اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2024/05/10 الإنسان القرآن (مقدمة في تفسير القرآن الكريــم) .9.(ج1) الباب الأول: القرآن وحقائقه الفصل الثامن: خلق العرش وما تحته (ج1) سأل الصحابي أبو رزين العقيلي رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أَيْنَ كانَ رَبُّنا تَبارَكَ وَتَعالَى قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟" قالَ: «كانَ في عَماءٍ: ما فَوْقَهُ هَواءٌ، وَما تَحْتَهُ هَواءٌ؛ ثُمَّ خَلَقَ الْعَرْشَ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَيْهِ.»[1]. أولا، علينا أن نفهم أن هذا السؤال مستخرج من الصحابي، كما استُخرجت باقي الأسئلة التي كانت سببا لخروج علوم جمة من الغيب. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم، شرع لنا بهذا الفعل منه، أن نستمع إلى مثل هذه الأسئلة، وأن يتصدى للإجابة عنها ورثته من كل زمان. ونحن نقول هذا، لأن زاعمي التنزيه، كان يُمكنهم الاعتراض على السؤال، بدعوى أن الله لا تجوز عليه الأعراض، وأنه سبحانه لا يتغيّر عليه شيء حتى نقول كان كذا، وهو الآن كذا... وهذه مغالطة، لا تنطلي إلا على من لا علم له؛ لأن الكلام في مثل هذه المسائل، متعلّق بالتجليات الاسمية، لا بالذات. وخصيصة التجليات، هي أنها تختلف فيما بينها، وتتعاقب، ويحل بعضها محل بعض... وأما الجواب النبوي، فنستخلص منه أن الله قبل أن يخلق الخلق؛ أي قبل أن يخلق عالميْ المـُلك والملكوت، حيث سيتم الظهور؛ وبعد أن خلق عالم الجبروت، كان في عماء. ولا بد هنا من التفريق بين عالم الجبروت، وعالمي المـُلك والملكوت، مع أن هذه العوالم جميعها مخلوقة. فإن كانت كلها مخلوقة، فلم يقتصر الناس عند الكلام على المخلوقات، على عالَمـَيْ الملك والملكوت؟ فليعلم القارئ أن التفريق يأتي من كون عالم الجبروت منقسم الحقيقة من جهة؛ فهو من جهة حق ومن جهة خلق. ومن جهة أخرى، فإن هذا العالم مخلوق لله، ولا علم لأحد مما سوى رؤساء الملائكة به. فلهذا السبب اقتصر وصف الصحابي بالخلق، على عالَمَي المـلكوت والمـُلك. والصحابي السائل، ما كان له علم بعالم الجبروت، وإنما هو كسائر الناس يشهد السماء والأرض وما بينهما على قدر وسعه. فهو يسأل عما يُناسبه، ولا يدخل -حاشاه- في التجريد ولا في التفلسف. وقد جهل هذا الأصل في المجال المعرفي قوم من المسلمين، صاروا يتكلمون في حق الله، بما تكاد تخرّ له السماء، وتتصدع له الجبال!... فقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم السؤال، لأنه في محله، وأجاب عنه عليه السلام بما هو أعلم به من سواه؛ ليؤسس للعلم بالله على أصول متينة، تنفع الناس إلى أبد الآبدين... وأما العماء الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كونه ظرفا للرب، فهو في اللغة السحاب؛ ولكنه عليه السلام، استدرك ليصرف الأذهان عن السحاب، بنفي أن يكون فوقه هواء، أو يكون تحته هواء. فعلمنا أنه صلى الله عليه وآله وسلم يدل على معنى خاص، هو ما يمكن أن نسميه تجليا إلهيا مجملا، قبل خلق السماوات والأرض. وليس هذا التجلي، الناشئ بين القلم الأعلى والنفس الكلية، إلا المحل الذي سيُخلق فيه عالم الطبيعة؛ وهو الظلمة التي هي أصل كل الظلال، أو لنقل هو الظل الكلي. وأصل هذا الظل، نظر الاسم "النور" إلى الحقيقة المحمدية، فكان ذلك النظر المستخرج من باطنها، كالشمس التي يسطع شعاعها من خلف الجسم المنصوب بينها وبين الناظر. ولقد عبّر الله عن هذا التجلي بقوله تعالى: {أَلَمۡ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَیۡفَ مَدَّ ٱلظِّلَّ وَلَوۡ شَاۤءَ لَجَعَلَهُۥ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلۡنَا ٱلشَّمۡسَ عَلَیۡهِ دَلِیلًا} [الفرقان: 45]. وليتنبه القارئ إلى ورود اسم الرب مضافا إلى كاف خطاب النبوة، ليعلم أن الكلام هو نظير لإجابة سؤال الصحابي، ومن هو بمثابته من كل زمان. فالصحابي سأل: أين كان ربنا، والآية تجيب: {أَلَمۡ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ}؛ وما من فرق بين "ربنا" و"ربك"، إلا من كون الثاني مجمل الأول، والأول تفصيل الثاني. ومدّ الظل، لا يكون إلا من فعل الاسم "النور" كما أسلفنا، بإزاء مخلوق صورته عدمية (ظلموية). وهذا الظل الذي سيخلق الله منه عالميْ الملك والملكوت، هو أصل الطبيعة؛ بل إن الطبيعة ما استمدت ظلمتها إلا منه. وأما ورود الشمس في الآية، فهو من مرتبة عالم المـُلك (السفل)؛ ونحن إنما تكلمنا في البداية عن أصل دلالة الآية لا عن ألفاظها. وينبغي أن نقرّر هنا بأن الظل من جهة حقيقته، هو برزخ بين النور والظلمة: فله وجه إلى النور به يكون مشهودا، وله وجه إلى الظلمة به يكون مائلا إلى السواد؛ وله وجه إلى الوجود به يكون مشهودا في مرتبة الإجمال، ووجه إلى العدم به يكون منعدم الجسمية واللونية التفصيلية. وقد جعل الله الشمس التي هي مظهر من مظاهر الاسم "النور" دليلا على الظل في عالم المـُلك، بعكس ما يدل عليه الدليل العقلي. وقد سمينا نحن هذا الصنف من الدليل في مكتوباتنا السابقة: دليلا وجوديا؛ وهذا يعني أنه لولا الشمس، ما ظهر الظل. أما العامة، فيرون الظل دليلا على وجود الشمس؛ ولسنا نعني إلا شهودهم العالم دليلا على وجود الله؛ تعالى الله عما يقول الجاهلون. ومن هذا الملحظ، يمكن للناظر أن يعلم مرتبته في العلم؛ وهل هو موافق للقرآن في ترتيب المعلومات، أم هو مخالف. وليسأل عالم الدين نفسه عن هذا، قبل العامي الذي لا يزعم لنفسه دلالة ولا إمامة!... فامتاز في هذه الظلمة الطبيعية الأولى، معنيان هما: الهباء والجسم الكل. ونعني بالهباء المادة في طلاقتها، وبالجسم الكل الهِيولى المطلق عن الصورة. وقد قال الله تعالى: {هُوَ ٱللَّهُ ٱلۡخَـٰلِقُ ٱلۡبَارِئُ ٱلۡمُصَوِّرُۖ لَهُ ٱلۡأَسۡمَاۤءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ یُسَبِّحُ لَهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ} [الحشر: 24]. ولنتناول ألفاظ الآية بالترتيب: وهذه التعيّنات في مرتبة الظل الكل، هي ما حام حوله عقل أفلاطون، في مقابلة الحس، فسمى عالمها "عالم المـُثُل". وهو محقّ فيما ذهب إليه، على ما اعترى عبارته من قصور، كما هو شأن الفلاسفة بإزاء المسائل التي يتناولونها. وأما العلماء بالله فينا، فيُدركون الأشياء بالله في العلم، وقبل أن تخرج إلى عالم الخلق. وعلى عكس الفلاسفة، فالعلماء بالله لا ينطلقون من الحس، وإنما ينتهون إليه. وهو معنى قول الشيخ الأكبر عليه السلام: "لا أشرف من الحس!"، وهذا لأنه الغاية من خلق الخلق، كما ذكرنا. فإذا انتهى المصور من التصوير، فإن المخلوق تكون قد ظهرت ذاته وصفاته الجسمية، وهي نظير ذات الحق إلى جانب تعيّنها في الحقيقة المحمدية، في العالم المثالي الـمِرأوي (نسبة إلى المرآة)؛ ولم تبق إلا الصفات المعنوية، وهي التي أخبر الله عن الأسماء المضطلعة بها في قوله بعد ذلك: وقد وصف الله أسماءه بالحُسنى، ليدل أنها عائدة إليه بعد ظهور آثارها في المخلوقين، ولينفي عنها ما قد يعلق بها من آثار مباشرتها لهم؛ فتعود في الأذهان حسنى كما كانت في أصلها، لم يمسسها شيء من السوء الأصلي الذي للمخلوقات. وقد نسب الله الأسماء الحسنى إلى ضمير الغائب المتصل بلام الجر، التي هي بجميع المعاني الجائزة في حق الله تعالى: من اختصاص، واستحقاق، وتمليك، وغير ذلك... وكأن المعنى هو: إن الأسماء الحسنى التي يظهر أثرها في المخلوقات، أو يظهر منها، هي بالأصالة للذات الغيبية، وللاسم "الله". ومن هنا يتضح كون المخلوقات آيات؛ أي علامات دالة على معاني الأسماء المتجلية فيها. فمن أدرك المخلوق على هذا النحو، فقد ائتمر بأمر الله الوارد في قوله تعالى: {ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِی خَلَقَ} [العلق: 1]؛ ومن انحجب بذوات المخلوقات وصفاتها عن الحق، فما قرأ. وليتنبّه القارئ إلى أن القراءة المأمور بها، تكون باسم الرب الذي خلق؛ أي باسم "ربك الخالق" (اسم مركّب). ولا تصح نسبة هذا الاسم مع الإضافة على التحقيق، إلا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ولورثته من هذا الوجه، والذين هم أهل التصرّف. وقد وقعت بيني وبين أحد الأشخاص مرة مجادلة، بعد أن رأيت كتابا له، فهمت منه أنه يفرق فيه بين الأسماء الإلهية، فيجعل منها ما هو داخل تحت وصف الحسنى، ومنها ما هو غير داخل. فأنكرت عليه ذلك، ونبهته إلى أن الأسماء الإلهية توصف بالحسنى لمجرد النسبة. فأي اسم يصح شرعا أن يُنسب إلى الله، فهو من الأسماء الحسنى... والعرش هو بتعبير الفلاسفة "الجسم الكل"، وهو من جهة المعنى اللغوي: المـُلك، والمكان، والارتفاع؛ وهو أول مخلوق في هذا المستوى. جاء في الحديث: «كانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ؛ وكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ؛ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأرْضَ، وَكَتَبَ في الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ.»[2]. وهذا الترتيب، ليس في زمان، وإنما هو للمراتب. وعبارة "كانَ اللَّهُ ولَمْ يَكُنْ شيءٌ قَبْلَهُ"، هي للذات مع التعين أو بدونه. وهي تنفي أن يكون الله عن شيء، وتفيد أن الله هو أصل الأشياء كلها، لأن القبلية له عليها؛ وهذه المرتبة هي لعالم الجبروت. وأما عبارة "وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ"، فهي متعلقة بأول الخلق في عالم الطبيعة؛ وليس المراد بالماء هنا الماء المعلوم، لأن الماء المعلوم هو من عالم العناصر الأرضي (المـُلك). ولم نجد من يُنبّه على هذه الأصول، تسهيلا للتفريق في المدلولات. وقد غفل الناس عن هذه الملاحظ، وأخذوا الألفاظ على ما تعطيه في عالم السُّفل، والحال أن العرش في العلو، فوق السماوات التي هي فوق الأرض. فبقي أن نُنزل لفظ الماء هنا، على عناصر الماء، التي يكون عنها الماء المعلوم في الطبيعة السفلية. ويذكر الفيزيائيون، أن نواة الهيدروجين هي أول ما تكوّن بعد "الانفجار العظيم" الذي يرونه أصلا لعالم الخلق. وهم يُعبرون بالانفجار العظيم، عن خلق الخلق بدءا من الهباء، من دون أن يعلموا التفصيل. وقد قالوا بذلك، لأنهم تصوروا البناء من الجزء إلى الكل، قياسا على ما يكون من خلق (عمل) العبد لفعله؛ ولم يخطر في بالهم أن الخلق بدأ من الكل إلى الجزء. وقد وقع لهم ما وقع للمتكلمين في جانب العقائد، عندما قاسوا الغائب على الشاهد؛ وهي عبارة ممجوجة يقصدون منها قياس الغيب على الشهادة. وما عبّر عنه الفيزيائيون بالانفجار العظيم، هو تصور عقلي، لا يمت إلى الواقع بصلة، ولا يُعتبر -إن اعتُبر- إلا من جهة دلالته منقطعة؛ أي عندما نبحث في العناصر التي تركّبت منها الأجسام المختلفة. والمقصود من الماء المذكور مع العرش، بما يُفهم منه، هو أن العرش مستوٍ على الماء، الذي هو مظهر صفة الحياة تحت العرش، لا الماء العنصر الطبيعي المعلوم من السُّفل. وهذا يعني أن صفة الحياة التي كانت في عالم الجبروت لا تنفصل عن الحقيقة المحمدية الإجمالية، قد صار لها مظهران في عالم الطبيعة: علوي هو الهيدروجين، وسفلي هو الماء الناشئ عن ذرّتين للهيدروجين وواحدة للأكسجين. وها قد بدا لنا النظام الذي تسير عليه المخلوقات من العلو إلى السفل؛ ولسنا نقصد إلا أنها تسير من البساطة إلى التركيب. وعالم الخلق الذي هو المـُلك والملكوت، في مقابل عالم الجبروت، هو أقصى ما تُدركه عقول الفلاسفة والفيزيائيّين بوصفهم علماء بساطة الطبيعة وتركيبها. وعندما نقر لهذه الأصناف بإدراك العالم، فنحن لا نعني بذلك الإقرار أنهم يُدركونه على حقيقته؛ لأن ذلك محال. والاستحالة المقصودة لنا هنا، هي للدلالة على أن من يُدرك الأشياء على حقيقتها في عرفنا، هم قلة من الناس؛ وهم الذين يعلمون الأشياء بالله. أما الذين لهم إدراك ما بحسبهم، يُعبّرون عنه بتعابير قد تقارب من جهة الظاهر ما يُعبّر عنه العلماء بالله، فهم على حجاب؛ بغض النظر عن كثافة الحجاب مع الكفر، أو عن لطافته مع الإيمان. لذلك، فكلام الفلاسفة عن الكون (الجسم الكل)، ومن بعدهم الفيزيائيون، لا يطابق الحق في نفسه إلا بالتقريب. ونحن سندل على ذلك -كما هي عادتنا- في كل مرة، بحسب ما يظهر لنا، ومن غير تكلف لشيء. وأول ما ينبغي أن نُثبته هنا، ونخالف فيه شطرا من أهل الفيزياء، هو محدودية الكون. وهذا، لأن المخلوق مهما عظُم في الجِرم، فلا بد أن يكون متناهيا؛ لأن اللانهائية تبقى معنى كليا مجردا، من وراء كل الأجسام. وقد دخلت المخلوقات في الحد، بمجرد دخولها في المادة؛ والمادة التي نتجت عنها الجسمية، لا بد أن تكون مخالفة لما هي عليه الروح من صفات. ونعني من هذا، أن الأجسام مظهر لتدبير الأرواح؛ والتدبير لا بد أن يكون ماديا ظاهريا من أبرز وجوهه، في مقابل لطافة الأرواح وإطلاقها. وإن كان الكون من حيث هو الجسم الكل، هو الظاهر من الوجود بما هو موجود؛ فليُفهم عنا أنه من حيث هو جسم كل، فتدبيره يكون من روح كلي، وليس إلا روح الله أو الروح المحمدي نسبة إلى الحقيقة المحمدية. وكما كان تدبير الجسم كمالا في الأرواح، فكذلك كان لا بد من ظهور الكون (العالم)، ليكمل التجلّي الخَلقي (التجلي بالخلق). ولقد وجدنا الشيخ الأكبر عليه السلام، يُشير إشارة ألطف من إشارتنا إلى هذا المستوى بقوله: خلق الله الخلق لتكمل مراتب العلم: فبعد العلم القديم، تظهر مرتبة العلم الحادث. ويا لها من إشارة!... وقد ذكر الله الروح الإلهي، في مثل قوله تعالى: {وَیَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّی وَمَاۤ أُوتِیتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِیلًا} [الإسراء: 85]. والروح بالتعريف العهدي، ومن دون تقييد إضافة، لا يكون إلا الروح المحمدي، الذي هو روح الصورة المحمدية الإنسانية الكلية. وهذا الروح المحمدي هو أصل حقيقة عيسى عليه السلام، التي أخبر الله عنها بقوله تعالى: {إِنَّمَا ٱلۡمَسِیحُ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُۥۤ أَلۡقَىٰهَاۤ إِلَىٰ مَرۡیَمَ وَرُوحٌ مِّنۡهُۖ} [النساء: 171]؛ والهاء من {مِّنۡهُۖ}، تعود على الله الذي يُنسب إليه الروح الكلي، كما يُنسب إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم. ونسبته إلى الله، هي غير نسبته إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لمن كان يعقل عنا. وقد ذكرنا آنفا، أن عالم الأمر هو المقابل لعالم الخلق؛ بدلالة قول الله تعالى: {أَلَا لَهُ ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُۗ} [الأعراف: 54]؛ ولكن ينبغي التمييز في الأمر بين الإجمال الذي هو من طور الحقيقة المحمدية، والتفصيل الذي هو من طور السماوات. وبما أن الصورة المحمدية في الحقيقة المحمدية هي أصل عالم الخلق، فقد بقي الروح الكلي فيها من وجه حقها، غير مخلوق. وهو عندنا ما يستدعي تسميته من قِبل الله تعالى: "روح القدس". وهو أدل في العربية وأكمل في المعنى، من جهة الدلالة على القداسة في نفسها، من وصف النصارى له بـ "الروح القدس"، وإن كان هذا التعبير لا يخالف الحق بمعنى ما. والقداسة هي الطهارة والبراءة، كما رأينا سابقا عند الكلام عن اسم الله "القدوس"؛ ولكنها في مقابل الخلقيّة، لا تعني إلا الحقّيّة. وقد ذكر الله روح القدس في مثل قوله تعالى: {قُلۡ نَزَّلَهُۥ رُوحُ ٱلۡقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلۡحَقِّ} [النحل: 102]، ولعل هذه الآية، من جهة لفظها، هي ما أدى بالمفسرين إلى جعل اسم "روح القدس" اسما لجبريل عليه السلام. ولم يتفطنوا إلى أن جبريل ملك مخلوق، من روح القدس، وليس هو روح القدس. ولا يستغرب القارئ هنا، صدور خلق عما سميناه حقا؛ لأن هذ المعنى متداول بين العلماء بالله، وهو ما يُسمونه اصطلاحا "الحق المخلوق به". ودليلهم من القرآن، قول الله تعالى (وما في معناه): {وَمَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَیۡنَهُمَاۤ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ} [الحجر: 85]. وأما كون جبريل هو من نزّل القرآن من فلك العرش، على القلب المحمدي في عالم السفل، فلا يدل على أنه الروح الإلهي، إلا عند التفريق بين ما هو حق وما هو خلق. وقد ذكر الله روح القدس في غير الآية من النحل، منسوبا إلى عيسى عليه السلام، كما في قوله تعالى: {وَءَاتَیۡنَا عِیسَى ٱبۡنَ مَرۡیَمَ ٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَأَیَّدۡنَـٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ} [البقرة: 87] في مقابل الاسم "ربك" في آية النحل المحيلة على "رب محمد" الذي هو "الله" بالمعنييْن معا؛ ليصحح نظر العباد إلى حقيقة عيسى؛ وهذا من جهتيْن: (يتبع) [1] . أخرجه الترمذي وأحمد وابن ماجة وابن حبّان. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.