، في زماننا خاصة؛ لنرد عليه ردّا أوّليّا في هذا الفصل، تاركين ما يمكن أن يعرض من تفاصيل، إلى الباب الثالث بإذن الله: 1. الأسئلة الشائعة المتعلّقة بجمع القرآن: 1. لمَ لمْ يُجمع القرآن في المصحف، إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ حتى إن الصحابة قد استعظموا جمع القرآن، وعدّوه فعلا لم يفعله النبي (أي بدعة)؟: والجواب عن هذا السؤال واضح، وهو أن القرآن لم ينته تنزله يقينا إلا بحصول وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأما بعد وفاته، فقد ظهر أن القرآن هو ما بأيدي الناس، ولا أحد سيقول بالزيادة فيه بعد الوفاة النبوية. وفي سابق كلامنا، ما يدل على أن فعل الجمع لم يكن بغير إذنٍ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والخلفاء عليهم السلام يعلمون ذلك من النبي يقينا، وإن كانوا غير مـُكلَّفين بإفهام غيرهم من رعاياهم في أزمنتهم... 2. ما الضامن ألا يكون قد زيد في القرآن أو نُقص منه؟ خصوصا وأن فعل الجمع فعل بشريّ كما يُقال، والفعل البشري نسبيّ؟: وهذا السؤال، لا يخطر إلا في ذهن من غلب عليه شهود الحس؛ حتى صار عقله يحكم بما يعرفه الناس من العادة، ويُنكر كل ما عدا ذلك. وأما من كان على إيمان، وعلم بأن الله هو حافظ كلامه، فلن يُغيّر من هذا الحكم لديه سبب ذلك الحفظ ظاهرا: فيستوي هنا في نظر المؤمن، أن يكون الجمع قد فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو فعله أحد الخلفاء. وهذا، لأن المؤمنين يعودون في كل الأمور إلى الله، لا إلى الأسباب؛ ويستوي في هذا فعل جمع القرآن مع سائر الأفعال الأخرى، المعتادة وغير المعتادة. فالمؤمن -مثلا- إن قُتل ابنه، وجاءه الناس بالخبر، فإنه أول ما يستقبل الخبر بالموت، يستقبله من الله، راضيا بالقضاء متأدبا مع القاضي سبحانه؛ ثم بعد ذلك، قد يبحث فيمن قتل ابنه، وقد لا يبحث؛ بحسب درجة يقينه. وأما غير المؤمن، فإنه يرى الفعل من القاتل، فتنصرف همته إلى السؤال عنه من أجل معرفته، وربما الانتقام منه؛ وغير ذلك مما يدل عليه الشيطان الغافلين... وقد ذكّرنا سابقا بقول الله تعالى: {إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَـٰفِظُونَ} [الحجر: 9]؛ وشيء تكفّل الله بحفظه، لا يُسأل فيه عن الأسباب؛ لأن الأسباب تبقى أسبابا، مهما عظمت أو ضعفت. ومن لم يكن على ما ذكرنا، في هذه المسألة، فليراجع تديّنه، قبل أن يحلّ به الموت، فيموت على الكفر عياذا بالله. وذلك لأن الكفر في أصله، ليس غير ما ذكرنا. فهل رأى الناس -مثلا- كافرا يُنكر المحسوسات؟... إنما الاختلاف بين المؤمن والكافر (بالمعنى الجزئي أو بالمعنى التام)، هو منوط بالغيب، لا بالشهادة؛ وإن كانت عندنا الشهادة تعود إلى حكم الغيب في حق الكافر، عندما لا يعقل معنى الآيات منها. وهذا باب من العلم عظيم، كان ينبغي على فقهاء الظاهر العناية به؛ وهو مما يجعل العالِمَ يعلم كيفية مخاطبة كافة الناس، بغض النظر عن اختلاف طبقاتهم وفئاتهم... وحفظ القرآن، يدخل في معناه عدم تمكين العباد من الزيادة فيه ما ليس منه، أو من إنقاص ما هو منه. وكل ما يُقال مما أُثبت تحت عنوان اختلاف القراءات، أو اختلاف الرسم بين البلدان (جزئيا)، فهو ضمن الاختلاف المشروع، والذي لا يُعدّ اختلافا بالمعنى اللغوي. ومن الأدلة من السّنّة على هذا الاختلاف المشروع، ما جاء في الصحيحيْن عن عمر بن الخطاب عليه السلام، في قوله: "سَمِعْتُ هِشامَ بْنَ حَكِيمٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقانِ فِي حَياةِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاسْتَمَعْتُ لِقِراءَتِهِ، فَإِذا هُوَ يَقْرَؤُها عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيها رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذلكَ؛ فَكِدْتُ أُساوِرُهُ (أنقضّ عليه) فِي الصَّلاةِ، فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى سَلَّمَ، ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدائِهِ أَوْ بِرِدائِي، فَقُلتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِه السُّورَةَ؟ قالَ: أَقْرَأَنِيها رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ! قُلْتُ لَهُ: كَذَبْتَ! فَوَاللَّهِ إِنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَنِي هَذِهِ السُّورَةَ الَّتي سَمِعْتُكَ تَقْرَؤُها! فَانْطَلَقْتُ أَقُودُهُ إِلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، إِنِّي سَمِعْتُ هَذا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيها، وَأَنْتَ أَقْرَأْتَنِي سُورَةَ الفُرْقانِ. فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْسِلْهُ يا عُمَرُ! اِقْرَأْ يا هِشامُ«! فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِراءَةَ الَّتي سَمِعْتُهُ يَقْرَؤُها. قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَكَذا أُنْزِلَتْ!» ثُمَّ قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اِقْرَأْ يا عُمَرُ فَقَرَأْتُ، فَقالَ: «هَكَذا أُنْزِلَتْ!» ثُمَّ قالَ: «إِنَّ هَذا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَؤُوا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ.»"[10] . ولعل القارئ يذكر أننا فسّرنا "السبعة أحرف" في الباب الأول، بما يليق بها هناك، فيظن أن اللسان لا يحتمل، ما ندل عليه من معنى ورد على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الطاهر؛ فنقول: إن المعاني التي نتناولها، يكون فيها ذلك التناول بحسب المرتبة التي فيها الكلام. وكون الأحرف هنا، أحرفا بالمعنى المعتاد من اللفظ والرسم، لا يناقض معنى الأحرف هناك؛ وإنما هذا من ذاك، وإن لم تتسع لهذا الاختلاف جلّ العقول. ومما يجدر التنبيه إليه، فيما يخص الاختلاف في القراءات وفي الرسم، أن المعنى يختلف بحسب ذلك، لتكون كل تلاوة تحتمل من معاني القرآن ما لا يوجد في التلاوة الأخرى. والقرآن المنزَل على نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم واحد، يتسع لكل ذلك؛ ويبقى المجهول منه أكثر من المعلوم. هكذا هي حقيقة القرآن!... ولعل الله سيكشف لنا فيما بقي من أعمارنا، وفي الآخرة، ما لا يخطر لنا الآن على بال!... والمقصود بالقرآن، هو ما ثبت وروده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده، فيخرج من هذا الكلام ما سبق أن أشرنا إليه من كتابة القرآن بواسطة بعض التطبيقات بحسب الكتابة القياسية. فذلك ليس قرآنا، ولا ينبغي أن يعتقد قارئه والناظر فيه أنه قرآن؛ لأنه سيكون عاصيا بذلك على قدر نيته. والأولى للمؤمن التقيّد بالرسم المعلوم لدى أهل القراءات حصرا، وإليهم يُرجع عند الاختلاف في مثل هذه الأمور، جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرا... 3. ما حكم ما سقط من القرآن غير المتواتر إن سقط؟: ولن نعرض هنا لما ورد في هذه المسألة من أقوال، بعضها مرويّ عن الصحابة المرضيّين، لئلا نشتّت ذهن القارئ؛ ولكن نعرض للمبادئ الحاكمة على هذه المسألة، وهي: ا. إن الله قد شاء أن يكون القرآن، هو المجموع بإرادته سبحانه في المـُصحف؛ ليس غير. وأما الأقوال التي تفيد بأنه كان منه ما ذكره بعض الصحابة، ولم يُثبت في المـُصحف، فإنه لا يعنينا. وذلك، لأن الله يُثبت من القرآن ما شاء ويمحو ما شاء، وليس لأحد أن يُراجعه سبحانه في فعله. يقول الله تعالى: {یَمۡحُوا۟ ٱللَّهُ مَا یَشَاۤءُ وَیُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥۤ أُمُّ ٱلۡكِتَـٰبِ} [الرعد: 39]، وهذا القول من الله ليس مقصورا على اللوح المحفوظ، ولكن يتعدّاه إلى القرآن المـُنزَل. وهذا المعنى، هو ما يستند إليه قول القائلين بالنّسخ؛ أما نحن فنلحقه بالمحو والإثبات فقط. ب. إذا شاء الله أن يمحو آية كانت قد نزلت، فإنه يمحوها من اللوح المحفوظ، ومن صدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم من صدور الصحابة. وما شاء الله له الإثبات، فهو الموجود في المـُصحف اليوم من غير زيادة ولا نقصان. وكل من يدخل بعقله السقيم في هذه المسألة ليدلّ على أن القرآن قد نُقص منه أو زيد فيه، فليعلم أنه قائم على بدعة كبرى؛ يُخشى معها عليه من الكفر. أما المؤمنون، فإنهم يأخذون القرآن من المـُصحف ببساطة، ومن دون تنطع في تحقيقه؛ ما دام الله هو من تكفل بحفظه بنفسه سبحانه. وأما المعتمدون للهرمنوطيقا والفيلولوجيا، من أبناء المسلمين، فقد ضلوا ضلالا بعيدا؛ ومنهم من كفر، ومنهم من قارب. وجميعنا يذكر بدعة نصر حامد أبي زيد، ومحمد أركون، ومحمد عابد الجابري، الذين عاملوا القرآن الذي هو كلام الله، كما يُعامل أي نصّ بشري؛ تعالى الله!... ولولا أننا لا نحبذ الإطالة، لأتينا بكلامٍ لكل واحد من هؤلاء المبتدعة، ورددنا عليه ردّا مباشرا مفحما. والعاقل، تكفيه منا التنبيهات والإشارات، إن لم يكن الشك قد بلغ منه مبلغه!... ج. أما متعلّق محو بعض الآيات، فهو الذات؛ وقد سبق لنا أن عرّفنا مراتب القرآن، وذكرنا بأنها ثلاث: الذات، والصفات، والأفعال. ولنبسط القول قليلا هنا ليجد طالب العلم مستندا للكلام، فنقول: إن القرآن من جهة الذات لا يُحصر، لأن الذات لا تُقيّد بقيد، ولا حتى بقيد الإطلاق. وهذا بحر لا ساحل له؛ من لم يُدرك مبادئه، فلينصرف عنه مسلّما لله شؤونه، كي لا يغرق فيه ويهلك مع الهالكين. وأما الصفات والأفعال، فهي تثبت بالذات لا بنفسها، ومن هنا كانت مستندة إليها. فإن شاء الله أن يطغى حكم الذات على صفة أو على فعل ما، فإنهما ينطويان في عدمها (عدم الذات)، وكأنهما لم يكونا. فإن كان القرآن قد نزل بشيء من أحكام الصفات، أو من ذكر لبعض الأفعال، وشاء الله أن يُعدمها، فإنها تعود كأنها لم تكن. ولو فرضنا، أن صحابيا قد ذكر آية كان يعرفها، لا يحويها المـُصحف بعد الجمع، كآية الرجم التي فيها: {الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم}[11]، لوجبت العودة إلى المصحف، مع ترك ما ورد عن الصحابي وإن صحّ. ونحن هنا ندل على القاعدة التي ينبغي العمل بها، ولا ندخل في التفاصيل التي تخطر في الأذهان المتفاوتة؛ وهذا لأن القاعدة هي النافعة، وأما تفاصيل الكلام فإنها لا تكاد تنتهي إلى غاية. وتلك التفاصيل العقلانية، من أحب ما يُتقرّب به إلى الشيطان؛ لأنها تعينه على إضلال الناس، من حيث لم يكن يعلم. وعلى المرء أن يذكر (قبل اكتمال صورة القرآن من جهتَي اللفظ والرسم) أن الله له أن يطوي بعض صفاته في العدم أو بعض أفعاله، فلا يظهر منها شيء في الوجود المرقوم؛ وهذه مسألة فوق عقل العقلاء، خصوصا منهم المتكلّمين، والذين توهّموا تحصيل العلم بالله بعقولهم؛ وهيهات!... ومن عاند برأيه السقيم، بعد كل هذا التوضيح، قيل له: إن الأمور تجري بمشيئة الله وإرادته، لا وفق آراء الناس وما بلغوه في التحليل العقلي. ولمثل هؤلاء قال الله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِی حَاۤجَّ إِبۡرَ ٰهِـۧمَ فِی رَبِّهِۦۤ أَنۡ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ إِذۡ قَالَ إِبۡرَ ٰهِـۧمُ رَبِّیَ ٱلَّذِی یُحۡیِۦ وَیُمِیتُ قَالَ أَنَا۠ أُحۡیِۦ وَأُمِیتُۖ قَالَ إِبۡرَ ٰهِـۧمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ یَأۡتِی بِٱلشَّمۡسِ مِنَ ٱلۡمَشۡرِقِ فَأۡتِ بِهَا مِنَ ٱلۡمَغۡرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِی كَفَرَۗ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ} [البقرة: 258]. فإن كان العبد لا سلطان له على حركة النجوم والكواكب (والإشارة بها إلى نفسه وما يعتمل فيها)، فليعلم أنه لا سُلطان له على غيرها، سواء بسواء. ومن تمسّك بالعجز، يوشك أن ينجو بفضل الله؛ ومن أصر على أنه ذو رأي في كبريات المسائل، فليعلم أن جهله مطبق، وأن الشيطان يتلاعب به. ولنكتف هنا بهذا القدر، لعلنا نعود بتفصيل أكبر إلى هذه المسائل في الباب الثالث بإذن الله تعالى... 4. لماذا أُوكل جمع القرآن إلى زيد بن ثابت وحده رضي الله عنه؟: وهذا السؤال قد يخطر للعقول الضعيفة، ضمن الاحتمالات العقلية المعتبرة بحسب منطقها؛ وقد يتوهم هؤلاء الضعفاء بأنهم على شيء في ذلك، وهيهات!... فالاحتمالات العقلية، لا تؤخذ بإطلاق، ما دام الحكم على الأمور لا يعود إلى العقول إلا بإذن مخصوص، وتبعا للوحي الذي هو حكم الله وأمره. يقول الله تعالى: {قُلۡ إِنِّی عَلَىٰ بَیِّنَةٍ مِّن رَّبِّی وَكَذَّبۡتُم بِهِۦۚ مَا عِندِی مَا تَسۡتَعۡجِلُونَ بِهِۦۤۚ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ یَقُصُّ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ خَیۡرُ ٱلۡفَـٰصِلِینَ} [الأنعام: 57]. وعلى هذا، فإن كل من حكّم عقله من غير إذن، فإنه يكون كافرا بالقرآن ولو جزئيا، وإن كان يعدّ نفسه من خواص المسلمين. ولو علم الفقهاء ما وراء كلامنا من محبة الخير والنفع لهم، لعجزوا عن شكرنا، إلا إن توجّهوا بشكرهم لله ربنا وربهم؛ لأنه عندئذ يندرج حكمنا في حكمه تعالى لكوننا ربّانيّين. ونحن في هذا، على قدم الأنبياء عليهم السلام، وراثة محمدية على الأمة اعتبارها. ونحن هنا ندلّ على أحكام شرعية مـُغفَلة لدى الفقهاء، وسيأثمون لذلك، طالما بقي الحال على ما هو عليه. وهذا يدلّ مرّة أخرى أننا في نفع الفقهاء والمسلمين من بعدهم، نعمل ونسعى... وأما زيد فقد جمع القرآن بأمر من خليفة الله أبي بكر عليه السلام، ولأنه كان الكاتب الخاص للنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ ثم بعد هذا وذاك، ومن جهة الظاهر، فإنه كان يعرض ما جمع على الصحابة المرضيّين الموجودين إلى جنبه في عالم الدنيا؛ وهذا، هو ما يأخذ حكم التواتر، مما أُثبت من كل آية آية. ومن ظنّ أن نستمع إليه بعد كل هذه التأكيدات الربانية، لأنه لم يقتنع هو بعد، فليعلم أنه أحمق؛ ومن التفت إلى أحمق، فإنه على الحمق يجتمع معه!... وأما العامة الذين يُقحَمون في مشكلات المسائل، فيقتحمون، وهم يتوهمون في أنفسهم أهلية النظر، فإنهم يقذفون بأنفسهم في النار وهم لا يعلمون. ولَإيمان كإيمان العجائز، يكون المرء معه أقرب إلى النجاة، أفضل من كلام من غير أهلية، يوشك أن يُقذَف به صاحبه في النار. ولا يغلطنّ أحد، فيعترض علينا بأن من المتكلمين فيما سبق، أساتذة جامعيّون متخصصون؛ لأننا بحسب علمنا، لم نجد من أولئك من يستحق أن يُعتبر عالما حقيقة. ببساطة، لأنهم عوام، كان يجدر بهم أن يشتغلوا بحرف تنفعهم وينفعون بها الناس بعدهم؛ لا أن يتعالموا ويعلقوا فيما لا مخرج منه إلا بإذن خاص من الله. وقد فُتح باب التعالم في وجه العوام، ليكونوا أسبابا من أسباب الفتن الكبرى التي تكون في آخر الزمان؛ فلا يغتر أحد بدكتور، كما لا ينبغي أن يغتر دكتور بنفسه. ولعلنا نتوسع في الكلام عن فساد التعليم، ودخول غير المؤهّلين إليه، بل والسيادة فيه، في موضع نتناول فيه فساد السياسات، وكيفية العمل لمواجهته؛ أما هنا، فإن المحل يضيق... والخلاصة في مسألة تولّي زيد بن ثابت رضي الله عنه جمع القرآن، هي أنه قد فعل ذلك رضي الله عنه بأمر خاص من الله ورسوله؛ وحاشاه أن يفعل شيئا يكون محلّ شكّ منه رضي الله عنه، وجزاه عن القرآن والأمة خير الجزاء. لا نشك في هذا الأمر نحن مثقال ذرة، كما لا يشك فيه من كان من أمثالنا، يأخذ علمه عن ربّه. ومن لم يفهم عنّا، بعد كل هذا التوضيح، فليعلم أنه كليل، سكوته أنفع له من كلامه!... 5. ما القول في التشكيل والتنقيط؟: أما تنقيط الحروف وعلامات الوقف وغيرها من العلامات الموجِّهة للقراءة اللفظية، فلا يستقيم أن تكون مطعنا لطاعن، وإن حدثت في زمن التابعين. وهي لا تغيّر من المعاني شيئا، إلا ما كان يدخل في بعض التفاصيل، كشأن الدلالة على الوقف المحرّم والوقف الواجب خصوصا، واللذين إن لم يُعمل بهما انحرف معنى الآية عند المتأخرين، الذين سيعتمدون القراءة من المصحف وحدها، كما نفعل نحن وأمثالنا من أهل الأزمنة المتأخّرة. وأما حقيقة ما تدل عليه العلامات، فقد كان معمولا به منذ أن كان القرآن ينزل؛ وكان حفاظ القرآن وتالوه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يطبقونها في تلاوتهم قبل أن يدوَّن القرآن في المصحف، بتعليم النبي لهم، ومن إتقانهم للعربيّة. وهكذا فإن تلك العلامات قد جاءت عونا لغير العارفين بآداب تلاوة القرآن، وهذا لا يمكن أن يكون مطعنا لطاعن، بحال من الأحوال! أتكون الدقة في قراءة القرآن الكريم عيبا، أم هي على العكس من ذلك مؤكّدة لضبط ألفاظه كتابة وقراءة؟!... وأما أثر حجاب الزمان على العقول، في مختلِف المسائل، فربما يأذن الله لنا في إماطة اللثام عنه، في غير هذا الموضع؛ وهو حجاب مهيمن على جُلّ العقول من مؤمن وكافر. ولكن رفعه بإذن الله علينا هيّن، لمن كان أهلا للأخذ عنا... وهل يوجد نص في العالم، اعتُني به كما اعتنى المسلمون بالمـُصحف؟!... لا، والله!... وهذه وحدها دليل على فرادة القرآن، وعلى أنه كلام الله... 2. الرد على بعض الشبهات المتعلّقة بالقرآن: إن أغلب الشبهات التي تحوم حول جمع القرآن، قد أثارتها الفرق الضالة أو أثارها المستشرقون. فأما الفرق الضالة، فلأنها عند انحرافها عن الصراط المستقيم، صارت تبغي التدليل على طريقها المنحرف، في زعمها، بالقرآن نفسه؛ لأن القرآن له الحجة على كل المسلمين، من كونه أعلى ما يحتكمون إليه. فعندما لم يجد المنحرفون عن الطريق من القرآن ما يسندهم في انحرافهم، فإنهم لجأوا إلى أمور منها: ا. تأوُّل الآيات على غير وجهها: وذلك كما فعلت الرافضة في إثبات الوصية في الخلافة السلطانية (الإمامة عندهم). فقالوا في قول الله تعالى: {إِنَّمَا وَلِیُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱلَّذِینَ یُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَیُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمۡ رَ ٰكِعُونَ} [المائدة: 55]، إن الولاية المقصودة هنا هي الخلافة عندنا. قال بعض المفسّرين إن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام، الذي تصدّق بخاتمه وهو راكع. وهذه لا شك منقبة كبيرة من مناقب عليّ عليه السلام، واختصاص خصّه الله به؛ ولكن مع ذلك تبقى دلالة الألفاظ عامة، فيما يتعلّق بالولاية، وفيما يتعلّق بالتصدّق بعدها أيضا. ب. الطعن في المـُصحف، رغبة في تأييد البدع والضلالات التي يكون عليها المنحرفون: وذلك كما فعلت الرافضة، عند قولهم بحذف الآيات الدالة على الولاية (بحسبهم)، وهو أمر شنيع؛ إذ لو ثبت تحريف آية واحدة من القرآن، لارتفع القول بالحفظ الإلهي، والحال إن الحفظ ثابت. والمستغرب من فعل الرافضة، هو أنهم يقيسون القرآن على ما عندهم من "الأحاديث" التي ينسبونها إلى الأئمة من آل البيت عليهم السلام، والتي تكون إما مكذوبة أحيانا، وإما مـُساءً فهمها في الأحيان الأخرى؛ فيردون القرآن المخالف لذلك الفهم منهم، مع أن القرآن لا شيء يعدله في القوة (الندّيّة) حتى يردّه. ومن هذا الباب قولنا بأن الحديث النبوي، لا ينسخ القرآن البتة. وسيأتي الكلام عن هذه القاعدة في فصل النسخ، بإذن الله تعالى... فكيف بالحديث إن كان من كلام الصحابة أو من كلام الأئمة، على الجميع السلام!... ومع هذا الذي ذكرنا، لم يتنبه الرافضة إلى أن الأدنى هو الذي يُقاس إلى الأعلى، لا العكس؛ فالقرآن هو الأصل، وما وافقه من أحاديث قُبل، وما خالفه رُدّ؛ لكن لا من قِبل كل راد، لأننا نرى النور شرطا في الكلام عن كل هذه المسائل. ولا نقصد من النور هنا، نور العقل الذي لا تكاد العامة تعرف غيره؛ ولكن نقصد النور النبويّ. وقد ذكرنا هذه الأصول لطلبتنا، عندما كنا ندرّس في معهد العمرية، في مسألة القول بنسخ الحديث للقرآن؛ فقلنا لهم: إن الحديث لا ينسخ القرآن، لكونه أعلى منه مرتبة. والناسخ -إن قيل به- هو الذي ينبغي أن يكون أعلى، والمنسوخ هو الأدنى؛ حيث كانا. كل هذا، ونحن لا نقول بالنسخ في بعض صوره المقول بها عند غيرنا. ومما يدل على انحراف الرافضة في ردّ بعض القرآن، قول نعمة الله الجزائري[12]: "إن تسليم تواتره (أي القرآن) عن الوحي الإلهي، وكون الكل قد نزل به الروح الأمين، يفضي إلى طرح الأخبار (الأحاديث عندهم) المستفيضة، بل المتواترة، الدالة بصريحها على وقوع التحريف في القرآن كلاما، ومادة، وإعرابا؛ مع أن أصحابنا (يقصد أهل السنة) قد أطبقوا على صحتها والتصديق بها!"[13]. ومثل هذا كثير، لا نرى داعيا إلى تتبعه، مع بدوّ فساده. وأما قولهم في قول الله تعالى: {وَإِن كُنتُمۡ فِی رَیۡبٍ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُوا۟ بِسُورَةٍ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُوا۟ شُهَدَاۤءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ} [البقرة: 23]، الذي قالوا فيه بتفسير "عبدنا" بعلي عليه السلام؛ فهو أوضح من أن يُردّ عليه؛ لأن العبد المنسوب إلى نون الجماعة الدالة على الاسم الجامع "الله"، فأمره لا يختلط على اثنيْن، وهو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الذي اختُصّ من عند الله بنزول القرآن عليه. وأما عليّ عليه السلام، فإنه يتنزل عليه معنى القرآن، على ما ذكرنا آنفا في فصول سابقة. ونعني أن عليّا من ورثة النبوة، وليس نبيّا بالأصالة؛ ومن اعتقد أن القرآن أنزل عليه بالأصالة فقد كفر. ومن كان حريصا على موافقة عليّ بما يُحبّ، فليقل بما ذكرنا؛ فإنه عليه السلام لو خُيّر بين أن يسمع هذه الضلالات أو أن يعود إلى العدم، لاختار العودة إلى العدم حياء من الله وخشية!... وعلى هذا، فإن الروافض هم أعداء عليّ عليه السلام الألداء، علموا أم لم يعلموا. ومن لم يعلم، فها نحن نخبره الخبر اليقين، الذي سيجده أمامه عيانا، يوم القيامة!... ج. تحريف معاني القرآن عموما: وهذا هو الغالب على الفرق الكلامية. فأما المعتزلة ومن لف لفهم، فقد حكّموا المنطق العقلي على الآيات القرآنية، تأثرا بما بلغهم من الفلسفة اليونانية؛ وهو ما لا يصح بحال، لكون الحكم للقرآن لا عليه. ثم دخل القدرية والجبرية على التأويل، مع ما يوجد بينهم من بوْن؛ ثم توالت التلوّنات التأويلية، فبلغت أوجها مع الأشاعرة الأُول والمتأخّرين. ونحن نحكم بأن مَن جاءوا بعد الأشاعرة الأوّلين في الزمان، لم يتمكنوا من بلوغ مستواهم، بله أن يتجاوزوهم؛ إلى أن وصل الأمر إلى العقول المسطّحة من أمثال المتسلّفة في المتأخّرين. والقرآن قد وجد فيه كلٌّ ضالته، لسعته وتقلبات تجلّياته في نظر الناظر إليه؛ ونعني من هذا، أن الضّالّين بالقرآن، ما ضلّوا حتى أضلّهم. ونخص بالكلام هنا، ما يتعلّق بالقلوب، لا ما يتعلّق بظاهر الألفاظ؛ نعوذ بالله من الخذلان!... ونحن نعني من هذا، أن ما يراه أهل كل عقيدة من موافقة القرآن لهم، هو دليل على أنه كلام الله. وكلام الله لا محالة شامل لذكر كل التجلّيات، وإن كانت تجليات جلالية شيطانية. ولولا هذا، ما تمكن الشيطان من إضلال القارئين للقرآن، وإخراجهم من حرم اللفظ الإلهي، إلى ما يريده هو. ولولا مخافة الإثقال على القارئ، لذكرنا من عجائب القرآن نبذة، مما تحار فيه جميع العقول؛ ولكن لنكتف في هذا المعنى بما جاء في الحديث النبوي، من: «أَنَّ النَّاسَ قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَومَ القِيَامَةِ؟ قالَ: هَلْ تُمَارُونَ في القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟ قالوا: لا يا رَسولَ اللَّهِ. قالَ: فَهلْ تُمَارُونَ في الشَّمْسِ ليسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ قالوا: لَا. قالَ: فإنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ. يُحْشَرُ النَّاسُ يَومَ القِيَامَةِ، فَيَقولُ: مَنْ كانَ يَعْبُدُ شيئًا فَلْيَتَّبِعْ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الشَّمْسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ القَمَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الطَّوَاغِيتَ. وَتَبْقَى هذِه الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فيَقولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقولونَ هَذا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا؛ فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقولُ: أَنَا رَبُّكُمْ! فَيَقولونَ: أنْتَ رَبُّنَا.»[14] . وإننا نعني من إيرادنا لهذا الحديث، أن ذلك التجلي يسبق إلى الناس هنا في الدنيا، عند قراءتهم للقرآن. فليتنبه من شاء الله له أن يتنبه!... ولنخلص في ختام هذا الفصل، إلى أن القرآن قد أنزله الله، وجمعه الله، وحفظه الله؛ فلا سبيل إلى القول فيه بمخالفة الأصل، أو بالزيادة أو النقصان. وعلى المسلمين ألا يجاروا الشياطين في التفكر في الشبهات الملقاة إليهم؛ لأن مجرد التفكير فيها، قد يأخذهم بعيدا. ومن أراد أن يتنعم بنعيم القرآن، فليكن ممن يأتيه بالجزم، وإن عرض له ما عرض من تقابل في الألفاظ، أو اختلاف في أقوال المفسرين كما هو معلوم. وليعوّد العبد نفسه أن يستمع إلى الله في كلامه، وأن يترفّع عن كل كلام بشري فيه؛ إلا ما يكون من كلام نبوي أو كلام وراثي، كما أسلفنا مرارا. ومن لم يسمع القرآن من الله، فليعلم أنه ما سمع كلام الله قطّ؛ وإنما سمع (أو قرأ) صورة له في ذهنه، غير أن تلك الصورة لا تخرج عن إحاطة القرآن، كما هو واضح. وكما أن الله إذا عرفه عبده، فإنه سيعلم من أول وهلة بأنه الله، من دون دخول في مقارنات ولا استناد إلى كلام بشري يصفه؛ فكذلك القرآن من حيث هو كلام الله وصفته، سيعرفه السامع من أول وهلة يسمعه لعدم وجود الشبيه. وهذه قاعدة في المعارف نفيسة، لا خبر للفقهاء عنها، وهم من علقت أقدامهم في أوحال كلام أسلافهم وأئمتهم قرونا طويلة، وإلى الآن... وإن مسألة جمع القرآن، لا شك تُفضي إلى مسألة أخرى متفرّعة عنها، هي: مسألة اختلاف القراءات، ووجوه ذلك الاختلاف. وهو ما سنعرض له بإذن الله في الفصل المقبل... [1] . أخرجه البخاري عن زيد بن ثابت رضي الله عنه. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.