اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2024/10/04 الإنسان القرآن (مقدمة في تفسير القرآن الكريــم) .17 الباب الثاني: العلوم المتعلّقة بالقرآن الفصل الأول: علوم القرآن يتضمن القرآن الكريم أصول كل العلوم التي يتفرع عنها كل علم من العلوم المعلومة الآن أو التي ستُعلم في الآخرة. وعدد هذه الأصول، هو ثمان وتسعون ألفا وأربعمائة ألف علم، نرجعها إلى خمسة أقسام كبرى: 1. علم الذكر: وهو المخصوص بذكر مراتب الذات التي هي: الذات والصفات والأفعال. وهذه كلها تعود إلى الأسماء الإلهية الرئيسة والمرؤوسة المسماة بـ "الشجرة الإلهية". لذلك من الأسماء ما هو للذات، كـ "الله" و"الأحد" خاصة؛ ومنها ما هو للصفات كـ "العزيز" و"العظيم" و"الكبير"؛ ومنها ما هو للأفعال كـ "الخالق" و"الرازق" و"الحسيب" وغيرها... وبحسب الترتيب، فإن أسماء الأفعال أكثر عددا من أسماء الصفات التي هي أكثر عددا من أسماء الذات بلا شك. وهذا، لأن الأسماء واسعة القاعدة من الأسفل، وتنتهي في أعلاها إلى واحد هو "الله"؛ كل هذا من حيث العلم بالذات، لا الذات نفسها. وذلك لأن الذات ليس معها شيء غيرها بما في ذلك الأسماء والصفات. فإن كانت هذه العبارات غريبة عن القارئ، فليعلم أن الأسماء والصفات والأفعال، هي اعتبارات في الذات بعد حدوث التجلّي؛ لا قبله. والقبلية هنا قبلية مرتبة، لا قبلية زمان، كما تتوهم العقول القاصرة. ونحن نقول هذا، هنا، تعليما، لا ترفّعا؛ عياذا بالله... الأول: من وجه حقّه: وهذه الغفلة هي ما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم به غافلا عن حقيقته، مع وجود فطرته في أعلى مرتبة تكون فيها الفطرة. والثاني: هو تجلياته الخلقية التفصيلية، قبل أن يبلغ مولده الشريف على الأرض. ومن ضمن هذه التجليات التفصيلية، تجلي يوسف عليه السلام. فتزعّم الله بأن يُذكّره ما نسي من الجانبيْن، وجعل هذا الصنف الثاني من الذكر، بشارة لوقوع الصنف الأول. وهو ما سماه الله سبحانه في موضع آخر بـ "الفضل العظيم"، في قوله: {وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمۡ تَكُن تَعۡلَمُۚ وَكَانَ فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكَ عَظِیمًا} [النساء: 113]. وأما من يجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم -من المتصوفة- منزها عن كل سوء، من بداية عمره الشريف إلى نهايته، فليعلم أنه يُكذّب ربه؛ وكفى بذلك إثما ومخالفة!... يقول الله تعالى: {قُل لَّاۤ أَمۡلِكُ لِنَفۡسِی نَفۡعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاۤءَ ٱللّهُۚ وَلَوۡ كُنتُ أَعۡلَمُ ٱلۡغَیۡبَ لَٱسۡتَكۡثَرۡتُ مِنَ ٱلۡخَیۡرِ وَمَا مَسّنِیَ ٱلسّوۤءُۚ إِنۡ أَنَا۠ إِلَّا نَذِیرٌ وَبَشِیرٌ لّقَوۡمٍ یُؤۡمِنُونَ} [الأعراف: 188]... 2. علم النبوة: والنبوة هي مقام الوساطة بين الحق والخلق، وهي بالأصالة لنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما نذكّر دائما. وكل نبوة أخرى، فهي متفرعة عن هذه النبوة الأصلية الكبرى؛ أحبّ من أحب، وكره من كره. ومن هنا، كنا ندل على أن الاتّباع بالمعنى العام، يعني اتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لا غيره؛ لكن الناس اختلفوا في هذا الاتباع: فمنهم من اتبع محمدا صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة، وهؤلاء هم أمته الخاصة المحمدية، وأنبياء الأمم السابقة عليهم السلام. ومنهم من اتبعه عليه وآله الصلاة والسلام اتباعا بواسطة، وهؤلاء هم الأمم السابقة على الأمة المحمدية كلها، والذين كانوا يأخذون عن أنبيائهم داخل أزمنتهم التشريعية. وإن مصطلح "الزمن التشريعي"، هو مما انفردنا به عن كل من سبقنا، بحسب مبلغ علمنا؛ تسهيلا على الناس لفهم ما يتعلّق بالنبوات. وهو علم ضروري، لإدراك منطق النبوة، واستبانة مراتبها. وإن النبي النائب في المرتبة الوِساطية، هو كالوارث في أزمنة أمتنا (ما بين وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقيام الساعة)؛ لهذا، فإن النبيّ الوسيط، والوارث من هذه الأمة، يأتيان ثانيَيْن بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكل هذا، بسبب اتصاف نبينا في مستوى حقيقته، بالصفات الإلهية، ومنها الأولية. فهو صلى الله عليه وآله وسلم "الأول" في النبوة، كما هو الله "الأول" بالاعتبار العام الوجودي. ومن أجل هذا، فإن الأنبياء عليهم السلام، ينطبق عليهم الاسم "الثاني"، الذي هو من أسماء الحقيقة المحمدية من جهة ظاهرها. ومن كان يعقل عنا ما أسلفناه في هذا الكتاب، فإنه سيعلم أنه لا يجوز لأحد اتباع نبي من الأنبياء، في الزمن التشريعي المحمدي الخاص، بما كان عليه الاتباع في زمن ذلك النبي المخصوص؛ ومن يفعل ذلك يكفر تلقائيا كفرا أكبر. كما لا يجوز لمن يزعم اتباع إمام أو وارث محمدي رباني، لشخصه، ومن دون اعتقاد أن ذلك المتبوع تابع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولو أن أهل الكتاب اهتدوا، لآمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، في إيمانهم بنبيهم المخصوص ذاته. ولو أنهم هُدوا إلى هذا الطريق، لعرفوا القرآن من كتبهم، ولعادوا إلى نسخته المحمدية العليا، ولكانوا على أجريْن من جهة الإيمان. وقد ذكر الله هذا الصنف من الكتابيّين في قوله تعالى: {ٱلَّذِینَ ءَاتَیۡنَـٰهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ مِن قَبۡلِهِۦ هُم بِهِۦ یُؤۡمِنُونَ . وَإِذَا یُتۡلَىٰ عَلَیۡهِمۡ قَالُوۤا۟ ءَامَنَّا بِهِۦۤ إِنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّنَاۤ إِنَّا كُنَّا مِن قَبۡلِهِۦ مُسۡلِمِینَ . أُو۟لَـٰۤىِٕكَ یُؤۡتَوۡنَ أَجۡرَهُم مَّرَّتَیۡنِ بِمَا صَبَرُوا۟ وَیَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّیِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ} [القصص: 52-54]. وعلى هذا، فإن الكتاب يُقصد منه القرآن أصلا وفرعا (القرآن المعلوم، والكتب السابقة)، والمقصود من {وَإِذَا یُتۡلَىٰ عَلَیۡهِمۡ}: إذا سمعوا تلاوته، أو نظروا إليه مجسدا في الشخص النبوي صلى الله عليه وآله وسلم. ومعنى: {قَالُوۤا۟ ءَامَنَّا بِهِۦۤ إِنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّنَاۤ إِنَّا كُنَّا مِن قَبۡلِهِۦ مُسۡلِمِینَ}: أي كنا نعرفه في تجلّ فرعي، قبل هذا التجلّي الأصلي. ومعرفة الأصل تأتي ثانية بعد معرفة الفرع لهذا الصنف من الناس، بخلاف المحمديّين الذين تأتي معرفة الأصل أُولى في حقهم، ثم يعرفون (من تحققوا بمعرفة الكتاب لا كل المنتسبين) الكتب الأخرى في المرتبة الثانية. وهذا الترتيب يجعلهم مطابقين في علمهم للمنطق الوجودي الذي نشأ عليه العالم. وقد دلّ على صنف ذوي الأجريْن أيضا، النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، في رسالته إلى هرقل، في قوله: « أَسلِمْ تَسلَمْ؛ يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ. (...)» [1]. ومعنى المرتيْن، ليس هو المضاعفة في قدر الأجر، كما قد يفهم سجين اللغة؛ وإنما هو ازدواج صنف الأجر، بحسب ازدواج صنفي الإيمان. ونعني أن هذا الصنف من الكتابيّين، لهم إيمانان؛ باعتبار أنهم آمنوا بالفرع أولا، ثم بالأصل ثانيا. وأما المحمديون فصنف إيمانهم مجمل ومفصل، لكونهم آمنوا بالأصل صلى الله عليه وآله وسلم أولا، سواء بقي مـُجملا كإيمان أهل مرتبة الإسلام، أو دخل دائرة التفصيل بالنظر إلى الخواص. وهذا الإيمان الأخير، وإن بقي مـُجملا، فهو متعدد الأجور، اعتبارا للتفصيل من جهة العلم. ونعني أن من آمن بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم من العامة، فله من الأجر مجموع ما يناله من يُشاركونه في المرتبة، من كل الأمم، ويزيد عليهم. وهذا وجه أساس، من وجوه أفضلية هذه الأمة على غيرها من الأمم. يقول الله تعالى: {كُنتُمۡ خَیۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَـٰبِ لَكَانَ خَیۡرًا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَـٰسِقُونَ} [آل عمران: 110]؛ ومعنى {كُنتُمۡ خَیۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ}: كنتم خير أمة، تعدّى فضلها نفسها إلى غيرها من الأمم. {تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ}: أي تأمرون من حيث العموم، بمعرفة المعروف الذي هو الله من جهة الجمع، أو أي اسم آخر من جهة التفصيل؛ وتُنكرون المـُنكر، الذي هو نسبة ما لله لغيره سبحانه؛ في كل مرتبة بحسبها. {وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ}: وهو ما كنا بصدد الكلام عنه، من الإيمان الأكبر العام. وينصح الله أهل الكتاب (من وقت البعثة المحمدية إلى قيام الساعة)، قائلا: {وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَـٰبِ}: أي بك يا محمد؛ إيمانا أكبر وأعمّ؛ {لَكَانَ خَیۡرًا لَّهُمۚ}: أي من إيمان مؤمنيهم برسلهم المخصوصين، في أزمنتهم التشريعية. {مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ}: أي منهم المؤمنون بك، سابقا، من خلف إيمانهم برسلهم؛ ولا مناص لهم من ذلك. {وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَـٰسِقُونَ}: وهم المخطئون للطريق: وهم من كفروا بالرسل السابقين في أزمنتهم، ومن كفروا برسالتك في زمانك الخاتم. والأكثرية العددية قد وردت على الكتابيّين الفاسقين، من الجمع بين شطرَي الكافرين سابقا والآن. وهذا المعنى الذي نذكره هنا، هو من تنزيل هذه الآية في هذا الزمان؛ وما يتم التنزيل عليه من صور ومظاهر مشهودة، هو من أسباب نزول القرآن المعاصرة. وسيأتي بيان هذا المعنى في "سبب النزول"، في فصل لاحق، بإذن الله تعالى... الأول: هو البراهين على النبوة: وهي كثيرة، نذكر منها: - قول الله تعالى: {قُل لَّىِٕنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰۤ أَن یَأۡتُوا۟ بِمِثۡلِ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا یَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٍ ظَهِیرًا} [الإسراء: 88]، وهو يدل على أن النبوة اختصاص من عند الله، وليست أمرا مشتركا بين الناس. ورغم أن هذا الأصل كان معلوما بالضرورة للأقدمين، فإن زمن الدجّاليّين الذي نعيشه، قد عاد بكثير من الناس إلى أن يلتبس عليهم الوحي، فيقولوا -من عماهم وصممهم- إنه نتاج بشري تاريخي (ابن ظروفه). تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا!... - وقوله تعالى: {كَذَ ٰلِكَ نَقُصُّ عَلَیۡكَ مِنۡ أَنۢبَاۤءِ مَا قَدۡ سَبَقَۚ وَقَدۡ ءَاتَیۡنَـٰكَ مِن لَّدُنَّا ذِكۡرًا} [طه: 99]، وتفاصيل أحوال ما قد سبق من العالم ومن الناس، لا يعلمها على وجه الإحاطة إلا الله. ومن صدّق الله في هذا الإخبار، فإنه يُحاكم أقوال المؤرخين، وأقوال الأنثروبولوجيّين والفيزيائيّين وغيرهم ممن ينسبون أنفسهم إلى العلم، إلى القرآن؛ لا العكس، كما يفعل الكافرون من أبناء المسلمين خاصة، عندما يرفعون "العلم" بالمعنى الوضعي المتأخر، إلى مرتبة ليست له!... - ويدخل ضمن علم براهين النبوة أيضا، قوله تعالى: {قُل لَّوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوۡتُهُۥ عَلَیۡكُمۡ وَلَاۤ أَدۡرَىٰكُم بِهِۦۖ فَقَدۡ لَبِثۡتُ فِیكُمۡ عُمُرًا مِّن قَبۡلِهِۦۤۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} [يونس: 16]. وهذا برهان عقلي منطقي. ونعني منه أنه صنف من صنوف البراهين، لا كلها. الثاني: إبراز مراتب النبوة: وهذا حتى لا تؤخذ على أنها معنى عام مشترك يتساوى فيه كل الأنبياء عليهم السلام: - يقول الله تعالى: {ٱللَّهُ یَصۡطَفِی مِنَ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ رُسُلًا وَمِنَ ٱلنَّاسِۚ} [الحج: 75]. والمعنى هو أن الملائكة على مراتب، وأن الأنبياء على مراتب؛ وهذا لأن الاصطفاء يكون لمجموعة، وينتهي إلى فرد، ضمن طبقة مشترِكة في صفة واحدة تعمّ؛ والطبقتان هنا: طبقة الملائكة، وطبقة الأنبياء، على الجميع السلام. - ويقول سبحانه أيضا: {إِنَّاۤ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ كَمَاۤ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِیِّـۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ وَأَوۡحَیۡنَاۤ إِلَىٰۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ وَإِسۡمَـٰعِیلَ وَإِسۡحَـٰقَ وَیَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَعِیسَىٰ وَأَیُّوبَ وَیُونُسَ وَهَـٰرُونَ وَسُلَیۡمَـٰنَۚ وَءَاتَیۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورًا} [النساء: 163]. وقد يقول من لا يعي مواقع الخطاب، بأن هذه الآية لا تدل على أفضلية لأحد من الأنبياء، بل هي تذكر تتابعهم في الزمان، وكأن الأمر هو بين سابق ولاحق فحسب؛ فنقول: مما يدل على أفضلية نبوة محمد وعمومها لجميع النبوات: مخاطبته من قِبل الله في صدر الآية بكاف الخطاب، وهذا تخصيص ما بعده تخصيص؛ خصوصا إن علمنا أن هذا الخطاب ورد في القرآن الذي هو آخر كتاب منزل. وأما ذكر الأنبياء عليهم السلام على التتابع بعد الخطاب لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم، فهو لإعلامه بأن سائر النبوات تفاصيل في نبوته؛ من غير أن يرى -حاشاه- شفوفا عليهم، لأن ربه رباه وعلّمه أن العبد كلما زاده الله رفعة، أحب منه أن يراه متواضعا. ولقد كان نبينا صلى الله عليه وآله وسلم الآية الكبرى في التواضع، حمدا لله وشكرا. وقد علَّمَنا صلى الله عليه وآله وسلم هذه الخصلة ذوقا، ففرحنا بتشبهنا به على قدرنا، ورجونا أن يكون ذلك وسيلة لنا إليه عليه الصلاة والسلام. وقد يكون في المسألة أسرار أخرى لا نرى أن هذا المحل يحتملها... - ثم يقول الله تعالى: {فَٱصۡبِرۡ كَمَا صَبَرَ أُو۟لُوا۟ ٱلۡعَزۡمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلَا تَسۡتَعۡجِل لَّهُمۡۚ} [الأحقاف: 35]، فعلمنا أن الرسالة اختصاص في النبوة، وعلمنا أن هذه النبوة تنتهي إلى أولي العزم فيها، والذين هم المذكورون في قول الله تعالى: {وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِنَ ٱلنَّبِیِّـۧنَ مِیثَـٰقَهُمۡ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبۡرَ ٰهِیمَ وَمُوسَىٰ وَعِیسَى ٱبۡنِ مَرۡیَمَۖ وَأَخَذۡنَا مِنۡهُم مِّیثَـٰقًا غَلِیظًا} [الأحزاب: 7]، ومرة أخرى ينتهي الأمر في الرسالة إلى واحد، هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما يدل على ذلك تخصيصه بالذكر قبل الجماعة. 3. علم التكليف: ا. علم مناط التكليف: وعلم التكليف رديف العبودية، فمن كان عبدا لله، فلا مناص له من إظهار الخضوع له بطاعة أمره واجتناب نهيه. وكل عبد استهان بالشريعة، فإنه يكون عبدا آبقا، يستحق من ربه العقوبة والعذاب. وهذا يخالف ما يصدر عن أهل زماننا، من آراء شيطانية، قد يزعمون معها أن الله غني عن عبادتنا؛ وهو أمر صحيح لو أُطيع الأمر؛ وأما من دون طاعة، فإن ذلك يعود معاندة لله، وردّا لأمره سبحانه. وهؤلاء، لا يمكن أن يكونوا إلا من شياطين الجن والإنس. ب. علم اختلاف الشرائع: وهو علم قليل الذيوع، بسبب الغفلة المستشرية. ومن لم يتبيّن علة اختلاف الشرائع، فإنه لن يعلم قيمة الشريعة الخاتمة، ولا لمَ هي خاتمة. وبما أن الله واحد، فإن بعض العقول تتوقف عند اختلاف الشرائع، ظنا منها أن الوحي التشريعي لا ينبغي أن يتعدد؛ حتى إن بعض الكافرين الذين يزعمون نوع عقلانية لأنفسهم، يجدون في الأمر مستندا لكفرهم بحسب زعمهم. والأفدح من هذا، هو أن فقهاء المسلمين، لم يعتنوا بهذا الجانب بالقدر الذي ينبغي؛ وهو ما يتوهم ضعفاء العقول معه، أنه عائد إلى ضعف الدين في نفسه، لا إلى ضعف التفقه لدى من يُسمَّون فقهاء. والحقيقة التي كان ينبغي أن تُجلّى للناس، هي أن اختلاف الشرائع عائد إلى اختلاف الرسل وتعددهم، عليهم السلام؛ وأن اختلاف الرسل مرتبط باختلاف الأقوام؛ وأن اختلاف الأقوام له صلة باختلاف الأزمنة. ولو أن من نظروا إلى وحدانية الله، بخصوص اختلاف الشرائع، اعتبروا تعدد الأزمنة، بحيث يجدون من الفروق بينها، ما يصير حاكما عليها بالتعدد؛ ونظروا إلى اختلاف الأقوام، بحيث يخلف قوم أقواما آخرين في البلد الواحد؛ ونظروا إلى أن لكل قوم رسولا يبلغهم أحكام الله؛ لعلموا بالضرورة أن الشرائع المبلَّغة لا بد أن تتعدد، بما أنه يمتنع أن يكون القوم الذين يخلفون من سبقهم نسخا مطابقة لهم، كما يمتنع الزمان أن يكون ما قبله أو ما بعده. وهذا كله يعود في الحقيقة -وفي الحضرة العلمية- إلى الأعيان الشخصية. وحتى لا نوسع دائرة النظر، فإننا سنقصر الكلام على المكلفين من بني آدم وحدهم. فمثلا، فلان من الناس (الذين أعدادهم بالملايير اليوم)، ينفرد عن غيره في كل الأمور، بحيث لا يمكن أن نجده مرتيْن في الزمان الواحد أو في الأزمنة كلها. وهذا التفرد الشخصي، هو من آثار اسم الله "الواسع"... ولما كان كل هؤلاء الأشخاص متفرّدين، فإن الاسم "الحكيم"، الذي هو من أتباع الاسم "العليم"، قد قضى بأن يتوزع عددهم الكبير على النطاق الجغرافي ذاته، في أزمنة مختلفة؛ وهذا هو ما سميناه تأسيا بالقرآن، تعاقب الأقوام في المكان. يقول الله تعالى: {كَذَ ٰلِكَ أَرۡسَلۡنَـٰكَ فِیۤ أُمَّةٍ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهَاۤ أُمَمٌ لِّتَتۡلُوَا۟ عَلَیۡهِمُ ٱلَّذِیۤ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ} [الرعد: 30]. والتعاقب يقتضي -حتى لا يجتمع أقوام متعددون في بلد واحد- أن يكون لكل قوم زمنهم الذي يخصّهم؛ فهذا هو الأصل في المسألة. ولما كان الله يريد أن يجمع في معنى التكليف كل الناس، فقد اقتضى الأمر أن يوحي إلى رسول يصطفيه من بين كل قوم، ليبلغهم الشريعة تبليغا مخصوصا بهم، وبلسانهم؛ لكي تتحقق الغاية من التكليف العام. وفي مسألة التكليف جوانب تتعلّق بمحاسبة كل قوم محاسبة تخصّهم، وإن كان معنى المحاسبة يعمّ. وكيف أنه لا بد أن يكون لكل محاسبة معايير يضيق عنها الكلام هنا؛ وإن كنّا قد أشرنا إليها سابقا في معرض تناولنا لقول الله تعالى: {فَكَیۡفَ إِذَا جِئۡنَا مِن كُلِّ أُمَّةِۭ بِشَهِیدٍ وَجِئۡنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰۤؤُلَاۤءِ شَهِیدًا} [النساء: 41]... ج. الإمامة في النبوة والرسالة: يقول الله تعالى: {وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ لِیُبَیِّنَ لَهُمۡۖ} [إبراهيم: 4]؛ ويقول سبحانه: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِینَ وَمُنذِرِینَ لِئَلَّا یَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِیزًا حَكِیمًا} [النساء: 165]؛ وهذه الآية من أعظم تنزلات الربوبية، حيث جعل الله نفسه خصما بالنظر إلى محاسبة عباده، وأقر لهم بأنه من حقهم عليه أن يُبيّن لهم الأحكام بواسطة الرسل، لئلا يكون لأحد منهم حجة عليه فيقول: ما كان لنا علم بحلال ولا حرام من قبل!... وهذا أيضا من أثر الاسم "الحكيم"؛ وإلا فإن الله له أن يفعل ما يشاء كما يشاء سبحانه. فلو افترضنا أن الله أدخل بعض عباده النار، من دون أن يرسل رسولا، لكان له ذلك سبحانه، وكانت له الحجة على عباده؛ ولكنّه شاء سبحانه أن يتنزّل لعباده. وهذا، لأن أفعال الله تستند بالدرجة الأولى إلى المشيئة، والمشيئة لا تُعلّل. ومن مشيئته سبحانه ألا يُبقي للمجرمين حجة، أرسل الرسل مبلّغين قبل أخذه لهم. يقول سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]؛ أي من باب الحكمة كما ذكرنا، والتي هي تابعة للمشيئة... الأول: أن تنزيه الربوبية، ينبغي أن يكون بتنزيه الله لنفسه. ونحن على يقين من أن الفقهاء لا يعلمون معنى هذا الكلام. وندلهم عليه من القرآن في قوله تعالى (الذي لا يفهمونه): {سُبۡحَـٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا یَصِفُونَ} [الصافات: 180]؛ أي عما يصف الواصفون بأنفسهم، وإن كانوا منطلقين بحسب زعمهم كالفقهاء، من القرآن. والثاني: هو أن تعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا يزداد به المـُعظِّم إلا توحيدا، للدلالة الذاتية التي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على ربه. وهذا مقام مخصوص به عليه وآله الصلاة والسلام، وللورثة من أمته نصيب منه على قدرهم؛ وهذا يُعلم من الذوق، أكثر مما يُعلم بالعلم المجرّد الذي لا يكاد يعرف الفقهاء غيره... 4. علم الإلهيات وعلم الطبيعيات: ونعني من هذا، جميع أصناف المخلوقات، من سماء، وأرض، وأرواح مجرّدة، وأرواح مدبِّرة، وأجسام. وكل هذا يدخل، مع أصناف العلوم الأصلية والفرعية، في قول الله تعالى: {وَمَا مِن دَاۤبَّةٍ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا طَـٰۤىِٕرٍ یَطِیرُ بِجَنَاحَیۡهِ إِلَّاۤ أُمَمٌ أَمۡثَالُكُمۚ مَّا فَرَّطۡنَا فِی ٱلۡكِتَـٰبِ مِن شَیۡءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ یُحۡشَرُونَ} [الأنعام: 38]. وكلمة "شيء"، هي أعم النكرات، كما هو معلوم؛ فاقتضت أن ينضوي تحتها كل معلوم وكل مخلوق... ا. علم الإجمال في الإلهيات: وهذا يتضمّن العلم بالمعلومات وبالمخلوقات من جهة الإجمال. ومنه العلم بالذات الإلهية (والعلم هنا إيمان)، من دون بحث في الماهية؛ ومنه أيضا العلم بصفة الحياة الإلهية، من دون نظر إلى صنوف الأحياء؛ والعلم بصفة العلم الإلهي جملة، من دون نظر إلى المعلومات؛ ثم العلم بصفة الإرادة الإلهية، من دون نظر إلى المـُرادات؛ والعلم بصفة القدرة الإلهية، من دون نظر إلى المقدورات؛ والعلم بصفة الكلام الإلهي، من دون نظر إلى الكلمات؛ والعلم بصفة السمع الإلهي، من دون نظر إلى المسموعات؛ والعلم بصفة البصر الإلهي، من دون نظر إلى المـُبصَرات. ب. علم التفصيل في الإلهيات: وهو يتعلق بعلم الأسماء الإلهية المنقسمة إلى ثلاثة أقسام: أسماء الذات، وأسماء الصفات، وأسماء الأفعال. كما تنقسم أفعال الله إلى عدة أقسام... ج. علم إجمال المخلوقين وتفصيلهم: وينقسم إلى العلم بالأجناس، والعلم بالأنواع، والعلم بالأشخاص. - جنس الملائكة: وهم أصناف كثيرة، منهم من يُحصرون في العدد، ومنهم من لا يُحصر؛ ولهم أعمال يمتاز بها بعض عن البعض الآخر؛ وهم وسطاء الله في الخلق والتدبير. {إِنَّ فِی خَلۡقِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَـٰفِ ٱلَّیۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلۡفُلۡكِ ٱلَّتِی تَجۡرِی فِی ٱلۡبَحۡرِ بِمَا یَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مِن مَّاۤءٍ فَأَحۡیَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَبَثَّ فِیهَا مِن كُلِّ دَاۤبَّةٍ وَتَصۡرِیفِ ٱلرِّیَـٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلۡمُسَخَّرِ بَیۡنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِ لَـَٔایَـٰتٍ لِّقَوۡمٍ یَعۡقِلُونَ} [البقرة: 164]؛ فكل ما ذُكر في هذه الآية وفي غيرها، من خلق وتدبير، هو من عمل الملائكة. وقد شاء الله لهذا الجنس من المخلوقين ألا يكونوا ذكورا ولا إناثا. وهذا يعني أن خلقهم، لا يكون عن تناسل منهم، وإنما عن كلمة "كُنْ" وحدها؛ وهذا تمييز لهم عن سائر المخلوقين، وتشريف. والملائكة ينقسمون إلى ملائكة مسخَّرة، كالأصناف المذكورة آنفا؛ وغير مسخَّرة. ونعني من غير المسخّرين، من خُلقوا لعبادة الله وتسبيحه حصرا!... - جنس المعدن: ويوجد منه الذهب والفضة والنحاس والحديد، وغيرها... يقول الله تعالى: {وَمِن كُلِّ شَیۡءٍ خَلَقۡنَا زَوۡجَیۡنِ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49]. والمعدن شيء، فلا بد من ذكورة فيه وأنوثة؛ وليست في هذا المستوى، إلا الفاعلية والانفعالية. وبما أن كلمة شيء تعمّ، فوجب هنا أن نذكّر بالذكورة والأنوثة في العلم، وهو ما ينتج عن مقدّمتين كبرى وصغرى. ولم يستثن سبحانه من هذا الصنف من الانقسام (الذكورة والأنوثة) إلا جنس الملائكة وحده، كما ذكرنا آنفا. فإن قيل لم وقع الاستثناء في الملائكة مع أنهم من الأشياء، قلنا: أولا، لأن الله شاء؛ وما شاءه الله يكون. وثانيا، أي من مرتبة أدنى، لأنهم وسطاء بين الله والأشياء المزوَّجة. فاقتضت المخالفة منهم لما يكون عن فعلهم، أن يكونوا غير مزوَّجين عليهم السلام... - جنس النبات: ويوجد منه الشجر والنجم (النبات الذي لا ساق له)؛ وما يدخل ضمنه كالطحالب وغيرها. فمن الشجر يوجد النخل والبرتقال والتين والزيتون والرمان، وغيرها... ومن النجم: القرع والبطّيخ وغيرهما... وينقسم النبات إلى ذكر وأنثى، وجامع بين الذكورة والأنوثة. يقول الله تعالى: {وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَ ٰتِ جَعَلَ فِیهَا زَوۡجَیۡنِ ٱثۡنَیۡنِۖ} [الرعد: 3]. - جنس الحيوان: ومنه الزواحف كالثعابين، والحشرات كالذباب والبعوض، ومفصليات الأرجل كالعناكب والقشريات، والطيور كالصقور والعصافير، والأسماك، والحيوانات البرمائية كالسلاحف، وغيرها... وهذه كلها تعود إلى جنس الحيوانات البيوضة. والجنس الآخر هو الثدييات، ومنها الكلاب والقطط والفيلة والأسود والقردة وغيرها... وهذه كلها (البيوضة والثدييات)، تنقسم إلى ذكر وأنثى... - جنس الجن: وهم المخلوقات النارية ذات الأرواح المدبرة. فهم يخالفون الملائكة من جهة النارية في مقابل النورية، ومن جهة كون أبدانهم لها أرواح مدبِّرة، بخلاف الملائكة الذين هم أرواح مجرّدة. وهم أيضا ينقسمون إلى أقوام مختلفة، على أشكال وألوان متعدّدة، من ذكور وإناث. ويعيشون في أماكن مختلفة، ما بين طبقات الهواء العليا من الغلاف الجوي، إلى مختلف الأماكن من البرّ والبحر. وهم مع الإنس وحدهم صنف المكلّفين، من بين جميع المخلوقين؛ وهذا التكليف، له صلة بحقائقهم. ومن شاء أن يقع على مناط هذا التكليف من الجانبيْن، فلينظر من القرآن ما يتعلق بخلافة آدم، وما يتعلّق بإباية إبليس للسجود له. وكل الأجناس الأخرى من المخلوقين، فهم مجبولون على طاعة الله والسجود له. ويجدر بنا هنا أن نذكر أن الإنس والجن، قبل بلوغ سن التكليف من الجهة الشرعية، فإنهم يكونون معدودين من الأجناس الأخرى حكما. فما أبدع الله في خلقه لمخلوقاته {بَدِیعُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَإِذَا قَضَىٰۤ أَمۡرًا فَإِنَّمَا یَقُولُ لَهُۥ كُن فَیَكُونُ} [البقرة: 117]... - جنس الإنسان: وهم الأقوام المعلومة المتمايزة بالأشكال والألوان؛ ومنهم الرجل والمرأة. يقول الله تعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُوا۟ رَبَّكُمُ ٱلَّذِی خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٍ وَ ٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالًا كَثِیرًا وَنِسَاۤءً} [النساء: 1]. والنفس هي مجموع الروح والبدن، لا الواحد منهما. فهي أيضا مولّدة بين ذكر وأنثى. وأما تفصيل الأجناس والأنواع، فهم الأفراد بالمعنى اللغوي؛ ونعني هو من الملائكة -مثلا- شخص بعينه كميكائيل عليه السلام؛ ومن المعدن -مثلا- قطعة ذهب بعينها، ومن الحيوان -مثلا- واحد بعينه كأسد مخصوص في مكان وزمان مخصوصيْن؛ ومن الجن -مثلا- واحد بعينه كإبليس؛ ومن الناس -مثلا- شخص بعينه كبلقيس ملكة اليمن. فهذا هو آخر انقسام وآخر تفصيل. وهنا نكمل الجواب عن السؤال السابق لذلك الشخص المـفترَض، فنقول: فكما شمل الكتاب (القرآن) ذكر الأجناس والأنواع، وشمل ذكر بعض الأشخاص من كل جنس ونوع، فإنه قد شمل ذكر كل شخص من كل نوع من كل جنس؛ لكن من وجه لا يُدرك من اللسان العام، وإنما يُدرك من وجوه خاصة من علوم القرآن، يدخل ضمنها علم الجمّل الذي هو شعبة من شعب علم الحروف. وهكذا، يكون كتاب الله شاملا لذكر الشخص بعينه؛ لأن الذكر ذكران: ذكر بالخلق، وذكر بالذكر (الكلام). فالذكر بالخلق، ثابت لكل مخلوق؛ وهو هنا ثابت لكل إنسان بشخصه، مهما كان نكرة بين أضرابه من الناس. ومِن ذكر المخلوقين بهذا الصنف من الذكر، الذي جاء فيه من جهة إجماله وظاهره، قول الله تعالى: {هَلۡ أَتَىٰ عَلَى ٱلۡإِنسَـٰنِ حِینٌ مِّنَ ٱلدَّهۡرِ لَمۡ یَكُن شَیۡـًٔا مَّذۡكُورًا} [الإنسان: 1]؛ فذكره (الجنس) الله بعد أن لم يكن، في كلامه العليّ، ونبّه إلى ذلك الذكر بعد الإنزال بقوله سبحانه: {لَقَدۡ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكُمۡ كِتَـٰبًا فِیهِ ذِكۡرُكُمۡۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} [الأنبياء: 10]. وكلمة "ذكركم" في الآية، هي بالمعنى الإجمالي والمعنى التفصيلي معا. فسبحان الله العظيم، وبحمده!... ولقد بلغنا عن أحد الصوفية رضي الله عنهم (وهو صادق في قوله) أنه قال: "لو سمع العبد صرير الأقلام وهي تجري بذكره في الصحف العلوية، لمات طربا!". وهنا ينبغي لكل واحد بعينه، أن يعلم أن الله قد اعتنى به عناية خاصة في علمه، وأراده فخلقه بقدرته، ودبّر شؤونه من عالم الذر إلى ما لا نهاية له من عالم الآخرة، وسخر له ملائكة تفعل فيه وبه وله بأمر ربها. ومن تنبّه إلى ما ذكرنا، كيف لا يكون عبدا شكورا بتوفيق الله؟!... د. تدبير الأرواح للأجسام: وما نريد أن نبرزه هنا، هو أنه ما من جسم إلا له روح مدبّر، ابتداء من العرش وانتهاء إلى الأجسام الصغيرة (المجهرية أو ما فوق المجهرية). والروح للجسم هو باطنه، والجسم للروح هو ظاهره؛ وهذا باعتبار الحقيقة الواحدة الجامعة بينهما التي هي النفس عند الجن والإنس خاصة. وهذا يتطلب مناسبة خاصة، بين كل روح وجسمه؛ كما هو الظاهر عين الباطن من حيث الهوية. يقول الله تعالى: {هُوَ ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡـَٔاخِرُ وَٱلظَّـٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُۖ} [الحديد: 3]؛ هذا مع تمام المقابلة التي بين هذه الأسماء من جهة معناها. ولسنا نعني هنا بالأرواح، إلا ما كان عن نفخ مخصوص، عند بلوغ تسوية الأجسام غايتها. وقد بيّن الله النفخ المخصوص بالإنسان في القرآن، ليدل به على ما هو أكبر منه جرما، وليس إلا العالم. وقد نسب الله الروح المنفوخ في الإنسان إليه سبحانه، لظهور هذا الإنسان بالصورة الإلهية على الكمال وحده. وهذه الصورة من جهة ظاهرها وباطنها هي روح العالم. ومن هذه الجمعية الإنسانية، احتوى الإنسان وحده على جميع حقائق العالم التفصيلية؛ بحيث لم يكن للجن هنا مشاركة له. ونعني من كلامنا عن المضاهاة الثابتة بين الإنسان والعالم، أن الروح المحمدي هو روح العالم؛ وأن الروح الإنساني الشخصي، هو روح الأبدان؛ وهو من الروح المحمدي كالأشعة من الشمس. ومن هذا الباب يكون الدليل على الأرواح المدبرة للكواكب، التي هي باصطلاح الفلاسفة العقول السماوية. فهذه الأرواح وإن كانت تُنسب بالواسطة إلى الله، لكنها تبقى جزئية، لعدم كمال الصورة في السماوات. وهذا يُحيل أيضا إلى الأرواح (الملائكة) المدبرة للأرض، التي تبقى أيضا جزئية. وأما الإنسان -من حيث الأصالة- فله الروح الإلهي العام، لشرفه وكمال صورته. 5. علم الآخرة: وهو كل ما يتعلق بالموت وما بعده من مواطن الآخرة؛ وهذا كمن يريد أن يسافر إلى بلد آخر، ويتهيّأ لذلك السفر بالاطلاع على خصوصيات ذلك البلد، وبجمع المعلومات عن مدنه وسكانه؛ حتى يكون عارفا بما يُحيط به إن هو نزل به. ويجدر بنا هنا أن نذكر أن الأمة المحمدية، هي أعلم الأمم بالآخرة؛ وذلك بسبب اكتمال الدين لديها، على يد نبينا صلى الله عليه وآله وسلم. يقول الله تعالى: {ٱلۡیَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِینَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَیۡكُمۡ نِعۡمَتِی وَرَضِیتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَـٰمَ دِینًاۚ} [المائدة: 3]، ومن كمال الدين وتمام النعمة، الإخبار بالآخرة. وإن نحن عدنا إلى اليهود والنصارى، فإننا سنجدهم من أجهل الناس بها؛ ومَن جهل تفاصيل الآخرة، نقص من تديّنه بقدر ذلك، وإن كان داخل الزمن التشريعي (أي زمن موسى عليه السلام)؛ أمّا وهم خارج زمنهم التشريعي، فإن ذلك الجهل بالآخرة، سيكون مناسبا لخروجهم عن الصراط المستقيم. وقد أهمل الفقهاء من المسلمين، هذا الباب من العلم بالآخرة، ولم يعتبروه ضمن أبواب الفقه بحسبهم. ونعني من هذا، أن ما يتعلّق بالآخرة، كان ينبغي أن يدرّس ضمن الدروس الفقهية؛ لا أن يُترك ذلك للاهتمام الشخصي، وكأنه من الزوائد العلمية والمكمّلات... ومواطن الآخرة منها ما هو فردي ومنها ما هو مشترك؛ وقد يتداخل الفردي والعام بحسب كل موطن: ا. الموت: وهو مما يذوقه الشخص في نفسه. يقول الله تعالى: {كُلُّ نَفۡسٍ ذَاۤىِٕقَةُ ٱلۡمَوۡتِۖ ثُمَّ إِلَیۡنَا تُرۡجَعُونَ} [العنكبوت: 57]. فهذا الموت فردي، ويتبعه ما يتعلّق بأحوال القبر من حيث هو قبر. وقد جرت سنة الله، بأن يُدفن الناس في قبورهم فرادى في الظروف العادية. وأما ما يقع من استثناء في زمن الحروب وزمن الوباء، فذلك لا يُقاس عليه... ب. البرزخ: وقد سُمّي برزخا لوجوده بين الدنيا والآخرة. يقول الله تعالى: {وَمِن وَرَاۤىِٕهِم بَرۡزَخٌ إِلَىٰ یَوۡمِ یُبۡعَثُونَ} [المؤمنون: 100]. وهذا مـُعْلمٌ بأن نهاية البرزخ تكون مع النفخة الثانية التي يُبعث الناس عليها. يقول الله تعالى: {وَنُفِخَ فِی ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَن فِی ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَاۤءَ ٱللَّهُۖ ثُمَّ نُفِخَ فِیهِ أُخۡرَىٰ فَإِذَا هُمۡ قِیَامٌ یَنظُرُونَ} [الزمر: 68]. والآية مـُصرِّحة بأن النفخة الأولى، تكون للإفناء الذي تكلمنا عنه سابقا؛ والنفخة الثانية تكون للبعث بعد الموت. ووصْفُ البعث بأنه قيام ونظر، هو إعلام باجتماع الأرواح (النفوس) بأجسادها مرة ثانية؛ لكن بعد إنشاء الأجساد نشأة تناسب الآخرة ودوامها. يقول الله تعالى: {قُلۡ سِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُوا۟ كَیۡفَ بَدَأَ ٱلۡخَلۡقَۚ ثُمَّ ٱللَّهُ یُنشِئُ ٱلنَّشۡأَةَ ٱلۡـَٔاخِرَةَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءٍ قَدِیرٌ} [العنكبوت: 20]. وقد تعلّمنا من أئمتنا، أن أمر الآخرة بعكس أمر الدنيا: ونعني أن الدنيا كانت الأرواح فيها باطنة لا يُرى إلا أثرها، بخلاف الأجسام التي كانت فيها محسوسة؛ وأما في الآخرة، فإن الظهور بالصورة يكون للنفوس، والبطون يكون للأجسام. ومن عجز عن إدراك هذا الذي نقوله بخياله، فليعلم أنه كليل. ومن شاء أن يستعين على تصور ما ذكرنا، فليعد إلى حقيقة الجن (ومنهم الملائكة)، عند تشكّلهم بالصور، فإنه سيجده قريبا منه... ج. النشر: النشر أو النشور، هو انتقال المخلوقين يوم البعث، من الأجداث (القبور)، إلى محل الحشر. يقول الله تعالى: {وَٱللَّهُ ٱلَّذِیۤ أَرۡسَلَ ٱلرِّیَـٰحَ فَتُثِیرُ سَحَابًا فَسُقۡنَـٰهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّیِّتٍ فَأَحۡیَیۡنَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۚ كَذَ ٰلِكَ ٱلنُّشُورُ} [فاطر: 9]. والمناسبة بين سَوق الرياح الممطرة من بلد إلى بلد، والنشور، هو الحركة المنتهية إلى غاية. وغاية النشور: الحشر. ويقول الله أيضا: {یَوۡمَ یَخۡرُجُونَ مِنَ ٱلۡأَجۡدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمۡ إِلَىٰ نُصُبٍ یُوفِضُونَ} [المعارج: 43]. والمعنى أن الخارجين من أماكن تربتهم، يخرجون مسرعين، كأنهم يقصدون إلى علامة منصوبة يعرفونها. د. الحشر: ومعنى "حَشَرَ"، هو الجمع في صعيد واحد. وهذا الجمع يعمّ كل المخلوقات، ولا يخص بني آدم والجن وحدهم، كما قد يُظنّ. يقول الله تعالى: {وَمَا مِن دَاۤبَّةٍ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا طَـٰۤىِٕرٍ یَطِیرُ بِجَنَاحَیۡهِ إِلَّاۤ أُمَمٌ أَمۡثَالُكُمۚ مَّا فَرَّطۡنَا فِی ٱلۡكِتَـٰبِ مِن شَیۡءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ یُحۡشَرُونَ} [الأنعام: 38]، ويقول سبحانه: {وَأَنذِرۡ بِهِ ٱلَّذِینَ یَخَافُونَ أَن یُحۡشَرُوۤا۟ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ لَیۡسَ لَهُم مِّن دُونِهِۦ وَلِیٌّ وَلَا شَفِیعٌ لَّعَلَّهُمۡ یَتَّقُونَ} [الأنعام: 51]. وجاء عن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنها سألته: " أَفْتِنا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ! فَقالَ: «أَرْضُ الْمَحْشَرِ، وَالْمَنْشَرِ؛ وَائْتوهُ فَصَلُّوا فِيهِ، فَإِنَّ صَلاةً فِيهِ كَأَلْفِ صَلاةٍ فِي غَيْرِهِ.» [3]. وهذا يعني أن الناس يُحشرون بعد البعث، إلى الأرض المباركة في بيت المقدس وحوله. وهذا، بعد أن تكون الأرض قد تبدلت هي والسماوات. يقول الله تعالى: {یَوۡمَ تُبَدَّلُ ٱلۡأَرۡضُ غَیۡرَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱلسَّمَـٰوَ ٰتُۖ وَبَرَزُوا۟ لِلَّهِ ٱلۡوَ ٰحِدِ ٱلۡقَهَّارِ} [إبراهيم: 48]؛ أي بعد تبديل السماوات والأرض، وإعادة نشأتها نشأة أخروية، يبرز الناس لرب العالمين في أرض المحشر. ه. القيام: ومنه جاءت تسمية يوم القيامة، لأن الخلائق المجتمعة على أرض المحشر يقومون هناك منتظرين. وهذا الوقوف، هو ما جاء ذكره في حديث الشفاعة الشريف: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِلَحْمٍ فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ، وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ، فَنَهَشَ مِنْهَا نَهْشَةً، ثُمَّ قَالَ: أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ! وَهَلْ تَدْرُونَ مِمَّ ذَلِكَ؟ يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ البَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ، فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الغَمِّ وَالكَرْبِ مَا لاَ يُطِيقُونَ وَلاَ يَحْتَمِلُونَ، فَيَقُولُ النَّاسُ: أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ، أَلاَ تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: عَلَيْكُمْ بِآدَمَ، فَيَأْتُونَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَيَقُولُونَ لَهُ: أَنْتَ أَبُو البَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلاَئِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ؛ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ آدَمُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ( [4]). نَفْسِي، نَفْسِي، نَفْسِي! اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ (وهو أقرب إليه زمانا)! فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ، إِنَّكَ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ، وَقَدْ سَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا؛ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ؛ وَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُهَا عَلَى قَوْمِي( [5]). نَفْسِي، نَفْسِي، نَفْسِي! اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ (وهو أقرب إليه زمانا)! فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ، اِشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ؛ وَإِنِّي قَدْ كُنْتُ كَذَبْتُ ثَلاَثَ كَذِبَاتٍ ( [6]). نَفْسِي، نَفْسِي، نَفْسِي! اِذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي. اِذْهَبُوا إِلَى مُوسَى! فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَى، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَضَّلَكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلاَمِهِ عَلَى النَّاسِ؛ اِشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ؛ وَإِنِّي قَدْ قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا ( [7]). نَفْسِي، نَفْسِي، نَفْسِي! اِذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي. اِذْهَبُوا إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ! فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ؛ وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا؛ اِشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ عِيسَى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَنْبًا( [8]). نَفْسِي، نَفْسِي، نَفْسِي! اِذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي؛ اِذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ. فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ! أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، وَخَاتِمُ الأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؛ اِشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ! أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا، لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي؛ ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهْ؛ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ! فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَقُولُ: أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ! فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لاَ حِسَابَ عَلَيْهِمْ مِنَ البَابِ الأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَبْوَابِ. ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ، كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَحِمْيَرَ (أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى)!» [9]. ويقول الله تعالى عن قيام الناس له: {یَوۡمَ یَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ} [المطففين: 6]. ومعنى القيام: انتظار الحساب... و. الحساب: والحساب يبدأ من إذن الله للملائكة بالنظر في صحائف الناس، وعرضها عليه. يقول الله تعالى: {هَلۡ یَنظُرُونَ إِلَّاۤ أَن یَأۡتِیَهُمُ ٱللَّهُ فِی ظُلَلٍ مِّنَ ٱلۡغَمَامِ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ وَقُضِیَ ٱلۡأَمۡرُۚ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ} [البقرة: 210]. ويقول سبحانه: {وَإِذَا ٱلصُّحُفُ نُشِرَتۡ} [التكوير: 10]؛ والصحف، هي سجلات الأعمال، التي كان يكتب فيها الملكان الموكلان بالأعمال الحسنات والسيئات. ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يَتَعاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهارِ وَيَجْتَمِعونَ فِي صَلاةِ الْعَصْرِ وَصَلاةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ باتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبادِي؟ فَيَقُولُونَ تَرَكْناهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْناهُمْ وَهُمْ يُصَلّونَ.» [10]. ومن أراد أن يُدرك مسألة الحساب، فلينظر إلى أحوال الناس في الدنيا، من جهة ما يتعلّق بأعمالهم وأفعالهم: فالإدارات لا تستغني عن سجلاّت، والسجلّات لا بد لها من مراقبين ومفتّشين ينظرون فيها، ليُجازى المـُحسن المـُتقن رفعة في الدرجات وزيادة في الأجر، ويُجازى المتهاون أو المسيء بعكس ذلك، إن لم يُطرد. لذلك دائما كنا نقول لمن يُجالسنا، من أراد أن يعرف الآخرة، فلينظر في الدنيا بعين الاعتبار؛ وهذا، لأن الدنيا والآخرة معا تتأسّسان على الحقائق ذاتها، وتدبّرهما الأسماء عينها. والله فوق الجميع في الدنيا والآخرة، وحده، فإليه المرجع والمصير. يقول سبحانه: {وَهُوَ ٱلَّذِی فِی ٱلسَّمَاۤءِ إِلَـٰهٌ وَفِی ٱلۡأَرۡضِ إِلَـٰهٌ وَهُوَ ٱلۡحَكِیمُ ٱلۡعَلِیمُ} [الزخرف: 84]؛ ويدخل ضمن معنى الآية: وهو الذي في الدنيا إله وفي الآخرة إله!... فما أجلى الحقيقة، وما أغفل الناس عنها!... ز. القرار: يقول الله تعالى على لسان الذي آمن من قوم فرعون: {یَـٰقَوۡمِ إِنَّمَا هَـٰذِهِ ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَا مَتَـٰعٌ وَإِنَّ ٱلۡـَٔاخِرَةَ هِیَ دَارُ ٱلۡقَرَارِ} [غافر: 39]. ومعنى القرار، هو نهاية السفر وسكنى الدار. ومن هنا قيل: "الدنيا دار من لا دار له!". ونحن عندما نجد من يكون مبلغ همّه الدنيا، نتعجّب منه: كيف يكون على تلك الحال، وكل شيء يشهد على الدنيا بالفناء في الوقت والحال، فيما يعود إلى أهل الله؛ وفي الاستقبال بالنظر إلى عموم المؤمنين. [1]. متفق عليه، عن أبي سفيان بن حرب. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.