اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2024/05/24 الإنسان القرآن (مقدمة في تفسير القرآن الكريــم) .10. الباب الأول: القرآن وحقائقه الفصل التاسع: خلق الإنسان إن الإنسان من كونه خلاصة العالم، وخليفة الله، لا بد أن يجتمع فيه كل ما تفرق في السماوات والأرض، بل وما قبل ذلك من عالم الجبروت؛ ولكن المرء يُنسب في العادة إلى أبويه. ولهذا قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَیۡنَهُمَاۤ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ} [الحجر: 85]، فعبارة "ما بينهما" هي كقول القائل: ولد بين فلان وفلانة: فلان وفلان. فحيث وردت هذه العبارة من القرآن الكريم، فهي تعني أبوة السماوات وأمومة الأرض للإنسان خاصة، باعتباره جامعا لكل ما تفرق في غيره. ولا بد هنا من أن نشير إلى مطابقة الإنسان من جهة الحقائق، للحقيقة المحمدية الأولى؛ وكل ما قيل هناك، لا بدّ أن يُعاد هنا. فهذان قوسا الدائرة: العلوي والسفلي. وبينهما العالم، المخلوق على صورة الإنسان، مع اعتبار الإنسان منه؛ وإلا فإن العالم لا يُحصّل مرتبة الإنسانية من دون الإنسان. ولنتأمل قليلا في تسمية الإنسان إنسانا: فمن الناس من قال، لنسيانه، ومنهم من قال من إنسان العيْن، الذي هو سر الذات الإلهية من كونه إنسانها (بؤبؤها)، ومن كون العيْن اسما من أسماء الذات؛ حتى جاءت من مرادفاتها في التوكيد، فنقول: الشيء ذاته، وعينه، ونفسه... وهكذا، فإن المرتبة الأولى للإنسان، ذاتية، وهي التي سميناها الحقيقة المحمدية لكون السر الذاتي ليس إلا محمدا. فهذا القوس، هو القوس الأعلى... فبعد أن خلق الله الإنسان في عالم الجبروت، وبعد أن خلق السماوات والأرض ثم استوى على العرش، فإنه لم يبق إلا أن يخلق من تراب الأرض إنسانا يكون الخليفة في عالم السفل. فخلق آدم: سواه وصوره، ونفخ فيه من روحه الذي عرفناه سابقا، فكان إنسانا جامعا لحقائق الإنسانية. والتسوية المذكورة في قول الله تعالى: {فَإِذَا سَوَّیۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِیهِ مِن رُّوحِی فَقَعُوا۟ لَهُۥ سَـٰجِدِینَ} [الحجر: 29]، هي بمعنييْن: ويقول الله تتمة لإبراز معنى بدء الخلق: {وَهُوَ ٱلَّذِی یَبۡدَؤُا۟ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ یُعِیدُهُۥ وَهُوَ أَهۡوَنُ عَلَیۡهِۚ وَلَهُ ٱلۡمَثَلُ ٱلۡأَعۡلَىٰ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ} [الروم: 27]. وما المثل الأعلى لله من جهة هويته (هُو) إلا الإنسان. وهو أي الإنسان: العزيز الحكيم. ولولا أن هذا هو الواقع، ما صح للإنسان أن يكون مثلا. وفي هذا المعنى يأتي أيضا قول الله تعالى: {لَیۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَیۡءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡبَصِیرُ} [الشورى: 11]؛ أي ليس كمثل الإنسان في معناه وحقيقته شيء من المخلوقات. وهو، أي الإنسان: السميع البصير. وقبل أن نمضي في الكلام، علينا أن نرفع لبسا مما يحدث من الاشتراكات اللفظية؛ ولا نعني إلا أن الإنسان في الاصطلاح القرآني لا ينطبق إلا على المخلوق الظاهر بصورة الحق من كل وجه. وهذا المعنى هو المقصود من قول الله تعالى: {إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَیۡنَ أَن یَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَـٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]؛ وليست "الأمانة" إلا الصورة الإلهية، التي لم تطق حملها السماوات والأرض والجبال من جهة فرقانها وحقائقها الإنسانية الجزئية. ومعنى {فَأَبَیۡنَ أَن یَحۡمِلۡنَهَا}: لم يُطقن حملها، فكانت الإباية قصورا لا رفضا. ومعنى {وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا}: أي خفن من حملها لعظمتها. {وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَـٰنُۖ}: أي وحملها من خُلق لحملها، وكان حمله لها عن جدارة واستحقاق. إنه، أي الإنسان، {كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}: أي حقيقته الظلم والجهل، بما أنّ "كان" هنا ليست محصورة في الماضي ولكن هي للاستغراق. ومعنى ظلوما كما يُفسّرها شيخنا الأكبر عليه السلام: ظلوما لنفسه، بإنزالها غير منزلها؛ جهولا: بقدره، حتى صار يعدّ نفسه ويُعاملها معاملة البهائم والأنعام. وهنا لا بد من وقفة لنا نعيد بها الأمر إلى نصابه، بإكمال الكلام عن الشق الآخر من معنى الإنسان، والذي يُراد منه جنس الناس. وجنس الناس يشمل المعنى الأول الذي ذكرناه للإنسان، ويشمل معنى الإنسان الحيوان، وهو الأكثر عددا. وهذا الإنسان الحيوان، لا يحمل الصورة الإلهية إلا بالقوة، لا بالفعل. ولولا هذا النزول عن مرتبته الأصلية، ما كان الله ليصف قوما بقوله تعالى: {أَمۡ تَحۡسَبُ أَنَّ أَكۡثَرَهُمۡ یَسۡمَعُونَ أَوۡ یَعۡقِلُونَۚ إِنۡ هُمۡ إِلَّا كَٱلۡأَنۡعَـٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ سَبِیلًا} [الفرقان: 44]. لهذا، فإن كل كلام لنا في هذا الفصل عن الإنسان، فإنما نقصد منه الإنسان الذي على الصورة، لا الإنسان الحيوان. وهنا ننبه أهل الدين إلى المعنى الذي يؤسسون له من الإنسانية في عصرنا، عند اتباعهم لتنظيرات الدجّاليّين، والذي ليس في مجمله إلا الحيوانية. وهو تحريف خطير للدين وللقرآن الذي هو محوره!... ولقد نبه الله من الوجه الدال على الضعف، بني آدم، ليردهم عما تعطيه الصورة من جهة الباطن، من تربُّب على الخلق، فقال سبحانه: {فَٱسۡتَفۡتِهِمۡ أَهُمۡ أَشَدُّ خَلۡقًا أَم مَّنۡ خَلَقۡنَاۤۚ إِنَّا خَلَقۡنَـٰهُم مِّن طِینٍ لَّازِبِۭ} [الصافات: 11]؛ ومعنى لازب: لاصق ومتماسك؛ لكنه على طينيته ضعيف. ويقصد الله بقوله {مَّنۡ خَلَقۡنَاۤۚ}: كل المخلوقات التي هي من جهة خِلقتها أقوى من بني آدم. ويحيل الله إلى السماء صراحة في سؤال صريح: {ءَأَنتُمۡ أَشَدُّ خَلۡقًا أَمِ ٱلسَّمَاۤءُۚ} [النازعات: 27]؛ والعبد منا لا محيص له عن الجواب بـ: السماء يا ربنا، بما لا يُقارن. كل هذا، كما ذكرنا، من أجل الدلالة على عظم قدر الإنسان بمجموع صورته، فيما بعد. وأما من شاء الله أن يبلغ أشده، فهو ذاك الذي تدور عليه بعد ولادته أربعون سنة، كما دار عليه في بطن أمه أربعون أسبوعا والتي هي دورة أيام الشأن في كل مرة؛ يقول الله تعالى: {حَتَّىٰۤ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِینَ سَنَةً} [الأحقاف: 15]. وعند الأربعين، يكون قد اكتمل عقل العبد من الناحية الحِكمية زيادة على صنف الاكتمال الأول الحاصل عند اكتمال الدماغ قبل الميلاد، والاكتمال الثاني الحاصل عند البلوغ الطبيعي. وهنا تظهر لنا الحكمة من التكليف بالشريعة مع البلوغ الطبيعي، وقبل البلوغ الحِكمي، لتكون واردات الأعمال النورية زائدة على نور الحكمة العقلي؛ فيكون العبد الذي أذن الله في بلوغه أشده وهو على الإسلام في الحال، كما وصف الله تعالى نوره الأصلي بقوله تعالى: {یَكَادُ زَیۡتُهَا یُضِیۤءُ وَلَوۡ لَمۡ تَمۡسَسۡهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ} [النور: 35]. وهذا يعني أن العبد الذي يكون على الطريق إما بالفطرة وإما بالتكليف، ثم يبلغ أربعين سنة، فإذا زيته الذي سميناه حكمة، يكون على وشك الإضاءة من نفسه لشدة صفائه، ولا يبقى له بعد هذا الطور إلا أن ينزل عليه الوحي إن كان نبيا، أو يقع له الفتح إن كان وليا. وقد وقع -بحمد الله- لهذا العبد الفتح المعتبر عند أهل الطريق، عند إكماله للأربعين عاما. فنحن نخبر عن ذوق، لا عن تنظير مجرد... وقد حذّر الحكماء، من أن يبلغ العبد أربعين سنة ويبقى على غفلته وغيه؛ لأن ما يوافق هذه السن هو ما دلت عليه تكملة الآية من الأحقاف عند قول الله تعالى: {حَتَّىٰۤ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِینَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِیۤ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِیۤ أَنۡعَمۡتَ عَلَیَّ وَعَلَىٰ وَ ٰلِدَیَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَـٰلِحًا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِی فِی ذُرِّیَّتِیۤۖ إِنِّی تُبۡتُ إِلَیۡكَ وَإِنِّی مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِینَ} [الأحقاف: 15]. ومعنى "قال" من العبد: أصبح حاله، لا مجرد قول اللسان المعهود. فعليه بمقتضى الحال، أن يكون شاكرا لأنعم الله المتواردة عليه في ذلك العمر، وأن يكون عمله صالحا بالمعنى الشرعي لحرصه على مرضاة ربه، وأن يكون مـُصلحا في تربيته لذريته اعتبارا من نفسه وتسهيلا للأمر عليهم، وأن يكون توابا ومتجدد الإسلام من علمه بقهر الله له الذي سيظهر من طبيعة جسمه شيئا فشيئا مع توالي السنين، وهو ما يؤذن بقرب لقاء الله بالموت الطبيعي. وعلى هذا، فمن أدرك الأربعين، ولم يتنبه إلى ما دل الله عليه من حُسن الحال، فإنه يكون على خطر. نقول هذا، من دون تيئيس لمن تقدم به العمر وهو على غفلة؛ لأن باب التوبة يبقى مفتوحا في وجه العبد، ما لم يُغرغر؛ كما أخبر الصادق المصدوق عليه وآله الصلاة والسلام بقوله: «إِنَّ اللهَ يَقبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ ما لَمْ يُغَرْغِرْ.»[3]. ومعنى نفي العلم بشيء عن العبد، لا يدل على أنه لا يعلم بالكلية؛ ولكن يصفه بما هو ظاهر للناس من حوله، حتى إذا سألت أحدهم عنه، فإنه يصفه بانمحاء علمه بعد أن كان. وهم لا يقصدون إلا العلم بالدنيا. ولو عدنا إلى الآية نتدبرها، لوجدنا أن مرحلة العلم مرحلة وُسطى بين انعدام له في حق من قضى الله عليه بذهاب علمه، وانعدامه الأصلي؛ لكن الأمر فيه تفصيل، يُفرَّق فيه بين حال العدم الأصلية، وحال نفخ الروح؛ وهذا، لأن الروح عالمة بربها من أصل نشأتها. ونحن نريد أن نسأل هنا: هل الرضيع يكون جاهلا من كل وجه، كما يظن الناس؟... الجواب: لا!... هو جاهل في نظر من يعتبر الدنيا من أولئك الذين يكبرونه سنا؛ ولكنه عالم بالروحانيات، بأكثر مما يتصوّره الناس. وهذا، لأنه مركب من جسم وروح؛ وهذا التركيب لديه حديث عهد، بحيث ما زالت الروح لم تنشغل بهذا الجسم؛ فهو ما يزال في أطوار النمو الأولى. فتبقى على قوتها الأولى، المجاوزة لوساطة الحواس والدماغ؛ وبهذا يُشبه الطفل في إدراكه من وجه الروح إدراك الملائكة. وفي مرحلة الطفولة الأولى، يكون الطفل على علم ومشاهدات، لا يُطيق الكبار سماع الكلام عنها. ومن هذا الباب ذِكر سيدي الدباغ رضي الله عنه، لحقيقة تكلم الأطفال باللغة السريانية التي هي لغة آدم والملائكة، والتي هي لغة حروف لا كلمات بالمعنى المعتاد. ونعني أن الحرف الواحد فيها له معنى، وأن الكلمة يكون لها معنى الجملة وأحيانا الفقرة. ومن كان على هذه الحال، فلا يوصف بجهل. ونذكر هنا من باب المباسطة للقارئ، أننا كنا في حوالي السنتيْن من عمرنا، نميّز الأشياء كلها، ونبحث في العلاقات بينها، بطريقة ما دون العلم الكسبي؛ بل أذكر مرة أني كنت أجرب وأستنتج وأنا في ذلك العمر. فمن ذلك أني كنت أراقب النار في موقد حطبي على الطراز القديم، وبهرتني ألسنة اللهب بألوانها وحركاتها؛ فلم أجد بجانبي إلا ثوبا لي كان بعد أن نُظّف قد وضع لصغر حجمه على حافة الموقد، فأخذته ووضعته في النار، وبقيت أراقب ما يحدث له. ولقد اشتدت دهشتي، عندما التهمت النار القميص، إلى أن اختفى بالكلية. وكنت لا أستطيع التعبير عما أجد، إلا بلغة من الحروف، كان الكبار لا يفهمون منها إلا قليلا. فذهبت بعد الحادثة مسرعا إلى الوالدة رحمها الله، لأخبرها الخبر العاجل الهام؛ وما زلت أذكر الجملة التي نطقت بها إلى الآن، بعد أن ذكّرتني بها الوالدة فيما بعد. ففهمت رحمها الله، أنني قد فعلت شيئا للقميص، وأن للنار دخلا في المسألة. فقفلت معي مسرعة إلى الموقد، حيث أريتها المكان الذي وضعت القميص به، متعجبا عجبا كبيرا، من غيابه على التمام. ففهمت الوالدة رحمها الله أنني قد ألقيت بالقميص في النار وأنه احترق، وأظنها قد نصحتني بألا أعود إلى ما فعلته مرة أخرى مع أشياء أخرى. فأدركت -وأنا في تلك السن- أن النار لها القدرة على إخفاء الأشياء، وبدأت أحذر صفتها هذه. فهذا، مما يدخل ضمن تفاصيل هذه المسألة. وعلى هذا، يقاس حال من بلغ من الكبر عتيّا، فجهله لا يكون جهلا إلا بالدنيا؛ وأما علمه فقد توجه إلى عالم آخر، في الغالب يكون هو البرزخ الذي هو مقبل على الذهاب إليه بعد الموت. ولهذا، فإنه قد يظهر منه ذكر بعض الأموات من عائلته، وتظهر منه مكالمتهم وكأنهم معه في عالمه. وعلى هذا، فإن عدم العلم، في حق المخلوق، هو نسبي؛ بحيث ينبغي أن يُسأل الناظر فيه: بم هو متعلّق؟ وفي أي طور أو أي عالم؟... ولو كان الناس يتفطنون، لرأوا فيما يعدّونه نقصا مرَضيا، أو غيبوبة عن الواقع، دليلا على وجود العالم الذي بعد الموت، بقدر لا يخطر على بالهم. ولكن الهداية من الله، يأذن بها لمن يشاء، ويحجبها عمن يشاء سبحانه... ولقد مررنا في هذا المقطع من الفصل بما هو مشترك بين آدم وبنيه، مما يدخل في الأحوال العامة، وإن كنا قد سبقنا فيها الترتيب الطبيعي؛ ولكن لا بأس بعد هذا القدر من التفصيل من العودة إلى آدم. فالتسوية قد تمت له بالكيفية التي ذكرنا، وفي مقابلها ذكرنا التسوية التي يُسوّاها الجنين. والتصوير في حق آدم، لا شك جاء بعد التسوية، وهو ما يتكرر عينه مع الأجنة، عند ظهور حواسها وفتحها. وهذا كله داخل ضمن الذات الحسية للآدمي. وفي هذا الطور وحده، لن يُخالف الآدمي الحقيقة التي تكون عليها التماثيل المعروفة، إلا من جهة القابلية التي له لنفخ الروح فيه. ولسنا نعني بالروح هنا الروح مطلقا، لأن ذلك لا تنفك عنه حتى التماثيل، وإن كان هذا الأمر مما يغيب عن حواس وعقول الناظرين؛ ولكن نعني خاصة، قبول نفخ الروح من الروح الكلي. وإن الأرواح الجزئية، بالنظر إلى الروح الكلي، هي في التشبيه كالأشعة الشمسية بالنظر إلى جِرم الشمس. ومن هنا تُعلم مكانة نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم، من جهة الروح، الدالة على المكانة العامة، لمن شاء الله له أن يهتدي. ولسنا نعني إلا أن كل الأرواح الجزئية (ولنحصر النظر في الأرواح الآدمية إعانة على إدراك المعنى)، هي فروع لروحه الشريف؛ لذلك فهو يُدرك من جهة جمعه الروحي، كل تفاصيل إدراكات الأرواح الجزئية. وهذا علم واحد من العلوم المخصوصة به عليه السلام، والتي لا يتمكن الناس من تصوّرها، بله إدراكها. ومن هذا الباب أيضا كان عليه السلام معدودا منا وكنا معدودين منه؛ بما هو إجمال لنا، وبما نحن تفاصيل له، من جهة الروح؛ وبما هو تفصيل لنا من جهة الجسم (في صورة آدم)، ونحن إجمال له. وقد نبه الله تعالى عباده في كلامه، إلى هذه الصلة المباركة بينهم وبين الإنسان الكلي؛ فقال عزّ وجلّ: {لَقَدۡ جَاۤءَكُمۡ رَسُولٌ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِیزٌ عَلَیۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِیصٌ عَلَیۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِینَ رَءُوفٌ رَّحِیمٌ} [التوبة: 128]. ومعنى {مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ} له ظاهر وباطن: فظاهره هو أنه عليه السلام فرع عنا، عند اعتبارنا في الجملة آدم؛ وباطنه هو أننا فرع عنه، من كونه إجمالا لنا مع أبينا آدم، في حقيقته العليا. ومن كوننا أجزاء منه عليه السلام، كان يعزّ عليه ما نجد من مشقة ومن تعب وألم، لأنه يعود عليه حقيقة لا مجازا؛ ومن هذا الباب أيضا يكون حرصه علينا (والنون هنا لعموم الخلق)، وذلك من صفة رحمانيته العامة. وأما من جهة رحيميته الخاصة، فهو رؤوف بالمؤمنين رحيم. فظهر أن الاسم "الرؤوف"، من أتباع "الرحيم"، لا العكس. والحكمة في إيراد الأسماء منكّرة في الآية، هو رحمة من الله بعباده، ليُفرّقوا بين ألوهيته والخلافة المحمدية الكبرى. وهذه الرحمة المتجلية في القرآن، هي ما حمى المسلمين من عبادة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من دون الله، كما فعلت الأمم الأخرى مع أنبيائها. فنحن -بحمد الله- مهما عظّمنا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، محفوظون من الشرك. وهذا هو ما ينبغي أن يُفهم من مثل الحديث الشريف: «(...) وَإِنِّي وَاللَّهِ ما أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا (أي الدنيا)».[4] وتبعا لهذا من جهة الفقه والإيمان، فلا يجوز لأحد أن يحكم على من يشهد شهادة الإسلام بالشرك الأكبر، مهما بلغت ضلالات الضالين منهم. وهذا أدب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم المـُخبر بحقيقة الأمر، لا مع المحكوم عليهم من الناس وحدهم. وهو أدب غاب غيابا كبيرا من فقه الفقهاء، من مختلف الفرق. وإذا عاد المسلمون إلى تحكيم الأحكام النبوية في مثل هذه المسائل، فإنهم سيجدون أنفسهم موحَّدين اليوم قبل الغد. وهذا هو الحق في مسألة توحيد الأمة، أي ما يُعتمد لبلوغها؛ لا ما يخترعه المفكرون من شروط، لا تزيد الأمة إلا رهقا. وهذا الرهق الناتج عن تنظير المنظرين، لا يرتفع إلا إن أذن الله بفهم الدين على الوجه الصحيح، ثم بالعمل تبعا لذلك العلم. ونؤكّد على أن المسألة مسألة إذن، لا سواه؛ فعلى كل من يقرأ كلامنا أن يفهم عنا، وأن يصحح على نور فهمِه تصوُّراته لكل الأمور المتعلقة بالأمة؛ سواء كان هذا القارئ فردا أم جماعة. وهناك أدلة أخرى على أننا من جهة الحقيقة أجزاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، من القرآن ومن السنة، نرى أن إيرادها هنا سيطول بنا، ونحن نريد الاختصار قدر الإمكان. فلنعد إلى ما كنا بصدده... ولنبدأ بالنظر في قول الله تعالى: {أَلَمۡ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَیۡفَ مَدَّ ٱلظِّلَّ وَلَوۡ شَاۤءَ لَجَعَلَهُۥ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلۡنَا ٱلشَّمۡسَ عَلَیۡهِ دَلِیلًا} [الفرقان: 45]. فالروح المنفوخ في الجسد، هو شمس له؛ والظل الممتد عنه، هو الخصوصية الشخصية لكل فرد من أفراد الإنسانية. وما يظهر عن كل جسم إنساني من حركات وأفعال، هو من أثر الروح. وأما الروح نفسه، فهو متولد بين الروح الكل والجسم الترابي. وهذا يجعل المزاج (من المزج) الترابي أُمّا للروح الجزئي، كما هي الأرض أم للمزاج. وهذا الروح، هو ما يسميه الفلاسفة النفس الناطقة؛ بمعنى أنه روح إنساني لا حيواني فحسب. وهذا لا ينفي حيوانية الإنسان في مرتبة ضمنية، ومن جمْعِه في حقائقه لكل ما تفرق في العالم. وبما أننا قد أسبقنا القول عن خروج العرش على صورة الحقيقة المحمدية، وعن خروج الإنسان (آدم) على صورتهما معا، فلا بأس الآن من الخوض في بعض التفاصيل: وأما أسفل البطن، فهو من الذكر محل القلم الطبيعي، ومن الأنثى محل اللوح الطبيعي. فسبحان من قسم الحقائق العلوية في السفل بين مظهريْ الذكر والأنثى، ليدل على تكامل حقيقتيْهما في معنى الإنسانية الكلي. ونعني أن الذكر إنسان، وأن المرأة إنسان؛ رغم اختلافهما في أمور غير قليلة... ولنؤكد على معنى كررناه أكثر من مرة، وهو أن الإنسان الآدمي هو المخلوق على صورة ما قبله في الترتيب. وعلى هذا، فإن تصور جسم لله جالس على العرش، كما يتوهم شطر من المتسلّفة، هو جهل كبير. وأول ما ينبغي التنبيه إليه من الفروق، هو أن هذه الصور الجسمية الطبيعية لا تكون إلا في عالم السُّفل. ونحن قد سبق لنا أن قلنا إن العرش هو مستوى الاسم الله أو الاسم الرحمن؛ ولا جسم هناك إلا الجسم الكلي، حتى يُقاس على الأجسام الأرضية. فإن قيل فقد ورد وصف اليديْن والقدميْن واليمين وغير ذلك، مما تُفهم منه الجسمية، قلنا إن تلك نسب معنوية لا حسّية؛ وإن كان العرش وما دونه أجسام حسيّة. وهكذا يظهر أن الصورة الحسية الآدمية، والتي هي على صورة العالم، هي صورة معنوية مكثفة. وهذا، لتُحيل على الحقيقة المحمدية الأولى، من كونها هي المشار إليها بجميع الإشارات. وأما من جهة أخرى، فقد تكون الجوارح المنسوبة إلى الله جوارح حقا، عندما يكون الكلام عن الخليفة المـُسمّى بالاسم الجامع؛ كما هو الشأن بالنظر إلى الجسم النبوي الشريف. ومن هذا الباب قول الله تعالى: {یَدُ ٱللَّهِ فَوۡقَ أَیۡدِیهِمۡۚ} [الفتح: 10]، ولم تكن تلك اليد إلا يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم المـبايِع للصحابة. ومن فرّق بين مستويَيْ نسبة الجوارح إلى الله، فإنه سيُجنّب الالتباس الذي وقع فيه المتكلّمون. وبعد ذكر ما يتعلق بآدم، لا بد لنا من ذكر ما يتعلق بحواء، وهي زوجه؛ أي ما كمّل الله به آدم الفرد، ليصيرا معا زوجا. وهو قول الله تعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُوا۟ رَبَّكُمُ ٱلَّذِی خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٍ وَ ٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالًا كَثِیرًا وَنِسَاۤءً} [النساء: 1]؛ أي وجعلهما منطلق إيجاد نسل بني آدم كله، والذين هم الرجال والنساء المبثوثون. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «(...) وَاسْتَوْصُوا بِالنِّساءِ خَيْرًا؛ فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلْعٍ، وَإنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلْعِ أعْلاهُ؛ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّساءِ خَيْرًا.»[8]. والأعلى المقصود من المرأة رأسها، وبه الإشارة إلى عقلها. واعوجاج المرأة من جهة عقلها، هو في الحقيقة مخالفة لآدم فحسب؛ ونعني أن آراءها تبدو معوجة إن هي قورنت إلى آراء آدم، وأما إن نُظر في آرائها مستقلة، فإنها تكون في أحيان كثيرة صائبة ومستقيمة. وهذا الذي نقوله ينبغي أن يُعتبر، لأن أجيالا كثيرة من المسلمين عملت على الفهم الخاطئ، فنتج عن ذلك اعوجاج للمجتمع كله. ولنتوقف عند بعض معاني الحديث السابق: ولنتوقف عند بعض أسرار خلق حواء: [1].متفق عليه، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.