اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2024/08/14 الإنسان القرآن (مقدمة في تفسير القرآن الكريــم) .14. الباب الأول: القرآن وحقائقه الفصل الثالث عشر: لسان القرآن لا شك في أن الناس يعلمون بداهة بأن الكلام الإلهي مستغن في أصله -ومن مستوى الحقيقة المحمدية- عن اللسان، كما هو متعارف عليه من عالم السّفل؛ وهذا، لأن اللسان مخلوق، وهو وصف لمخلوق في عالم السفل؛ وهنا ينبغي أن نفرق بين الكلام من حيث هو كلام، واللسان من حيث هو لباس للكلام، واللغة من حيث هي تنوع في اللسان. وعندما نجد الكلام الإلهي ينصبغ في زمان ما بلسان ما، بحسب الرسول المنزَل عليه، فهذا يعني أن الأصل واحد وإن اختلفت الألسن؛ وأن اللسان مـُلحق بالكلام لا العكس. يقول الله تعالى: {وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ لِیُبَیِّنَ لَهُمۡۖ} [إبراهيم: 4]، أي ليبيّن لهم معناهم وموضعهم من القرآن الذي هو الكلام والكتاب الإلهي في أصله الجمعي؛ بلسانهم المعتاد لهم، والمتعدد بحسب الأقوام. ولو افترضنا أن الرسول (بالمعنى العام المشترك) كان على الكلام الإلهي الأصلي، وأن قومه كذلك، لصارت الكتب المنزلة غير متبدلة الكلام، إلا من جهة المراتب المتناولة فيه، وعلى مقدار ذلك التناول. وأما عندما وجدنا أن التوراة قد نزلت بالعبرانية، وأن الإنجيل قد نزل بالسريانية (وهي فرع عن الآرامية)، وأن القرآن العظيم قد نزل بالعربية؛ مع أن المعاني الإلهية بصرف النظر عن اللسان، واحدة من كونها إلهية؛ أي من هذا الوجه وحده؛ علمنا أن الرسل لم يبقوا على أصل اللسان الذي هو واحد في مستوى الحقيقة المحمدية، وأنهم نزلوا عن ذلك الأصل، كّلا إلى الفرع المناسب له؛ كمن ينزل من السماء إلى الأرض، في موضع مخصوص يكون ظرفا له يُنسب إليه. وأما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، من جهة هذا المعنى، فأمره مختلف: - أولا، لأن الحقيقة الأولى له عليه وآله الصلاة والسلام بالأصالة؛ وهذا سيعني أنه سيتكلم اللسان الإلهي الذي هو المسمى عربيا، من الإعراب، قبل أن يتكلم العربية التي هي لسان قومه؛ بخلاف سواه من الرسل عليهم السلام، الذين تكلموا لغة القوم من عبرانية ومن سريانية. يقول الله تعالى عن هذا المعنى: {وَلَقَدۡ نَعۡلَمُ أَنَّهُمۡ یَقُولُونَ إِنَّمَا یُعَلِّمُهُۥ بَشَرٌ لِّسَانُ ٱلَّذِی یُلۡحِدُونَ إِلَیۡهِ أَعۡجَمِیٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِیٌّ مُّبِینٌ} [النحل: 103]. والمعنى هو أن المشركين (كحالهم اليوم)، يقولون إن هذا القرآن الذي يتلوه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، قد تعلّمه من أحد الكتابيّين الذين يُجالسهم، يُقال إنه غلام رومي نصراني؛ ونسوا أن العُجمة التي تكلم بها من زعموا أنه معلم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا تُفهِم العرب. ومن هنا نعلم أن الله كان قد اختار لعبده الكلي، لسان العربية، الذي هو منزه عن العجمة الإبانيّة. ورغم أن العرب كانوا ينطقون العربية، بمدة طويلة قبل مجيئه عليه وآله الصلاة والسلام؛ إلا أن ذلك لم يعْدُ أن يكون تهييئا للعالم من أجل استقبال سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم. ومن فهم غير هذا، فقد أبعد!... وأما الإبانة المذكورة من سورة النحل، فهي الترجمة عن المراتب الذاتية وشؤونها ودرجاتها. ولا بأس من أن نذكر هنا، السبب الذي يجعل صنفا من المشركين، لا يُقرّون بالتلقّي عن الله؛ وهو ما استقرّ لديهم من معنى التعالي، الذي تقول به الفلاسفة. ونعني أن بعض متألهة الفلاسفة (المتأله: هو المقر بألوهية الإله)، لا يتمكنون من العثور على الجامع بين الإله والكون، فيقرون بصدور العالم (الكون) عن الله، لكنهم يُنكرون تلقي الكلام والتشريع عنه سبحانه. ويرون هذا، مما يليق بالله؛ وإن كان عند العالمين قصورا غير خفيّ. وأثر هذا التعالي، الذي ليس إلا انفصالا تاما عندنا، هو ما تسرب إلى متفلسفة المسلمين، منذ القرن الأول، وعلى رأسهم المعتزلة. وهذا التنزيه العقلي المـُفضي إلى القول بالانفصال، لا بد أن يؤدي بالضرورة إلى القول بالتعطيل؛ وهو ما بلغته المعتزلة في الصفات. ورغم جلاء هذا الأصل عندنا، وعند أمثالنا، إلا أنه قد يخفى ولو جزئيا لدى جلّ النّظّار؛ فيقعون بسبب ذلك القصور في التناقض في أقوالهم، من دون أن يشعروا. وما هذا الذي نذكره هنا، إلا تنبيه إلى أصل المسألة، التي نرجو أن نفصل فيها، عند تناولها في الباب الثاني بإذن الله تعالى... - ثانيا، لأن العربية التي ينطقها محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ليست منحصرة فيما كان عليه قومه منها؛ بل هي تتعدّاها إلى أن تشمل جميع اللغات التي نطق بها المخلوقون، ما دام كل مخلوق معربا عن أحواله بلسانه الخاص. ونعني أن اللغة العربية التي كانت مـُدركة للعرب، كانت ألفاظا متواضعا عليها بخصوص معانٍ معلومة لهم. وتلك المعاني من غير أدنى شك، لم تكن لتتجاوز المحسوسات، وما وراءها من تركيبات خيالية، كانت الأصل لكل صورهم الشعرية والبلاغية. وأما المعاني القدسية التي هي منوطة بالذات الإلهية في كل مراتبها، فإن العرب لم تكن لهم خبرة بها، إلا من وراء حجاب الكفر والشرك اللذيْن كانوا عليهما. وهذا يعني -بعبارة أخرى- أن العرب كانوا منقطعين عن المعاني التي يتناولها الوحي الإلهي عبر الأزمنة. وإن من كان منهم قبل الإسلام، على يهودية أو نصرانية، فإنما كان على الدين الوضعي (المحرَّف) الذي بلغه؛ وإن زعم أنه كان قارئا للتوراة أو للإنجيل، أو لهما معا. وما يزال هذا الإشكال مستمرا، في صنف من المحجوبين من أهل زماننا، إلى اليوم، ومع انضمام النص القرآني إلى الكتب السابقة. وهذا، لأن لسان الوحي، وبالخصوص لسان القرآن، لا يؤدّي معناه من الألفاظ كما تؤدّي الألفاظ معانيها، في اللسان المعتاد؛ ولكن بعد حصول المعرفة باللسان من جهة العادة، ينبغي أن يحصل الإذن الإلهي للقارئ، حتى يفهم عن الله بعض مراده. ولا ينبغي أن ينحجب فقهاء الأحكام عن هذا المعنى، بما يُدركونه من التلازم بين اللغة في العادة، وإدراك الأحكام الفقهية؛ لأن ذلك المستوى من الإدراك، هو أدناه فحسب. ويبقى من اللسان القرآني، ما يظلّ غيبا في حق القارئ، مهما بلغ من إتقان للغة، إلى أن يرتفع الحجاب عنه بإذن الله ومشيئته. وهو ما يُشير إليه قول الله تعالى: {وَإِذَا قَرَأۡتَ ٱلۡقُرۡءَانَ جَعَلۡنَا بَیۡنَكَ وَبَیۡنَ ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡـَٔاخِرَةِ حِجَابًا مَّسۡتُورًا} [الإسراء: 45]؛ والمعنى هو أنك يا محمد (أو يا أيها الوارث المحمدي)، إذا قرأت القرآن الذي هو كلام الله المنزل عليك، باسم ربك، فإنك سُتدرك من المعاني ما جعلنا بينك فيه من حيث كونك مظهره، وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة التي هي الوجه الآخر للبشرية، حجابا مستورا؛ أي حجابا غير مشعور بوجوده، فضلا عن أن يُسعى إلى التخلُّص من إصره. فما أعز القرآن من قارئه الرباني!... وأما من جهة الغيب المحمدي، فلو نطق أي واحد بلسانه الأعجمي، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، سيُدرك معناه، فيصبح في حقه عربيا مبينا؛ سواء أكان متكلما عن معنى من المعاني التي نزل بها الوحي السابق، أو متكلما بكلام هو في أصله حجاب عن الحق. وهذا، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا يُدرك من الوجود إلا الحق؛ سواء كان ذلك الحق مما يُعتبر حقا في العادة، أو مما يُعتبر باطلا. وهذا -وكما كنا نقول دائما- لأن الباطل حيث كان، لا غَناء له عن القيام بالحق. وأهل الحق، وعلى رأسهم مظهر الحق الأعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هم أولى بالحق حيث كان وكيفما تجلّى!... وعلى المسلمين أن يعوا هذا الاختلاف في اللسان، وأن يعوا في حق من هو مرتفع، حتى يكونوا موافقين للحق الذي جاء به القرآن. وسنرى بإذن الله، عندما يحين الوقت، الاختلافات التي تكون بين الرسل من حيث هم، لا من حيث اللسان وحده. وإنّ اختلاف الألسن فيما بينها، يدل حتما، على أن كلام الله هو أصل لكل الألسن، بما هو كلام إلهي، لا بما هو لسان إلهي؛ ما دام الله متنزها عن الجارحة في عالم الجبروت، متكلما في عليائه بغير صوت، ولا حرف؛ مـُعربا عن معاني كلامه، في الحضرة المحمدية العليا، بالأحرف العلوية، قبل خلق الأصوات والرسوم. وأما فيما يعود إلى عالم السفل، فإن الألسن تُنسب إلى الناطقين بها، لا إلى الله خالقها، طلبا للتمييز الذي هو شرط في العلم؛ إلا العربية، من كونها قد كانت اللسان الإلهي في حضرة العلم، لينزل بها القرآن على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، في زمان البعثة المحمدية، عند حلول أوانها؛ مخالفا (القرآن) بذلك، من جهة القاعدة، كل ما سبقه من كلام الله، الذي نزل بالألسن الأخرى؛ أي بهذه الألسن التي هي عربية من وجه واحد، لا من كل الوجوه. وأما الملائكة (والأرواح عموما) فلسانها هو لسان الأرواح المنبني لفظا وكتابة على الحروف، بسبب بساطتها. وقد سمى هذا اللسانَ سيدي الدباغ رضي الله عنه، بحسب ما نَقل عنه تلميذه الفقيه أحمد بن مبارك السجلماسي: السريانية. وهذا من دون شك يدخل بالناس في خلط بين هذه اللغة الروحية، واللغة السريانية المتفرعة عن الآرامية؛ لذلك سنعدل عن هذه التسمية نحن، وإن كنا نعتبرها كثيرا. وهذا الذي نذكره هنا، يعني أن اللسان الذي تكلم به آدم عليه السلام، هو هذه اللغة الروحية. وقد أخطأ من قالوا بنشوء اللغة بالتطور، وعن طريق التواطؤ والتواضع، وإن أصابوا فيما يتعلّق باللسان الكسبي، من حيث هو خروج عن الأصل، عند غلبة الحس وطروء الغفلة؛ وفيما يعود إلى ظاهر الأمر المنوط بالحكمة الإلهية بالإضافة إلى تعلّقه بالعلم. وهو ما يدل عليه ما زاد على الحروف الأصلية، ودخله الحشو في الكلمات التي صارت أساسا لكل لسان. وهذا، يأخذنا إلى استخلاص قاعدة رئيسة في هذا المجال، وهي أن كل الألسن تعود في أصلها إلى لسان واحد، هو لسان الأرواح؛ ولا يختلف هذا اللسان الأصلي، إلا من جهة ما دخل عليه من الزوائد، لا غير. وهذا يعني أن أصل الكلمات المتقابلة في الألسن، حرف واحد، مما تنطق به الألسن في الأفواه؛ وهو قد يبقى مشتركا ظاهرا بين تلك الكلمات، وقد يندثر من كلمات بعينها في ألسن بعينها، عند الدخول في اللسان المتأسّس على الكلمات، إذا طغت عليه الأحرف الدخيلة بحكم العادة. وهو أمر عجيب لمن تأمله!... وأما اللغة، فهي تفصيل في اللسان، عندما يقع به بعض التغيير الذي يكون في الغالب متعلقا بالجغرافيا وبالقوم المخصوصين، أي بالثقافة المخصوصة. ومن شاء أن يعرف تفرع اللغات عن اللسان، فلينظر إلى اللسان اللاتيني، وكيف تفرع إلى عدة لغات أوروبية؛ ولينظر إلى اللغة الإنجليزية، كيف تفرعت إلى لغات إنجليزية أخرى: منها البريطانية والأمريكية والأسترالية... ومن أراد أن ينظر إلى الحرف الواحد في كلمتيْن من لسانيْن مختلفيْن، فلينظر مثلا إلى كلمة: ماءٌ في اللسان العربي، ولينظر إلى كلمة "أُو" في اللغة الفرنسية، وكلمة "ووتر" في اللغة الإنجليزية، ليعثر على الحرف الدال على الماء، والذي سيكون "أُ". وأما هذا الحرف، فهو جلي في الفرنسية، وإن كان يحتاج إلى حفر أركيولوجي لغوي في الإنجليزية؛ وذلك لأن الحرف قد صار ضمنيا في "وُو"، وهي في الأصل همزة ثقيلة غير منقلبة. وربما لو تتبع الناس العمل بهذه الطريقة في الألسن، فإنهم سيرون عجبا؛ ولكن هذه المجالات، هي كغيرها، لا يكون البحث فيها إلا عن إذن إلهي، وعن فهم عن الله في الحروف. وهكذا، فإن أول تلفّظ بالكلام الإلهي، سيكون بلسان الحروف؛ الذي إليه الإشارة وبه العبارة، في فواتح السور المعلومة من القرآن (الم، المر، كهيعص...)؛ وبهذا اللسان وقعت الكتابة أيضا، على اللوح المحفوظ. أما في عالم الخلق، فإنه لا يعلم لسان الأرواح إلا بعض كبار الأولياء حصرا، وهو ما يعني أن الرسل من جهة غيبهم -عليهم السلام- كانوا كلهم عالمين به، وكان تكليمهم لقومهم بالألسن المختلفة تنزلا منهم عليهم السلام. وهذا الصنف من البشر المدركون لمعاني الحروف، هم المستحقون لوصف الأميّين، الذين على رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم. والدليل، هو أن الصبيان في طورهم الأول، يكونون ناطقين بلسان الأحرف. فقد أخبر سيدي الدباغ عليه السلام (وهو صادق): إن حرف "غْ" مثلا، الذي يكرره الأطفال، هو اسم من أسماء الله تعالى؛ فهم يذكرونه به عند انبساطهم. وهذا الذكر الذي يكون عليه الأطفال، هو ما يقع نسيانه منهم فيما بعد، وعندما تنمو عقولهم الكسبية. ولو عرف الناس ما وقع لهم، عندما ظنوا أنهم قد تعلموا مع السنين ما لم يكونوا يعلمون؛ لعرفوا أنهم قد فقدوا لسانهم الأصيل، وذكرهم لربهم الجليل؛ فأصبحت صفتهم النسيان بعد أن كانوا ذاكرين، وهو معنى الغفلة حقيقة. يقول الله تعالى: {وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِیتَ وَقُلۡ عَسَىٰۤ أَن یَهۡدِیَنِ رَبِّی لِأَقۡرَبَ مِنۡ هَـٰذَا رَشَدًا} [الكهف: 24]. وظاهر الكلام عند المفسرين، هو أن النسيان متعلق بالنهي الإلهي السابق: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَا۟یۡءٍ إِنِّی فَاعِلٌ ذَ ٰلِكَ غَدًا} [الكهف: 23]؛ وقد جاء الاستثناء في بداية الآية التي أسبقناها في الذكر: {إِلَّاۤ أَن یَشَاۤءَ ٱللَّهُۚ} [الكهف: 24]. وهذا يعني أن الناس إذا أخذتهم غمرة الدنيا، نسوا ربهم، وخرجوا عن ذكر الطفولة الأولى، والتي هي لهم كالطور الآدمي بالنظر إلى سائر البشرية، فصار لزاما أن يُقوّموا اعوجاجهم بما دلهم ربهم عليه في القرآن. وهذا يعني أنه بالقرآن يُسترجع حال الذكر للذاكرين؛ لكن هذا يحصل لأهل القرآن الذين هم أهله عند الله، لا لكل تال. وحظ التالي الغافل الأجر، والأجر يطلب الجنة؛ فهي إذاً مرتبة عوام المؤمنين لا الخواص. وإن بعض الفقهاء يغلطون كثيرا، عندما يجزمون بأنهم ذاكرون لله، لأنهم يقضون أوقاتهم في قراءة القرآن، أو في تعليم علومه، أو ترديد بعض الصيغ؛ وهيهات!... نعم، قد يكون ذلك مقدمة للذكر، علما بأن محل الذكر القلب؛ أما اللسان، فإنه يُتّخذ من جهة السلوك بابا فحسب. ومن اكتفى بذكر اللسان، فإنه لا يكون ذاكرا إلا مجازا. ونحن قد اكتفينا هنا بذكر القلب، للمناسبة بين ما نقول وحال الطفولة؛ وأما ذكر السر، فهو في الترتيب قبله. وقد جعلنا حال الطفولة من أطوار القلب، لبدء تعلق الروح بالبدن شيئا فشيئا مع الأيام. وأما ذكر السر، فهو من طور الروح، إما قبل تدبير البدن؛ وإما بعد تروحنه. وأما تكليم الرسل والأولياء للملائكة، فيكون بلسان الحروف إن بقي الملَك على أصل خلقته؛ وأما إن تجسد، فإنه يُصبح متكلما بلسان القوم الذين صار معدودا منهم. وهذه خاصية لهم عليهم السلام، يمتازون بها عن سائر المخلوقات من كونهم أرواحا مجرّدة. وهذا الذي أثبتناه كله، يعني أن كلام الله المسمى كتابا، يكون من جهة أرواح الرسل عليهم السلام، بلسان الأرواح؛ ولكن بما أن أقوامهم لن يفهموا عنهم بهذا اللسان الأصلي، فإن جبريل عليه السلام يأخذ الكلام المنزل من لسان الحروف، إلى لسان قوم الرسول، ويُنزله على قلبه بهذا اللسان الثاني؛ فإذا وعى الرسول ما أوحي إليه بلسان قومه، نطق به كما هو، عملا بالسنة الإلهية الحكيمة. وفي هذا النطق ابتلاء للقوم، بما أن الكلام الإلهي منزه عن اللسان المعلوم للناس، والذي لا شك في أنه مخلوق لله، بخلاف الكلام الذي هو صفة إلهية؛ وذلك عندما لا يتمكنون من التفريق بين ما هو إلهي، وما هو بشري. ولقد دخل إبليس على الناس، من هذا الباب (كما دخل من غيره من الأبواب)، فشككهم في كون الكتب المنزلة من عند الله أنها كذلك، وأوحى لهم بأنها من تأليف أولئك الرسل، كما يُفهم من ظاهر الأمر، وحاشاهم. ورغم أن هذا الباب من الضلال، كان محصورا في بعض السابقين، فإنه قد شاع بين مدّعي العقلانية في المتأخرين شيوعا كبيرا، بسبب هيمنة الجهل وتعالم الجاهلين. ونحن نقول هنا -كما أقررنا في كتبنا وفي كلامنا دائما- بأن الضلال الذي يدعو إليه إبليس، لا يمكنه أن يقوم بنفسه؛ أي من حيث هو باطل؛ ولكن لا بد له من القيام بالحق المخصوص الذي هو لب المسألة؛ وليس هو هنا، وفيما يعود إلى اللسان، إلا مراعاة لسان الرسول المخصوص، مع مراعاة الأصل الذي يكون من مستوى روحه. ولنذكر هنا مسألة لم نر لها ذاكرا، وهي أن الجن الذين كانوا يسترقون السمع إلى الملائكة قبل أن يُمنعوا؛ كانوا يفهمون لسانهم (لسان الملائكة)، وإلا فيمَ سينفع استراق السمع عندئذ؟!... ولعل للمسنّين منهم دخلا في تعليم متأخريهم ذلك اللسان الذي أدركوه من مجتمعات الملائكة السابقين على خلق آدم، ومن المجتمع الأول للآدميين الذين كانوا ناطقين بلسان أبيهم. وهنا نتوقف عند مسألة ترجمة الكتب المنزلة، وعلى التخصيص التوراة والإنجيل، على أن نبيّن الفرق بينها وبين والقرآن، في موضع آخر من الأسطر الآتية بإذن الله؛ لنقول: إن الترجمة التي وقعت من العبرية القديمة إلى السريانية أو إلى العبرية الحديثة؛ أو من السريانية إلى اليونانية وفيما بعد إلى اللاتينية؛ هي ترجمة للمعاني، لا للألفاظ؛ كما هي الترجمة بالمعنى الاصطلاحي حيث كانت. وترجمة المعنى، تختلف بحسب درجة إدراك المترجم للّسانيْن: الأصلي، والمترجَم إليه؛ وبحسب درجة فهمه للمعنى المراد للمتكلم. وهذا الإشكال يبقى لصيقا بالترجمة دائما، ليجعل المعنى نسبيّا بلا خلاف، ويجعله محل تساؤل ودراسة بالضرورة، كما هو الشأن عند أصحاب الهرمينوطيقا، منذ بداية القرن التاسع عشر الميلادي خاصة. وعلى هذا، فإننا لا نقول بمطابقة نص التوراة كما جاء به موسى عليه السلام، وكما جدده عزير (أليعازر) عليه السلام، للنصوص المترجمة إلى جميع الألسن الأخرى؛ وكذلك لا نقول بمطابقة نص الإنجيل الذي أُنزل على عيسى عليه السلام، للنصوص الأخرى اليونانية واللاتينية. غير أن هذا لا يعني حتما مخالفة المعنى الجديد للمعنى الأصلي دائما؛ لأن ترجمة المعنى، لا تكون خاطئة دائما، ولا بد من أن يبقى بعضها على أصله لغلبة الأصل من حيث هو أصل؛ وإن صاحب كل ذلك بعضُ القصور. وهذا الذي ذكرنا عن الترجمة وأثرها في المعنى، هو علة ما جاء في الحديث النبوي الشريف: «لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ، وقُولوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136] الآيَةَ.» [1]. وهذا المعنى من عدم التصديق وعدم التكذيب، ليس مخصوصا بنا وحدنا نحن المسلمين؛ ولكنه يعني كل من أخذ وحيا إلهيا عن طريق الترجمة؛ سواء كان ذلك في زمان مخصوص، أو كان مما أدركه المتأخرون من ذلك الزمان وإلى قيام الساعة. وهذا الأصل وحده، في اعتبار النص، كفيل بأن يجعل الناظر يتوقف ولا يجزم بشيء، طلبا للإثبات، أو سعيا إلى النفي، كليهما. وأما ترجمة الألفاظ (الترجمة الحرفية بالاصطلاح)، فهي من غير شك تبعد بالترجمة عن المعاني الأصلية؛ وربما قد تشوه النص إلى الحد الذي يصير معه مؤديا لمعنى مخالف أو معكوس. ونظن أن هذا، لا يحتاج منا إلى كثرة كلام، حتى ندلل عليه... وأما القرآن، فهو مخالف للكتب السابقة، من كون لفظه توقيفيا؛ وهذا أصل سابق على كل اعتبار للمعنى. وهذه الخصوصية، تجعل القرآن غير قابل للترجمة؛ وتبقى كل ترجمة للقرآن، تقريبا لبعض معانيه، بحسب مبلغ علم المـُترجِم، لا غير. ويبقى اللفظ القرآني عصيا على الترجمة، لخصوصية الدلالة القرآنية، وإن وُجدت في الألسن الأخرى مقابِلاتٌ للعديد من ألفاظه، مع ضرورة اعتبار مطابقة المعنى أو اختلافه جزئيا، إن لم يكن كليا. وهذه الخصوصية لم تكن لكتاب آخر قبل القرآن، وهي وحدها دالة على مكانة القرآن من الكتاب (أصل الكتب)، لو أن الناس كانوا يعقلون... وأما لِمَ نزل القرآن باللسان العربي؟ فببساطة، لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يتكلم العربية. وهذا يعني أن اللغة العربية هي التي شرُفت بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبالقرآن، لا أنها لغة شريفة من أصلها؛ إلا إن كنا نتكلم في مستوى حضرة العلم الإلهي، فذاك شأن آخر. بل لقد وجدنا كلاما للشيخ الأكبر عليه السلام (نحن نميل إليه من دون أن نعتبر نفسنا حاكما) يُفيد بأن كل لسان، هو في حق مـُتقنه والذي يُحسن الإعراب به عما في نفسه، عربيّا. وعندما ذكرنا أن ألفاظ القرآن العظيم توقيفية، فإننا كنا نعني اعتبار ذلك بعد نطق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها، لا بَعيدا عنه. وهذا، مما يلتبس كثيرا على الفقهاء، إلى الحد الذي خرجوا معه إلى بعض الضلالات، التي توهموا بها أنهم يوافقون الحق، وهيهات!... والحقيقة، هي أن إبليس يعتمد بعض القواعد المنطقية (بجميع المعاني)، ليجعل السامعين له يتبعونه في دعوته. ونعني من هذا، أن فقهاءنا لم يكونوا قاصدين للباطل إلا نادرا؛ بل إن ظنَّنا، في غالبيتهم الغالبة على مر العصور، حسن؛ وظننا في الله أن يغفر لنا ولهم. ونعني مرة أخرى، أن إبليس يُتعب نفسه مع هذه الأمة في لا شيء!... لكن عليهم أن يعملوا بقول الله الذي مررنا به آنفا، والذي يقول سبحانه فيه: {وَقُلۡ عَسَىٰۤ أَن یَهۡدِیَنِ رَبِّی لِأَقۡرَبَ مِنۡ هَـٰذَا رَشَدًا} [الكهف: 24]. وليتنبه القارئ إلى أن "هذا" يدل على القريب، لكنه على قربه ضلال، قد تلبَّسَه وحي الشيطان. وهذا أمر، لا يعلمه إلا الربانيون!... وأما أصل ضلال الفقهاء الذي كنا نشير إليه، فهو اعتبار دلالة اللفظ في اللسان العربي من القرآن، من دون اعتبار لنطق النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبله. ونعني من كلامنا، أن الفقهاء يعتبرون اللسان العربي، ثم يعتبرون نطق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعده؛ كل هذا، فيما يتعلّق بالقرآن خاصة. وأما نحن، فنعتبر نطق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قبل اعتبار اللسان. وهذا، لأن اللسان العربي خادم للقرآن، لا العكس. وهو ما لا يكاد يتنبه إليه علماء الدين... ولنعد إلى خصوصية القرآن، بعد أن أثبتنا بسرعة، معنى كونه بلسان عربي؛ ونريد بهذا أن ندل على ثلاثة مستويات لفهم القرآن: - الأول: هو فهمه بحسب ما يُعطي اللسان العربي، وهذا الوجه قد أقره الفقهاء بسهولة؛ لكنهم يُخطئون حينما يقصرون القرآن عليه، أو يُسبقونه في الاعتبار، كما أسلفنا. ولعل المعنى الذي يصح، قد استأنس به القارئ في السطور السابقة، وهو ما نذكره الآن... - الثاني: وهو الفتح في لسان القرآن، وهذا يختص الله به من يشاء من خواص العباد؛ والعبد هنا، لا بد من أن يتجاوز اللسان بما هو لسان، ليعلم بتعليم الله، ما هو وراء المعتاد منه. وهذا باب من العلم مـُعجب، يجعل الناظر في القرآن كأنه ناظر إلى شاشة تتعاقب فيها المشاهد الجميلة البليغة، تعاقبا لا نهاية له. ومن هذا الوجه، يظهر القرآن بحرا من المعاني لا ساحل له. ويتبع هذا الصنف، تتبع معاني القرآن في الألفاظ التي لا تدل عليها دلالة لغوية؛ وهو ما يُسمّى عند أهله بالتفسير الإشاري. وهذا الصنف من التفسير، ينبغي أن تصحبه الخشية الملازمة للعلم، حتى لا يجترئ الناس على ألفاظ القرآن وعلى معانيه. ولنكتف بهذه الإشارة، من دون دخول في التفاصيل... - الثالث: وهو لخواص الخواص، وهو مرتبة الأحرف؛ وهو يلحق بالمرتبة السابقة ويزيد من سعتها. ومن فهم القرآن من هذه المرتبة، فإنه سيفهم -مثلا- من {بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلرَّحِیمِ}، ما يتعلَّق بالباء المكسورة، والألف المحذوفة، والسين الساكنة، والميم المكسورة، وهمزة الوصل، واللام الساكنة، واللام المفتوحة، والألف المحذوفة، والهاء المكسورة، وهمزة الوصل الأخرى، واللام غير المنطوقة، والراء المشدّدة المفتوحة بوجهيها، والحاء الساكنة، والميم المفتوحة، والألف الثابتة نطقا والمحذوفة رسما، والنون المكسورة، وهمزة الوصل الأخرى، واللام الثابتة رسما والمتجاوزة نطقا، والراء المشددة المفتوحة بوجهيها، والحاء المكسورة، وياء المد الساكنة تسكينا خفيفا، والميم المكسورة. فكل حرف من هذه الحروف، مع حركته، له معنى مخصوص، وهذا هو ما يليق بالكلام الإلهي. وقد أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا المستوى من قراءة القرآن عندما قال: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثالِها: لا أَقُولُ "الم" حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ.» [2]. وقد حجب الناسَ عن معنى هذا الحديث، والذي دللنا عليه نحن في بداية الكلام، النظرُ إلى الحسنات؛ كما انحجبوا عن ليلة القدر بالنظر إلى الأعمال ومضاعفة أجرها. وقد شاء الله أن يظهر كلامه بصفته، فمنعت العزة من بلوغ حقيقته، رغم شدة اعتناء الفقهاء بظاهره. وكما لا يخفى، فإن من أثر ذلك، طغيان المنطق الفقهي على العلوم الدينية، والذي صار لا يخفى على أحد. وقد نقل الفقيه أحمد بن مبارك عن شيخه الدباغ عليه السلام، في كتاب "الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز"، تفسيرا للفاتحة من مرتبة الأحرف؛ فليطالعه هناك من كانت له رغبة في الاستئناس بما ذكرنا؛ وأما نيله فلا يكون إلا بالاختصاص، كما قدّمنا؛ ولا بدّ... - {وَإِنَّهُۥ لَتَنزِیلُ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ} [الشعراء: 192]: والواو من جهة الظاهر للاستئناف، ومن جهة الحقيقة للعطف على الآية السابقة {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلرَّحِیمُ} [الشعراء: 191]؛ وهذا، لأن رب العالمين الذي هو "الله"، هو النازل بالقرآن العظيم، وهو المنزّل له؛ وهو كقوله سبحانه: {وَبِٱلۡحَقِّ أَنزَلۡنَـٰهُ وَبِٱلۡحَقِّ نَزَلَۗ} [الإسراء: 105]. وأما الضمير في "إِنَّهُ" من الآية المتناولة، فهو للكتاب من حيث هو وصف للذات، والمذكور بصفة الذكر آنفا في قوله تعالى: {وَمَا یَأۡتِیهِم مِّن ذِكۡرٍ مِّنَ ٱلرَّحۡمَـٰنِ مُحۡدَثٍ إِلَّا كَانُوا۟ عَنۡهُ مُعۡرِضِینَ} [الشعراء: 5]. وسنعود إلى هذه المسألة في الباب الثاني بإذن الله، عند تناول مسألة "خلق القرآن"، فلنُعرض عنها هنا. واللام: لام التوكيد الذي من خاصيته إبراز الاسم المؤكّد، وكأنه مكتوب بخط غليظ بارز. وهذا يجعل القارئ يتوقف عند الاسم "تَنْزيلُ" توقفا يليق بالمعنى؛ والمراد بالتنزيل: المـُنْزَل، الذي هو القرآن العظيم. ونسب هذا التنزيل من كونه مفعولا إلى رب العالمين، لا إلى غيره من الأسماء. ورب العالمين، ليس إلا الاسم "الله"، من كونه رئيسا عاما لجميع الأسماء الإلهية، وبالتالي لجميع مظاهرها؛ ومدبرا لها كلها؛ وهذا التدبير، هو التربية حقيقة. وأما لِمَ اختُصّ الاسم "الرب" بتدبير الأرواح، في مقابل الاسم "الملك" المـُختص بتدبير الأجسام؟ فهو للدلالة على ربوبية الأرباب. وهكذا، يصح أن يُسمّى الله رب الأرباب، لا رب المربوبات وحدها. وهذا يجعل هذا التنزيل، معنيا به كل المخلوقين؛ وهو ما دلّ عليه الخطاب الإلهي في القرآن بـ "يا أَيُّها النّاسُ"، وما يجري مجراه من العبارات الدالة على العموم... والقرآن من كونه ذاتا، لا يعلمه إلا الذاتيّون من العباد. وهم من خرقوا وادي الإمكان، وعادوا إلى عدمهم الأصلي، الذي هو من حقيقة الذات. فهم قد علموا الذات من الذات، عند تحقق انعدامهم، المسمى عند أهل الطريق المحق. فمن هناك تُعلم ذاتية القرآن، وهو مستوى مجاوز لكل المراتب المعلومة إلى الآن. وهذا الوجه القرآني الذاتي، له من الجلال ما يكاد يذهب بتركيب الإنسان ويُلحقه بالعدم حقيقة. والعالِم في هذه المرتبة، كمن يكون في مهب ريح شديدة، وهو متمسك بمعالم صورته التي توشك أن تتفلت منه. وهذا المعنى، هو ما سماه الله ثقلا في قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلۡقِی عَلَیۡكَ قَوۡلًا ثَقِیلًا} [المزمل: 5]. ومن علم شيئا من حقيقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه سيعلم حتما أنه كان تحت وطأة ذلك الثقل طيلة وقته الشريف. فسبحان من ثبته، وسبحان من ثبتنا به!... - {نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِینُ} [الشعراء: 193]: الروح بمعنى المـَلَك، ووصفه بالأمانة، يجعله جبريل عليه السلام؛ لأنه المـَلَك المكلّف بتبليغ الوحي وحده. ومعنى "نَزَلَ بِهِ" في الآية، هو يحتمل النزول به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، انطلاقا من عالم السماء في المرحلة الأخيرة من الإنزال، إلى عالم الأرض. والمـَلَك إذا انتقل من عالم السماء، فإنه يتخذ صورة تناسب العالم الذي نزل إليه؛ وهذا يعني أن الغالب عليه في مخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو اتخاذ صورة بشرية. وبما أنه (أي جبريل) عليه السلام، كان حريصا على التلطف بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم غاية التلطف، فإنه كان يتخذ صورة "دحية الكلبي" رضي الله عنه، الذي كان أحسن الناس صورة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في زمان نزول القرآن. وقد روى أسامة بن زيد رضي الله عنهما: "أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَهُ أُمُّ سَلَمَةَ؛ فَجَعَلَ يُحَدِّثُ، ثُمَّ قَامَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ سَلَمَةَ: «مَنْ هَذَا؟» قَالَتْ: هَذَا دِحْيَةُ! قالَ (أي الراوي) فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: أَيْمُ اللَّهِ! مَا حَسِبْتُهُ إِلَّا إِيَّاهُ، حَتَّى سَمِعْتُ خُطْبَةَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ عَنْ جِبْرِيلَ."[3] . وهذا لا يعني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ما كان يرى جبريل إلا على صورة بشرية؛ بل لقد رآه مرات على صورته الأصلية؛ وهي خصيصة نبوية محمدية، ليست في طاقة بشر غيره. فهو عليه وآله الصلاة والسلام في مقدرته أن يصعد إلى السماء ويخاطب هناك من شاء من سكانها متى شاء. وإن كان أحد يخطر له هنا العروج النبوي، فليعلم أن ذلك العروج كان بداية فتح أبواب السماوات وما فوقها، أمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحسب؛ وكأنه استقبال رسمي. وأما في سائر أوقاته -عليه وآله السلام- فإنه كان يفعل ما يشاء. ولعل هذا التفصيل، مما يغيب عن أذهان كثير من المسلمين. وإذا كان أتباع محمد من الأولياء، يصعدون إلى السماء متى شاؤوا، وكلموا فيها من شاؤوا؛ فكيف بالمتبوع صلى الله عليه وآله وسلم!... - {عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِینَ} [الشعراء: 194]: أي نزل جبريل عليه السلام بالقرآن على قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا نفهم منه أن القرآن هنا هو صفة الكلام لا الذات، والذاتية تتحقق من رسوخ الصفة. كل هذا، في حق غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأما هو فذاتيته لم تتخلف منذ أخرجه الله من باطن الذات، ليرحم به العالمين. والقلب محل إجمال التفصيل، كما هو القرآن مَجلى إجمال التفصيل. وكاف الخطاب هذه متفردة، لكونها مخصوصة بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، الذي لا يُشاركه مخلوق في مرتبته؛ إلا ما يكون من وراثة بالاعتبار الثاني، وعلى قدر الوارث لا على قدر الموروث. والكلام الذي يكون بين الله والرسول صلى الله عليه وآله وسلم، كله أسرار؛ ولا يطلع على بعض الأسرار منه إلا خواص العباد، وبإذن مخصوص من الله ورسوله. والقلب النبوي الشريف، قد خُصّ بالتنزيل، لأنه برزخ بين الروح والبدن؛ وهذا ليعم خيرُ القرآن الروح والبدن معا فيما بعد، وليُختصّ كل شِقّ بخطابه المخصوص من جهة الفرقان. فالروح يزداد بالقرآن علما بربه، والبدن يزداد تنوُّرا وتحقُّقا، إلى أن يبلغ العبد به مرتبة الذاتية عند تمام تروحنه. واللام في "لِتَكونَ"، هي لام التعليل؛ والمعنى هو أن الغاية من إنزال القرآن عليك، هي أن تكون من المنذرين. وعندما يكون الخطاب الإلهي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، عاما غير خاص، من كونه الإنسان، كما هو هنا؛ فهذا يدل على أن حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند نزول الآية، يكون التواضع، حتى ينوب عن العوالم في عبوديتها التي لا يطيق جمعها إلا هو. وهذا أيضا، وجه من وجوه معنى الثقل القرآني، في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأما الأغواث من هذه الأمة، فلهم ذوق هذا المقام وراثة، في زمنهم المخصوص، لا في كل الأزمنة؛ لأن التجلّي الدهري من خصائص نبينا وحده، صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا الحال، عندما يرشح منه شيء على بواطن الأولياء، فإنهم يتمنون أن يطويهم العدم؛ وألا يجري لهم ذكر بأي لسان، لولا التثبيت الذي يأتيهم من حضرته الشريفة. ونحن عندما نذكر الأولياء في مقابل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإننا نقصد من جملتهم الأنبياء والرسل السابقين عليهم السلام. وهذا، لأن الذوق الذي ذكرناه، يحصل لهم من جهة ولايتهم، لا من جهة رسالتهم. ونحن نعلم أن الرسائل الإلهية، قد أُنزلت بين معنيَيْن أساسيْن، هما: البشارة والنذارة. فالبشارة، تفتح للعباد باب الرجاء وجنات السرور بإذن الله؛ والنذارة تنبههم إلى حقائقهم العدمية، حتى لا يزاحموا ربهم في صفة من صفاته، فيحل عليهم غضبه. ومن راعى الترتيب، فإنه سيجد النذارة تسبق البشارة؛ وذلك هو سبب اقتصار الذكر في الآية عليها. والمعنى العام، هو كما ذكر الله تعالى في قوله: {فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ} [آل عمران: 185]؛ أي إن من عمل بمقتضى النذارة، فإنه سيزحزح عن النار، ومن زحزح عن النار فقد فاز، لأنه ليس إلى جانب الجنة والنار منزل. وهكذا، فإن البشارة تكون مضمّنة في النذارة؛ وهو ما ينبغي أن يُفهم من الآية بداهة. ولو أردنا أن نعتبر التفريق بين المعنيَيْن، لوجدنا البشارة المحمدية لا تعدلها بشارة. وقد كنت أقول لمن يجالسني، إن المسلمين أولى بالتبشير (وهم لا يكادون يذكرونه) لو كانوا يعقلون عن ربهم!... ولسنا نعتبر هنا البشارة العامة بالجنات، ولكن نعني البشارة الخاصة بلقاء الله، عن طريق التحقق بالموت المعنوي، في الدنيا، وقبل حلول الموت الطبيعي. وهذا المعنى اللائق بهذه الأمة، لا يكاد يعلمه ومن ثمّ يدل عليه إلا الأولياء؛ لأنهم لا يدلون عليه إلا بعد موتهم. ويا ليت شعري، لو عرف الناس ما نقول، لاتخذوا أيامهم أعراسا كلها، فرحا بالله ورسوله. كنت مرات عندما أقدم على ولي الله، سيدي محمد بن الطاهر، أسأله عن حاله على جري عادة الناس؛ فيرفع يديه إلى السماء، وتنطلق أساريره، ويزداد وجهه نورا، ويقول لي: الحمد الله، أنا فرح بالله ورسوله!... وليعلم الفقهاء قبل غيرهم، أن الفرح بالله ورسوله، هو خُلاصة العبادة، ومن لم يكن له حظ منه، فإنه يصدق عليه قول ابن الفارض رضي الله عنه، والذي كان يردده، سيدي ابن الطاهر كثيرا: - {بِلِسَانٍ عَرَبِیٍّ مُّبِینٍ} [الشعراء: 195]: والمعنى هو أن الله شاء أن يُشرّف اللسان العربي بكسوة كلامه، لكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم (وهو أفضل مخلوق)، شاء الله له أن يكون من العرب. والإبانة هي الإعراب؛ فكأن الله قال: "بلسان عربي مـُعربٍ". ففهمنا من هذا، أن العروبة صفة للسان، وتمييز له من بين الألسن؛ وأن الإبانة، هي الإفصاح عن حقائق التجليات بمراتبها ودرجاتها؛ إجمالا، كما هو الشأن في الفاتحة، وتفصيلا كما هو الشأن في المـُفصّل؛ وقرآنا في آيات الجمع، وفرقانا في آيات التفريق. فتعالى الله العلي الكبير!... وإن دلالة اللسان العربي، تشمل كل اللغات العربية، التي تكون لغة قريش إحداها؛ وهذا لأن العرب قبائل عدة. غير أن الغالب -كما هو واضح- على القرآن لغة قريش، للأسباب المتعلّقة بكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها. والتنكير في الآية للاسم المجرور وللنعتيْن بعده، هو لرفع الضرورة بين القرآن واللسان. ولو أن الآية جاءت: "باللسان العربي المبين"، لكان المعنى مختلفا، وباعثا على القول بالضرورة. وعلى كل حال، فعلى العباد أن يعلموا قاعدة نفيسة في كل ما يصدر عن الله تعالى، وأن يعملوا بها، وهي أن الله يفعل بحسب مشيئته سبحانه، ولا يفعل بالضرورة كما يقول بعض الجهلة. وما عبّرنا عنه نحن بالضرورة، هو ما يعنيه غيرنا بالوجوب، أو بالصدور العضوي (تعالى الله). فيقولون: وَجَب على الله فعل كذا... أو يقولون صدر عنه كذا، ولم يكن في الإمكان غير ذلك. تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا... - {وَإِنَّهُۥ لَفِی زُبُرِ ٱلۡأَوَّلِینَ} [الشعراء: 196]: والضمير في "إِنَّهُ" يعود على القرآن الذي هو الحق. فهذا القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ليس جديدا على العالم، لأنه ظاهر بحقيقته، في زبر الأولين، أي في الكتب السابقة (الزُّبُر ج. زبور، وهو الكتاب). وهذا كله، لأن الكتب السابقة كلها، ليست إلا نسخا عن القرآن، على قدر المـُنزل عليهم من الرسل عليهم السلام. ولا فرق بين الكتب السابقة والقرآن، إلا من حيث المرتبة المحمدية العليا، والتي لا يُطابقها من الناس إلا شخص محمد صلى الله عليه وآله وسلم. ولو افترضنا أن القرآن الذي أُنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، نزل على غيره، للحق ذلك الغير بالعدم من ثقل القرآن؛ ولكن الله عليم حكيم، لم يشأ أن يُنزله إلا على المخصوص به وحده. وهذا التذكير بمرتبة القرآن، لو وعاه الكتابيّون لسارعوا إلى الإسلام قبل غيرهم؛ ولكنها العزة تفعل فعلها. ونعني بالعزة أن الله لم يشأ أن يقبلهم، لا أنهم هم من لم يقبلوا الإسلام. ولا يواجهنا أحد هنا بمنطق الشريعة، كما يفعل أصحاب الطفولة العقلية؛ لأن الجواب منا سيكون متطلبا للخوض في بعض الأسرار، وهذا ليس محلها. ومن الوجه القرآني للكتب السابقة، كان تذكير الله للكتابيّين بأمثال قوله تعالى: {قُلۡ فَأۡتُوا۟ بِٱلتَّوۡرَىٰةِ فَٱتۡلُوهَاۤ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ} [آل عمران: 93]، أو قوله سبحانه: {ٱلَّذِینَ یَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِیَّ ٱلۡأُمِّیَّ ٱلَّذِی یَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِی ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِیلِ} [الأعراف: 157]؛ ووجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكتوبا في التوراة والإنجيل، هو من الحتميات، ما دام القرآن بما هو قرآن، عائدا إليه وحده. وهذا من منطق الحقائق، كما ينبغي أن يعلم العالمون. وهو مما يدل عليه منطق الأشياء، قبل التحري والتتبع المتعلّقيْن بالعقل أو بالعلم الخاص. وهذا جدير بأن يلتفت إليه اليهود والنصارى في زماننا، وقد وجدوا من يدلّهم عليه، إن كان الله يريد أن يهديهم. وأما فقهاء الإسلام، فعليهم أن يعلموا خصوصية القرآن، إن أرادوا أن يكونوا من أهله؛ لأن النسبة العامة وحدها، ليست غاية المطالب!... ولنتوقف عند هذا القدر من سورة الشعراء، لنعود إلى مسألة نزول القرآن بلسان عربي. وقد جهل قوم، فراموا تحكيم قواعد اللغة -كما يعرفها أهلها- على ألفاظ القرآن، وهو أمر لا يصح: أولا: لأن اللغة تابعة للقرآن، وليس القرآن تابعا للغة. وقد ذكرنا أن كلام الله في نفسه، منزّه عن اللسان، فليُعتبر هنا. وقد كنا نحضر في مدة شبابنا مجالس للفقيه أحمد لسان الحق، رضي الله عنه[4]، وسمعنا منه دون غيره، رفضه بشدة للاستدلال بآيات القرآن الكريم في أبواب النحو. فكان يعجبنا ذلك منه رضي الله عنه، ولم نسمعه إلى الآن من غيره!... وقد وقعت بيني وبينه مرة مساجلة بحضور شيخنا سيدي حمزة عليه السلام، ولا أذكر هنا هل ذكرتها في إحدى كتاباتي أم لا؟ لأنها نافعة في بابها... ثانيا: إن معاني القرآن، أوسع من الألفاظ؛ وهذا لا يعرفه إلا من أذن الله له في فهم القرآن. وقد يعجب بعض الفقهاء (فقهاء الدين وفقهاء اللغة) مما نقول، لاعتيادهم على تقييد القرآن بما يعلمون من اللسان؛ حتى جعلوا التفسير قائما في أساسه عليه؛ وهيهات!... ومن معاني القرآن التي هي أوسع من الألفاظ، رغم انطلاقها منها، المعاني الذاتية، التي يعجز أحيانا من علمها أن يصوغها في قوالب غير قرآنية. ولو افترضنا أنه يعدل عن ألفاظ القرآن، إلى ألفاظه هو، لانقلبت تلك المعاني في أذهان السامعين ظلمة وضلالا، لعزتها. وهذا باب خاص، يعلم منه الورثة نفاسة اللفظ القرآني، مع اعتبار مجاوزته لألفاظ اللغة ولا بد. وهو أمر عجيب، لو لم نذكر عنه هذه الشذرة، ما ظن عالم أن الأمر على ما ذكرنا. ويبقى أمامه بعد السماع منا: إما أن يُصدّقنا، وإما أن يُكذّبنا. فإن صدّقنا، لحق بمن صدقوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيما أخبر به عن ربه؛ وإن كذّبنا، فإنه يلحق بالمكذّبين. وسيجد المصدق عن قريب بركة تصديقه، كما يجد المكذب غير بعيد شؤم تكذيبه. ولولا هذا، ما صحّت الوراثة النبوية، ولا اختُصّت بأحكام هي من توابعها!... ثالثا: إن بعض مصطلحات النحو، يتنزه القرآن عنها: كالقول بالحروف الزائدة، المـُفهِم بورود العبث، تعالى الله؛ والقول بالبدل، والحال أن اللفظ القرآني لا يقبل التبديل، ولا يتساوى منه لفظان في معنى واحد أبدا؛ وغير ذلك مما سيطول بنا تعداده هنا، والذي يكاد يشمل جميع القواعد المعلومة، ولو من وجوه بعينها... ومتى كان البحر يُعبَّأُ في القوارير؟!... رابعا: إن ورود الأساليب البلاغية في القرآن، لا يعني أن المعنى ينبغي أن يؤخذ من ذلك الوجه وحده؛ وإن كان للأساليب البلاغية وجه في التفسير مخصوص بمرتبة العوام. وعلى هذا، فرغم أن لسان القرآن لسان عربي، فإن الكلام يبقى إلهيا؛ وهما أمران ينبغي التفريق بينهما، من أجل معرفة قدر القرآن، ومن أجل التعرض لنفحات الله في كلامه. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ لِرَبِّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، فَتَعَرَّضُوا لَهَا؛ لَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ تُصِيبَهُ مِنْهَا نَفْحَةٌ لا يَشْقَى بَعْدَهَا أبدًا.»[5] . والمعنى هو أن لله في تجليات الدهر، الذي هو الزمان المطلق، ما هو معدود من النفحات (العطايا النفيسة)؛ فعلى العباد -كلا في زمانه- أن يتعرض لنفحات ربه؛ لأنه من أصابته نفحة منها، لا يشقى بعدها. فاللهم إنك قد شئت أن تصيبنا نفحات عديدة من جودك ووهبك، فزدنا منها أبد الآبدين يا رب العالمين!... والحمد لك بعد أن أعطيت، وقبل أن تُعطي؛ فإنه لا مـُعطي لنا سواك!... وأما الألفاظ التي وردت في القرآن، وكان أصلها عجميا، كالقسطاس بالرومية (justice)، وغيرها مما هو هندي أو فارسي أو حبشي، فالقاعدة فيها أنها تصير عربية إذا نطقت بها العرب على طريقتها: كإدخال "الـ" أو التنوين على الأسماء، أو تصريف الفعل في صيغة الماضي أو المضارع أو الأمر. وهكذا، فإن القرآن يكون عربيا كله؛ ولا مجال لقول الفتانين، بأن ورود كلمات غير عربية الأصل، يجعل الآية المخبرة عن عروبة لسان القرآن غير صادقة على التمام (نعوذ بالله من شؤم حكاية القول)؛ وهي مغالطة بيّنة، لا يستقيم القول بها، على الأصول التي بيّنّا. ولكن اعتبار الكلمات غير ذات الأصل العربي في القرآن، يعود بنا إلى القول الذي ذكرناه للشيخ الأكبر عليه السلام، والذي يجعل العربية هي كل لسان مـُعرب. وإذا شئنا أن نتوسع في المعنى، فإننا سنجد اللغة العربية أُمّا لكل اللغات، ونجد كثيرا من اللغات الأخرى متضمِّنة لألفاظ عربية غير قليلة. وهذا معلوم من الدراسات الحديثة التي يتناول أصحابها الألفاظ المخصوصة، ويتتبعونها في مختلف اللغات (الألسن). وقد وجدنا على موقع "Business Echoes" ترتيبا لبضع لغات، من حيث عدد الكلمات فيها، نورده هنا من أجل الاستئناس: وهذا يبيّن مقدار ثراء اللسان العربي، باعتبار عدد الكلمات وحده، وأما من جهات البلاغة واختلاف التراكيب والتعابير وتفاصيل المعاني، فإن العربية لا تُدانيها لغة من لغات العالم. وهذه المسألة مما ينبغي اعتباره لدى العرب أولا، ثم لدى غيرهم بعدهم. وهذا، لأنه لا لغة تصلح لأن تكون وعاء للعلوم على اختلافها، كالعربية. هذا، إن كان العلم يُطلب لذاته، لا لخدمة سياسات قاصرة، وهو ما نشك فيه... ويكفي في الدلالة على سعة العربية، كونها وعاء الوحي الإلهي، الذي قال الله تعالى عنه: {قُل لَّوۡ كَانَ ٱلۡبَحۡرُ مِدَادًا لِّكَلِمَـٰتِ رَبِّی لَنَفِدَ ٱلۡبَحۡرُ قَبۡلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَـٰتُ رَبِّی وَلَوۡ جِئۡنَا بِمِثۡلِهِۦ مَدَدًا} [الكهف: 109]، ومعنى الآية الكريمة، هو أن القرآن وإن كان محصورا من حيث ألفاظه معدودها، فإن معانيه لا حصر لها. وهذا، هو ما كنا نعبر عنه في كتاباتنا، بتجلّي الإطلاق في الصور المقيّدة. سبحان الله، وبحمده!... وعلى كل حال، فإننا سنتوقف هنا فيما يتعلق باللسان العربي، لأن مرادنا كان الإشارة والتنبيه، إلى هذا الأصل الأصيل في القرآن. وقد نعود إلى بعض جوانب المسائل الفرعية من هذا الفصل، في الباب الثاني بإذن الله، عندما سنتناول المسائل كما عرضها أصحابها... [1]. أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.