اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2024/06/04 الإنسان القرآن (مقدمة في تفسير القرآن الكريــم) .11.(ج1) الباب الأول: القرآن وحقائقه الفصل العاشر: خلق محمد صلى الله عليه وآله وسلم (ج1) عندما خلق الله آدم، جعله أول خليفة عنه، لكنه لم يُعطه ذلك بالأصالة وإنما بالتبع؛ وجعله ومَن بعده من الأنبياء عليهم السلام، كالمبشرين الذين يُبشرون بمقدم من له تلك المكانة بالأصالة. وهذا، لأن الخطب جسيم، والظهور به في العالم كله، وفي الأزمنة كلها، ينبغي أن ينتهي إلى واحد، بحسب ما اقتضته المشيئة. ولعلنا في الباب الثاني من الكتاب، نجد باعثا على الكلام عن تعلق المشيئة بالخلافة عن الله، فلنصرف النظر عنه هنا... ولقد سبقت لنا الإشارة إلى أن صورة آدم الخِلقية، جاءت على هيئة صورة الإنسان الكلي، بحيث ظهرت صورة طبيعية، بعد أن كانت صورة معنوية، فوق-طبيعية. وجاءت صورته المعنوية التي هي الخلافة، تنزّلا لروح المعنى بالاسميْن "الله" و"الرحمن"، على البدنية الطينية؛ وهما من تعود إليهما جميع الأسماء الإلهية من كونها أسماء لهما، فكان آدم على صورة الحقيقة المحمدية، جامعا بين الحق والخلق في عالم الطبيعة. وهذا من الآدمية بالنظر إلى الحقيقة المحمدية، كظاهر الظاهر، وباطن الباطن. ولسنا نعني إلا أن الحق الذي بطن في الحقيقة المحمدية قد أصبح ظاهرا في آدم، وأن محمدا الذي كان ظاهرا من تلك الحقيقة قد أصبح باطنا فيه. وهذا هو أصل تقلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأصلاب والأرحام منذ آدم إلى أن التقى الأبوان السعيدان عليهما السلام: عبد الله بن عبد المطلب، وآمنة بنت وهب؛ فأذن الله بظهور سلطان الخلفاء، وسيد العبيد، في أكمل ما يُمكن أن تحتمله صورة أو يدل عليه معنى. وقد جاء في معنى بطون محمد في آدم، آيات من القرآن وأحاديث من السنة، سنذكّر ببعضها، بحسب ما يناسب الوقت: ومما يدل على رفع ذكره صلى الله عليه وآله وسلم، اقتران اسمه في شهادة التوحيد باسم الله. وهذا مخصوص به صلى الله عليه وآله وسلم، من دون سواه من الأنبياء؛ بخلاف ما قد يظنه من لا علم له من أن الشهادة كانت على هذه الصورة في كل زمان ومع كل رسول. ونعني أن بعض من لا علم له، يتوهم أن الشهادة كانت -مثلا- في زمن موسى: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن موسى رسول الله. ورغم أن هذا من جهة المعنى صحيح، إلا أنه من جهة اللفظ وهو الأولى بالاعتبار هنا، لا يصح. وقد كان معنى الشهادة يُعبّر عنه بجملة أو بفقرة، تحوم حول معنى التوحيد الذي دلّ عليه كل الرسل عليهم السلام. لكنّ صيغة الشهادة كما جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فريدة، ومخصوصة به. فمن جهة اللفظ، هي على أقصى ما يُمكن أن يبلغه إيجاز؛ وعلى تركيبة معجزة، تُكثّف ما لا حد له من المعاني. وإن انقسامها من جهة اللفظ إلى شهادتيْن: شهادة لله بالوحدانية في الألوهية، وشهادة لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة؛ لا يعني إلا أنها شهادة واحدة بوجهيْن، وهو ما أشرنا إليه من رفع الذكر المخصوص به نبينا صلى الله عليه وآله وسلم. وحتى نستكمل ما أسلفنا فيه الذكر، من كون هذه الشهادة (بالصيغة المعلومة للمسلمين) لم تُسبق، فإننا نقول: إن هذه الشهادة كانت سابقة في العلم الإلهي على خلق آدم، وبقيت مُدّخرة إلى أن بُعث صاحبها المخصوص، فجعلها مفتاحا للدين في صورة كماله، وأخبر أنها في الآخرة مفتاح الجنة. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، لا يَلْقَى اللهَ بِهِما عَبْدٌ غَيْرُ شاكٍّ فِيهِما إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ!»[1] . والمعنى هو أن هذه الشهادة شرط في هذا الدخول، وهو شرط عام يشهد به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يشهد به سائر الأنبياء والرسل، ثم سائر المؤمنين. ولو افترضنا جدلا، أن واحدا من الرسل (حاشاهم) لم يشهد بهذه الشهادة، لم تكن الجنة لتقبله. ونحن ما أتينا بهذا الفرض، إلا إعلاما للناس بقدر هذه الشهادة؛ وإلا فإن ذلك يكون منا سوء أدب معهم ومع نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، نعوذ بالله من ذلك!... وسيأتي فيما بعدُ -إن شاء الله تعالى- ما يزيد هذا المعنى وُضوحا. وأما شهادة رسول الله لنفسه صلى الله عليه وآله وسلم، فليس هذا محل تبيين المراد منها؛ وهو مما لا يعلمه إلا الرسل خاصة والورثة... ولنذكر باقتضاب مناط التوسّل في الشريعة، حتى نزيل الشك الذي يتخذه المبطلون في زماننا بضاعة. ومُرادنا، هو أن مَن كان واسطة بين الحق والخلق في الإيجاد، كان وسيلة إلى الحق في تحقيق الرغبة ونيل المراد؛ وهذا -كما نقرر مرارا- لأن الأحكام الشرعية تنبني على الحقائق. وفي هذه المسألة، قد سبق لنا أن أثبتنا أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم من جهة الحقيقة، كان أول مخلوق، ومن نوره خلق الله سائر المخلوقين من جميع الأجناس. وهذه المرتبة الوجودية، قد أعطت هذا المخلوق المـعظَّم عند ربه، أن يجعله وسيلة إليه؛ أي إلى العلم به، وإلى نيل رضاه سبحانه. يقول الله تعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱبۡتَغُوۤا۟ إِلَیۡهِ ٱلۡوَسِیلَةَ وَجَـٰهِدُوا۟ فِی سَبِیلِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} [المائدة: 35]، ويقول سبحانه أيضا: {أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ یَدۡعُونَ یَبۡتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلۡوَسِیلَةَ أَیُّهُمۡ أَقۡرَبُ وَیَرۡجُونَ رَحۡمَتَهُۥ وَیَخَافُونَ عَذَابَهُۥۤۚ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحۡذُورًا} [الإسراء: 57]. فالآية الأولى تخص معنى التقرب عن طريق التزكية، والآية الثانية تخص معنى نيل رضوانه تعالى، وأمْن عذابه؛ والأمر هنا بالتغليب، ما دام المعنيان لا يقبل أحدهما أن ينفصل عن الآخر. والوسيلة التي وردت في القرآن بصيغة الإفراد والتعريف المفيديْن لمعنى العهد، قد ذُكرت لأن أمرها لا يلتبس على أحد، وحتى يتخذها كل من حالفه التوفيق سببا إلى ربه، ما دام لا غنى لأحد عن ربه، وإن توهم متوهم -لعلة ما أو لوقت ما- خلاف ذلك. وقد يعترض معترض بقوله: إن الوسيلة قد خفيت عن أناس كثيرين، ولولا ذلك الخفاء ما كان كفر ولا صح أن يوصف به أحد!... ونحن لا نخالف في هذا الوجه القائل، خصوصا وأن ظاهر حال الناس يؤكده؛ ولكن الأمر من جهة الباطن والحقيقة، نجده على ما ذكرنا من معلومية الوسيلة وعمومها. لذلك، فحتى الكافر الذي هو محجوب عن نور الهداية الدال على مكانة الوسيلة المحمدية، لا يخفى عنه هذا من جهة باطنه وروحه؛ بل لولا معرفة الكافر من جهة باطنه بالوسيلة وما يترتّب عليها، ما صح أن يكون كافرا، إن نحن عدنا بالاصطلاح إلى المعنى اللغوي مِن كَفَرَ، والذي هو غطّى وستر. فلولا وجود المكفور من الكافر، ما كان كافرا، ولا صح لعاقل أن يُسميه كذلك. فليُعتبر هذا الأصل في هذا المحل وفي غيره، فإنه أصيل في القرآن الكريم... وأما محبوبية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهي من أسرار الذات؛ وعلمها لا يؤتيه الله إلا لأخص خواص عباده. وهذا العلم لعلوّ شأنه، لا يعلمه إلا من كانت له قدم في هذه المحبوبية؛ إما بالنيابة، وهو ما حصل لآدم عليه السلام من كونه أول الأنبياء؛ وإما بالوراثة، وهو ما وقع لنا -بحمدالله- ولأمثالنا. وهذا المقام، مع ما يُعطيه من علوم ذوقية منوطة به، أمره غريب، وشأنه عجيب. ومنطقه مخالف لجميع مناطق (ج. منطق) العلوم الدينية، قبل غيرها من العلوم. والكلام فيه لأهله، منهي عنه؛ إلا ما يكون من باب الإشارة، والإشارة بُعد كما أخبر أئمة الطريق. وإن كانت المحبوبية في عمومها على هذه الشاكلة، فكيف بمحبوبية محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي لا مشاركة فيها لأحد. ومن هذا الوجه يصح للقائل أن يقول: لا يعلم محمدا حقيقة إلا الله!... وهذا في مقابل قوله: لا أعلم بالله من محمد صلى الله عليه وآله وسلم!... وهذا يعني أن الأمر كلّه، ومن كل وجوهه، محصور بين الله وعبده محمد صلى الله عليه وآله وسلم. ولولا أن الله جواد مفضال، وأن حبيبه صلى الله عليه وآله وسلم على صفته، ما كان يصح لأحد منا أن يناله شيء مما ذكرنا، أو مما سنذكر. فالحمد لله على نعمه حمدا، نرجو من نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، أن يتفضل وينوب عند ربه فيه عنا؛ وأن يشهد به (الحمد) لنا في حضرة أزليته، قبل أن تتعلق نسبة منا بشيء من ذلك، إلا ما يكون منه إليه... وأمر الله لآدم بأن يدعوه بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، هو تعليم له ولجميع ذريته؛ إن هم وقعوا في المعصية، وخافوا على أنفسهم العقوبة. وإن الله تعالى، لا يأمر باتخاذ محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيلة في الدعاء، إلا وهو يعلم أنه لا يرد من فعل ذلك. وهذا، من الأسرار التي هي منوطة بالمحبوبية؛ فلا يطمع أحد أن يُدركه من باب العلم بالشريعة، كما هو عند علماء ظاهرها؛ ولا أن يُدركه من جهة العقل، لأنه مجاوز له. وإن إخبار الله لآدم بمغفرة ذنبه، بصيغة الماضي، مع "قد" التي هي للتحقيق (فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ)، يجعل هذه المغفرة بمعنى مخصوص؛ وهي أنها محو للذنب، حتى لا يبقى للأسماء المـُطالِبة أدنى وجه للتعلق به. وهذا الصنف من المغفرة -جعلنا الله من أهله- لا يُنال إلا بالإتيان إلى الله من الباب المحمدي المخصوص؛ فلا يغفل أحد عما ننبه إليه، بما تدل عليه الشريعة من مكانة للأعمال المشروعة، أو حتى بالتوجه إلى الله من مكانة العبد التي تخصه؛ لأن ذلك كله لا يبلغ في الأثر التوسل بحبيب الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقد أدركنا صنفا من عوام المسلمين على هذا التوسل، بما يُعطيه الإيمان والتسليم وحدهما، وكنا نرى أثر ذلك عليهم في الدنيا قبل الآخرة؛ ونرى الآن قوما مسلمين، أكثر من سلفهم -فيما يبدو- علما وعملا؛ ومع ذلك، نرى عليهم أثر الحرمان الذي لا نشك فيه!... نعوذ بالله من الخذلان، ونفر فرارا إلى بابه الأحمدي الذي جعله لأمثالنا من المقصرين ملاذا، ونعم الملاذ!... وإن إخبار الله لآدم بعبارة "وَلَوْلا مُحَمَّدٌ ما خَلَقْتُكَ!"، تدل دلالة صريحة، على كون محمد صلى الله عليه وآله وسلم، هو غاية الغايات. يؤيد هذا، كل ما جاء به القرآن العظيم، كما سنبيّن بإذن الله ذلك المرة بعد الأخرى؛ ويؤيده ما جاءت به السنّة المطهّرة؛ ويؤيده الكشف الصحيح من أهل الكشف عليهم السلام. وبما أن هذا المعنى، هو ما يدور عليه الكتاب كله، فإننا نكتفي هنا منه بهذه الإشارة المقتضبة، لنعود إليه من وجوه أخرى، مباشرة كما هو الشأن هنا، أو غير مباشرة. فليحفظ القارئ وجهته، ولا يسمح لعقله -ما استطاع- بالتشتّت مع المعاني الجزئية، لأننا لا نبغي من وراء ذكرها إلا تأكيد المعنى الجامع الذي أثبتناه. نعم، نحن نعلم أن كثيرا من العقول المسلمة -فضلا عن الكافرة- تستصعب اعتقاد "غاية الغايات"، ونعلم بعض وجوه ضلالها وأسبابه؛ لكن الخوض في تفاصيل ذلك كله، لا يناسب هذا الباب، فلنتركه إلى الباب الثاني من الكتاب إن شاء الله تعالى... وبما أن بني آدم قد ورثوا أباهم في مرتبة الخلافة، واحدا في كل زمان؛ فإنه سيظهر التفاوت في مظهرية الخلافة نفسها، فيكون من هؤلاء الخلفاء الأكمل فالأكمل؛ بحيث هم عند الله على ترتيب مخصوص من غير شك. وهذا الترتيب في الكمال، لا بد أن ينتهي إلى واحد، بحسب ما يقضي العقل، يكون هو المطابق للحقيقة المحمدية العليا، مطابقة تامة؛ وليس إلا شخص محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وتأكيدنا على أن الخلافة الإلهية تكون لواحد في الدهر، ولواحد في الزمان، هو لأن الله واحد، ولأن الألوهية له وحده سبحانه. يقول الله تعالى: {وَإِلَـٰهُكُمۡ إِلَـٰهٌ وَ ٰحِدٌ} [البقرة: 163]، ويقول سبحانه: {وَقَالَ ٱللَّهُ لَا تَتَّخِذُوۤا۟ إِلَـٰهَیۡنِ ٱثۡنَیۡنِۖ إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَ ٰحِدٌ فَإِیَّـٰیَ فَٱرۡهَبُونِ} [النحل: 51]، وفيه إشارة إلى الثنوية الذين لاح لهم انقسام الكلمة الإلهية من وراء حجاب. وإن كان النهي واردا بخصوص القول بإلهيْن، فهو من باب الأولوية بخصوص القول بثلاثة فأكثر. يقول الله تعالى مخاطبا للنصارى[6]: {فَـَٔامِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۖ وَلَا تَقُولُوا۟ ثَلَـٰثَةٌۚ ٱنتَهُوا۟ خَیۡرًا لَّكُمۡۚ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهٌ وَ ٰحِدٌ} [النساء: 171]. بل ليس الشرك في حقيقته، إلا تعقّلا لكثرة الأسماء، مع الانحجاب عن عودتها إلى اسم جامع واحد. وهذا الانحجاب الذي ندل عليه، هو مناط قول الله تعالى: {مِّن دُونِ ٱللَّهِ} أو {مِن دُونِهِۦۤ}، حيث وردت هذه العبارة من القرآن الكريم؛ وهذا يعني أنه لا أحد يجهل الله على التمام. فإما أن يكون العبد المكلّف على توحيد، وإما أن يكون على شرك؛ لكن من المحال ألا يعرف ربه!... وهذه مسألة طويلة الذيول، وتخالف مـُعتقد العامة، لذلك لن نعرّج عليها هنا؛ وإن وجدنا محلا لها في الباب الثاني، فإننا -لا شك- سنتوقف عندها، من أجل إماطة اللثام عن بعض أسرارها؛ لأننا نراها من أكبر أدلة التوحيد... ومعنى الواحد في الآيات الدالة على واحدية الألوهية، هو من تعود إليه جميع النِّسب الإلهية من صفات وأسماء على كثرتها وتعدد تنزيلاتها (مظاهرها). وكما أن الله واحد في ألوهيته، رغم كثرة وجوه هذه الألوهية، بحيث تبقى معقولة وراء كل تجل اسمي جزئي، مهما بلغ في الجزئية التي هي معنى المرؤوسية في الأسماء؛ أي مهما بلغ الاسم في النزول عند الترتيب الصّفّي للأسماء؛ فهو سبحانه واحد أيضا بالنظر إلى المظاهر الخلافية (نسبة إلى الخلافة). ولو تعددت الألوهية في الاعتبار العام، لجاز القول بتعدد الخلافة في الاعتبار الآخر. ونعني من هذا، أن مظاهر الاسم الله التي هي المسماة خلفاء، تعود إلى واحد يكون بمثابة الخليفة الأصلي، ويكون كل الخلفاء ممن عداه فروعا عنه لا غير؛ وليس إلا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم. وهذه المرتبة الواحدية في الخلافة، يدل عليها العقل السليم بالمنطق الإيماني، وليست بدعا من القول كما يشتهي بعض أهل الظُّلمة أن يقولوا. وإن الكلام عن الخلافة المحمدية عظيم الشأن، ونحن سنتناوله بقدر من الوضوح والتبسيط، نرجو عند الله منه أن يستبين عموم المسلمين هذه المرتبة المحمدية الخاصة، فإن عليها مدار كل رحمة تصيب العباد، وكل فضل جاد به ربهم. ولنبدأ في أول الأمر في التفريق بين الخلافة بالمعنى الاصطلاحي، والخلافة بالمعنى اللغوي: ومن أدرك معنى الخلافة الذي كنا نحوم حوله، فإنه سيكون مؤهلا -بإذن الله- لقبول ما يأتي بعده؛ وهو أن المستوي على العرش من جهة المـُسمّى، في كل زمان، ليس إلا روحانية القطب الغوث، الذي إلى مستواه نزولا -بعد الله ورسوله- يبقى الأمر واحدا غير منقسم. وإلى وحدة الأمر هذه، الإشارة بقول الله تعالى: {وَمَاۤ أَمۡرُنَاۤ إِلَّا وَ ٰحِدَةٌ كَلَمۡحِۭ بِٱلۡبَصَرِ} [القمر: 50]، والأمر في الآية، هو شأن الشؤون، المنوط باليوم الدهري، المتعقَّل من وراء كل زمان؛ وهو المشار إليه تشبيها بلمح البصر، وهو أقل ما يُدرِك الإنسان من معنى الزمان (الزمان الفرد). وأما خبر المبتدأ (واحدة)، الذي ورد مؤنثا، على خلاف المعهود من قواعد اللغة، فهو تنبيه إلى أن الشأن الإلهي بالاعتبار الأول، هو ذات لا غير. وذلك لأن النِّسب تكون سببا في ضلال العقول، عند اعتبار تركيبها؛ أي عندما تكون النسبة نسبة في نسبة أخرى؛ وهو من غريب العلم... ومن يخطر له من العامة أن يعلم من الاسم الواحد الذات الأحدية، والمعنى الخاص بالاسم، من دون أن يطغى أحد الاعتباريْن في الميزان العقلي على الاعتبار الآخر لديه؛ فلا شك هو واهم. وهذا من ضعف العقل، لا من تعقّل العقل بالمعنى المجرد... وأول من نخاطب بهذا القول، أولئك الذين يبحثون مسألة وحدة الذات والصفات من المتكلمين، على أننا لا نقول بوحدة الذات من الأصل، فكيف نُضيف إليها شيئا آخر، تعالى الله!... فالغوث يكون الأمر فيه واحدا، وهو ما دعا إلى أن يكون هو نفسه واحدا؛ لأن الانقسام يقع مع الإماميْن اللذيْن يليانه في المرتبة مباشرة، وهما عبد "الرب"، وعبد "الملك". وهذا يعني أن الإماميْن لا يمكن أن يكونا واحدا، بل اثنيْن ولا بد؛ ثم يستمر الانقسام في المراتب إلى أن يخرج عن المحصور من العدد. ورغم وضوح هذه المعاني التي نتكلم فيها هنا، فإنها تغيب عن ملاحظة جلّ الناس؛ وحتى بعد التنبيه إليها، فإنها تبقى عصية على الضبط؛ والسبب هو كونها متعلّقة بعالم الغيب. والغيب ما سُمّي غيبا، إلا لغيابه عن إدراك الحواس... وهذه الخلافة الخاصة، هي محور الخلافة المعلومة من ظاهر الشريعة، التي أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها بقوله: «خلافةُ النُّبوَّةِ ثلاثون سنةً، ثم يُؤتي اللهُ الملكَ مَن يشاءُ.»[7]. ونعني أن الخليفة الذي يكون مستحقا للصفة بالمعنى الشرعي التام، فإلى جانب كونه سلطانا على المسلمين من جهة ظاهره وشهادته، ينبغي أن يكون غوث زمانه في الوقت ذاته من جهة باطنه وغيبه. وإن هذا الملحظ، كان ينبغي أن يكون أساس معنى الخلافة في الفقه، وفي العلوم الدينية عموما؛ لو أن الفقهاء كانوا جامعين في العلم بين ما يتعلق بالغيب وما يتعلق بالشهادة، من جهة التأصيل؛ لأننا لا نطالبهم بأن يكونوا على علم بالغيب كما لا يخفى. لكن الغيب إن لم يُعلم، لا يعني عدم علمه إسقاطه من الاعتبار، وكأنه لغو. وهذا يُفهم من منطق القرآن، الذي جاء فيه ذكر الغيب، مع أن جل من يقرؤونه لا يجاوزون مرتبة العوام. وهذه المسألة من أهم ما ينبغي أن يعتني به الفقه المـُجدّد، ومن أهم ما ينبغي أن يدخل ضمن المنهجية الخاصة بالعلوم الدينية. وبغياب هذا الشِّق من العلم، عن إدراك العلماء، صار المسلمون لا يعرفون مرتبة الخليفة بينهم إن كانوا معاصرين له، كما كان شأن عموم الصحابة والتابعين؛ ولا يعرفون مرتبته، في غير ذلك من الأزمنة، إن كانوا من المتأخرين؛ حتى بتنا نرى شطرا من العلماء بالزعم قبل العوام، يُقلّدون الكافرين في نُظُم حكمهم ولا يرون بأسا في ذلك، مع أن هذه الحال تدل على فسوق عام، وغياب لتحكيم الشريعة في عظائم الأمور قبل صغارها. وعلينا هنا أن نحذّر مَن يريد أن يتبيّن هذه المعاني، مِن أن يخلط بين أحكام الظاهر وأحكام الباطن؛ فثلاثون سنة التي هي عمر الخلافة بحسب المعلوم من اللغة في العادة، لا يُفهم منها أنها محيطة بكل خلافة تامة (ظاهرة باطنة)، بل هي محصورة في الخلافة الأولى المنوطة بالخمسة عليهم السلام. ونعني من هذا، أن كثيرا من السلاطين المعتبرين عند العامة من الخلفاء، ليسوا منهم؛ وأن بعض السلاطين الذين لا يُعرفون إلا بالسلطان، هم منهم؛ شرط ألا يتجاوز العدد الإجمالي اثنيْ عشر. وأول من يُخطئ الناس في نسبته إلى الخلافة، معاوية ومن جاء بعده، باستثناء معاوية الثاني وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما، من دولة الأمويين خاصة. ولقد كان لهذا الخلط في إدراك هذه المعاني، أثر بليغ على علم العلماء، وبالتالي على واقع المسلمين المنحرف؛ إلى أن وصلنا إلى حال، يصعب معه على الناظر أن يعرف أننا مسلمون، إلا ببعض المظاهر التي ليست لها في الاعتبار المكانة التي كنا بصدد إبرازها. والأصل في التفريق بين المعنى الحق للخلافة، والمعنى الوضعي الذي يصدق على شطرها من غير شك، والذي هو "المـُلك"، هو أن الخلافة بالمعنى التام، محصورة في اثني عشر رجلا، بحسب ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: «إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَنْقَضِي حَتَّى يَمْضِيَ فِيهِمُ اثْنَا عَشَرَ[8] خَلِيفَةً (...)»[9] ؛ وأما خلافة الباطن فيتعاقب عليها الرجل بعد الرجل، من آدم إلى آخر واحد تقوم بموته القيامة الكبرى. ومن الفروق الفرعية أيضا، والتي تتفرع عما تقدم: أن الخلفاء الجامعين بين الظاهر والباطن، ليس بينهم اتصال؛ إلا ما كان من شأن الخلفاء الخمسة المرضيّين: أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والحسن بن علي؛ أما خلفاء الباطن فهم سلسلة متصلة لا فجوة زمانية فيها بينهم، مهما قلّت... ولنعد إلى خلافة آدم عليه السلام، لنبيّن فيها هو خليفة عمّن؛ وللجواب طريقان ومستويان صورةً لا حقيقة: ولما بدأت الخلافة النيابية مع آدم عليه السلام، فقد كان لا بد أن تستمر في ذريته. وهي في عصور الأنبياء للأنبياء عليهم السلام، وفي العصور الأخرى لورثتهم؛ إلى أن جاء العصر الفريد الذي بعث الله فيه محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، ونزل على قلبه وهو في الأرض، القرآنُ المخصوص به من مستوى حقيقته. فالقرآن من جهة، من الله إليه؛ ومن جهة أخرى، من حقيقته إليه؛ أي منه إليه. والهاء في ضمير الغائب، عائدة على واحد كما نقول عن الشخص الواحد -مثلا- هذه رأسه، وهذه قدمه. لذلك فلا ينبغي الخلط من كل وجه، عند النظر إلى كل وجه، كما يفعل جهلة المتصوفة، إن هم أرادوا الظهور بمظهر الخواص... وإن نحن عدنا إلى معنى الإنسانية، فإننا سنجد الأصالة فيها لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا نجد آدم إلا أحد نوابه (نُسَخه) فيها؛ وهذا يعني أن الناظر -إن كان موافقا للعلم- عليه أن يعتبر محمدا صلى الله عليه وآله وسلم -ولو بعد خلقه من بني هاشم- قبل آدم؛ اعتبارا تترتّب به معلوماته، ويصحّ له به العلم. وذلك لأن الأمور كلها تعود إلى "الأول" فيها، والأولية في الإنسانية لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، بخلاف الأولية في الآدمية التي هي لآدم؛ والآدمية فرع عن الإنسانية، وليست أصلا لها. وقد ذكرنا في الفصول السابقة قول الله تعالى: {هَلۡ أَتَىٰ عَلَى ٱلۡإِنسَـٰنِ حِینٌ مِّنَ ٱلدَّهۡرِ لَمۡ یَكُن شَیۡـًٔا مَّذۡكُورًا} [الإنسان: 1]، وقلنا عنه إنه متعلّق بالحقيقة المحمدية في المرتبة الأولى. وأما المعنى المـُدرك للعامة من الآية، فهو من توابع المعنى الأول، ولا يصح اعتباره دونه. وهذا، لأن الناظر في الآية، سينصرف إلى التنزيلات التاريخية للقرآن، وهذا الانصراف يكون طريقا إلى الضلال؛ كما نراه شائعا في الأزمنة المتأخرة. وعلى كل حال، فمن طغى على بصيرته اعتبار بنوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآدم، من دون اعتبار أبوته له من جهة الروح والحقيقة، فهو من العوام، إن أبقى على الأدب اللازم؛ وإلا فإنه يكون على خطر في تديّنه، بسبب انعكاس الحقائق لديه... ولما كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم، على هذه المرتبة، علمنا أنه من جهة الخلق، كان أكمل من آدم تسوية وتصويرا. ومن هنا صار العلماء يصفونه بأتم الكمال والاعتدال، رغم أن ما وصفوه لم يكن معلوما للعامة من الفقهاء ومقلدتهم. بل إن جل المسلمين ممن أدركنا في زماننا، لا يرون لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم كمالا يُذكر؛ ويستدلون في ذلك بالقرآن (!)، كمِثل قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِی۟ن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰۤ أَعۡقَـٰبِكُمۡۚ وَمَن یَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَیۡهِ فَلَن یَضُرَّ ٱللَّهَ شَیۡـًٔاۗ وَسَیَجۡزِی ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِینَ} [آل عمران: 144]، مما يوحي بالتسوية؛ وغاب عن هؤلاء أن القرآن يهدي ويضل، وهم -بفهمهم المعتل- لا شك يكونون ممن ضلّ به. يقول الله تعالى: {ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِیثِ كِتَـٰبًا مُّتَشَـٰبِهًا مَّثَانِیَ تَقۡشَعِرُّ مِنۡهُ جُلُودُ ٱلَّذِینَ یَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ ثُمَّ تَلِینُ جُلُودُهُمۡ وَقُلُوبُهُمۡ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ ذَ ٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ یَهۡدِی بِهِۦ مَن یَشَاۤءُۚ وَمَن یُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٍ} [الزمر: 23]، وقد جاء فعل {یُضۡلِلِ} في مقابل {یَهۡدِی}، والفاعل واحد هو الله، والسبب واحد هو القرآن. ويقول الله أيضا: {إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَسۡتَحۡیِۦۤ أَن یَضۡرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوۡقَهَاۚ فَأَمَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ فَیَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۖ وَأَمَّا ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ فَیَقُولُونَ مَاذَاۤ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلًاۘ یُضِلُّ بِهِۦ كَثِیرًا وَیَهۡدِی بِهِۦ كَثِیرًاۚ وَمَا یُضِلُّ بِهِۦۤ إِلَّا ٱلۡفَـٰسِقِینَ} [البقرة: 26]، وما من شيء من القرآن إلا هو مثل، ونعني: عن المثل الأعلى؛ فإذاً كل ما جاء فيه، فهو سبب إما للهداية وإما للضلال. وقد غفل ضُلاّل القرآن عن هذه الحقيقة، وتوهموا أن كل مشتغل بالقرآن حفظا أو تفسيرا أو غير ذلك، فهو من غير شك على الهدى بمجرد الاقتران؛ وهذا، كمن يكون قريبا لأحد الصالحين مثلا، فيتوهم أنه على صلاح، لمجرد تحقّق قرابته. ونسي هؤلاء الضُّلال، أن هذا السبب من أخص أسباب الضلال، بما أنه يُغفِل الناظر عنه. ولولا هذا، ما كان الله يجعل أول من تسعّر بهم النار من القرّاء، كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «(...) فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعو بِهِ، رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرآنَ، وَرَجُلٌ يَقْتَتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَالِ؛ فَيَقولُ اللَّهُ لِلْقارِئِ: أَلَمْ أُعَلِّمْكَ ما أَنْزَلْتُ عَلَى رَسولي؟! قالَ: بَلَى يا رَبِّ! قالَ: فَماذا عَمِلْتَ فِيما عُلِّمْتَ؟ قالَ: كُنْتُ أَقومُ بِهِ آناءَ اللَّيْلِ وَآناءَ النَّهارِ. فَيَقولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ! وَتَقُولُ الْمَلائِكَةُ: كَذَبْتَ! وَيَقولُ لَهُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقالَ: فُلانٌ قارئٌ؛ فَقَدْ قِيلَ ذلكَ (...)»[10] . وإن شطرا غير قليل من قرّاء زماننا من هذا الصنف، ومع ذلك تقنعهم شياطينهم بأنهم من أهل الهداية!... وتبعا لما أسلفنا، فإن من لم يعرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القرآن، فليعدّ نفسه من الضالين، وإن بدا له أنه متعلّق بالله؛ على مذهب المتسلّفة -مثلا- الذين يتوهمون أنهم على التوحيد المحقّق. وهذه المقارنة بين الشخص المحمدي والشخص الآدمي، التي أثبتنا الأولية والأكملية فيها من جهة الخِلقة لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، لا شك ستقودنا بعدها، إلى النظر في المعنى؛ ما دام الإنسان منقسم الحقيقة بين الصورة (بالمعنى الذي نقصد نحن لا بالمعنى الشائع) والمعنى. على أننا سنعود -بإذن الله تعالى- إلى اختلاف الكلام في القرآن باختلاف الحضرات، من دون أن نخرج عن الجمع المحمدي؛ وهو من عجائب القرآن التي لا يسع السامع معها إلا السجود للمتكلم سبحانه... (يُتبع...) [1] . أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه. [2] . يُستفاد من هذا، أن المخلوق لا يُسمّى مخلوقا، حتى يخرج من التعيّن العلمي، إلى التعيّن العيني؛ وهذا بخلاف من قال إن صفة المخلوق تنطبق على المخلوقات في العلم. وهذا الذي نذكّر به، يندرج ضمن تدقيقنا في الألفاظ والاصطلاحات، وإن كانت اللغة تحتمل أن تأتي العبارات في الظاهر بغيره... [3] . أخرجه الحاكم في المـُستدرك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وصحّحه؛ وأخرجه السيوطي في "الخصائص النبوية" وصححه، والبيهقي في "دلائل النبوة"، والقسطلاني في "المواهب اللدنية"، والسبكي في "شفاء الأسقام"، وغيرهم من العلماء المعتبرين... [4] . أخرجه مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه. [5] . أخرجه البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه. [6] . إن بعض النصارى يعترضون على إخبار الله عنهم، ويقولون بأنهم لا يقولون بالتثليث؛ بل هم يقولون بالأقانيم الثلاثة وبوحدتها؛ ولعل هذا مما تأثروا به من أقوال المتكلمين المسلمين. ولكننا نخبرهم -ولعلنا نتناول المسألة بتفصيل مناسب في غير هذا الموضع- بأن قول الله عنهم أصدق، وذلك لجهلهم بحقيقة ما يعتقدون من أقانيم، وجهلهم بمعنى التوحيد... [7] . أخرجه أبو داود عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. [8]. لقد أخطأت الشيعة في صرف معنى الخلافة، إلى الأئمة الاثني عشر المعلومين عليهم السلام؛ وسبب خطئهم هو الاشتراك في العدد، حيث ظنوا أن المعدود عند اشتراك العدد، واحد؛ وهو محض توهّم... والحق هو أن الخلفاء هم غير الأئمة من جهة الاصطلاح، وإن كان بعضهم يجمع بين معنييْ الخلافة والإمامة. وقد فصلنا القول في هذه المسألة، في غير هذا الكتاب، فليُطلب هذا التفصيل من مظانّه، ما دام هذا الموضع لا يتسع له. [9]. متفق عليه، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه. [10]. أخرجه الترمذي عن أبي هريرة. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.