اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2024/06/12 الإنسان القرآن (مقدمة في تفسير القرآن الكريــم) .11.(ج2) الباب الأول: القرآن وحقائقه الفصل العاشر: خلق محمد صلى الله عليه وآله وسلم (ج2) (تابع...) وإن الصفة المعنوية التي كان عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هي التي تكون في مقابل "أحسن تقويم" الخلقية. ولله درّ البوصيري رضي الله عنه، عندما قال في وصف نبينا صلى الله عليه وآله وسلم: ويجدر بنا هنا أن ننبه إلى أن الكمالات الإنسانية، منها ما يعرفه الناس بطباعهم السليمة، كما كان يعرف القرشيون بعض صفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة، حتى كانوا يلقبونه عليه السلام بـ "الصادق الأمين"؛ ومنها ما لا يُعرف بالعادة. ولكن هذه الكمالات المحمدية، هي ما سيظهر مع نزول القرآن تباعا وباطّراد؛ وهنا سينتقل حكم الطبيعة من الناس إلى الحكم الشرعي، وهو ما سيجعل كثيرا من الموقنين بخصال الكمال الإنساني زمن نزول القرآن[1]، يتوقفون، ويعيدون حساباتهم، ليشقوا سبيل الإيمان التي لم يكن لهم بها عهد؛ في مقابل آخرين ضاقت عقولهم لظلمتها، فصاروا يُنكرون ويسعون إلى التضييق على غيرهم. وقد يروم قائل أن يعترض علينا في قولنا عن الناس إنهم لم يكن لهم عهد بالدين، وهؤلاء اليهود والنصارى لم تكد تخلو منهم بلاد، فنجيب: نحن عندما نتكلم عن الدين، فإننا لا نقصد به المفهوم من الدين في أذهان الناس بحسب العرف؛ ولكن نعني المعنى الذي يدل الله عليه من كلامه، ويُخبر عن أصوله وغاياته وحده؛ وهو ما غاب عن كثير من مقلِّدة المسلمين أنفسهم اليوم، بعد عمليات التحريف المتكررة عبر العصور. وإن محور ابتلاء الناس في الشخص المحمدي، في عصر النبوة أو في العصور التي بعده، هو أن الإنسان في عُرف الناس، من كان في نظرهم نظيرا لهم ومشابها فحسب؛ وأما أن ينفرد عنهم بخصوصية ربانية عليا، فما كان للواحد منهم أن يتبيّن شيئا منها، إلا بتوفيق من الله وإذن خاص؛ يقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفۡسٍ أَن تُؤۡمِنَ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَیَجۡعَلُ ٱلرِّجۡسَ عَلَى ٱلَّذِینَ لَا یَعۡقِلُونَ} [يونس: 100]. ولقد ضل عن هذا الأصل، كثير ممن يعدون أنفسهم علماء للدين، وأضلوا مَن بعدهم من العامة المقلدين لهم. ولسنا نعني إلا أمريْن، نستخلصهما من الآية الكريمة: وهذا الامتحان الذي امتحن الله به البشرية كلها، في شخص محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بكيفية مباشرة بالنظر إلى من عاصره من الناس؛ وبكيفية غير مباشرة (وهي مباشرة في الحقيقة)، بالنظر إلى من لم يُعاصروه؛ لا يعلم قدره في شدة الوقع على النفوس، إلا من سلك الطريق، وذاق ما ذاقته الصحابة على الخصوص. والامتحان حيث كان، هو مظنة الفوز أو الخسران؛ فكيف إذا كان المـُمتحَن فيه سيد الأولين والآخرين! فلا شك أن الفوز سيكون عظيما، وأن الخسران سيكون مبينا. والقرآن عندما يصف أحوال المـُصدّقين والمـُكذّبين، فإنه لا يحصر ذلك فيمن عاصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو عاصر نبيا من الأنبياء النواب عليهم السلام قبله، كما يفهم ذلك المحجوبون؛ ولكن يدل على امتحان مستمر إلى قيام الساعة، ويعني في الزمن التشريعي المحمدي -على الخصوص- الشطريْن من أمتنا: من عاصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصحابة ومن التابعين، ومن جاء بعدهم ممن آمنوا عن خبر متوارث في مختلف الأزمنة إلى يوم الدين، بإزاء الورثة المحمديّين. ولعلنا سنعود إلى هذه المسائل في فصول قادمة بإذن الله... ولنعد إلى خَلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخُلقه، لندل على أنه من جهة طبيعة جسمه الشريف كان أكمل جنين، وأكمل وليد، وأكمل رضيع، وأكمل صبي، وأكمل شاب، وأكمل كهل. وقد وردت أخبار في هذا كله، نرى أن متأخري الفقهاء لم يعتنوا بها كما ينبغي؛ حتى صرنا نرى السفهاء يتكلمون عنه صلى الله عليه وآله وسلم بجرأة تخر لها السماء، وهم لا يشعرون. بل يظنون أنهم أكثر موافقة للدين، من قوم يعتبرونهم خرافيّين، عندما بدا عليهم (الخرافيين زعما) في الظاهر، ما لا يجدون له مستندا في نظرهم الكليل. وعندما ندل على الكمالات التي تجلت في النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أطوار نشأته الجسمية، فإننا ندل على أنه كان خلاصة الطبيعة من حيث هي، وغاية منتهى حركة الأفلاك، وأخص ما بلغته عناية الأملاك. وهذا لأن الشخص المحمدي هو المقصود من خلق كل الخلق، بما يجعل كل ما سبقه منهم من العلويات والسفليات، لا يعدو أن يكون إلا مقدّمة له. ولا شك أن القارئ يذكر أننا قلنا في فصل سابق، بأن الإنسان هو العالم الأصغر، وهو خلاصة العالم الأكبر والغاية منه. غير أن كثيرين عندما يُذكر خلق الإنسان، ينصرفون بأذهانهم إلى آدم عليه السلام، من كونه مخلوقا باليديْن الإلهيتيْن خلقا مباشرا، ومن كونه أول مخلوق على الأرض من هذه النشأة في الترتيب الزماني؛ وهذا كله معتبر، ولا يُخالَف قائله عليه؛ ولكن الذي يغيب عن الناس عموما، وعن سواد هذه الأمة خاصة، هو أن آدم عليه السلام، على مكانته عند الله، لم يكن هو الغاية الكبرى من خلق البشر؛ لأن هذه المرتبة هي لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، الذي شاء الله أن يخلقه بعد قرون عديدة من خلق أبيه آدم. وهذا يعني أن الحكم التدبيري في السماوات، قد انتقل من الاسم "الباطن" إلى الاسم "الظاهر"، عند انتهاء دورة "الباطن"؛ وهي دورة في الزمان كاملة. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حَجّته: «الزَّمانُ قَدِ اسْتَدارَ كَهَيْئَةِ يَومَ خَلَقَ السَّمَواتِ والأرْضَ (...)»[2] . ونحن نرى أن المدة الزمانية من خلق الأرض إلى خلق آدم، كالمدة من خلق آدم إلى خلق محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكالمدة التي هي من خلق محمد إلى قيام الساعة. أي إن الحكم كما انتقل من الباطن إلى الظاهر، قد انتقل من الأول إلى الآخر؛ فهي ثلاث مدد زمانية متناظرة. ومما يدل على اصطفاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم، من بين كل بني آدم (وآدم معهم)، قول الله تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَاۤ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِیِّـۧنَۗ} [الأحزاب: 40]؛ وقد أجمع المفسرون على أن صدر الآية قد نزل في زيد بن حارثة رضي الله عنه، وفي تحريم التبني، وهذا من جهة الظاهر وسبب النزول؛ وأما من جهة الباطن الذي ندل عليه هنا، فإن نفي أبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يُشير إلى مكانته من بني آدم. والمعنى: لا تصفوا محمدا بما وُصف به آدم بالطبيعة، لأنه أسبق منه في المرتبة وأعلى. وهذا يعني -كما أسلفنا في مسألة رفع ذكره عليه السلام- أن آدم كان أباً بمحمد، لا بنفسه. كما يعني أن محمدا أب الآباء والأمهات من مرتبةٍ نهى الله عن انتساب أحد بالبنوة إليها، رفعا للالتباس. وأما أولاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الذكور والذين هم: القاسم وعبد الله وإبراهيم، فقد ماتوا صغارا؛ مع نزول الآية أو بدونه. وهذا فيه من الحكمة، ما يدخل فيه أن الآية من جهة المعنى سابقة في العلم على ولادة أبناء النبي من الذكور وحاكمة عليهم؛ بحيث إنها قضت ألا يبلغ طور الرجولة منهم أحد. وفي انقطاع نسب النبي من هذه الجهة إثبات للمرتبة المحمدية من جهة حقيقتها؛ والتي لا تقبل مزاحمة، ولو عن طريق الانقسام والتفرع بالمعنى البشري. وقد حكم هذا الأصل في كثير من الورثة بهذا، أو بما يُشبهه من وجه ما، مع أنهم ليسوا فيه إلا فروعا؛ وقد حدثتُ مرة بإخبار سيدي ابن الطاهر رضي الله عنه عن نفسه -وقد كان متجردا يكاد يفقد الصلة بالمخلوقين- أن "المقام" هو الذي حكم عليه بذلك. وأما كلمة {رِّجَالِكُمۡ}، فلا تعني الرجال من الورثة المحمديين، ولكن هي مقصورة على المعنى المعتاد من الرجال؛ والدليل ضمير "كُم"، الذي يعود على الناس من مجتمع ذلك الزمان، والذين من بعدهم. ونعني بكلامنا أن الورثة، هم من حقيقته، ويندرج نورهم في نوره؛ فلا ذكر لهم معه حتى يكونوا أبناء أو غير أبناء. والذي أثبته الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، بأسلوب الاستدراك، هو كونه رسول الله وخاتم النبيين. وصفة الرسالة هنا، ليست الصفة المشتركة التي يدخل فيها سائر الرسل عليهم السلام، ولكن هي الرسالة بالأصالة والتفرد؛ وهي محور معنى ختم النبوة. والخاتم، ليس هو الخاتِم (بالكسر) وحده، وإن صح هذا المعنى فيه ووردت القراءة به، ولكنه الخاتَم (بالفتح)؛ أي الذي تعود إليه النبوة بالإصالة والإفراد. وهذا المعنى الذي نُسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يكاد يجهله جل المسلمين، مع أننا سمعنا عجما من غير المسلمين يميّزونه، ويستعملون اللفظ في لغتهم، الذي يدل عليه لفظ (seal)، من جهة المعنى والرمز. وهذا من عجيب ما يقع للناس!... فما أقرب الناس إلى الحق، وما أبعدهم!... وقد أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى فرادة مرتبته في بعض الأحاديث، منها قوله: «أَنا سَيِّدُ وُلْدِ آدَمَ وَلا فَخْرَ، وَأَنا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا فَخْرَ، وَأَنا أَوَّلُ شافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَلا فَخْرَ، وَلِواءُ الْحَمْدِ بِيَدِي يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا فَخْرَ.»[3] ، ومنها قول العباس بن عبد المطلب عليه السلام: «قلتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ قُرَيْشًا جَلَسُوا فَتَذاكَرُوا أَحْسابَهُمْ بَيْنَهُمْ، فَجَعَلُوا مَثَلَكَ مَثَلَ نَخْلَةٍ فِي كَبْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَقالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ، فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِ فِرَقِهِمْ، وَخَيْرِ الْفَرِيقَيْنِ، ثُمَّ خَيْرِ الْقَبائِلِ؛ فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِ الْقَبِيلَةِ، ثُمَّ خَيْرِ الْبُيوتِ؛ فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِ بُيُوتِهِمْ. فَأَنا خَيْرُهُمْ نَفْسًا، وَخَيْرُهُمْ بَيْتًا.»»[4] . وأما الحديث الآخر، فقد جاء فيه: كل هذا، كان يرصد تنزل الشخص المحمدي من الآباء إلى أن أذن الله بالميلاد الشريف الذي كان فرحة عامة للأكوان، لعلمها بمكانته عند الله، وأنه السبب الذي يرحم به المخلوقات كلها. ولم يغب عن هذه الفرحة الكبرى، إلا شطر من الثقليْن؛ وأما غيرهم فقد لاحت لهم البشائر واستيقنوا فضل الله، بدءا من البيت الشريف والوالدة السعيدة آمنة عليها السلام، والجد والأعمام، وكل من كان على فطرة سليمة وأصالة في الخير. ولا نشك نحن أن الخواص من هذه الأمة، لهم علم خاص بحال الكون في ذلك اليوم السعيد، وقد رأينا بعض من كتب في ذلك وأجاد، من أمثال القاضي يوسف النبهاني رضي الله عنه في كتابه: "الأنوار المحمدية من المواهب اللدنية". فجزاه الله خيرا، وجزى أمثاله، ممن حرصوا على إبراز الخصائص المحمدية... ولولا مسارعة الإنكار إلى نفوس الناس اليوم، لذكرنا بعضا من ذلك تبركا... ولنذكر في ختام هذا الفصل سرّ ظهور محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأسماء الإلهية، بالمعنى القرآني، حتى يسهل على القارئ إدراك معاني القرآن فيما بعد، إذا وجدها على التقابل. وما نعني هنا، إلا ما يعود إلى الحقيقة الأولى، من مرتبتيِ الحق والخلق. وقد سبق لنا أن ذكرنا أن الأسماء الإلهية، هي مجموع الصفات الإلهية التي انتهت الأسماء فيها إلى رئيس المرتبة "الله"؛ وهذا يبدو جليا من جهة فاعلية الأسماء، التي يمتاز بها الحق. ولكن كثيرا من الناس يجهلون كيفية تعلق هذه الأسماء نفسها بوجه الخلق من الحقيقة، أي من الوجه المسمّى محمدا؛ أو على التدقيق أحمد. وهو ما دل عليه عيسى عليه السلام من قول الله تعالى: {وَإِذۡ قَالَ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ یَـٰبَنِیۤ إِسۡرَ ٰءِیلَ إِنِّی رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَیۡكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیَّ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَمُبَشِّرَۢا بِرَسُولٍ یَأۡتِی مِنۢ بَعۡدِی ٱسۡمُهُۥۤ أَحۡمَدُۖ} [الصف: 6]، وهو أيضا ما يوافق علم عيسى من محمد، قبل خلقه في عالم السفل. ومن تنبه إلى ما كنا نسميه منطق القرآن، فإنه سيجده آية كبرى في الدلالة على الشخص المحمدي، من معلوم عيسى خاصة. ومن عاد إلى كلامنا سابقا عن الاسم "محمد"، فإنه سيعلم ما الذي يُقصد من الاسم أحمد هنا. وهذا الوجه المحمدي من الحقيقة، له الانفعال، لا الفاعلية؛ وبذلك فإنه سيكون الوجه المخصوص بعبوديته التامة عليه وآله الصلاة والسلام. وإن كثيرا ممن يخوضون تطفلا في علوم الخواص، يستهويهم جانب الربوبية، ويأخذهم الشيطان بإضلاله، في متاهات، يتنزه عنها العامة من المسلمين، وينسون أن الأمر في الحقائق وبالتالي في الربانية، شقان متقابلان: الربوبية والعبودية. وقد يظن بعض الجاهلين أننا عندما كنا نتكلم عن معنى الخلافة عن الله، فإننا كنا نقصد معنى الربوبية وحده؛ والحقيقة هي أن جانب العبودية ثابت لا يُرفع، ومـُكمِّل في الخليفة لوجه الربوبية. والكمال عند الربانيين في التحقق بالربوبية، لا بد أن يكمله الاتصاف على الكمال أيضا بالعبودية. وكما يكون الانتهاء في التحقُّق مفضيا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكذلك كمال العبودية بذلك القدر، لا يكون إلا له. وإن كان الجمع بين الربوبية والعبودية وحده، يُعجز العقول عن إدراكه؛ فما القول في جمع ذلك على التمام، والذي لا يكون إلا له صلى الله عليه وآله وسلم. ومن نظر إلى أحد الوجهيْن دون الآخر، فإنه سينحجب عن الوجه الآخر المقابل؛ وبالتالي سيكون جاهلا بالحقيقة، لا عالما. وممن انحجب بالربوبية، المتصوفة، الذين يتوهمون أنهم أعلم بالنبي من غيرهم. وعلى الضدّ منهم، من انحجب بالعبودية وحدها، كالمتسلفة، الذين لا يعلمون إلا قدرا من عبودية النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وأما الجمع في العلم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه يكون لأهل الجمع وحدهم، وعلى تفاوت فيما بينهم. وبما أننا قد أشرنا إلى وجه الربوبية من الحقيقة المحمدية في السابق مرارا، فلا بأس من أن نذكر من القرآن ومن السنة ما يُثبت وجه العبودية، وهو نفيس في بابه: ومعنى حرمة المسجد هنا معنى شرعي، أي إن الله تعالى كلّف المؤمنين برعاية هذه الحرمة في حال استوائهم على الصراط المستقيم. أما إن هم انحرفوا وأصابهم من الفسق، فإنهم سيُفرّطون في الحرمة بقدر ذلك، ولو وقتيا. وهذا معلوم من المسجد الحرام بمكة، عندما انتهك في عدة مراحل من التاريخ؛ ومعلوم من القلب الآدمي، عندما يميل بعض الأشخاص إلى الشرك. وهنا نذكر لطيفة، ما أكثر ما يلتبس على الناس أمرها، وهي هل عرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الظلمة شيئا قبل بعثته الشريفة؟ أم إن ذلك ممتنع في حقه عليه السلام؟... ومن أجل الإجابة، نذكّر بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو النموذج الإنساني الأعلى، من حيث الحقيقة؛ وأنه القدوة الحسنة لكل أتباعه بصفة غير مباشرة من الأمم السابقة، وبصفة مباشرة من هذه الأمة المحمدية. ولا يختلف هنا حال السابقين عن اللاحقين في شيء؛ بعكس ما يتفوه به بعض الجهلة المتعالمين. يقول الله تعالى بخصوص المعنى العام: {وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا رَحۡمَةً لِّلۡعَـٰلَمِینَ} [الأنبياء: 107]؛ أي لجميع الأمم. ويقول سبحانه، بخصوص المعنى الخاص: {لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِی رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ یَرۡجُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلۡیَوۡمَ ٱلۡـَٔاخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِیرًا} [الأحزاب: 21]. ومن كان نموذجا أعلى وأسوة حسنة للناس، فلا بد أن يذوق كل ما هو من أحوالهم. وعلى هذا، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا بد له من ذوق الظلمة الطبيعية، ليكون أسوة في التنور لكل من شاء الله لهم ذلك. لكن ينبغي هنا على القارئ أن يميّز بين ظلمة الطبيعة، كما هي في أصلها، والظلمة المـُكتسبة لشرار الناس بالأعمال السيئة (قلبا وقالبا)، أو بإمداد الشياطين. فهذا الصنف من الظلمة، هو ما يتنزه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن مقارفته تنزها تاما. لهذا، فإن ما يقوله بعض المتصوفة، من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن له ظل، ولم يكن ينزل على جسمه الشريف ذباب، هو مما يدخل بهم في التنقيص من قدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولا يكون بحال من الأحوال من تعظيمه. وذلك لأن التعظيم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ينبغي أن يكون عن علم، لا عن جهل!... وعندما اكتملت مختلف القوى في الشخص المحمدي، ببلوغه سن الأربعين، صار مستعدا لتلقي القرآن؛ لا عن ترقب ولا عن انتظار، ولكن بسذاجة وصفاء سريرة وطوية، وطهارة ظاهرية وباطنية. ظهر كل ذلك في نفوره -عليه السلام- بداهة، مما كان عليه مجتمعه من جهتَيْ العموم والخصوص كليهما، مما هو معدود من النجاسة أو من الرجس. وظهر ذلك النفور في إيثاره للعزلة والاختلاء، وهو أمر معروف من السيرة للخاص والعام، انقطع فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ربه بالكلية. ولما تم الكمال المحمدي من جهة الحس ومن جهة القوى، أمر الله الملك الموكل بالوحي الذي هو جبريل عليه السلام، بالنزول على قلب أفضل الأنبياء عليه وعليهم السلام، بالقرآن العظيم، الذي لا يطيق نزوله عليه غيره. وهو ما يُشير إليه قول الله تعالى: {وَإِنَّهُۥ لَتَنزِیلُ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ . نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِینُ . عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِینَ . بِلِسَانٍ عَرَبِیٍّ مُّبِینٍ. وَإِنَّهُۥ لَفِی زُبُرِ ٱلۡأَوَّلِینَ . أَوَلَمۡ یَكُن لَّهُمۡ ءَایَةً أَن یَعۡلَمَهُۥ عُلَمَـٰۤؤُا۟ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰئِیلَ . وَلَوۡ نَزَّلۡنَـٰهُ عَلَىٰ بَعۡضِ ٱلۡأَعۡجَمِینَ . فَقَرَأَهُۥ عَلَیۡهِم مَّا كَانُوا۟ بِهِۦ مُؤۡمِنِینَ . كَذَ ٰلِكَ سَلَكۡنَـٰهُ فِی قُلُوبِ ٱلۡمُجۡرِمِینَ . لَا یُؤۡمِنُونَ بِهِۦ حَتَّىٰ یَرَوُا۟ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِیمَ} [الشعراء: 192- 201]. ولنترك الكلام عن القرآن ونزوله، إلى الفصول الموالية تباعا، بإذن الله تعالى... [1] . لا يتوقف زمان نزول القرآن عندنا، في السنوات المعلومة عادة، من السيرة النبوية الشريفة؛ ولكن هو مستغرق لجميع الأزمنة، على الخصوص ما كان منها بين البعثة الشريفة وقيام الساعة... |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.