اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2024/10/20 الإنسان القرآن (مقدمة في تفسير القرآن الكريــم) .18.(ج2) الباب الثاني: العلوم المتعلّقة بالقرآن الفصل الثاني: تفسير القرآن (ج2) (تابع) ولنعد إلى تفسير القرآن الكريم لنقول: 1. التفسير بالمأثور: وهو كما يقولون: تفسير القرآن بالقرآن (وهذا قد أنكرناه فيما سبق من الكتاب)، وتفسير القرآن بالحديث النبوي الصحيح (وهذا أقوى التفاسير عندنا)، وتفسير القرآن بأقوال الصحابة رضي الله عنهم (وهو لا نعتمده إلا من باب الاستئناس، باستثناء الكبار منهم رضي الله عنهم؛ لأنه يُفترض في كل قارئ للقرآن أن يأخذ فهمه عن الله ورسوله منه، لا عن أحد من العباد). وقد أضاف بعضهم إلى أقوال الصحابة، بعضَ أقوال التابعين؛ وقولنا فيها ما ذكرناه في أقوال الصحابة مع وجوب التفريق بين المرتبتيْن. وأما إن شهد الكشف لقول الصحابيّ، أو لقول التابعيّ، فإن ذلك يرقى عندئذ إلى الأخذ في التفسير عن الله ورسوله؛ وهو أعلى ما يكون من الفهم في الوقت. ا. القسم الأول: التفسير بالقرآن: يُعرِّف موقع "موضوع" على النت -وهو يُعدّ عاكسا لما عليه "أهل السنة والجماعة" من مقولات- هذا القسم هكذا: [تفسير القرآن بالقرآن، هو أن تُفسَّر بعض الآيات القرآنية بما ورد في القرآن نفسه؛]: وهذا التعريف به إشكال كبير، يتطلّب تعريف فهم المفسّر ذاته للآية المفسَّرة، وللآية المفسِّرة، بحسب زعمه. ونعني من هذا، أن ما يظنّه الناظر فهما، في نفسه أو لدى غيره، قد لا يكون فهما مما يُقَرّ عليه؛ إما في آية من الآيتيْن المعتبرتيْن معا، أو في واحدة منهما. وأقصى ما يكون من فهم للفقهاء، هو ما تدل عليه تكملة التعريف، والتي يرد فيها: [فقد تأتي بعض الآيات مُجمَلةً في موضع، ومُفصَّلةً في موضع آخر، وقد تكون مُوجَزة في موضع، ومُبسَّطة في موضع آخر. ومن أمثلة ذلك، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}[المائدة: 1]؛ فقد فُسِّر قوله: "إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ" في موضع آخر بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّـهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}...[المائدة: 3]]: والحقيقة هي أن الآية الثالثة من سورة المائدة، لا تُعدّ مفسّرة للآية الأولى، إلا بالمعنى الفقهي المتعلّق بأحكام العمل وأحكام ظاهر المعاملة؛ وأما بغير هذا المعنى، فلا يكون الأمر كذلك. والذي يدل على صحة قولنا، هو عدم استغناء قارئ القرآن بالآية المـُفسِّرة عن الآية المـُفسَّرة. وما نعنيه، هو أن فهم الآيتيْن، بحسب ما هو عند الفقهاء، لا يُستغنى فيه عن ألفاظ الآية الأولى ومعانيها؛ بما يتجاوز فهم الفقهاء. ومرة أخرى نعني أن ما يعتبره الفقهاء في الآية الثالثة تفسيرا، نحن نعُدّه مـُلحقا بالآية الأولى؛ ونعني باللحوق التتابع في السياق. نبغي بهذا، أن نفرّ مما يُفهم من التفسير في اللغة، والذي قد يجعل التفسير بديلا عن الكلام المـُفَسَّر. ورغم أن الفقهاء يحصرون التفسير هنا، في تفصيل المـُجمل وفي تخصيص العام؛ فإن ذلك يبقى قاصرا عن فهم دلالات الآيات المـُفَسَّرة، والأخرى المـُفَسِّرة. وقد سبق لنا، أن أوضحنا في الباب الأول من هذا الكتاب، أن ألفاظ القرآن لا تُعوَّض، وأن المعاني المـَخوض فيها لا تنحصر فيما فهمه الفاهمون، إن صحّ منهم الفهم. وإن نحن عدنا إلى الآيتيْن من المائدة، فإن قول الله تعالى: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}، منوط بالإحلال من قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ}، بينما قوله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ...}، هو منوط بتعيين المـُحرّمات؛ والمعنيان على التقابل. والمعنى الأول، هو معنى المستثنى منه، والثاني هو ما يتعلق بالاستثناء؛ وهذا غير ذاك من جهة ما تدل عليه الاصطلاحات، لا من جهة ما يفهم العقل العامّيّ على الإجمال. فما يراه العقل العاميّ تفسيرا لآية بأخرى، نراه نحن تكملة للكلام من آية إلى أخرى. واعتبار هذا الفرق بين ما نفهمه نحن، وما يفهمه الفقهاء، أساس عندنا في فهم القرآن بإذن الله تعالى؛ وسوء فهم الفقهاء، هو بداية الالتباس الذي يقع للناس في فهم القرآن، عندما سينفرد كل عقل بما يناسبه من الفهوم، بحسب إدراكه من اللغة، ومن السياقات التاريخية، قبل غيرها. ونعني بهذا الغير على التخصيص، العقائد التي يرى المـُفسِّرون أنفسهم مـُلزَمين بها، مع أن الله لم يُكلّفهم شيئا من ذلك. ونكاد نجزم هنا، بأن الأمثلة على هذا الاختلاف في النظر إلى القرآن ستتعدّد، وسيتأكّد منها فيما بعد، مرة بعد أخرى، من المعاني، ما يُناط بالآيات من قِبل جميع أصناف المـُفسِّرين. [وينقسم تفسير القرآن الكريم بالقرآن الكريم إلى أربعة أنواعٍ كما يأتي: فأما النسخ في القرآن، فلا نقول به؛ وسيأتي بيان ذلك في فصل مستقل بإذن الله. وأما تخصيص العام، وتقييد المـُطلق، وتفصيل المـُجمل، فهو ما لا يكاد العقل الفقهي يتبيّن غيره. ورغم أن هذه المصطلحات، تُعدّ عند العلماء المترسمين، من لباب العلم، ومما تنبني عليه القواعد "العلمية"، فإنها تبقى مما توصّل إليه العقل المـُفكّر في عصر التدوين؛ بينما القرآن كان منذ البعثة المحمدية الشريفة محور تديّن الصحابة والتابعين من باب طريق تحصيل النور، لا من باب التفكر الشامل. وسيأتي تفصيل ما يتعلّق بفهم القرآن، وما يختلف فيه من كانوا على المحجة البيضاء، ممن دخل عليهم التفلسف، في محله إن شاء الله... ب. القسم الثاني: تفسير القرآن بالسّنّة: [تفسير القرآن بالسنّة: يكون ذلك بأن تُفسَّر آية قرآنية بحديثٍ نبويٍّ شريف؛ كتفسير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لمعنى الظلم بالشرك؛ فقد ذكر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ذلك، فقال: "قالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هذِه الآيَةُ: {الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمانَهُمْ بظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، شَقَّ ذلكَ علَى أصْحابِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقالوا: أيُّنا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «لَيْسَ كَما تَظُنُّونَ! إنَّما هُوَ كَما قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ: {يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ باللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}»"][2]: وهذا الصنف من التفسير عندنا، هو أصحّه؛ لأنه أعلاه. وقد يتوهم البعض أن تفسير القرآن بالقرآن، هو أعلى التفسير، وليس كذلك؛ لأن مـُفسِّر القرآن بالقرآن، لا يكون إلا عاميّا في الغالب. لذلك فإنه لا يكون أعلى التفسير، ولا أصحه. وفي الحقيقة إن تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الوارد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، هو تفسير للقرآن بالقرآن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وليس تفسيرا للقرآن بالحديث؛ على الأقل في هذا المثال. وأما ما يصدق عليه إطلاق تفسير القرآن بالسنّة، فهو كقول الله تعالى: {وَأَعِدُّوا۟ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، فقد فُسرت "القوة" في الآية بما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «أَلا إِنَّ الْقُوَةَ الرَّمْيُ، أَلا إِنَّ الْقُوَةَ الرَّمْيُ، أَلا إِنَّ الْقُوَةَ الرَّمْيُ!»[3] . ج. القسم الثالث: تفسير القرآن بما أُثر عن الصحابة: [تفسير القرآن بما أُثر عن الصحابة: يتوافق تفسير الصحابة رضي الله عنهم أحياناً، مع أسباب نزول القرآن الكريم؛ فيؤخذ بكلامهم، ولا مجال للرأي فيه؛ فيأخذ حكم المرفوع. أمّا إن كان للرأي فيه مجال، فهو في حكم الموقوف؛ ما دام لم يسند إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.][4] : وهذا الكلام به اضطراب كبير: أولا: إن كان قول الصحابي، ذكرا لسبب النزول، فالأمر متعلّق بأسباب النزول، ولا دخل للصحابيّ من كونه صحابيّا فيه؛ بل هو راوٍ. ثم ينبغي علينا أن نوضّح أمرا هنا، وهو أن الصحابيّ ليس شرطا في فهم القرآن، كما يتوهم أصحاب الدين التاريخي؛ لأن الله هو من يتولّى إفهام عباده في كلامه، في كل زمان ومكان. ولكن الفقهاء، عندما جهلوا هذا الأصل، فإنهم قد وضعوا أصولا لدين مبتدع، وهم لا يشعرون. ومن أصول الدين المـُبتدع: التفاضل بالنظر إلى التسلسل التاريخي؛ وهو لا يصح دائما، ومن كل الوجوه. وأما الاستئناس بقول الصحابي في فهم قرآن أو فهم حديث، فلا شك هو معتبر للعلماء؛ ولا يتجاوزه إلا كل مخذول... ثانيا: الحكم على قول الصحابي كالحكم على الحديث النبوي، بين المرفوع والموقوف، لا يصح هنا؛ بل هو من الخلط الذي يقع للفقهاء. وأما ما يعدّ عند علماء الحديث من أقوال (حديث) الصحابة، فهو يلحق بالحديث النبوي في الأحكام دون المرتبة. وقد دخلت على بعض الفِرق جهالات، سببها المجاوزة بكلام الصحابة، مرتبتهم. كما في قول عمر بن الخطاب عليه السلام: "أَما وَاللَّهِ، إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ؛ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَلَمَكَ، ما اسْتَلَمْتُكَ، فَاسْتَلَمَهُ."[5] ، الذي اتخذته الفرقة المتسلّفة الزاعمة الحرصَ على التوحيد أكثر من غيرها، من أدلّتها؛ وهو لا يصح أن يكون كذلك. والصحابي (وقد ذكرنا هذا مرة عن عائشة عليها السلام، وهي من هي!)، قد يصدر عنه الكلام، قبل أن يكمل؛ فلا يعتبر حينئذ في بابه. ومن أراد أن ينظر إلى مرتبة الكلام السابق عن عمر عليه السلام، فليسمع إلى ما قاله عليّ عليه السلام، ردّا عليه. قال الراوي: "حَجَجْنا مَعَ عُمَرَ، فَلَمّا طافَ اِسْتَقْبَلَ الْحَجَرَ، فَقالَ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لا تَضُرُّ وَلا تَنْفَعُ، وَلَوْلا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّلَكَ ما قَبَّلْتُكَ، ثُمَّ قَبَّلَهُ، فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ: «بَلَى إِنَّهُ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ! قالَ: بِمَ؟ قالَ: بِكِتابِ اللهِ: {وَإِذۡ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِیۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّیَّتَهُمۡ وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰۤ أَنفُسِهِمۡ أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُوا۟ بَلَىٰ} [الأعراف: 172]: خَلَقَ اللهُ آدَمَ، وَمَسَحَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَقَرَّرَهُمْ بِأَنَّهُ الرَّبُّ، وَأَنَّهُمُ الْعَبِيدُ، وَأَخَذَ عُهُودَهُمْ وَمَواثِيقَهُمْ، وَكَتَبَ ذَلِكَ فِي رَقٍّ، وَكانَ لِهَذا الْحَجَرِ عَيْنانِ وَلِسانٌ، فَقالَ: اِفْتَحْ! فَفَتَحَ فاهُ، فَأَلْقَمَهُ ذَلِكَ الرَّقَّ، وَقالَ: اِشْهَدْ لِمَنْ وافاكَ بِالْمُوافاةِ يَوْمَ الْقِيامَةِ! وَإِنِّي أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقولُ: «يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيامَةِ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَلَهُ لِسَانٌ ذَلِقٌ، يَشْهَدُ لِمَنْ يَسْتَلِمُهُ بِالتَّوْحِيدِ!». فَهُوَ يا أَميرَ الْمُؤْمِنينَ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ!». فَقالَ عُمَرُ: "أَعوذُ بِاللهِ أَنْ أَعِيشَ فِي قَوْمٍ لَسْتَ فِيهِمْ يا أَبا حَسَنٍ!"[6] . ولنلاحظ هنا، أن كلام الصحابيّ عمر رضي الله عنه، لم يوافق كلام النبي الذي رواه عليّ عليه السلام. فهل يعتبر المـفسرون، عند أخذهم بقول الصحابي، الفرق بين مراتب الصحابة أنفسهم؟!... ولا بأس من أن نذكّر هنا، بأن عليّا كان هو النسخة القرآنية في ذلك الزمان، التي تمشي على رجليْن... ثالثا: الرأي من الصحابي، هو كالرأي من غيره؛ إلا أن يكون كلام الصحابي عن كشف، كتفسير عليّ عليه السلام للقرآن أحيانا، فهو يلحق بكلام الوارث كامل الوراثة (الإمام في الدين)، ولا يُعتبر في الاصطلاح "كلام صحابي". ونعني من كلامنا هذا، أن صفة الصحبة للصحابة، لا تتعلّق بمرتبتهم في الدين؛ فكم من صحابي مات على مرتبة الإسلام، وكم منهم مات على مرتبة الإيمان، وقليل منهم من بلغ الوراثة الكاملة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كالخلفاء الخمسة عليهم السلام؛ وعلى رأسهم من جهة العلم عليّ عليه السلام. وأما هذا الذي نسمعه من جهلة المتأخرين، الذين يحكمون بسبق الصحابي لغيره من كل وجه، فهو محض جهل. فكم من وارث في المتأخرين، يفضُل كثيرا من الصحابة من جهة المرتبة في الدين!... لذلك، لا ينبغي الخلط!... وسيأتي الكلام عن التفسير بالرأي بعد أسطر إن شاء الله تعالى... ومن أشهر التفاسير المعدودة ضمن التفسير بالمأثور عند أهلها وعند المصنّفين: د. التفسير بالرأي: [التفسير بالرأي (التفسير بالدراية): يعني ذلك التفسير الذي يعتمد على اجتهاد المـُفسّر، بحيث يكون عارفاً بكلام العرب وألفاظهم ودلالاتها، عالماً بالناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول، وكلّ ما يتعلق بعلوم القرآن وأدواتها؛ ويُقسَّم التفسير بالدراية إلى قسمين: التفسير المحمود، والتفسير المذموم([7] ).]: والأصل في هذه المسألة، ألا يُقال في القرآن بالرأي. ولا يقول بهذا -بله أن يجعله أصلا- إلا فاقد للنور في نفسه، وفاقد للإمام في وقته!... وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «اِتَّقوا الْحَدِيثَ عَنِّي إلَّا ما عَلِمْتُمْ! فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ قالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ.»[8] . ومن لا يعتبر نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتحذيره، فلا حاجة للناس في "فقهه!". ومما لا يتفطّن إليه الناس بخصوص القرآن وهو أفدح من القول في القرآن بالرأي، هو نقل الرأي عن قائله، بوصفه تفسيرا معتبَرا؛ كنقل كثير من التفسير عن المـفسرين. وأما التفاسير المؤسَّسة على الرأي كتفسير "في ظلال القرآن" لسيد قطب في زماننا (1906-1966م)، فإنه لا يُعدّ تفسيرا بالمعنى الأصلي للمصطلح؛ بل يُعتبر من التقوُّل على الله. وقد أسس سيد قطب للأيديولوجيا الإخوانية بكتابه ذاك، ونحن نحكم ببطلانه، وعدم جواز اعتباره تفسيرا للقرآن؛ وبالتالي بحرمة طبعه ونشره. وقبل سيد قطب، كان محمد رشيد رضى (1865-1935م)، قد ألف تفسير المنار، الذي وإن صُنّف ما بين التفسير بالمأثور والمعقول، فإنه سيفتح تناول مجال ما سُمي "العلوم" بالاصطلاح الدّجّالي؛ وهو ما كان قد أسس عليه محمد عبده أيضا (1849-1905م)، وتابعه على منواله؛ وهذه التفاسير (أصنافها) أيضا باطلة، يجري عليها ما يجري على "الظلال". ولا شك أن الرأي قد دخل على التفسير، عندما يئس قارئو القرآن من إفهام الله ورسوله. وهذا اليأس، لم يستحكم فيهم، إلا بعد تحريف الفقهاء من المنظّرين الأُول لأصول الدين. وهذا من أكبر البدع المستحدثة في الدين، والتي لا تزال عاملة في الأمة بقدر كبير إلى الآن... ومن التفاسير المشهورة، المعدودة من التفسير بالرأي: ه: التفسير الإشاري: [يعني ذلك، تفسير آيات القرآن الكريم بإشارةٍ خفيّةٍ تظهر لمن خصّهم الله تعالى بفهمٍ خاصٍّ؛ فيُفسّر النصّ على غير ظاهره. وقد ضبط ابن القيم هذا النوع من التفاسير بعددٍ من الضوابط؛ كأن لا يُناقض التفسير معنى الآية القرآنية، وأن يكون المعنى صحيحاً في نفسه، وغيرها من الضوابط.] [9]: وهذا الكلام مضطرب، وابن القيّم ليس مؤهلا لوضع الضوابط فيه. وخلاصة الكلام في هذا الصنف من التفاسير، أنه ينقسم إلى قسميْن: الأول: قسم إشاري بمعنى الكلمة، وهو يعتمد تناول المعنى الظاهر من لفظ ظاهر، لا يُفهم ذلك المعنى منه في الظاهر عادة. وهذا كقول ابن عجيبة رضي الله عنه، في قول الله تعالى: {وَإِن تَعَاسَرۡتُمۡ فَسَتُرۡضِعُ لَهُۥۤ أُخۡرَىٰ} [الطلاق: 6]؛ عندما استدل بهذه الآية، على استعانة السالك بشيخ، إن لم يستطع أن يسير بنفسه، عند مخالفتها له وغلبتها إياه. وهذا الصنف من التفاسير ليس تفسيرا حقيقة، وإنما هو دلالة على معنى بمعنى غيره، لشبه في الصورة المعنوية. ويكثر هذا الصنف عند أهل التصوف... الثاني: تفسير باطن الآيات: وهذا هو ما كان ينبغي أن يُذكر؛ لكن بصفة تفسير باطن القرآن، لا بالتفسير الإشاري. وذلك لأن لآيات القرآن ظاهرا وباطنا، وكما أن التفسير المعتاد يتعلق بظاهر القرآن، فكذلك لباطنه تفاسير تتعلّق به، يعلمها من له اطلاع على باطن القرآن. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، لِكُلِّ آيةٍ مِنْها ظَهْرٌ وَبَطْنٌ، وَلِكُلٍّ حَدٌّ وَمَطلَعٌ (وفي رواية مـُطَّلَعٌ).» [10]. وقد غلط الفقهاء، عندما جعلوا ظهر الآية ألفاظها، وباطنها معناها؛ لأن المقصود من باطن الآية مستوى آخر غير الذي يعلمه الفقهاء عادة. وبحسب السياق، فإن لكل ظهر وبطن حد ومطلع؛ فالحد هو ما يجعل الظهر غير البطن، والبطن غير الظهر؛ والمطّلع، هو أسرار الظهر وأسرار البطن. غير أن هذا الصنف من التفسير الباطن، لا يُتكلّم فيه إلا بين أهله؛ أو للدلالة عليه، كما نفعل نحن. وهو تفسير معتبر، له أصوله؛ ولا يُنظر فيه بأصول التفسير المعتاد في الظاهر. غير أن الشرط الأساس في تفسير الباطن، هو ألا يُناقض ظاهرا معلوما للآيات؛ لأنه من يفعل ذلك فقد كفر. وهذا (مخالفة ظاهر الآيات)، طريق الباطنية، لا طريق أهل الباطن. وأما من يُنكر من الفقهاء أن للقرآن باطنا، فإنه يدخل في الكفر من جهة مقابلة، بحسب ما يعلم الله من جرأته عليه. وهذا يعني، أنه لا يُقبل الجهل من علماء الدين بهذا الوجه من تفسير القرآن؛ أما العوام فلا يخوضون في ظاهر للقرآن ولا باطن، إلا ما ندر... الثالث: تفسير الحقائق: ويدخل فيه تفسير الحروف من الآيات، لمن تحقق له علمها. والحقائق هي العناصر العلمية البسيطة، التي يُبنى عليها كل علم، مهما اقترب أو مهما ابتعد من علم ظاهر القرآن. وهذا التفسير معلوم لأهله، يميّزون فيه بين الأعلى والأدنى، على نور من الله وبيّنة. وهذا العلم الذي ينبني عليه هذا التفسير، على المؤمنين (ومنهم الفقهاء)، أن يُصدّقوا به، إن سمعوه من أهله، لأنه داخل في موروث النبوة؛ وإلا حُرِموه، وربما حوسبوا على إنكاره كمَن ذكرناهم سابقا... وهذا الاستطراد منا في هذا القسم، لا يعني أن كل الأصناف التي عرّجنا عليها، تدخل ضمن التفسير الإشاري؛ لأن النسبة إلى الإشارة، لا تصدق إلا على من جمع بين أمريْن من مجاليْن مختلفيْن، بإشارة منه، يراها أنها مُعينة للسامع من أجل الفهم عنه. فليتنبّه الناظرون في كتابنا، وليتحفّظوا من تحريف التعريفات والاصطلاحات، على غير الوجه الذي يريده منها أصحابها. ولقد لمسنا هذا الخلط في الأمور لمسا، من الدارسين في الجامعات العصرية؛ فمنعهم ذلك عن تبيّن المعاني من مراجعها، أو إن هم أرادوا كتابة دراسات في مسائل بعينها. وقد دأبنا إبّان تدريسنا في معهدنا على إعانة الطلبة على تصويب فهومهم، ولكنّنا وجدنا صعوبة كبيرة في ذلك؛ حتى إننا مرة اضطررنا إلى طرد أحد خرّيجي الأزهر، بسبب عدم احتماله سماع ما يخالف ما تعلّمه به. ونبغي من هذا التنبيه هنا، ألا يثق الدارسون فيما يتعلمون على أيدي الأساتذة الرسميّين، وفي المعاهد الرسمية، ثقة عمياء، ويأخذوا كل ما يسمعون أو يقرأون بالتسليم؛ لأن أغلب ذلك جهل مبني على غير أساس من العلم المعتبر. ورغم أننا قد أبقينا على مجمل ما اتفق عليه أهل التفسير ثم الدارسون للتفاسير، فإننا ننبه إلى قاعدة ثابتة، وهي دخول الرأي (الفكر) على تفسير القرآن دخولا ضعيفا في عصر الصحابة، ما لبث يتقوى مع الزمان -خصوصا بعد عصر التدوين- إلى أن وصل إلى فكر خالص، انقسم إلى أقسام مناسبة للشعب المعاصرة المعدودة تجوّزا علوما: كالاجتماع والسياسة والنفس. وهذا كله قد خرج عن معنى التفسير بالمعنى الشرعي، عند اعتبار كلام الله مماثلا لكلام الناس؛ وبالتالي فإنه يبقى قابلا لنظر عقل كل ناظر، من دون تثبت من المستوى العقلي لذلك الناظر، أو من مدى إحكامه للقواعد العقلية؛ إلى أن وصل الأمر بأقوال في التفسير من بعض المتأخرين، يصرّحون فيها بكون القرآن نصّا تاريخيا، قابلا لأن يجري عليه ما يجري على سائر النصوص. وهذا يُعدّ كفرا من قائله، ويجعل أقواله غير معتبرة على التمام؛ ولن نذكر أئمة هذا الضلال لأنهم معروفون من جهة، ولأننا لا نريد أن نُعلي من شأنهم من جهة أخرى. ونحن دائما، نُشير إلى أن الانحرافات الدينية التي بدأت في القرن الأول، لا بد أن تبلغ في عصرنا الكفر الأكبر؛ علم أصحابها ذلك، أم لم يعلموا. ومع ذلك، فمن بقي على شهادة الإسلام قلبا ولسانا، فإنه يُرجى أن يحكم له بالإيمان. وبعد تبييننا للطرفيْن، نحجم نحن عن الحكم، لأنه ليس من شؤون العبد. وأما تزايد الانحراف مع الزمان، فذلك لأنه يتمادى في البعد عن الأصل المعتبر عند الله، وهو ما يفهمه كل ناظر في المنهجيات والاعتبارات؛ وظهوره في الهندسة جليّ، وهو في المعقولات أخفى... وأما دراسة تفسير القرآن، كما تُدرس الشعَب الأخرى المعتبرة شرعية، فنحن لا نقول بها؛ لأن فهم القرآن يتأسّس على النور المستمدّ من رسول الله صلى الله عليه آله وسلم بشروطه، لا على أقوال الناس (نستثني الأحاديث النبوية هنا، وأقوال أئمة الدين من الورثة)، ومع اعتبار التراكم في الزمان. وهذا يجعل التفاسير المذهبية العقدية، أولى بالرفض منّا، وهي قد أضافت إلى ما أنكرناه أولا، أصلا غريبا عن الإسلام، وهو مذهب الفِرقة. وعلى كل حال، فإن تفسير القرآن، ينبغي أن يُؤخذ عن الإمام في الزمان، الذي سميناه في آخر الباب الأول من الكتاب: نسخة قرآنية. وهذا يؤكّد المعنى الذي ذكرناه هناك، من أن القرآن لا يُؤخذ إلا عن القرآن؛ ونعني من كلامنا أن الإنسان القرآن، هو المخوَّل وحده لتفسير القرآن. وليس شرطا في هذا التفسير الحقّ الأصلي، أن يكون في متناول فَهْم العامة من الفقهاء أو مقلِّديهم؛ كما يتوهّم الفقهاء عند إخطائهم معرفة حقيقة القرآن. فعقول الفقهاء تظن أن القرآن مـُخاطِب لكل الناس، وبهذا ينبغي لكل الناس أن يفهموه من جهة اللغة وحدها؛ وإلا لم تقم عليهم الحجّة بالمعنى الفقهي. وهذا الأصل، وإن كان صحيحا في مستوى أدنى من القرآن؛ فإنه لا يكون صحيحا في المستويات الأعلى من القرآن ذاته، ولا صحيحا من كل الوجوه في ذلك المستوى القرآني الأدنى. وبالتالي، فإن جلّ القرآن يبقى مجهولا لجلّ الناس، وإن كانوا ممن يحفظون ألفاظه، ويعتنون بأقوال المفسِّرين فيها... وأما الحجة فإنها تقوم على الناس، من الوجه الذي يعلمه الفقهاء، ومِن غيره. وذلك لأن كلام الله يُبلِّغه الله إلى من يشاء من أهل الأزمنة المختلفة، كيف يشاء سبحانه، وعلى قدر مراتبهم؛ وليس ذلك منوطا -كما قلنا- بفهم الفقهاء وحده. والفقهاء، قد دخلت عليهم هذه الشبهة، لظنّهم بأنهم أئمة الدين؛ وعلى فرض أنهم كذلك، فقد وجب أن يفهموا من القرآن ما لا يفهمه غيرهم، ليُعلّموا غيرهم من المقلِّدة. وهذا لا يصح من جهة المنطق العقلي، لأنه مصادرة على المطلوب. فسقطت شبهة الفقهاء، وسقط بسقوطها كونهم أفهم للقرآن من غيرهم!... والواقع يشهد بقصور الفقهاء عن فهم القرآن، وكما نقول مرارا: الواقع عندنا شاهد عدل، لا يردّه إلا جاهل بقدره!... 2. التفسير بالمعنى الأصلي الشرعي: إن غالبية العامة، يظنّون أن أقصى ما يوصل إليه من معاني القرآن، هو ما يوجد ضمن صفحات التفاسير المختلفة. ولقد ترسّخ هذا الظن، لعدم دلالة الفقهاء في المساجد وعلى المنابر، على إمكانٍ لفهم القرآن بعيد عن التفاسير. وهذا، قد خدم طبقة الفقهاء من الناحية الاجتماعية؛ ودخل بعموم الأمة في مرتبة كتابية الدين. فصرنا لا نختلف عن اليهود والنصارى، إلا من حيث كون ديننا ما يزال أصليا من جهة اعتبار الزمن التشريعي المحمدي، الذي شملنا برحمة من الله وفضل، من دون تعمّل أو تعرّض مِن قِبلنا يُذكران، إلا ما كان من جهة الغيب والحقيقة... وعند انقطاع غالبية الأمة عن الفهم عن الله، فقد صارت تحت رحمة الموجّهين من الفقهاء ومن السياسيّين الإسلاميّين؛ خصوصا عندما تصدّر للفقه وللسياسة، ضعفاء العقل وضعفاء التحصيل. وما تزال الأمة باستثناء خواصها، منقطعة عن صحيح التديّن، وبالتالي عن القرآن؛ رغم تنبيهنا نحن إلى هذا الانقطاع، منذ سنوات طويلة. وهذا يعني أن الفئتيْن اللتيْن ذكرناهما على الخصوص، لا تريدان العدول عن طريقهما، ما دامت الغاية المنشودة لهما، لا تُجاوز قليلا من عَرَض الدنيا. وهذا البلاء الذي أصابنا، قد هيأنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمعرفته عند حلوله، ومعرفة كيفية النجاة من الضلال المصاحب له، والذي تتزعمه طائفة ممن تحقق لهم الضلال في أنفسهم، يزعمون أنهم على فقه؛ وهيهات!... ومما أوصانا نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم به: اتقاء أئمة الضلال، المنحرفين عن السبيل المسنونة؛ وعدم اعتبار المـُدّعين لصفة العلم عند انقطاعه. وحتى نختصر الطريق على من يعلقون في الألفاظ، عند فقدهم للنور، فإننا نحكم بأن الغالبية الغالبة من الفقهاء المعروفين في زماننا، هم من أئمة الضلال. فلا يُتْعِب نفسه أحد بصرف هذا الحكم عنه باستعراضه لشيوخه، أو لعلومه؛ فإننا قد سمعنا من جلّهم، فوجدناهم من العوام. ومن شاء أن يختبر نفسه منهم، وكان صادقا في زعمه، فليتصل بنا وليتحقّق منّا. ونحن نعِده بأننا سنترك ذلك بيننا وبينه، تحت رقابة الله وحده. فإن علم حقيقة حاله، فهو حر في أن يعود عما هو عليه، أو في أن يواصل؛ لأننا لا نحاسب أحدا من الناس، إلا من زعم أنه داخل في تربيتنا. وهذا، قد توقفنا عنه من الجهة المباشرة، بسبب عدم إطاقة أناس هذا الزمان للتربية؛ ولم نُبق إلا على ما هو من صنف التربية غير المباشرة، التي يتبعنا فيها الشخص، عن بعد، وكما يختار هو؛ وذلك يحصل له بالتزام الشريعة، مع ذكر وردنا العام. وهذا الصنف من التربية لم نُسبق إليه في الزمان، وهو مفيد لكثير من الناس، على قدر طاقتهم... وأما ما يتعلّق بالتفريق بين التفسير والتأويل، والذي تكلم فيه الفقهاء، بحسب ما ظهر لهم، مما يجعل التفسير تارة غير التأويل، بحسب النسبة إلى الظاهر والباطن، أو بحسب النسبة إلى اللفظ والمعنى، أو مما يجعلهما تارة بالمعنى ذاته؛ فإن قولنا فيه يعود إلى الإجمال والتفصيل. فما هو مجمل من جهة التأويل بالمعنى اللغوي، هو تفسير؛ وما هو تفصيل يهبه الله لمن يشاء فهو تأويل. وفي الحقيقة، إن التأويل إلهي، والتفسير قد يكون نقلا لكلام إلهي كنقل الحديث في تفسير معنى آية ما، وقد لا يكون؛ كما في حال الأخذ برأي الرائي. وهذا يجعلنا نقول بربانية التأويل في جميع الأحوال، وبوضعية التفسير، ولو من وجه ما. ويؤكّد ما نذهب إليه أن القرآن والسنة، لم يرد فيهما لفظ "التفسير"؛ بينما التأويل ورد في القرآن والسنة معا. فمن القرآن قول الله تعالى: {فَأَمَّا ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمۡ زَیۡغٌ فَیَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَاۤءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَاۤءَ تَأۡوِیلِهِۦۖ وَمَا یَعۡلَمُ تَأۡوِیلَهُۥۤ إِلَّا ٱللَّهُۗ} [آل عمران: 7]. ويُفهم من الآية أن أهل الزيغ، يبتغون التأويل، ولا يبلغونه؛ وهذا يعني أن شطرا من المـٌفسّرين، هم ممن ابتغى التأويل، من دون أن يكون من أهله. وأما التأويل الذي نسبه الله إلى نفسه، فهو المـُعتبَر من أهل التأويل، الذين يأخذون تأويلهم عن الله ورسوله. وهذا الصنف الأخير، هو ما دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لابن عباس عليه السلام، أن يكون منهم؛ بقوله: «اَللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ.»[11] . ولا بد لنا من الإقرار بأن التفقيه من الله، وأن علم التأويل من الله؛ وكل ما عدا ذلك فهو لغو بميزان الشريعة، وإن كان من الله أيضا؛ لكن من وراء حجاب العقول. ورغم أن الفقهاء -بحسب مرتبة توحيدهم العام- ينسبون ما هم عليه (بالدرجة الثانية) إلى الله، فإننا ننبههم إلى أن نسبة التعليم إلى الله، هي حقيقية لا مجازية من وراء اعتبار الأسباب (الأساتذة والكتب). هذا، إن كانوا يقصدون إلى تصحيح بعض ما لديهم من مفاهيم مغلوطة!... وقد ذكر الله تعالى تعليم التأويل في حق بعض الأنبياء عليهم السلام، ممتنّا، فقال: {وَكَذَ ٰلِكَ یَجۡتَبِیكَ رَبُّكَ وَیُعَلِّمُكَ مِن تَأۡوِیلِ ٱلۡأَحَادِیثِ وَیُتِمُّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَیۡكَ وَعَلَىٰۤ ءَالِ یَعۡقُوبَ كَمَاۤ أَتَمَّهَا عَلَىٰۤ أَبَوَیۡكَ مِن قَبۡلُ إِبۡرَ ٰهِیمَ وَإِسۡحَـٰقَۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِیمٌ حَكِیمٌ} [يوسف: 6]. وليتنبّه الناظر إلى أن اسمَيْ الآية هما: "العليم" و"الحكيم"، وليعلم أن معلّم التأويل هما لا غيرهما، وإن كان تعليمهما من مرتبة اسم آخر من الأسماء. وهذا القول منّا، يدخل في القاعدة العلمية المعلومة لأهل الله، والتي مفادها أن كل اسم من موضعه (مرتبته)، له جميع الأسماء. وهذا، لأن كل اسم من الأسماء التي لا يحدها الحصر، يقوم بالاسم "الله"، الذي هو اسم مرتبة الألوهية. فكأن الناطق بأي اسم ينطق بالاسم الله قبله، علم أم لم يعلم. فبالنظر إلى العليم الحكيم، كأن الناطق يقول: الله العليم والله الحكيم. فالاسم الله، هو هوية الأسماء، كما هي الهوية للأول والآخر والظاهر والباطن، في قوله تعالى: {هُوَ ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡـَٔاخِرُ وَٱلظَّـٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُۖ} [الحديد: 3]. وهذا العلم المتعلّق بالأسماء، قليل من يعلمه، ومَنْ علِمه يتسع علمه، حتى يكاد لا ينحصر. ومما يظفر به العبد إن أخذ علمه عن الأسماء الأخرى، هو العلم بها وبآثارها؛ وهو مجال واسع ومركّب للغاية بالنظر إلى المظاهر. وبهذا الذي نقول، تقع للعبد قراءة الأميّين، الذين يقرأون العالم المخلوق؛ وهو ما دل عليه أول ما نزل من القرآن، لو كان الناس يعقلون. يقول الله تعالى آمرا نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو سيّد الأميّين: {ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِی خَلَقَ} [العلق: 1]، وليتنبه القارئ إلى أن القراءة المأمور بها، متعلّقة بالخلق؛ وليست قراءة الكتابة (الرسم) المرقومة على الرق والورق وغيرهما... ومن هذا الباب كان تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن عندنا، أعلى التفسير؛ لأنه من تأويل الله العليم الحكيم. أما ما يتوهمه الفقهاء فيما يسمونه تفسيرا للقرآن بالقرآن، فإنه ليس من العليم الحكيم كله، ما دام لعقل المـفسّر مدخل فيه؛ بل وقد يكون شطره من الشيطان اللعين!... وهذا شائع، إلا في حق من عُصِم!... ولسنا نعني بانقطاع النسبة إلى العليم في العلوم التي هي مغلوطة أو مكذوبة، إلا الجانب الشرعي؛ وأما من جهة الحقيقة، فإن العليم ممد للشيطان أيضا، وممد للجهلة من المتفقّهة... وهذا، لأن الله يقول -مثلا- في نهاية الآية من سورة الحديد المذكورة آنفا: {وَهُوَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمٌ}؛ فلا بد أن يكون العليم عليما بعلم الشياطين أجمعين!... ونعني من هذا، أن علم الإضلال علم مخصوص، يؤتيه الله المـُضلّين، كما يختص به كبار الورثة، لتتحقق لهم الهيمنة عليهم. ألم يُؤثر عن الفاروق عمر عليه السلام قوله: "لَسْتُ بِالْخِبِّ، وَلا الْخِبُّ يَخْدَعُني!". وقد غلط من عزا مقدرة الخليفة الثالث على كشف المخادعة، إلى العقل؛ لأن العقل عند الخليفة، يتلقّى عن الله، وليس كعقول عوام المؤمنين (ومنهم علماء الدين) المحجوبة!... وأما معنى التأويل الذي ينحجب به الناظرون إلى معنى اللفظ، عن المعنى الأول، والذي هو وقوع الأمر في عالم الحوادث؛ فليس بعيدا عما كنا نخوض فيه. وذلك لأن وقوع الأمر في العالم، لا يكون إلا وفق الصورة التي في العلم عنه. فهو داخل ضمن حقيقة التأويل، وإن لم يكن داخلا ضمن صورته. ومن هذا الباب، كنا نحن، نجعل الواقع حجة على العالِم في علمه؛ تقتضي أن يُعدِّل على ضوئه معلوماته. وقد بلغ بنا الأمر، أن جعلنا الواقع، من مصحّحات بعض الأحاديث النبوية؛ وهو أمر لا يُشار إليه بما يكفي في علم الحديث. وتجدر بنا هنا الإشارة إلى كلمة نفيسة قالها شيخنا الأكبر عليه السلام: "لا أَشْرَفَ مِنَ الْحِسِّ!"؛ أي بعد تحصيل العلم بالله في المراتب التي دون الحس. ومن الآيات الدالة على هذا المعنى في التأويل من القرآن، قول الله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَیۡهِ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ وَخَرُّوا۟ لَهُۥ سُجَّدًاۖ وَقَالَ یَـٰۤأَبَتِ هَـٰذَا تَأۡوِیلُ رُءۡیَـٰیَ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَعَلَهَا رَبِّی حَقًّاۖ} [يوسف: 100]؛ أي هذه رؤياي قد تحققت في الواقع. ورجوع الواقع المحسوس، إلى الاسم "الأول"، بعد اعتبار حضرة وُسطى (خيالية) تأتي بعد "الأول" وقبل "الآخر"، هو للدلالة على أن الأول هو الآخر، وإن اختلف الترتيب والاعتبار. وهو ما قاله الله تعالى عن نفسه في قوله: {هُوَ ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡـَٔاخِرُ وَٱلظَّـٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُۖ} [الحديد: 3]؛ أي من حيث الهوية لا فرق بين أول وآخر، ولا بين ظاهر وباطن. وهذه مسألة محيّرة لمن كان حبيس عقله؛ لا يعلمها إلا من وصل إلى حضرة الاسم الجامع. وأما أهل التحقُّق، فإنهم يعلمونها من أنفسهم من جهة هويتهم؛ وهذا أعلى ما يكون من العلم. فإذا كان العالم من هذه الطبقة، صار قرآنا على قدر ما جمع منه: إما كاملا وإما غير كامل. ولو تفطن الناس إلى أن القرآن قد يكون بينهم ينطق بلسانه، لَما فارقوه. ونعني الذين عرفوا قدره، وقدر ما يُمكن أن يُنال منه، وأُذن لهم في صحبته؛ لا كل من ابتغى ذلك بنفسه... وعلى جلاء هذه المعاني في القرآن ذاته، والسنة النبوية، فإن المرء يعجب كيف لا تكاد تُذكر بين المسلمين ولو من باب التعريف!... لكنّها العزّة -من غير شك- تمنع غير المأذونين من الاقتراب من حمى القرآن... وعلى ما ذكرنا، فإن التفسير المعتبر، هو التأويل ذاته؛ فمن كانت له قدم فيه فهو ذاك، ومن لا، فإنه يبقى على ظن، لا على يقين. وهذا يؤدّي بنا إلى نزع صفة الكمال عن التفاسير المعروفة للعموم، من دون أن نقول بعدم اعتبارها بالكلّيّة. وهذا يعني أن التفاسير، تحتاج إلى تمحيص، يقوم عليه علماء بالله، نرى أن الفقهاء، ما يزالون يُنكرون عليهم علمهم. ورغم أن علماء الحديث يُضعّفون حديث: «إِنَّ مِنَ الْعِلْمِ كَهَيْئةِ الْمَكْنونِ، لا يَعْرِفُهُ إِلَّا الْعُلَماءُ بِاللهِ؛ فَإِذا نَطَقُوا بِهِ، لَمْ يُنْكِرْهُ إِلَّا أَهْلُ الْغِرَّةِ بِاللهِ.»، إلا أنه من أصحّ الأحاديث من جهة المعنى. ولم نجد من تنطبق عليه صفة "أهل الغرة بالله"، كجمهور الفقهاء!... فليعتبر الناظر!... ويدخل في التفسير ما ينتج عن التدبّر، مما ينقدح في الأذهان من معان يأذن الله لعبده في نيلها. ولْنَعُد إلى القرآن العظيم، كي نفهم معنى عمليّة التدبّر من أصلها. يقول الله تعالى: {كِتَـٰبٌ أَنزَلۡنَـٰهُ إِلَیۡكَ مُبَـٰرَكٌ لِّیَدَّبَّرُوۤا۟ ءَایَـٰتِهِۦ وَلِیَتَذَكَّرَ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ} [ص: 29]، ويقول سبحانه: {أَفَلَا یَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَیۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُوا۟ فِیهِ ٱخۡتِلَـٰفًا كَثِیرًا} [النساء: 82]، ويقول سبحانه أيضا: {أَفَلَا یَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَاۤ} [محمد: 24]. وإن نحن عدنا إلى اللغة، فإننا سنجد لفظ التدبّر مشتقا من "الدبر"، الذي هو الخلف. فوجب علينا من هنا التفريق بين التأويل أو التأوّل، والتدبّر؛ لأن معنى التأويل من الأول، وهو معاكس للتدبّر في الاتجاه؛ ولا نعني أن التدبّر يكون من الاسم "الآخر"، لأن الآخر هو الأول؛ ولكن نعني أنه إما كلّيّا وإما جزئيا مشوب بشوائب عقل الناظر. ولا يتصوّر أحد أننا عند الحكم بقطع النسبة، أننا قد أخرجنا هذا الصنف من التفاسير، عن كونه معلوما لله؛ عياذا بالله. ونحن قد كررنا التأكيد على هذا المعنى، لعلمنا أن أهل الظلمة يخرجون من كلامنا، بما يوافق شركهم. فلا يُحمّلونا ما فهموه من كلامنا، لأنهم على غير طريقنا!... وإن نحن عدنا إلى الآية من سورة ص، فإننا سنجد التدبّر قسما مقابلا لقسم التذكر، الذي جعله الله من حظ أولي الألباب؛ والألباب جمع لبّ، وهو قلب الشيء. لكن القلب له ظاهر وله باطن، واللب هو باطن القلب، بخلاف عموم لفظ القلب، أو ما يكون في معناه من أسماء القلب. والتذكّر الذي تكون ثمرته الذكر، يكون من المتذكرين بأقل التفات؛ كشأن من أخبر الله عنهم بقوله: {إِنَّ ٱلَّذِینَ ٱتَّقَوۡا۟ إِذَا مَسَّهُمۡ طَـٰۤىِٕفٌ مِّنَ ٱلشَّیۡطَـٰنِ تَذَكَّرُوا۟ فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ} [الأعراف: 201]. فالذين اتقوا هنا، هم المتقون في أعلى مراتب التقوى الدينية، لا كل التقوى؛ إذ إن لكل مرتبة من المراتب تقوى تخصها؛ ولكل تقوى درجات بحسب كل متّقٍ. وتقوى الورثة، هي أعلى من التقوى الدينية، وإن كان الوارث وارثا لجميع المراتب بجميع المعاني. والطائف من الشيطان، هو أقل فعل من قِبله وألطفه، بغرض الإضلال. فيكون لفظ {تَذَكَّرُوا۟}، بمعنى عادوا إلى الحق من ذلك الطائف الشيطاني نفسه. ويكون معنى {فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ}، هو: فإذا هم مبصرون في فعل الشيطان فعل الحق، وفاهمون من طائف الشيطان مراد الله منهم، لا مراد الشيطان. وهذا الصنف من الناس، هم من يفرّ الشيطان منهم، لعلمه بالتجربة معهم، أنه يعود مذموما مدحورا مـُبلسا مـُفلسا. وإن نحن أردنا جمع أطراف المسألة، قلنا: إن التأويل يكون من الأول سبحانه، ويكون ابتداء من غير كبير توجّه، إلا ما يكون من حضور أثناء تلاوة القرآن. وهذا الصنف هو ما سأله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لابن عبّاس -والنبي أعلم الخلق بما يُسأل- حيث قال: «اَللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ.»[12] . وأما التدبّر فيكون لأهل القلوب عن توجّه، وعن تفكر. وتفكر أهل القلوب، ليس كتفكر أهل العقول من جهة الاصطلاح؛ لأن صاحب القلب غير فاقد للنور. والعقل يتضمن اسمُه معنى القيد، بخلاف القلب؛ فليُعتبر هذا. ومع مكانة أهل القلوب، إلا أنهم ينالون معاني القرآن بالتدبّر، لا من عند الله تأويلا. وهذا الفعل منهم، لا يخلو من تلبس بالنفس، بخلاف أهل التأويل الذي يكون المعنى عندهم خالصا من الشوائب. ويدلّ على المعنى الذي أثبتناه في التدبر، قول الله تعالى من سورة محمد: {أَفَلَا یَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَاۤ}. وهذا يعني أن القلوب عند تدبّرها، هي موكولة ولو في شطر مما تناله، إلى نفسها، وإلى مقدار تخلّص أصحابها من الأقفال. وهذا يعني أن تدبّر أصحاب القلوب يكون على قدرهم، بخلاف أهل التأويل الذين قد ينالون في الغالب من الله ما هو فوق طورهم. وأما الآية من سورة ص، التي ذكرناها آنفا، فإنها تدل على أن المتدبرين للقرآن، غايتهم أن يعلموا قرآنية القرآن (وحدته)، عند تخطّي الاختلاف الحاصل من المعاني المتقابلة والمتضادة. وهذا يظهر من أحدهم عند علمه بشطر من المعاني، إذا بقي منفتحا على ما يُخالفه من وجوه أخرى، من دون أن يجد حرجا في نفسه، أو يُضطر إلى التأوُّل الفاسد، الذي تركبه العقول الفاسدة أو القاصرة. وأغلب من يتوهّمون في أنفسهم إدراك معاني القرآن، هم في الحقيقة لا يُدركون -إن هم وافقوا الحق- إلا معاني الفرقان. وهذا هو الماسك لشرك الفقهاء من أهل التفسير خاصة؛ ولا عجب. فإن الله تعالى يقول: {یُضِلُّ بِهِۦ كَثِیرًا وَیَهۡدِی بِهِۦ كَثِیرًاۚ وَمَا یُضِلُّ بِهِۦۤ إِلَّا ٱلۡفَـٰسِقِینَ} [البقرة: 26]. نعوذ بوجه الله، من أن نضل بالقرآن عن القرآن!... [1] . موقع "موضوع" |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.