اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2024/08/30 الإنسان القرآن (مقدمة في تفسير القرآن الكريــم) .16. الباب الأول: القرآن وحقائقه الفصل الخامس عشر: النسخ القرآنية الوراثية: بعد أن أبرزنا مكانة النسخة القرآنية الإنسانية الأصلية، والتي هي منوطة بالدهر من جهة، وبالزمن التشريعي المحمدي الخاص، الممتد من زمن البعثة الشريفة، وإلى قيام الساعة، من جهة أخرى؛ لا بأس من التعريف بالنسخ القرآنية المنوطة بكل زمان على حدة، من أجل رفع كثير من الالتباس، لدى علماء الدين قبل مقلِّديهم. ولنعتبر هنا ثلاث مـُدد رئيسة من الزمان، حتى نصل بإذن الله تعالى، إلى الغاية المرادة: 1. القرآن ما قبل البعثة المحمدية: وقد أنكر الله على اليهود، أمرهم للناس بالبر انطلاقا من التوراة، وهم منسلخون من فهم معنى قرآنيتها. وقد أوقعهم هذا الفعل منهم -كما يوقع غيرهم من أهل الكتب الأخرى- في التناقض؛ لأنه كان ينبغي عليهم العمل بتعاليم التوراة في أنفسهم، قبل دلالة غيرهم. وهذا الإنكار الإلهي هنا مبني على المنطق العقلي، الذي يشترط انسجام الأحكام العقلية أصولا وفروعا، لدى كل ناظر معتبر. واليهود -بمخالفتهم لأصل التوراة- هم شاهدون على أنفسهم، بمصادمتهم للأصول العقلية، عند تحللهم من الأصول الشرعية ذاتها. وعلى هذا، فإن من كان متبعا للتوراة أو للإنجيل، فإنه بمجرد أن يسمع الدعوة المحمدية يعقلها، ويعلم مكانتها، من جهة باطنه قبل ظاهره؛ وهذا، لأن القرآن ليس غريبا عما ألفوه من معاني الكتاب، إن لم تكن محرّفة. يقول الله عن هذه الطائفة المهتدية من أهل الكتاب: {وَإِذَا سَمِعُوا۟ مَاۤ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىٰۤ أَعۡیُنَهُمۡ تَفِیضُ مِنَ ٱلدَّمۡعِ مِمَّا عَرَفُوا۟ مِنَ ٱلۡحَقِّۖ یَقُولُونَ رَبَّنَاۤ ءَامَنَّا فَٱكۡتُبۡنَا مَعَ ٱلشَّـٰهِدِینَ} [المائدة: 83]. وما يعرف الحق إلا من كان عليه!... وهكذا، فإن البشر كانوا على معرفة بالقرآن من قبل أن يُبعث نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، لكن من وجوه خاصة وجزئية، كانت مقدمة لنزول القرآن المحمدي. وليتنبه الناس إلى أصل في الوحي، وهو أن السابق منه يدل على اللاحق؛ وإلا كيف سيعرف المتأخرون لاحقه، وهم لم يعلموا سابقه من الوجه القرآني الخاص، الذي ندل عليه هنا؟!... ونعني من هذا، أن للأمور منطقا يحكمها؛ هو ما سيجعل الحجة تقوم على منكري القرآن من أهل الكتب السابقة، إن هم أعرضوا. ألم يسمع الناس قول الله تعالى عن اليهود: {ٱلَّذِینَ ءَاتَیۡنَـٰهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ یَعۡرِفُونَهُۥ كَمَا یَعۡرِفُونَ أَبۡنَاۤءَهُمۡۖ وَإِنَّ فَرِیقًا مِّنۡهُمۡ لَیَكۡتُمُونَ ٱلۡحَقَّ وَهُمۡ یَعۡلَمُونَ} [البقرة: 146]؛ وإلى قوله سبحانه أيضا: {ٱلَّذِینَ ءَاتَیۡنَـٰهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ یَعۡرِفُونَهُۥ كَمَا یَعۡرِفُونَ أَبۡنَاۤءَهُمُۘ ٱلَّذِینَ خَسِرُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ فَهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ} [الأنعام: 20]. فكيف سيعرفونه كما يعرفون أبناءهم، إن لم يكن مستقرّا لديهم من الكتب السابقة؟!... والإتيان بلفظ الأبناء هنا، هو للدلالة على المعرفة البدهيّة، التي لا يُنكرها إلا جاحد يكتم الحق، أو خاسر لنفسه بتضييعه أصول معارفها. ولو أمكن للناس أن يجهلوا أبناءهم الذين هم من أصلابهم، لأمكن لأهل الكتاب أن يجهلوا القرآن؛ ولكنها العزة وسابق القضاء... وهكذا، فإن الناس بقوا في انتظار القرآن، من دون أن يعلموا؛ ولكن دلالة حالهم عليه، كانت كدلالة العطش على الماء، ودلالة الجوع على الطعام. وقد كان كثير من أهل الكتاب يترقبون مبعث نبي آخر الزمان، لحاجتهم إليه عند عدم اكتفائهم بما سبق؛ خصوصا بعد انتهاء الأزمنة التشريعية [1] الخالية. 2. القرآن المحمدي: ا. القول بأن كلام الله لا يتغير، وأن الكتاب الأول كاف لهداية الناس. ونحن نقول: فإن عُمل بهذا مع التوراة في مقابل الإنجيل، بطل الإنجيل؛ وإن عمل به مع الكتب السابقة على التوراة، في مقابلها، بطلت التوراة. وهكذا، فإنه لن يبقى كتاب على وجه الأرض يُجتمَع عليه عندئذ. وهذا لا يقول به عاقل!... وأما من جهة أخرى، فإن الله المتكلّم، له أن يتكلم بما يشاء في كل زمان؛ وهذا يُشبه تغيّر أحوال الناس مع الأزمان، مع أنه لا يُشَك في أنهم الناس؛ بل هو نفسه إن اعتبرنا الناس كلمات لله!... فإن قيل، لو صح هذا، لاستمر مع جميع الأزمنة؛ وهذا يقتضي أن تنزل بعد القرآن عدة كتب، تغطّي ما بينه من الزمان وبين الساعة!... رددنا بأن هذا القول ضعيف، لاستناده إلى العقلانية وحدها؛ والعقلانية لا أثر لها في الحقائق. ونحن هنا نعني أن الله يفعل ما يشاء، بحسب علمه هو سبحانه في الأشياء، لا بحسب ما يعلم الناس؛ وقد علم سبحانه، أن الكتب المنزلة، لا بد أن تنتهي إلى كتاب جامع مطابق. فإذا نزل هذا الكتاب الذي هو القرآن، امتنع أن ينزل بعده كتاب. ويبقى الناس في زمانه، مع اختلاف تنزيلاته في الأزمنة التفصيلية فحسب؛ وهو ما نفهمه نحن من تعدّد القراءات. ومن لم يعتبر هذا الأصل في المسألة، فليعلم أنه أعمى البصيرة، لا ينفع معه كلام!... والغريب، ليس هو جهل أهل الكتاب بهذه المعاني؛ ولكن جهل فقهاء المسلمين، حتى صاروا ملازمين لصورة قرآنية واحدة (على قصور)؛ وهو ما جعلهم يتخلّفون عن إدراك حقيقة أزمنتهم. وهذه الآفة، هي سبب عدم ارتياح المسلمين عموما، في تديّنهم!... بل، نحن لا نشك أن شطرا منهم تراوده الشكوك، فيقول: لو كان القرآن هو الكتاب الحق الخاتم، فلِمَ نشعر بعدم الانسجام بين فهمنا له، وواقع الزمان الذي نحن فيه؟!... مع كونهما معا (القرآن وواقع الزمان) يُفترض أن يكونا من الله الواحد؟!... وهذا السؤال جدير بالاعتبار، لكن مع الوعي بالخلل في فهم القرآن، لا من دونه؛ حتى لا ينتهي السائل إلى الكفر، وهو لا يدري!... ب. الشبهة الثانية، هي أن نزول القرآن باللسان العربي، دليل على أنه كتاب يخصّ العرب دون غيرهم؛ وهذا، لأن غير العربي لن يفهمه بمجرد السماع؛ فيبقى القرآن لديه، من هذه الحيثية، مساويا لكل الكتب الأخرى. وإذا بقي مساويا لها في القيمة، فإنه لن يُلغيها (ينسخها)، لأنها ستكون حينئذ مساوقة له. وهكذا، ستبقى التوراة معتبرة، ويبقى الإنجيل معتبرا عند بني إسرائيل على الأقل؛ وسيسقط بالتبع لذلك، الادعاء بأن القرآن هو الكتاب بمعنى المطابقة على التمام والكمال. فنقول: - إن هذا الاعتراض، هو الآخر، يستند إلى العقلانية القاصرة؛ والعقل -على كل حال- يُلزم صاحبه، ولا يُلزم مخالفه، إلا بشروط معلومة لأصحاب علم الجدل والمناظرة؛ وهذا، لسبب جلي لا يتمكن أحد من إنكاره، وهو تفاوت العقول في الإدراك. فلو كانت العقول غير متفاوتة الإدراك، لجاز أن نُلزم السامع بما يقول المتكلّم من الناس؛ والحال من الواقع، بخلاف ذلك على التمام. فبقي أن نجد سندا للعقل من خارج دائرته، وليس إلا الوحي!... - وبإعادتنا للعقل إلى تحكيم الوحي، لا نعيد المسألة دائرية بحيث تسقط جدوى الوحي عند تعدّده؛ ولكن نعود بالعقل إلى آخر وحي مـُنزَل. فإن أُنكر هذا الوحي من قِبل بعض أهل الكتب السابقة، قلنا لهم إن الآخر ناسخ للأول حتما؛ وإلا سقطنا من هذه المسألة في القول بالعبث، وهو مخالف لأصل الوحي المـُنزل بالحق؛ فبقي اعتبار القرآن غالبا، من دون أن ندخل في تفصيل اللغة. وأما إن اعتذر أحد بأنه ليس عربيا، ولا يفهم اللسان العربي؛ فإننا نجيب: لقد تكلمنا سابقا، عن مستوى في القرآن، يُجاوز كل مستويات اللغات المعروفة، إلى مستوى الأحرف صوتا ورسما. وهذا المستوى الروحي من اللسان، لا يمكن لأحد معه، أن يقول إن القرآن لا يعنيه، ما دام ليس بلغته المعتادة؛ لكون روحه على علم به، وإن لم يتنبّه هو لذلك، لعلة من العلل. ولو شاء الله أن تكون الأمور على ما تتصوره الأوهام، لأنزل كتابه بعدة ألسن من البداية، وهو القادر على ذلك من غير شك. فظهر أن القرآن الذي أُنزل بلسان عربي، يُخاطب جميع الناس، من مستوى الأحرف، قبل مستوى الكلمات والجمل. ودليلنا على هذا من الواقع، هو أن كثيرا من العجم ينفعلون للقرآن إذا هم سمعوه، من دون أن يُدركوا معنى واحدا للألفاظ. فمن أين جاء ذلك الانفعال، إن لم يكن القرآن يخاطب كل الناس بلسان يعلمونه بجبلتهم، سماه الله لسانا عربيّا!... وهنا ينبغي أن نُفرّق بين معنَيَيْ: العروبة والإعراب... نعم، لن يتمكن السامع العجمي، من معرفة الأحكام التفصيلية من القرآن، إلا بتعلمه للغة العربية، أو بسؤاله لأحد علماء الأحكام. وهذا لا ينقض ما سبق؛ لأن المستوى السابق، هو مما تعلمه الأرواح عن خالقها؛ وهذا المستوى الثاني، هو مما يتعلق بمعاملة الأرواح لربها بعد أن كُلّفت بتدبير الأجسام؛ وهو مستوى أنزل من الأول من غير شك. وإن شئنا أن نقول: إن المستوى الأول متعلّق بالإيمان، والثاني متعلق بالأعمال الصالحة الناشئة عنه، لصح لنا ذلك؛ وبين المستوييْن فرقان، بسبب انبناء الثاني على الأول؛ ولكون الأول له الحكم على الثاني، حيث كانا... ج. توهم أن القرآن، وإن كان قد نزل على الرسول العربي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه يخص ذلك الزمان والأزمنة القريبة منه؛ وقد يستبعد كثيرون أن يكون القرآن مخاطبا لهم إلى قيام الساعة. والعلوق بالزمان معنى وحكما، هو من دأب العقول القاصرة على الدوام؛ ومن يظن أنه قد وقع على الحجة الصلبة في إثبات كفره، فإنه يكون مبعِدا غاية الإبعاد. فإن كان يُضيف إلى ذلك ما هم عليه الناس في غالبيتهم، من كفر وغفلة، ليحكم بأنه لو كان لخطاب القرآن وزن في هذا الزمان، لظهر في تأثرهم به وانفعالهم له؛ أي لظهر موافقة لأحكامه، لا مخالفة كما هو الشأن من غالب أحوال الناس!... فنرد عليه: إن أحوال أهل الزمان، منوطة بالقضاء والقدر؛ وليست منوطة بالوحي، إلا من حيث هو شريعة حاكمة عليهم. هذا مع القول بأن القضاء والقدر، من صميم وجوه القرآن؛ لكننا نجيب الناس بحسب ما يسألون، لا بحسب العلم كما هو في إطلاقه. ونخلص من كل هذا، إلى أن خطاب القرآن للناس، ما يزال هو هو، من دون أدنى زيادة أو نقصان؛ وإن أحوال الناس التي تبدو في مقابله من معصية كبرى وصغرى، لا دخل لها في كونه وحيا معتبرا في زمان النزول أو في الأزمنة التي بعده. فإن قصروا عن إدراك ما نقول، فالعيب في السامع لا في الكلام!... وإن من أسرار الله الحاكمة على العباد، إغفالهم لقصورهم في أنفسهم؛ وكأن كل واحد منهم يرى نفسه في أكمل صورة إنسانية، ليقضي الله أمرا كان مفعولا. ومن كان منصفا، فإنه سيرى القصور على اختلاف صنوفه، هو الغالب على الناس؛ لا العكس. وعلى كل حال، فهذه المسألة طويلة الذيول، ونحن نبغي الاختصار... 3. النسخ الوراثية للقرآن: وأما الشيخ الأكبر الذي هو ختم الأمة جمعاء، فحكمه مخالف لما ذكرنا من حكم الأختام الذين تحته في المنزلة؛ وهو ليس من أهل البيت، من جهة النسب الدموي؛ وقد ذكر -عليه السلام- الحكمة من ذلك، وهي الانفراد عن غيره من الأختام، بالنسب الإلهي من النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فلا يخلط امرؤ بين ما ذكرناه في التبليغ الخاص للقرآن، وبين ما انفرد به شيخنا الأكبر؛ لأن المكانة المتفرّدة التي لا مُشاركة فيها، لا قياس عليها. وقد ذكرنا هذه القاعدة فيما قبل، عن ختمية النبوة التي لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وأسسنا لقاعدة عدم جواز القياس عليها؛ وها نحن نكرّر القاعدة هنا من وجه ختمية الولاية الخاصة، ونؤكد على عدم جواز مجاوزتها من جهة العمل، عند إثبات الأحكام العلمية. وهي قاعدة نفيسة، نرجو أن ينتفع بها علماء الإسلام في جميع علومهم... وإن الرجل لا يُعدّ نسخة قرآنية، حتى تنتهي إليه علوم القرآن في زمانه، ويكون مرجعا في ذلك الزمان لأهل الظاهر وأهل الباطن، وتكون آيات القرآن من ذاته البشرية سارية فيها كسريان الدم. ومن كانت هذه صفته، فإنه يكون مظهرا علميا لكل ما يجري في العوالم؛ أي تلاوة خاصة في كل زمن فرد. فمن رزقه الله النظر فيمن كان على هذه الصفة، فإنه يدخل في معنى الصحبة الخاصة المحمدية، وإن لم يكن من الصحابة بالاصطلاح؛ إن كان له العلم اللازم، والنية المطلوبة. ولو كان أحد ينتفع من أحد بمجرد نظر العين الترابية، لانتفع أبو جهل وأمثاله من النظر إلى سيد المخلوقين صلى الله عليه وآله وسلم. ونحن نقول هذا، نبذا لمقولات الجهلة من المتصوفة؛ فقد كنا نسمع مرارا من شيخنا حمزة عليه السلام (والعبارة في أصلها بالعامية المغربية): فاز من رآنا، وفاز من سمع عنّا!... فكان الجهلة من الأتباع يأخذونها على ظاهرها، من غير تمحيص؛ بل إن شطرا منهم قد ضلّ بها عن الحق المبين. وكل ما ذكرنا من معان، هو مشروط بعموم معنى القرآن للتلاوات المتعاقبة، لأن القرآن -كما هو ظاهر من كلامنا- مستغرق للزمان؛ ومن كان قرآني التوجّه في أي زمان، فهو ممن ينتسب بفضل الله إلى الحضرة المحمدية المنيفة، بنسبته إلى الوجه المـُواجِه. يقول الله تعالى: {وَلِلَّهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُۚ فَأَیۡنَمَا تُوَلُّوا۟ فَثَمَّ وَجۡهُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ وَ ٰسِعٌ عَلِیمٌ} [البقرة: 115]. وهذا يعني أن كل مواجِهٍ للوجه في الزمان الوراثي، هو مواجه للوارث المحمدي، ظاهرا لظاهر، وباطنا لباطن؛ علم أم لم يعلم. وإن من يظنّ أن إثبات هذه المكانة، متوقّف على إقراره، كما يتوهّم عموم الفقهاء؛ فإنه يكون شاهدا على نفسه بالجهل فحسب. وأما مكانة الورثة المحمديّين، فهي ثابتة بإثبات الله ورسوله. وقد شاء الله لهذه النسخ القرآنية الآدمية، ألا يُصدّق بوجودها إلا خواص الأمة، وألا يحظى بصحبتها إلا خواص الخواص من كل زمان. وقد جهل أهل الظاهر من علماء الدين هذه النسخ الآدمية، لجهلهم بحقيقة الكتاب المحمدي نفسه؛ فصاروا في هذه الأمة، كأهل الكتاب في الأمم السابقة. ولسنا نعني إلا انحجاب أهل الكتاب بكتبهم زعما، عن القرآن الذي هو أصلها. وهذا، من عجيب أسرار الله في الكون؛ والأمر فيه كما قال البوصيري رضي الله عنه: ولو أن أهل الظاهر، تفطنوا إلى ما هو ثابت لديهم من حقائق القرآن التي لا يشكّون فيها، لظفروا بما نتكلم عنه. فأهل القراءات القرآنية، المتوارثة عندهم بالسند المتصل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عليهم أن يعلموا أن القراءات، ليست أمرا زائدا على مـُسمّى القرآن، من جهة توابعه الحُكميّة؛ وإن كانت غيره باعتبار تفرد الرواية الخاصة عن غيرها من الروايات، وباعتبار اختلاف كل تلاوة من كل تال، عن سواها من التلاوات؛ والقرآن في كل ذلك، هو القرآن، لا يتغيّر ولا يتبدّل. فكذلك الأختام من الورثة، ليسوا من حيث الحقيقة أمرا غير الحقيقة المحمدية؛ وهم غيرها باعتبار ما من الاعتبارات. ولولا ثبوت المغايرة منهم عليهم السلام، للحقيقة المحمدية من وجه ما، ما ثبتت لهم مرتبتهم في أزمنتهم، ولا ظهر القرآن بالاسم الظاهر من كل المظاهر. وأصل هذه الحقيقة القرآنية من الذات، كثرة التجليات الذاتية، من غير تكثّر في معنى الذاتية. لهذا، فإن من فهم عن الله في كلامه، فإنه يكون من أهل العلم بالله؛ ومن حُجب بوجه من وجوه القرآن عن الوجوه الأخرى، فإنه يكون محجوبا عن القرآن نفسه، بقدر ذلك. ولا يُعدّ في الاصطلاح الشرعي من أهل القرآن الذين ورد ذكرهم في حديث: «إِنَّ لِلَّهِ أَهْلينَ مِنَ النَّاسِ! قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قالَ: هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخاصَّتُهُ.» [4]، إلا من كان نسخة آدمية محمدية في زمانه؛ ولا يكون عالما بالله كاملا، إلا من كان على هذه الصفة. ولو تفطن العلماء إلى أسرار الحديث النبوي الشريف، لعلموا أن وصف أهل القرآن بصفة أهل "الله"، هو للدلالة على ذاتيتهم؛ ليكونوا -عليهم السلام- في نظر الناظر إليهم، مسمّى القرآن واسمه. ولسنا نعني هنا بالاسم إلا الصفة، لا الاسم على إطلاقه. فظهر أن هذه المرتبة العليا لخواص الورثة النبويّين، هي المرتبة النبوية بالأصالة، لا غيرها. ولولا أن الله قد عبّر في كلامه عن المعاني المخصوصة، بألفاظ تدل عليها من جهة حقيقتها، لقلنا كما قال غيرنا جهلا، بالتعدّد في المـُسمّى من حيث هو الحامل الذاتي. ومن وقع في هذا القول الشنيع، فقد جهل قرآنية القرآن، وإن كان ممن يحفظ لفظه، ويُتقن قراءته. ونحن ندل بهذا الكلام، على الحق، من كانوا من أهل القرآن في الظاهر، قبل غيرهم؛ أي من حُجب به عنه. ولسنا نرجو منهم أن يُصبحوا نسخا قرآنية بالمعنى الذي بيّنّا؛ ولكن ندعوهم إلى الإيمان بهذه المرتبة، وذلك أقصى ما يُحصّلون بفضل الله. فليتنبه الناظر في كلامنا، إلى علوّ مرتبة القرآن!... وعندما دل الله عبده الذاتي بكلامه الذاتي، على الاستزادة من العلم، بقوله تعالى: {وَقُل رَّبِّ زِدۡنِی عِلۡمًا} [طه: 114]؛ فما دله إلا على نفسه من حيث هو تلاوات وقراءات. فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، يزداد في كل زمن فرد علما بمحمد أبد الآباد. وهذا يدل من أحد الوجوه، على أن الإحاطة العلمية بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم محال؛ لتضمُّن العلم بمحمد للعلم بالله ضرورة. فالحمد لله الذي اختص هذه الأمة الشريفة بالنّسب المحمدي الخاص، والشكر له على أن جعل التجلي المحمدي غير منقطع عنها دنيا وآخرة. ولو علم (صدّق) المسلمون ما ندلّهم عليه، لصارت كل أيامهم عيدا؛ ولكن الله يلطف بعباده، إبقاء على رسومهم ومناطات ظهورهم، حكمة من لدنه ونعمة. ومن حقّق ما نقول، ما وجد في مواجهته حيث كان، إلا الرحمة الشاملة والفضل الأعم. يقول الله تعالى مخاطبا عبده الأخص: {وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكَ وَرَحۡمَتُهُۥ لَهَمَّت طَّاۤىِٕفَةٌ مِّنۡهُمۡ أَن یُضِلُّوكَ وَمَا یُضِلُّونَ إِلَّاۤ أَنفُسَهُمۡۖ وَمَا یَضُرُّونَكَ مِن شَیۡءٍ وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمۡ تَكُن تَعۡلَمُۚ وَكَانَ فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكَ عَظِیمًا} [النساء: 113]. وكفى بالقرآن على القرآن دليلا!... ومن أراد أن يتبيّن القرآن من جهة الزمان، فعليه أن يعلم أنه دهري، مستغرق لكل الأزمنة، كما قد أوضحنا، وكما هو متّسق مع النسق الذي قد بيّنّا. فإذا ميّز هذه المرتبة، فله أن ينظر إلى كل الأزمنة التفصيلية، السابقة على البعثة المحمدية أو اللاحقة، بوصفها فروعا عنه وعائدة بالأصالة إليه؛ إلا الزمان المحمدي الخاص، الذي عاصره الصحابة المرضيّون، فإنه دهريّ مقيّد، كما يليق بشخص محمد صلى الله عليه وآله وسلم، من حيث هو ذروة التجلّي التفصيلي. وبهذا الفصل نكون قد انتهينا من الباب الأول من هذا الكتاب، الذي أردناه مختصرا ومكثّفا، حتى يخرج منه الناس بما ينفعهم، مما هو من أصول علوم القرآن؛ وسندخل مع الباب الثاني بإذن الله تعالى، في تناول المسائل الخلافية في العلوم القرآنية، طلبا للعودة بصورها إلى ما تؤسَّس عليه من مفردات، ورغبة إلى الله في جمع فِرق الأمة المختلفة، على قرآنية فرقانها، بعد شتات... [1] . الزمن التشريعي لكل رسول، يمتد من وقت مبعثه إلى وقت مبعث الرسول الذي بعده. وقد أغفل الفقهاء هذا المعنى، على جلائه وعلى أهميته في فهم الشريعة. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.