اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2024/08/25 الإنسان القرآن (مقدمة في تفسير القرآن الكريــم) .15. الباب الأول: القرآن وحقائقه الفرقان من جهة المعنى عكس القرآن، ونحن كنا قد ذكرنا أن اشتقاق القرآن هو من "قَرَأَ"، الذي بمعنى "جَمَعَ"؛ وهكذا فإن الفرقان يكون مشتقا من "فَرَقَ"، الذي يُفهم منه الانقسام. ولو أمعنّا النظر في التسميتيْن، لوجدنا القرآن لا بد أن يكون جمعا لما تفرّق؛ وأن الفرقان في مقابله هو الانقسام الناتج عن الجمع. فهذا أصل هذا من وجه، والآخر أصل الأول من وجه؛ وليس الأمر إلا تلازما لا انفكاك منه. والوجهان اعتباران في الذات التي لا تتعدد، من حيث هي ذات. وبعد أن بيّنّا هذا الأصل اللغوي للفرقان، فإنه لا بد لنا من تبيّنه بحسب المراتب... 1. الفرق من مرتبة الذات: 2. الفرق من مرتبة الحقيقة: 3. الفرق من مرتبة عالم الجبروت: بقي أن نُشير في هذا الجزء، لمَ كان أحد وجهيْ اللوح قابلا للتبديل؛ مع أن القضاء الأول الحاكم عليه، لا يقبله. وهذا يعني، أن الوجه الثاني، ناشئ عن الوجه الأول، كما صدر الحق في المرتبة الثانية عن الحق في المرتبة الأولى. والوجه الثاني من اللوح، يُشبه تنزيل الأحكام من الوجه الأول؛ وتنزيل الأحكام (التي هي هنا أحكام وجودية أعلى في المرتبة من الأحكام الشرعية التي ستنصرف إليها كثير من الأذهان)، يتطلب نظرا زائدا فيما يُحيط بالمعلوم من ظروف وأحكام متعلّقة، من المرتبة الثانية فما بعدها. وهذا يعني أن الحكم، يتطلب تخصيصا في كل مرة يُراد منها التنزيل على الواقع في كل عالم بحسبه؛ ولا ناظر من أجل التخصيص، إلا المشيئة. وكل من أدرك شيئا من معنى المشيئة، فإنه يراها توهما، قد فرغت من عملها؛ وأن التعلق يعود الآن إلى ما بعدها من الصفات، كالعلم والحكمة والإرادة والقدرة. وهذا الذي تفهمه العقول، غير صحيح؛ وهذا، لأن المشيئة ما تزال عاملة في تخصيص الوجه القدري الثاني للوح. ومن هذا الباب سأل الفاروق عليه السلام ربه: "اَللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي فِي أَهْلِ السَّعَادَةِ، فَأَثْبِتْنِي فِيهَا؛ وَإِنْ كُنْتَ كَتَبْتَ عَلَيَّ الذَّنْبَ وَالشِّقْوَةَ، فَامْحُنِي وَأَثْبِتْنِي فِي أَهْلِ السَّعَادَةِ؛ فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ، وَعِنْدَكَ أُمُّ الْكِتَابِ." [1]. وهذا العلم، هو اللائق بعمر رضي الله عنه. وقد علق البعض على هذا القول، بأنه لا يجوز في السعادة والشقاء، لأنهما من القضاء الأول!... وهذا صحيح، لكن الأمر يحتاج إلى بيان: وهو أن المشيئة عندما تنظر فيما سبق للقضاء أن حكم به، فكأنها تفتح الملف من جديد. ولا ينبغي أن ننسى، أن القضاء نشأ عن المشيئة، وأنها هي من سيُعيد النظر في أحكامه. فالسؤال هنا: هل تتمكن المشيئة من نقض ما سبق أن حكمت به؟ والجواب حتما هو: أجل!... وهذا، لأن المشيئة هي هي، لا تتغيّر، وإن تغيّر المنظور فيه. ولو أنها كانت مقيّدة عند النظر الثاني، لم تكن مشيئة، فليُفهم هذا. فظهر من كل هذا الكلام، أن عمر عليه السلام، دعا ربه عن علم خاص يليق بمكانته؛ وعلمنا بدعائه، كيف ندعو ربنا. وهذا الباب الذي فتحه لنا عمر رضي الله عنه، لا أوسع منه؛ فلا يقل أحد، إنما سبق عليّ القضاء بكذا وكذا... ومن قال ذلك، فإنه يُفهم من قوله، أنه ممنوع من الدعاء؛ وهذا لأن الدعاء لا يكون إلا عن إذن إلهي... ولعلنا نعود إلى المسألة في الباب الثاني، لنبيّن أصولها من القرآن ومن السُّنّة النبوية... 4. الفرق من مرتبة العالم: 5. الفرق في الكلام: 6. نعيم القبر وعذابه: - يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمن إِذا كانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَإِقْبالٍ مِنَ الْآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلائِكَةٌ بِيضُ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، حَتّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتّى يَجلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ! فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَما تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ؛ فَيَأْخُذُها. فَإِذا أَخَذَها، لَمْ يَدَعُوها فِي يَدِه طَرْفَةَ عَيْنٍ، حَتّى يَأْخُذُوها فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ، وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، فَيَخْرُجُ مِنْها كَأَطْيَبِ نَفْخَةِ مِسْكٍ، وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِها فَلا يَمُرُّونَ بِها عَلى مَلَكٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ، إِلَّا قالُوا: ما هَذا الرُّوحُ الطَّيِّبُ؟ فَيَقولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، بِأَحْسَنِ أَسْمائِهِ الَّتِي كانُوا يُسَمُّونَهُ بِها فِي الدُّنْيَا؛ حَتّى يَنْتَهُوا بِها إِلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَسْتَفْتِحونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُ. فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَماءٍ مُقَرَّبُوها إِلى السَّماءِ الَّتِي تَلِيها، حَتّى يُنْتَهَى إِلى السَّماءِ السّابِعَةِ، فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: اُكْتُبُوا كِتابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوا عَبْدِي إِلى الْأَرْضِ؛ فَإِنِّي مِنْها خَلَقْتُهُمْ، وَفِيها أُعِيدُهُمْ، وَمِنْها أُخْرِجُهُمْ تارَةً أُخْرَى. فَتُعادُ رُوحُهُ، فَيَأْتِيهِ مَلَكانِ فَيُجْلِسانِهِ، فَيَقولانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقولُ: رَبِّيَ اللهُ، فَيَقولانِ لَهُ: ما دِينُكَ؟ فَيَقولُ: دِينِيَ الْإِسْلامُ! فَيَقولانِ لَهُ: ما هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللهِ! فَيَقولانِ لَهُ: وَمَا عِلْمُكَ؟ فَيَقولُ: قَرَأْتُ كِتابَ اللهِ، فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ. فَيُنادِي مُنادٍ مِنَ السَّماءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي! فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بابًا إِلى الْجَنَّةِ؛ فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِها وَطِيبِها، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ. فَيَقولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصّالِحُ! فَيَقولُ: رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ، رَبِّ أَقِمِ السّاعَةَ! وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكافِرَ إِذا كانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيا، وَإِقْبالٍ مِنَ الْآخِرةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّماءِ مَلائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ، مَعَهُمُ الْمُسُوحُ؛ فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ. ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِي إِلى سَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَغَضَبٍ! فَتَفْرُقُ فِي جَسَدِهِ، فَيَنْتَزِعُهَا كَما يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ، فَيَأْخُذُها. فَإِذا أَخَذَها لَمْ يَدَعُوها فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، حَتّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ؛ يَخْرُجُ مِنْها كَأَنْتَنِ ريحِ جِيفَةٍ، وُجِدَتْ عَلى ظَهْرِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِها، فَلا يَمُرُّونَ بِها عَلى مَلَكٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: ما هَذا الرُّوحُ الْخَبِيثُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتي كانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا؛ حَتّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُسْتَفْتَحُ لهُ، فَلا يُفْتَحُ لَهُ. ثُمَّ قَرَأَ {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} قالَ: فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: اُكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ، فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى. قالَ: فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا. قالَ: فتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيَأْتِيهِ ملَكَانِ فَيُجْلِسَانِه، فيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فيَقُولُ: هَاهَا (كلمة تدل على الحيرة والارتباك) لا أَدْرِي! فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهَا لا أَدْرِي! فيَقُولانِ لَهُ: ما هَذا الرَّجلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فيَقولُ: هَاه هَاه، لا أدْرِي! فَيُنادِي مُنادٍ مِنَ السَّماءِ: أَنْ كَذَبَ عَبدِي، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ النّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بابًا إَلى النَّارِ! قالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ، حَتّى تَخْتَلِفَ عَلَيْهِ أَضْلَاعُهُ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ وَقَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ! هَذا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ الَّذي يَجِيءُ بِالشَّرِّ. فَيَقُولُ: أَنا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ! فَيَقُولُ: رَبِّ لا تُقِمِ السَّاعَةَ!» [2]. ولنعرض الآن لعبارات الحديث، بغرض استخراج ما تحتها من علوم: - «إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمن إِذا كانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَإِقْبالٍ مِنَ الْآخِرَةِ»: أي إذا حان أجله؛ لأن الأجل إذا جاء، ينقطع العبد عن الدنيا، فلا يبقى له رزق فيها من شراب أو نفَس أو غير ذلك. وفي هذا الوقت يكون العبد عن الدنيا مدبِرا، وعلى الآخرة مقبلا: ينصرف اهتمامه من الدنيا إلى ما هو مقبل عليه اضطرارا. والمقصود هنا من الآخرة، أول منازلها بعد الموت؛ لا الآخرة التي لم تُخلق بعد. - «نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلائِكَةٌ بِيضُ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ»: وهؤلاء هم ملائكة الرحمة. وهذا، لأن الملائكة التي تحت رئاسة عزرائيل عليه السلام، ينقسمون إلى ملائكة رحمة وملائكة عذاب. ومن ملائكة الرحمة الأولين، مَن يبعثهم الله لقبض أنفس عباده المؤمنين؛ ثم يكون منهم من يرافقهم في البرزخ، ومن يخدمهم في الجنة. فهؤلاء الملائكة بيض الوجوه، من أجل أن يكونوا سببا في سرور من ينظر إليهم؛ وهذا يعني أن النظر إليهم داخل في التنعُّم، الذي قضى الله به على عباده المؤمنين. ومن شدة إنارة وجوههم، تكون وجوههم كالشمس، من غير أن يؤدي ذلك إلى أذى للناظر. - «مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ»: الكفن، هو ما يُغطّى به جسد الميّت من ثوب؛ والحنوط، كل ما يوضع على الميّت بقصد تطييبه وتجفيف رطوبته. وكون الكفن والحنوط من الجنة، يعني أنه مما يجد له الميت لذة واستعذابا. فكأن هذا النعيم الأول، مقدمة لنعيم الجنة المقيم!... - «حَتّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ»: أي حتى يملأ الملائكة ما بينه وبين الأفق، لكثرة عددهم. - «ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتّى يَجلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ!»: ويظهر من هذا الجزء من الحديث، أن ملك الموت هو من يتكفل بإخراج النفوس من أجسادها. وكلامه لها، كلام سلطان، له الأمر عليها. فإذا أمرها بالخروج خرجت، لكن نفس المؤمن معتنى بها، فهو يبشرها بالمغفرة والرضوان، ويصفها بالطيبة؛ وهي إذا سمعت هذا منه، فإنها تخرج طائعة ومتشوقة... - «فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَما تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ؛ فَيَأْخُذُها.»: ومعنى سيلانها كما تسيل القطرة من السقاء، هو أنها تخرج طوعا، تنساب انسيابا، بسبب غياب الامتناع منها بعد التبشير. فيأخذها: أي فيتناولها، بالخاصية التي له، كما يتناول المرء الجسم في عالم الأجسام. - «فَإِذا أَخَذَها، لَمْ يَدَعُوها فِي يَدِه طَرْفَةَ عَيْنٍ، حَتّى يَأْخُذُوها فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ، وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، فَيَخْرُجُ مِنْها كَأَطْيَبِ نَفْخَةِ مِسْكٍ، وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِها فَلا يَمُرُّونَ بِها عَلى مَلَكٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ، إِلَّا قالُوا: ما هَذا الرُّوحُ الطَّيِّبُ؟ فَيَقولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، بِأَحْسَنِ أَسْمائِهِ الَّتِي كانُوا يُسَمُّونَهُ بِها فِي الدُّنْيَا؛ حَتّى يَنْتَهُوا بِها إِلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَسْتَفْتِحونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُ.»: ومعنى الكلام: أن الملائكة الذين هم تحت رئاسة ملك الموت، يبتدرون نفس المؤمن، عناية بها وفرحا؛ فيجعلونها في الكفن وفي الحنوط اللذيْن أتوا بهما من الجنة. فتصير تلك النفس طيبة، لها ريح أطيب من كل ما يعرفه الناس من طيب الدنيا. وهذه المفاضلة بين طيبيْ الدنيا والآخرة، هو بسبب اختلاط أمور الدنيا، مما يجعل طيبها نفسه أقل من طيب الآخرة (الجنة). فيصعدون بها في الجو، فلا يمرون على ملك من الملائكة في طريقهم، إلا سألوهم: ما هذا الروح الطيّب؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأحب أسمائه إليه. وهذا من التنعيم، أيضا؛ لأن الإنسان إذا كان من أهل النعيم، وسمع من يناديه بما يكره، فإنه سيدخل عليه العذاب بقدر ذلك. والله -برحمته- قد قضى أن المرحومين، يُجنّبون العذاب، وإن كان من أدناه وأقله اعتبارا. فإذا انتهت الملائكة في الصعود إلى السماء الدنيا التي تلي الأرض، استفتحوا، ففُتح لهم. وهذا يؤكد مرة أخرى، أن السماوات، لا يُصعد إليها إلا بإذن من الله؛ لا كما يوهم الشياطين ضعفاء الإيمان، بأنهم يصعدون بالمركبات من باب التحدّي. - «فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَماءٍ مُقَرَّبُوها إِلى السَّماءِ الَّتِي تَلِيها، حَتّى يُنْتَهَى إِلى السَّماءِ السّابِعَةِ، فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: اُكْتُبُوا كِتابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوا عَبْدِي إِلى الْأَرْضِ؛ فَإِنِّي مِنْها خَلَقْتُهُمْ، وَفِيها أُعِيدُهُمْ، وَمِنْها أُخْرِجُهُمْ تارَةً أُخْرَى.»: التشييع، هو المرافقة من سماء إلى أخرى، تكريما للنفس المؤمنة. ويكون المشيعون من كل سماء مقرّبوها، من ملائكة تلك السماء، ومما شاء الله، من أرواح الأنبياء والأولياء. فتصعد هذه النفس الطيبة من السماء الأولى إلى أن تصل السماء السابعة. وعند السابعة، يكون انتهاء صعودها؛ وهو ما عرفناه اصطلاحا من أحاديث سابقة، بـ "سدرة المنتهى". فيُسمع من هناك كلام الله للملائكة، يأمرهم بأن يكتبوها في علّيّين، وهو الجنة التي يكون محلها الفلك الثامن. ثم يأمر سبحانه بإعادتها إلى الأرض، في قبرها. وذكر الله تعالى معنى الآية: {مِنۡهَا خَلَقۡنَـٰكُمۡ وَفِیهَا نُعِیدُكُمۡ وَمِنۡهَا نُخۡرِجُكُمۡ تَارَةً أُخۡرَىٰ} [طه: 55]. فالخلق معلوم، والمقصود منه هنا الولادة، والإعادة هي ما يكون من إرجاعهم من السماء السابعة إلى القبر، بعد الموت والصعود؛ والإخراج، هو ما يكون في يوم البعث، بعد النفخة الثانية للصور. - «فَتُعادُ رُوحُهُ، فَيَأْتِيهِ مَلَكانِ فَيُجْلِسانِهِ، فَيَقولانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقولُ: رَبِّيَ اللهُ، فَيَقولانِ لَهُ: ما دِينُكَ؟ فَيَقولُ: دِينِيَ الْإِسْلامُ! فَيَقولانِ لَهُ: ما هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللهِ! فَيَقولانِ لَهُ: وَمَا عِلْمُكَ؟ فَيَقولُ: قَرَأْتُ كِتابَ اللهِ، فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ. فَيُنادِي مُنادٍ مِنَ السَّماءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي! فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بابًا إِلى الْجَنَّةِ؛ فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِها وَطِيبِها، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ. فَيَقولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصّالِحُ! فَيَقولُ: رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ، رَبِّ أَقِمِ السّاعَةَ!»: والمعنى هو أن ملكَيِ السؤال، يُجلسان العبد المؤمن في قبره، فيسألانه، أسئلة ثلاثة، لا رابع لها؛ ليشهدا عليه بأجوبتها. وهذا من تثبيت المكانة التي قضى الله بها لعبده المؤمن في الجنة. فيسألانه عن ربه (معبوده)، وهنا يكون الجواب من النفس تلقائيا، لا عن فكر. ونعني من هذا، أن الجواب من العبد يكون مطابقا للحقيقة؛ فإن كان مؤمنا، فإنه يُجيب بأن ربه الله. ثم يُسأل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيجيب بما استقر عنده: هو رسول الله. فيُسأل كيف عرفه، فيجيب بأنه قرأ كتاب الله فآمن به. وهذا السؤال المتعلق بالكتاب، هو ثالث الأسئلة. غير أن الأمر هنا، متعلق بأهل الإيمان من الناس، لا بأهل العلم بالله. وقد يُخطئ علماء الدين إن هم خلطوا بين أحوال العامة من المؤمنين، وأحوال الخواص. ولنذكر هنا حديثا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، جاء فيه: «يا عُمَرُ، كَيْفَ بِكَ إِذا أَنْتَ مِتَّ، فَانْطَلَقَ بِكَ قَوْمُكَ، فَقاسُوا لَكَ ثَلاثَةَ أَذْرُعٍ فِي ذِراعٍ وَشِبْرٍ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْكَ فَغَسَلوكَ، وَكَفَنوكَ، وَحَنَّطوكَ، ثُمَّ احْتَمَلوكَ؛ حَتّى يَضَعوكَ فِيهِ، ثُمَّ يُهِيلُوا عَلَيْكَ التُّرابَ، وَيَدْفِنوكَ. فَإِذا انْصَرَفُوا عَنْكَ، أَتاكَ فَتّانا الْقَبْرِ: مُنْكَرٌ وَنَكيرُ، أَصْواتُهُما كَالرَّعْدِ الْقاصِفِ، وَأَبْصارُهُما كَالْبَرْقِ الْخاطِفِ، يَجْرّانِ أَشْعارَهُما، وَيَبْحَثانِ الْقَبْرَ بِأَنْيابِهِما، فَتَلْتَلاكَ وَتَرْتَراكَ؛ كَيْفَ بِكَ عِنْدَ ذَلِكَ -يا عمر-؟ فَقالَ عُمَرُ: وَيَكونُ مَعِي مِثْلُ عَقْلِي الْآنَ؟ قالَ: «نَعَمْ!»، قالَ: «إِذَنْ أَكْفِيكَهُما!»»[3] . وقد وجدنا لبعض علماء الدين كلاما مختلفا حول هذا الحديث، ونحن نرى له حِكما ينبغي أن نذكرها للعلماء قبل غيرهم: 1. إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أراد أن يبيّن عبر سؤاله لعمر رضي الله عنه، وعبر تهويل منظر ملَكَي السؤال، حال خواص هذه الأمة؛ حتى لا يقاسوا فيه على أحوال عوامها. وقد رأينا من الحديث السابق الذي ما زلنا بصدد تتبع ألفاظه، ما يدل على اشتراك المؤمنين كلهم فيما أُخبر به. وأما هذا الحديث، فهو خاص بالورثة الذين على رأسهم عمر عليه السلام. 2. أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أن يُبيّن أن المرء يكون على مثل وعيه الذي يكون عليه قبل موته. وهذا الوعي، يكون بحسب مقام العبد في معرفة ربه. وعمر عليه السلام، من أكبر العلماء بالله، فلا ينبغي أن يُتجاوز!... 3. لقد جاء في رواية أخرى، أن عمر عندما سُئل عن ربه، أجاب المـَلَكَيْن: ربي الله، فمن ربكما أنتما؟... فجعل الملكان يتعجّبان منه، ويقولان أنحن نسألك أم أنت من يسألنا؟... وكل هذا، من التعريف بمكانة عمر عليه السلام، التي لا يجهلها الملكان حتما؛ ولكنهما يفعلان -عليهما السلام- ما يُؤمران. وهذا، مما نؤكده نحن، من ذوقنا في أحوالنا؛ لأننا من تعظيم الله، لا نكاد نرى لمخلوق هيبة؛ إلا إن كنا نشهد الحق في مظهره، فعندئذ سنخضع بحسب ما يُعطينا العلم في المشاهدة في ذلك الوقت المخصوص. وإن كنا نحن، من لا يبلغ مكانة غبار نعل عمر عليه السلام، على ما ذكرنا، فكيف هو عمر الذي صُنع على عين النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وغُذِي بمدده الخاص؟!... فليتنبه علماء الدين، والمسلمون من بعدهم، إلى مكانة الخواص من هذه الأمة، وليُنزلوهم حيث أنزلهم الله، ولا يحصروهم فيما أُخبر به عن عوام المؤمنين، فإن ذلك يُنقص من قدر المتكلم الجاهل، لا من قدرهم!... وعندما ينتهي المؤمن من الجواب، يُسمع نداء من السماء، يُخبر بلسان الحق: أن صدق عبدي. ويأمر بأن يُفتح له باب إلى الجنة، يرى منه مقامه طيلة مدة إقامته في قبره؛ ويؤمر بفسح قبره مدّ البصر. وهنا ينبغي أن نذكر أن القبر وما فيه، من عالم الغيب بالنظر إلى أهل الدنيا، لا من عالم الشهادة. وهكذا، فإن انفساح القبر، لا يُعلم في العادة من قِبل الناس إن هم وقفوا عليه، ولا يُشمّ طيبه أو يُرى فراشه، إلا من باب الكرامة لبعض أهل الله. وقد وقع هذا الأمر كثيرا، فأخبر الأولياء عن أحوال كثير من الموتى، إخبار معايِن لما يُخبر به، لا إخبار سامع. وما أكثر صنف المـُكرمين من هذه الأمة، من الأحياء ومن الأموات!... زادنا الله فيهم محبة، ولهم تعظيما... ثم يجيء عمل المؤمن على هيئة شخص حسن الصورة حسن الريح، فيبشره، ويزداد المؤمن بحاله فرحا، إلى الحد الذي يستعجل معه قيام الساعة، فيقول: رب أقم الساعة!... لعلمه بأن ما وصله من النعيم ليس هو الأصل، وهو من وجه فقره المقيم، يسأل ما يعلم أنه أكبر وأعظم من صنف ذلك النعيم... - «وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكافِرَ إِذا كانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيا، وَإِقْبالٍ مِنَ الْآخِرةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّماءِ مَلائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ، مَعَهُمُ الْمُسُوحُ؛ فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ. ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِي إِلى سَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَغَضَبٍ! فَتَفْرُقُ فِي جَسَدِهِ، فَيَنْتَزِعُهَا كَما يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ، فَيَأْخُذُها.»: وهذا حال الكافر عند الموت، وهو معاكس لحال المؤمن. والمسوح هي الأثواب الخشنة، كالتي تكون للرهبان. ومعنى "تفرق في جسده": تفزع نفسه وتخاف الخروج من الجسد. فما يكون من ملك الموت، إلا أن ينتزعها انتزاعا، يجد لذلك الميّت ألما شديدا. فإذا أخذها، تلقتها ملائكة العذاب عنه... - «فَإِذا أَخَذَها لَمْ يَدَعُوها فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، حَتّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ؛ يَخْرُجُ مِنْها كَأَنْتَنِ ريحِ جِيفَةٍ، وُجِدَتْ عَلى ظَهْرِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِها، فَلا يَمُرُّونَ بِها عَلى مَلَكٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: ما هَذا الرُّوحُ الْخَبِيثُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتي كانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا؛ حَتّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُسْتَفْتَحُ لهُ، فَلا يُفْتَحُ لَهُ.»: ومع أن ريح هذه النفس خبيثة، فإن الملائكة، تصعد بها إلى السماء الدنيا، فتستفتح لها. وقرأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم شطرا من قول الله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا وَٱسۡتَكۡبَرُوا۟ عَنۡهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمۡ أَبۡوَ ٰبُ ٱلسَّمَاۤءِ وَلَا یَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ حَتَّىٰ یَلِجَ ٱلۡجَمَلُ فِی سَمِّ ٱلۡخِیَاطِۚ وَكَذَ ٰلِكَ نَجۡزِی ٱلۡمُجۡرِمِینَ} [الأعراف: 40]. وعندما لا يؤذن للمجرمين بالصعود في السماء، فهذا يعني أنهم لا قبول لهم عند ربهم، وهم قد نالوا بذلك المنع الحكم بالنار. - «قالَ: فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: اُكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ، فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى. قالَ: فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا.»: وهنا يظهر أن النار سيكون محلها الأرض السفلى. و"السجين" محل السَّجن، مشتق من "سَجَنَ"، الذي هو بمعنى حَبَسَ وقَيَّدَ عن الحركة. ولقد أغفل الفقهاء العلم بالجنة والنار، حتى نكاد نجد المسلمين، لا يعقلون محل الجنة ومحل النار؛ وهذا من الضرر الذي لحق الأمة من الفقهاء. وباختصار، فإننا كنا قد عرفنا في جزء سابق من هذا الحديث الشريف، بأن الجنة توجد في الفلك الثامن (فوق السماوات)؛ وها نحن هنا نعرف أن النار توجد في الأرض. والأرض السفلى، هي باطنها المشتعل نارا (صهارة الأحجار والمعادن). فلما عرفت الملائكة أن هذه النفس الخبيثة هي من أهل النار، طرحتها طرحا؛ ولا يُقال للشيء طُرح إلا إن ضُربت به الأرض. وهذا عنف من الملائكة، يعاملون به المجرمين، بدءا في تعذيبهم، وتمهيدا لبلوغ ما هو أشد عذابا في كل مرة... ومما يدل على أن النار محلها الأرض، قول الله تعالى: {وَإِذَا ٱلۡبِحَارُ سُجِّرَتۡ} [التكوير: 6]، والبحار توجد على الأرض. وإن شاء الله سنعرض في نهاية هذا الفصل، للآيات القرآنية المخبرة عن محل الجنة ومحل النار... - «قالَ: فتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيَأْتِيهِ ملَكَانِ فَيُجْلِسَانِه، فيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فيَقُولُ: هَاهَا (كلمة تدل على الحيرة والارتباك) لا أَدْرِي! فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهَا لا أَدْرِي! فيَقُولانِ لَهُ: ما هَذا الرَّجلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فيَقولُ: هَاه هَاه، لا أدْرِي! فَيُنادِي مُنادٍ مِنَ السَّماءِ: أَنْ كَذَبَ عَبدِي، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ النّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بابًا إَلى النَّارِ! قالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ، حَتّى تَخْتَلِفَ عَلَيْهِ أَضْلَاعُهُ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ وَقَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ! هَذا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ. فَيَقُولُ: أَنا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ! فَيَقُولُ: رَبِّ لا تُقِمِ السَّاعَةَ!»: ونفهم من هذا السياق، أن الكافر يكون مآله مخالفا ومعاكسا لمآل المؤمن: فهو عندما يُسأل أسئلة القبر، لا يعلم لها إجابة؛ فيكذبه الله من فوق عرشه، ويأمر الملائكة بأن تفرش قبره نارا، وبأن تفتح له بابا إلى النار؛ يرى مقعده منها طيلة مكثه في القبر. فيأتيه من حرّها وريحها، ويُضيّق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه؛ ويأتيه عمله على هيئة رجل قبيح المنظر منتن الريح، فيزداد بمنظره يأسا وقنوطا، إلى أن ينتهي به الأمر سائلا ربه ألا يقيم الساعة، خوفا مما يحذر... وهذه الأمور المقابلة لأحوال أهل الإيمان، والتي هي من العذاب المعجّل للمجرمين قبل حلول عذاب الآخرة، هي أمور معنوية متمثلة في صور خيالية؛ فيكون حال الموتى في قبورهم، كحال من يرى رؤيا منامية. وهذا لا يعني التقليل من شأن نعيم القبر ولا من عذابه، لأن النفس تتنعم وتتعذب حقيقة. ولو عاد الرائي إلى الرؤيا المنامية في عالم الدنيا، لوجدها قد كانت في حقه تارة نعيما، وأخرى عذابا، بحسب ما شاء الله له. وكم من نومة يقوم منها النائم فزعا، يحمد الله على أن ما كان فيها، لم يكن إلا في المنام!... وعلى هذا، فمن لم يستدل على عذاب القبر ونعيمه، بالرؤيا المنامية في الدنيا، فإنه يكون أعمى البصيرة، لم يستفد من دنياه شيئا!... وهذا الصنف الجاهل، عندما نجده كثير العدد في الكافرين، فإننا نتفهمه؛ ولكن عندما نجد من يزعمون أنهم مؤمنون، ينصرفون عن هذه الآيات البينات، وكأنهم لم يروها، فإننا نتعجب لذلك غاية العجب؛ ولا عجب من أمر الله!... يقول الله تعالى مذكّرا بأحوال الغافلين: {وَكَأَیِّن مِّنۡ ءَایَةٍ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ یَمُرُّونَ عَلَیۡهَا وَهُمۡ عَنۡهَا مُعۡرِضُونَ} [يوسف: 105]. وعندما نتكلم عن أحوال الناس بعد الموت، فإننا نتكلم عن أحوالهم في البرزخ. والبرزخ -كما هو واضح من التسمية- هو العالم الذي يوجد بين الدنيا والآخرة. وهو في الحقيقة امتداد لأحوال الدنيا، ومقدمة لأحوال الآخرة. وقد يختلط الأمر على الناس بين "القبر"، الذي ورد لفظه في العديد من الآيات والأخبار، ولفظ "البرزخ"؛ والحقيقة هي أن المـُخبَر عنه واحد، يختلف باختلاف اعتباريْن اثنيْن هما: النفس والجسد. فإن اعتبرنا الجسد، فإن الكلام سيكون عن القبر، مع أن المـُخبَر عنه، هو النفس وأحوالها. ونعني من هذا، أن ذكر أحوال القبر، هو مجاز بالنظر إلى ذكر أحوال البرزخ. وأما أحوال البرزخ، فهي أحوال النفس المتجردة عن الجسد؛ ولا يبقى لها من نظر إلى الجسد الذي كانت مدبرة له، إلا التطلع إلى استكمال صورتها به مرة أخرى. غير أن الأجساد، لا يأذن الله بنباتها من محالها، إلا بعد فناء الدنيا، الذي هو الموت العام لجميع المخلوقين، بعد النفخة الأولى. وإن الأجسام لن تكون هذه المرة على هيئتها التي عُرفت لها في عالم الدنيا، لأنها بعد فناء الدنيا، ستُخلق للآخرة. والآخرة مخالفة للدنيا في كل شيء، إلا في أصول الأحوال؛ وهذا ليتحقق التنعم لأهل النعيم في الآخرة، ويتحقق العذاب لأهل العذاب. ونعني من هذا، أن النفس تكون قد خرجت من الدنيا، وهي تعلم التنعم والتعذّب؛ وتكون قد استخلصت كل ذلك من تجاربها الدنيوية. وعندما تنتقل إلى البرزخ، تتنعم إن كانت من أهل النعيم، لأن لها خبرة بالتنعم؛ وتتعذّب إن كانت من أهل العذاب، لأنها تذكر الأصل الدنيوي للعذاب. وهذا يعني مرة أخرى، أن الإنسان لا يفقد وعيه وذاكرته، مع الموت؛ بل يواصل طريقه بما حصله من علم في دنياه. ولو افترضنا، أن مخلوقا من المخلوقات، قد مر إلى الآخرة، من دون أن يمر على الدنيا، فإنه إن دخل النار لن يتعذّب، وإن دخل الجنة لن يتنعم؛ إلا أن يشاء الله، فيخلق له علما ضروريا بالتنعم والعذاب، يكون أساسا لما سيجده هناك. ومن هنا أيضا تظهر قيمة الدنيا؛ فلولاها، لم تكن آخرة، رغم ما لها من مكانة بالاعتبار الديني... 7. فناء الدنيا وخلق الآخرة: يقول الله عن الدنيا: {وَمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۤ إِلَّا لَعِبٌ وَلَهۡوٌ وَلَلدَّارُ ٱلۡـَٔاخِرَةُ خَیۡرٌ لِّلَّذِینَ یَتَّقُونَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} [الأنعام: 32]. وإن ذكر الدنيا في مقابلة الآخرة التي هي خير للذين يتقون، منبئ عن فنائها؛ خصوصا وهي التي يجد الناس أنفسهم فيها عندما يولدون. وهذا التقابل، يعني أن الدنيا والآخرة، لا تجتمعان: فعند وجود الدنيا، لا آخرة؛ وعند وجود الآخرة، لا دنيا. وقد وجدنا علماء الدين غافلين في مجملهم عن هذه الحقيقة، على جلائها في القرآن. ثم يقول سبحانه أيضا: {إِنَّمَا مَثَلُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا كَمَاۤءٍ أَنزَلۡنَـٰهُ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ مِمَّا یَأۡكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلۡأَنۡعَـٰمُ حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَخَذَتِ ٱلۡأَرۡضُ زُخۡرُفَهَا وَٱزَّیَّنَتۡ وَظَنَّ أَهۡلُهَاۤ أَنَّهُمۡ قَـٰدِرُونَ عَلَیۡهَاۤ أَتَىٰهَاۤ أَمۡرُنَا لَیۡلًا أَوۡ نَهَارًا فَجَعَلۡنَـٰهَا حَصِیدًا كَأَن لَّمۡ تَغۡنَ بِٱلۡأَمۡسِۚ كَذَ ٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ لِقَوۡمٍ یَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24]. وأمس الدنيا، لا يُعلم إلا عند غده وبعد فنائها. ومن فهم عن الله في كلامه، فإنه يرى الفناء ملازما للدنيا في حال وجودها. وهذه الملازمة العقلية، هي نتيجة التفكر في الآيات لمن أهّله الله له. ثم يقول الله تعالى: {إِنَّا جَعَلۡنَا مَا عَلَى ٱلۡأَرۡضِ زِینَةً لَّهَا لِنَبۡلُوَهُمۡ أَیُّهُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلًا . وَإِنَّا لَجَـٰعِلُونَ مَا عَلَیۡهَا صَعِیدًا جُرُزًا} [الكهف: 7-8]. والصعيد: هو المستوي من الأرض، وهو مؤذن بخراب البنيان؛ والجرز: هو ما لا نبات فيه ولا شجر. وهذا يعني أن ما يراه الناس على الأرض في يوم الدنيا، هو من أجل ابتلائهم؛ والنظر في هل يجاوز نظرهم زينتها إلى ما ذكره الله عن الآخرة؟ أم يغلب عليهم حسهم، فيعاملون الدنيا وكأنها خالدة؟... والآيات في هذا المعنى أكثر من أن نحصرها هنا. وعلينا أن نفهم أن هدم بنيان الدنيا، وإعادة الأرض صعيدا بلقعا، يجعلنا نتطلع إلى ما سيحل محلّها فيما بعد؛ وليس إلا النار خاصة. يقول الله تعالى في وصف التغيير الذي سيطرأ على الدنيا: - {إِذَا ٱلشَّمۡسُ كُوِّرَتۡ} [التكوير: 1]: أي إذا الشمس ذهب نورها، وبقي جرمها. - {وَإِذَا ٱلنُّجُومُ ٱنكَدَرَتۡ} [التكوير: 2]: أي إذا هي انطمست، ولم تعد تبين على صفحة السماء. - {وَإِذَا ٱلۡجِبَالُ سُیِّرَتۡ} [التكوير: 3]: أي سوّيت بالأرض. - {وَإِذَا ٱلۡعِشَارُ عُطِّلَتۡ} [التكوير: 4]: والعشار هي النوق العشراء، وهي من أفضل مال العرب. والمعنى: إذا أُهمل المال ولم يعد يُلتفت إليه لشدة الهول. - {وَإِذَا ٱلۡوُحُوشُ حُشِرَتۡ} [التكوير: 5]: وهو ما يصيب الوحوش التي هي الحيوانات الوحشية، من اضطراب، تصير معه متحركة على غير هدى، ومن دون أن تبالي بما يتحرك إلى جانبها مما كانت في العادة تفترسه. - {وَإِذَا ٱلۡبِحَارُ سُجِّرَتۡ} [التكوير: 6]: البحار هي المحيطات، وتسجيرها هو التهابها واشتعالها؛ وهو ما يمكن أن يتصوره المرء من طغيان براكينها على مائها. وهذا يعني أن جهنم صارت تُعدّ شيئا فشيئا، لتصبح سكنا لأهل العذاب في الآخرة. ولقد أعجبني كلام للطبري في تفسيره يقول فيه عند هذه الآية: [حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن داود، عن سعيد بن المسيب، قال: قال عليّ رضي الله عنه لرجل من اليهود: أين جهنم؟ فقال: البحر، فقال: ما أراه إلا صادقاً!]. فهذا يؤكد ما ذهبنا إليه، وعليّ هو من هو في الفهم عن الله في كلامه!... وإذا كانت البحار ستنقلب نارا، فإن اليابسة أيضا ستكون كذلك، إذا أخرجت البراكين حممها إلى السطح. وهكذا، فإن مشهد النار قد بدأ يكتمل في الأذهان... - {وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتۡ} [التكوير: 7]: والنفوس هي ما فارق الأجسام بالموت، وسكن البرزخ؛ وتزويجها، هو الإذن لها بأن تعود إلى أجسامها، بعد إنشائها النشأة الثانية. يقول الله تعالى: {وَأَنَّ عَلَیۡهِ ٱلنَّشۡأَةَ ٱلۡأُخۡرَىٰ} [النجم: 47]. فعندما تعود النفوس (وهي غير الأرواح بأحد الاعتبارات)، إلى تدبير أجسامها، بعد البعث؛ أي بعد النفخة الثانية، يؤذن لها في القدوم على العرض في أرض المحشر. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى أَرْضٍ بَيْضاءَ عَفْرَاءَ، كقُرْصَةِ النَّقِيِّ، لَيْسَ فِيها مَعْلَمٌ لِأَحَدٍ.» [4]. والمعلم: العلامة التي يُستدلّ بها. ولنكتف بهذا القدر من سورة التكوير، مؤكدين بأن جهنم محلها من الأرض إلى السماء الدنيا. وأما الجنة فمحلها السماوات السبع والفلك الثامن، الذي هو أعلاها. وهنا نستحضر أبواب الجنة الثمانية، والتي جاء فيها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنّ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنّ مُحَمّدا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنّ عِيسَىَ عَبْدُ اللّهِ وَابْنُ أَمَتِهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الْجَنّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النّارَ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ الله مِنْ أَيّ أَبْوَابِ الْجَنّةِ الثّمَانِيَةِ شَاءَ.»[5] . وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضا: «مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبيلِ اللهِ نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ: يا عَبْدَ اللهِ، هَذا خَيْرٌ! فَمَنْ كانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاةِ، دُعِيَ مِنْ بابِ الصَّلاةِ، وَمَنْ كانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهادِ، دُعِيَ مِنْ بابِ الْجِهادِ، وَمَنْ كانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ، دُعِيَ مِنْ بابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيامِ، دُعِيَ مِنْ بابِ الرَّيّانِ...»[6] . وقد تكلّم الشّرّاح في معنى هذا الحديث، وذكروا أن عدد الأبواب إن كان المقصود منه أبواب الجنة الثمانية، فهو لا يطابق أعمال الإسلام الخمسة؛ خصوصا وأن الحديث بدأ بذكر النفقة، ثم أعاد ذكرها بين الأعمال. ثم إن عبارة "نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ" التي جاءت في بداية الحديث، يدل ظاهرها على أن العبد قد دخل الجنة قبل أن يُنادى عليه للدخول من الأبواب المخصوصة. وهذا من دون شك، يدل على أن مدخل الجنة واحد، وهو الذي يُفتح بشهادة الإسلام. وأما الصعود في أبواب الدرجات، فهو ما يكون من جزاء أعمال الإسلام والإيمان والإحسان. وجماع هذه المسألة نجده في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِراءَ وَإِنْ كانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كانَ مازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُه.»[7] . ومعنى زعيم: ضامن. ونحن نرى أن هذا التقسيم الثلاثي لدرجات الجنة، يعود إلى مراتب الدين الثلاث: الإسلام، والإيمان، والإحسان. ومن تنبه إلى ألفاظ الحديث، فإنه سيجد العمل الأول من أعمال الجوارح (اللسان)، والعمل الثاني من أعمال القلوب، والعمل الثالث من أعمال السر. ونعني أن ترك المراء بالنظر إلى ترك الكذب ولو مزاحا، هو كنسبة الظاهر إلى الباطن. وأما حسن الخلق، فهو على خلاف ما يظن العامة، يشمل معاملات خفية، لا يطلع عليها من العبد إلا ربه سبحانه. ونحن نرجح أن ربض الجنة هو ما يُقسم بحسب أعمال الإسلام المعروفة (الخمسة)، وأن وسط الجنة يُقسم بحسب أركان الإيمان الستة، وأن أعلاها يُقسم بحسب درجتي الإحسان. ولعل هذه المراتب التسع، يُنظر فيها إلى أركان الإيمان الستة، بوصفها أوسط الدين، ويُنظر إلى الإسلام على أنه أصلها، فيكون سابعا لها في العدد، ويُنظر إلى الإحسان على أنه فرع عنها، فيكون المجموع ثمانية، على عدد أبواب الجنة. وكما هو واضح من الكلام السابق، فإن المدخل يكون من السماء الأولى، التي هي محل روحانية آدم عليه السلام. ومن أراد أن يتتبع سائر السماوات، فليسر على المنوال الذي أوضحناه في فصول سابقة، ليتبيّن التفاصيل التي أضربنا عن ذكرها هنا. وأما النار التي تبقى أسفل السماء الدنيا، على سبع دركات، في مقابل السماوات السبع، فقد قال الله تعالى عنها: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوۡعِدُهُمۡ أَجۡمَعِینَ . لَهَا سَبۡعَةُ أَبۡوَ ٰبٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنۡهُمۡ جُزۡءٌ مَّقۡسُومٌ} [الحجر: 43-44]. وتقسيم أبواب جهنم، يُشبه تقسيم أبواب الجنة بحسب الأعمال والأحوال، وعلى معنى التقابل؛ وتبقى الجنة منفردة عن النار بالباب الثامن. وقد ذكر الشيخ الأكبر (وهو أولى من يتكلم في هذا)، أن الباب الثامن من الجنة هو الذي يُدخل منه على الله؛ وذكر عليه السلام، أن للنار بابا ثامنا في مقابله، غير أنه مغلق لا يُفتح. فجزاه الله خيرا على هذا الإخبار، الذي له وقته في الآخرة، لينتفع به من شاء الله له ذلك. ولعل القارئ، بناء على ما سبق من كلامنا كله، قد يستشف مرادنا من الانتفاع الأخروي بما أخبر به الشيخ الأكبر عليه السلام؛ لأنه من المدّخرات... ولقد كنا نعجب من النصارى، عندما يتكلمون عن الجنة والنار، ونجدهم أقرب إلى ما أخبر به الله ورسوله؛ حتى إنهم يُسمون الجنة ملكوت السماوات، ويُسمّون الأرض عالم السفل؛ بما يجعل المرء يدرك ترتيب الناس بعد الموت بسهولة. بينما نجد عموم المسلمين، لا يكادون يعلمون من ذلك شيئا؛ مع وضوح الآيات من القرآن ووضوح الأحاديث النبوية. بل إننا نجد أثارة من علم لدى اليهود في المسألة، يفهمون منها أن الآخرة تكون بعودة الموتى إلى الدنيا. وهذا قصور بيّن، لم ينزل إليه المسلمون؛ لكنهم في المقابل، لم يُدركوا الأمر على ما هو عليه؛ فنرجو أن يعتني الفقهاء بهذا الباب من العلم، فإننا نراه نافعا في هذه الأزمنة التي تسبق قيام الساعة... [1] . أخرجه الطبري في تفسيره، والدولابي في "الكنى والأسماء"، وابن بطة في "الإبانة"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة، جميعا من طريق أبي حكيمة، قال: سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ: (الحديث). |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.