اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2024/06/28 الإنسان القرآن (مقدمة في تفسير القرآن الكريــم) .12.(ج1) الباب الأول: القرآن وحقائقه الفصل الحادي عشر:نزول القرآن الكريم(ج1)إن النزول، يكون من الأعلى إلى الأسفل؛ ولا أعلى من الحقيقة المحمدية التي هي حضرة الواحدية، كما لا أسفل في العوالم من الأرض التي عليها أشخاص البشر. وإن الشخص المقصود بنزول القرآن، هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، حين تواجده على الأرض، لأجل أن تكمل به الدائرة الوجودية على التمام. وقد ذكر الله نزول الإنسان، الذي سبق نزول القرآن، في قوله تعالى: {لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ فِیۤ أَحۡسَنِ تَقۡوِیمٍ . ثُمَّ رَدَدۡنَـٰهُ أَسۡفَلَ سَـٰفِلِینَ . إِلَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فَلَهُمۡ أَجۡرٌ غَیۡرُ مَمۡنُونٍ} [التين: 4-6]. فهذا الإنسان المتكلم عنه، هو بالأصالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من حيث المظهر الأرضي الأول آدم عليه السلام؛ فهو الذي خُلق في أحسن تقويم، أي على الصورة الإلهية؛ وهو الذي حملت به السماوات والأرض، وحملت به بعد ذلك الأصلاب والأرحام من بني آدم، إلى أن أُنزل في منتهى عالم السفل الطبيعي. وهذا المعنى مـُضمَّن في الحديث الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ربه: «... وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّكُمْ دَلَّيْتُمْ [رجلا] بِحَبْلٍ إِلَى الْأَرْضِ السُّفْلَى، لَهَبَطَ عَلَى اللهِ.»[1]؛ ومن تجاوز الصورة المحمدية بالنظر في عالم السفل، فقد ضل عن ربه، وإن كان ينظر إليه، كما نظر أبو جهل وأضرابه، وأخبر الله عنهم بأنهم ينظرون ولا يبصرون في قوله تعالى: {وَإِن تَدۡعُوهُمۡ إِلَى ٱلۡهُدَىٰ لَا یَسۡمَعُوا۟ۖ وَتَرَىٰهُمۡ یَنظُرُونَ إِلَیۡكَ وَهُمۡ لَا یُبۡصِرُونَ} [الأعراف: 198]؛ وهذا إن اعتبرنا الواو استئنافية صورة ومعنى؛ أي إن اعتبرنا السياق قد وقع فيه الالتفات مما كان من شأن الآلهة الوضعية التي يدعو المشركون من دون الله، إلى ما هو من شأن المؤمنين الداعين المشركين إلى الهدى. وأما من أبقى على السياق من دون التفات من المفسرين، فإنهم جعلوا هذه الآية تحديا من الله للمشركين أن يدعوا آلهتهم إلى شيء مما هو من جنس الهدى، وأكمل سبحانه بوصف الأصنام بأنهم ينظرون ظاهرا من حيث هم مقابلون لعبدتهم، ومع ذلك هم لا يبصرون؛ أي لا حقيقة لمواجهتهم للمشركين. ومذهبنا نحن في القرآن، هو إقرار كل فهم موافق لما تعطيه اللغة، مع بقائنا منفتحين على كل معنى تحتمله اللغة، ولو من باب الإشارة؛ وهذا هو ما يليق بالقرآن، من كونه خطابا إلهيا لكل مراتب المستمعين، وكل درجاتهم، وهو ما لا يكون إلا للقرآن. وهذا الحكم الذي نستخلصه للصورة الإلهية، ليس حكما عاما يتداوله المفسرون؛ وإنما هو مخصوص بمن كانت له خبرة بالمعاني، وهي هنا منوطة بالمظهر المحمدي المخصوص، الذي هو منتهى معاني القرآن العزيز. وهذا ما نحوم حوله في كل ما مررنا به من هذا الكتاب، وما سيظهر -بإذن الله- تباعا مع تقدمنا فيه؛ ما دام القرآن الذي هو الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليس إلا خبرا عن مبتدئه عليه السلام. ونحن نعني بالمبتدأ، كل مرتبة سبقت هذا النزول العظيم. وهذا الحكم الذي ذكرنا للمظهر المحمدي، هو بمستوييْن: مستوى إجماله عليه السلام، من حيث هو الكلمة الجامعة؛ ومستوى تفصيله المنقسم على كل الصور الجزئية المسماة "مؤمنين" حصرا، ومن باب الأدب. والأجر غير الممنون المذكور في الآية السالفة من سورة التين، والذي يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه إماما، ويكون المؤمنون بالمعنى العام (الذي يدخل ضمنه الأنبياء عليهم السلام) مأمومين، هو العودة إلى "أحسن تقويم" في الصورة الجسمية الطينية، ليلتقي قوسا الدائرة حسا، وفي عالم الطبيعة؛ من باب كمال العالم (الكون)، الذي يتحقق بكمال الإنسان. ومن المواضع القرآنية التي يظهر فيها النزول الذي نحن بصدده، إخبار الله تعالى عنه صلى الله عليه وآله وسلم يوم عروجه الشريف -بحيث كان العروج نزولا وكان النزول عروجا- قائلا: {وَٱلنَّجۡمِ إِذَا هَوَىٰ . مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمۡ وَمَا غَوَىٰ . وَمَا یَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰۤ . إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡیٌ یُوحَىٰ . عَلَّمَهُۥ شَدِیدُ ٱلۡقُوَىٰ . ذُو مِرَّةٍ فَٱسۡتَوَىٰ . وَهُوَ بِٱلۡأُفُقِ ٱلۡأَعۡلَىٰ . ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ . فَكَانَ قَابَ قَوۡسَیۡنِ أَوۡ أَدۡنَىٰ . فَأَوۡحَىٰۤ إِلَىٰ عَبۡدِهِۦ مَاۤ أَوۡحَىٰ . مَا كَذَبَ ٱلۡفُؤَادُ مَا رَأَىٰۤ . أَفَتُمَـٰرُونَهُۥ عَلَىٰ مَا یَرَىٰ . وَلَقَدۡ رَءَاهُ نَزۡلَةً أُخۡرَىٰ . عِندَ سِدۡرَةِ ٱلۡمُنتَهَىٰ . عِندَهَا جَنَّةُ ٱلۡمَأۡوَىٰۤ . إِذۡ یَغۡشَى ٱلسِّدۡرَةَ مَا یَغۡشَىٰ . مَا زَاغَ ٱلۡبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ . لَقَدۡ رَأَىٰ مِنۡ ءَایَـٰتِ رَبِّهِ ٱلۡكُبۡرَىٰۤ} [النجم: 1-18]. ولنتتبع الآيات واحدة واحدة: - {وَٱلنَّجۡمِ إِذَا هَوَىٰ}: الهُوِي: السقوط. والمقصود بالنجم في هذا القسم الإلهي، بعد إثبات ظاهر المعنى المتعلّق بالنجم السماوي، هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه هو من أُنزل من أعلى علّيّين إلى أسفل سافلين. ونزوله عليه السلام، ليس بمعنى الحطّ الذي قد يُفهم من اللغة؛ وإنما هو لختم دائرة الوجود كما ذكرنا. وهنا قاعدة من قواعد التفسير عندنا، تخص باب القسم الإلهي في القرآن الكريم وحده؛ ونعني أن كل الأقسام التي أقسمها الله في كلامه، والتي هي سواه من ظاهر الإطلاق، تدخل في جنس قسم الله بذاته من جهة واحدية مرتبتها، بما أننا نمنع من القول بواحدية الذات؛ علم الناس أم لم يعلموا. فقول الله تعالى -مثلا-: {فَوَرَبِّكَ لَنَسۡـَٔلَنَّهُمۡ أَجۡمَعِینَ} [الحجر: 92]، لا يختلف عن قوله تعالى: {وَٱلتِّینِ وَٱلزَّیۡتُونِ} [التين: 1]؛ وذلك لأن الرب المضاف إلى الكاف في القول الأول، هو الله تعالى؛ وأن التين والزيتون مظهران لأسماء إلهية هي التي تكون سببا في ظهورهما. والأسماء الإلهية، كلها تعود إلى الاسم "الله"، كما بيّنّا في الفصول السابقة؛ وهكذا يكون المـُقسَم به، هو الله وحده، إما إجمالا وإما من وجوه تفصيلية؛ بخلاف ما يقوله المفسرون. ومن قلّد المفسّرين فيما ذهبوا إليه بهذا الخصوص، فإنه سيضل عن معاني القرآن. ونعني من هذا، أن القرآن لا يدل في جميع مراتبه (سوره) وآياته إلا على الله وحده باعتبار ما؛ كما أن الله لم يخلق الخلق إلا للدلالة على نفسه، في مرتبة ما، وبأسماء ما؛ وهو هو سبحانه من وراء ذلك كله. ومن تشتت مع ظاهر القرآن، أو مع ظاهر الخلق، فإنه يكون داخلا في معنى الانحجاب عن الله؛ وإن كان في المعتاد ممن يشتغلون بالقرآن حفظا وتعليما. ولقد سبق لنا الولوج إلى هذا المعنى من أبواب أخرى، فلا يغب القارئ عنها، وليجمع بينها ما وجد إلى الجمع سبيلا؛ لأن للجمع في كل مرتبة وفي كل درجة بركة لا يعلم قدرها إلا الله ورسوله. ونحن -بحمد الله- ممن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، لذلك ندعو إلى كل وجوه الخير في كلامنا... و"هَوَى"، كلمة تدل على بلوغ المنتهى في السقوط الذي هو هنا النزول؛ وليس المنتهى إلا "أسفل سافلين"، وهو ما يُعرف في الفيزياء اصطلاحا بـ "السقوط الحر". ولا يعرِف مقدار ما كان عليه من النزول، إلا من كتب الله له الردّ إلى "أحسن تقويم"، وليسوا -بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم- إلا الواصلين من أهل القرآن وخاصة الله. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ! قَالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قالَ: هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخاصَّتُهُ.»[2] . ومعنى "أهلين" في اللغة أصحاب؛ كما يُقال لأصحاب الدار أهلها، ولصاحب المتاع أهله؛ وقد يزيد هذا المعنى في الدرجة، عندما يعني من كان جديرا بالشيء. فيكون معنى الحديث أن أهل القرآن الذي هو الجمع، هو وصف لمن كانوا جديرين بأن يتسمّوا "الله" الذي هو جامع لجميع الأسماء. ولفظ "خاصته"، هو تأكيد للمعنى الجمعي واعتبار لخصوص المظهرية، ما دامت المظاهر كلها مظاهر لله ولو بواسطة الأسماء التفصيلية. ومن لم يكن في نفسه -على هذا- متحققا بالجمع المحمدي، فلا يكون من أهل القرآن إلا مجازا؛ كما يُقال عن كل مسلم إنه من أهل القرآن لا من أهل التوراة أو من أهل الإنجيل. ونظنّ أننا قد أبنّا هنا عن معنى قرآنية الورثة، بما لم نبلغه في كل كلامنا السابق؛ وكل من كتب الله له الهداية الخاصة، سيعلم ذلك ويشكر ربه على هدايته. يقول الله تعالى: {فَخُذۡ مَاۤ ءَاتَیۡتُكَ وَكُن مِّنَ ٱلشَّـٰكِرِینَ} [الأعراف: 144]. - {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمۡ وَمَا غَوَىٰ}: وهو جواب القسم. وعندما يكون الخطاب للجماعة، فالصاحب يكون هو الإمام. والكلام هنا، يشمل كل الناس، بل كل الأجناس؛ من وقت نزول القرآن، وبالأثر الرجعي، امتدادا إلى قيام الساعة. وهذا يستغرق بني آدم من وقت خلق آدم، ويستغرق الخلق من وقت خلق الهباء. فهؤلاء هم المخاطبون بالخطاب الجامع بين الوجهيْن: التعريفي والتكليفي. وعلى الرغم من أن المسلمين في مجملهم، قد تُلوعِب بهم من قِبل الشياطين، بزعم كون الحق يوجد خارج القرآن بالمعنييْن اللذيْن هما: النبي صلى الله عليه وآله وسلم (المظهر)، والكتاب الذي أُنزل عليه من عند الله (الظاهر)؛ فإنهم لا يلبثون أن يُعيدهم البلاء وضنك العيش إلى الجادة، ولو بعد حين. وعندما ينفي الله عن نبيه الضلال، فإنه سبحانه ينفي كل ما يمكن أن يراه الناس أصلا له، ويُبشر الأتباع بتحقّق الاهتداء؛ ولا يبقى حين انتفاء السوء إلا الخير كله. وأما فعل "غوى" هنا، فهو فعل مجرد؛ ومعناه الإبعاد في الضلال. وإذا كان الله ينفي عن عبده المصطفى الضلال من أصله، فإن نفي الغواية بعد ذلك، لن يكون إلا تأكيدا قويا لنفي الضلال؛ وكأن الله تعالى يقول: لا يتصف عبدي الخاص هذا، بقليل الضلال ولا بكثيره، وشهادتي أنا له، من كوني ربا له ولكم، ينبغي أن تسترعي انتباهكم وأن تعرفوا قدرها، إن كنتم حريصين على تحصيل النفع والخير. وهذا خطاب للناس، من منطلق اعتبار حقيقتهم، التي هي الفقر التام إلى ربهم، ومن كل وجه. والكلام يطول في هذا، ونحن نبغي الاختصار... - {وَمَا یَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰۤ}: أي ما ينطق فيما يُخبركم به عني، عن هواه لأنه لا هوى له عليه السلام، إلا الحق. وهذه الحقيقة لا يتمكن من إدراكها، إلا من كان له خبرة بالنفس البشرية، وخلّصه الله من هواه ببركة التأسي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ ونعني أنه كان من المؤمنين الذين عرجوا ونالوا الأجر غير الممنون. وإن أكثر الناس، وانطلاقا من القياس على ما يعلمون من أنفسهم، لا يتمكنون من تصور مدى نزاهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومدى طهارته من السوء الملازم للنفوس بطبعها وطبيعتها. والهوى هو ما تشتهي النفوس من منطلق سوئها، وهو مشتق من الهُوِي؛ لأن النفوس لو أطيعت لهوت بأصحابها في النار. وأما النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهواه الحق؛ لأنه ليس فيه من نفسه شيء، وقد اندرج نوره في نور ربه اندراجا كليا. وهذا المعنى يذوق منه أهل الله ما يكون على قدرهم، فإذا ذاقوا، عرفوا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعلى مما ذاقوا وأرقى؛ بحيث لا يسع المرء إلا أن يجعله خارج معلومه، مع الإبقاء على أصل التصديق بإخبار الله ورسوله كما يُصدّق السّذّج من الأميين. ومع هذه البراءة من الهوى التي هي فوق التصور، نجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُسارع إلى الإقرار بذنبه بين يدي ربه، وهو (الاستغفار والتوبة) معنى لازم تستدعيه الحقائق، والكلام فيه يطول... وهنا لا بد من العروج على حكم من بلغه كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وردّه، كما نرى فئة من ضُلّال آخر الزمان يفعلون؛ وهذا إن صحت الرواية عنه صلى الله عليه وآله وسلم. ونعني من هذا أن الناس على قسميْن: - {إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡیٌ یُوحَىٰ}: والكلام كما هو جلي عن القرآن العظيم. والمعنى هو أن القرآن الموحى به، والذي هو كلام الله، لا يتنزل إلا على القرآن الإنسان، لعلة المطابقة في المناسبة. وهذا، لأن الله تعالى عندما خلق وعندما هدى، فإنه سبحانه يجعل الهداية على قدر الخلق، وهو ما كنا نذكره بمصطلح "القابلية" أو "الاستعداد". وقد امتن الله على عباده بالخلق وبالهداية في قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام: {قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِیۤ أَعۡطَىٰ كُلَّ شَیۡءٍ خَلۡقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ} [طه: 50]، وعبارة "كل شيء"، لا تستثني أحدا من الخلق؛ وعلى هذا تكون نعمة الله على أي مخلوق (عبد) من جهتيْن: الأولى، الخلق؛ وهو ما يجعله الله للمخلوق من قابلية بالنظر إلى ما تقبله من الأَمداد؛ والثانية، هي المدد المناسب لكل صنف من القابليات. فمثلا، فقابلية النمو البدني، يُناسبها الغذاء المعلوم من الأكل والشراب، بحسب كل مخلوق في عالمه؛ وقابلية العلم، تستدعي مددا علميا؛ وهكذا، إلى ما لا يكاد ينحصر. وعندما كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهة حقيقته هو الحق المتعيّن، خلقه الله في عالم السُّفل على قابلية تامة، هي في نظر العقول المـُدرِكة تكاد تكون من ضرب المحال، لولا أن الإيمان يتعلق بما يغيب منها عنها. وذلك لأن هذه العقول، قد اكتسبت من جهة الاستقراء ومن جهة التجربة، كما من جهة الاستنتاج الفكري، ما يدل على محدودية المخلوق، وإن عظُم في نظر الناظر لما خصّه الله من قوة طبيعية أو من قوة علمية أو من غيرهما؛ فصار عندهم اتصاف واحد من المخلوقين بالقوة التامة من جميع الوجوه، مما لا تجد له مصداقا في محيطها، وإن كان العقل يُقرّ باحتمال وقوع ذلك، أمرا محالا. وهذا -كما كنا نشير مرارا- إما من باب افتراض بلوغ الكمالات أوجها في مخلوق بعينه، أو من باب دلالة الفرع حيث كان على أصله، أو من باب التقابل إن كان الأمر به تقابل، أو من باب جمع المفصّل وإجماله، إلى غير ذلك من النِّسب الحاكمة على العقول المعتبرة. لكنّ الذين عرفوا شيئا بإذن الله من محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإنهم يتوقفون مشدوهين، وإن كانوا من أولي الكعب العالي في المعارف؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم، عندما يتجلّى بفضل الله لعبد من العباد، فإنه يكون فوق كل توقُّعاته. وهذا الذي نقوله، لا يعلم بعضه -وهو كثير- إلا كبار الصحابة رضي الله عنهم، وكبار أولياء هذه الأمة. ومن هذه الحيثية المحمدية الفريدة، كان الوحي الذي ينزل على الشخص المحمدي الكتاب بالمعنى العهدي الجامع الأكمل. وإن علمنا هذا، فإننا سنعلم بالتبع، وتلقائيا لمن وفّقه الله، أن أمّ كل كتاب من الكتب المنزلة، هي الصورة القرآنية لذلك النبي خصوصا. وعلى هذا فإن صورة موسى هي التوراة، وصورة عيسى هي الإنجيل، وصورة محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي القرآن. وبما أن القابلية المحمدية لا أعلى منها، فإن القرآن هو الوحي الجامع لكل ما تفرق في غيره وزيادة، وهو الكلام الإلهي الذي لا يتعدد إلا قراءة. ونعني أن القرآن، وإن كان محصورا في لفظه، فإنه متعدد في تجلياته، بحسب التلاوة؛ ومن هنا كان تشريع تلاوة القرآن. يقول الله تعالى من باب الامتنان: {إِنَّ ٱلَّذِینَ یَتۡلُونَ كِتَـٰبَ ٱللَّهِ وَأَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُوا۟ مِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ سِرًّا وَعَلَانِیَةً یَرۡجُونَ تِجَـٰرَةً لَّن تَبُورَ} [فاطر: 29]. والتلاوة كما هو واضح من اللفظ، هي القراءة المتكررة، التي يتبع بعضها بعضا. وسيأتي الكلام فيما بعد عن تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وورثته، التي يقول فيها الله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِی بَعَثَ فِی ٱلۡأُمِّیِّـۧنَ رَسُولًا مِّنۡهُمۡ یَتۡلُوا۟ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتِهِۦ} [الجمعة: 2]... وأما تنكير الله لكلمة وحي بعد أداة الاستثناء في الآية، فهو للتعظيم؛ بالإضافة إلى الاستثناء المنفي الذي يُعلم من اللغة أنه يُفيد الحصر. وكأن الله تعالى يقول: إن ما أنزلنا على عبدنا الأخص هو الوحي بكل ما تدل عليه الكلمة من معنى. وأما بناء الفعل "يُوحَى" لما لم يُسمَّ فاعله، فهو لأن الفاعل معلوم بداهة، ولا يُخشى على السامع معه الوقوع في الالتباس، وليس إلا الله تعالى. أما الزمن المضارع، فهو يدل في الحدث على الاستمرار؛ أي عدم الانقضاء في الزمان. وهذا -بما أن القرآن قد فُرغ من نزول ألفاظه- لا يدل إلا على تجديد الفهم فيه من قِبل الله تعالى، لمن يشاء من العباد، مع الأنفاس، وإلى أبد الآبدين. وقد رأينا لولي الله عبد الوهاب الشعراني في مقدمة كتابه "الطبقات الكبرى"، كلاما نفيسا في بابه، ملخصه أن جبريل عليه السلام، من نزل بألفاظ القرآن ومعانيه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ما يزال متنزلا على كل قلب مستعدّ بمعاني القرآن، إلى أن تقوم الساعة. وهذا وجه من الإعجاز للقرآن، لم نر له من علماء ظاهر الشريعة ذاكرا؛ على أنه بادٍ في كل الأزمنة، ممن يشاء الله أن يُظهر على ألسنتهم من العباد، ما يشاء من المعاني المتجدّدة، والتي هي مخصوصة بخواص هذه الأمة من ورثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، دون سواهم من فقهاء الدين... - {عَلَّمَهُۥ شَدِیدُ ٱلۡقُوَىٰ}: الضمير في "علمه" يعود على الوحي الموحى، ومـُعلّمه هو الاسم الله الذي له قوة جميع الأسماء الإلهية. وهذا على الأصل الذي دخلنا به إلى القرآن، وهو الاستهداء بالأسماء؛ وعلى خلاف أغلب المفسّرين الذين فسروا "شديد القوى" بجبريل عليه السلام؛ ولا يقول بهذا إلا محجوب عن حقيقة القرآن، واقف مع مظاهر الخلق. وهذا، لأن جبريل سواء في نزوله بالوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو عندما رافقه في رحلته السماوية، لم يكن إلا خادما للمقام الشريف. وهذا معهود من حكمة الله، وحيث يكون المعلم معلما لمن هو عند الله أعلى مكانة منه. ونعني أن الأمور لها أوان تظهر فيه، ولا تؤخذ بالطريقة التي ينظر إليها العوام. ولو كانت الأمور كما يقولون، ما وُلد الأنبياء صبيانا، ورضعوا الألبان من أمهاتهم، أو تعثروا في مشيتهم عند خطواتهم الأولى. وهذا باب من البلاء شديد، تكلمنا عنه نحن في كتبنا التربوية، وسميناه امتحان المماثلة. ومن شاء أن يتبيّن ما نقول، فليمتحن بعض العامة في التوحيد، فإنه سيجد اعتبار الأنبياء لديهم نظراء لهم في البشرية، من أكبر مستنداتهم في القول بمخلوقيتهم وعدم حقّيّتهم؛ وهذا من مقولات البسطاء الذين لا قدم لهم في العلم. ونحن لا نريد أن نفتن العامة في دينهم، ولكن نقول (والكلام دائما عن الأنبياء عليهم السلام) إن الأنبياء مظاهر الاسم "الله" في أزمنتهم، كلا من مرتبته الخاصة من الحقيقة المحمدية العليا. وعندما ننسب إلى عبد كونه مظهرا للاسم الله، فنعني أن الاسم الله قد صار اسما له، وأنه قد صار مسماه. وهذا يحدث أيضا مع الأغواث من أمتنا في أزمنتهم، وراثة نبوية محمدية. فما أبعد ظن العوام عن علم العلماء!... وهذا العلم الذي كنا بصدد ذكره، الجامع لعلوم الأسماء وأسرارها، يكون لكل اسم بحسب مرتبته من الأسماء؛ وهو غير العلم الذي يكون للاسم "العليم". ونعني -مثلا- أن الاسم العليم نفسه، لا يطلع على علم "الله"، ولا على علم غيره من الأسماء التي هي من الصف الأول خاصة. وكل اسم إلهي، يعلم علمه المخصوص به، ولا يعلم علم الأسماء التي فوقه. وقد درج العلماء على أن يُسموا العلوم المخصوصة بالأسماء الإلهية، أسرارا، لحكمة غيابها عن كثير منهم. وهو علم يؤتيه الله لمن كان اسمه "الله"، أو "الرحمن"، فيعلموا بها كيفية تصريف الأسماء في المخلوقين، بحسب ما يعلمونه منها. فيصيرون في الأسماء، كمن يضع خطة العمل، ويأمر مَن دونه العمل بها؛ وهكذا، ينفذ حكم الله بأي اسم هو تحت حكمه، في أي عبد أينما كان من الترتيب العام للأسماء وللمظاهر. وهذا علم نفيس، لا يكون إلا لأهل التصرف، الذين وكل الله إليهم تدبير العالم بالخلافة عنه سبحانه. ومن نُسب التدبير إلى خليفته، فإن النسبة إليه هو تكون أقوى وأحكم. وعندما يأتي الأمر إلى اسم بالنزول إلى اسم آخر يستنيبه في المظهر المعني، فهذا يعني أن الحكم فيه صار للثاني. بل إن في بعض الحالات، تختصم بعض الأسماء أحد المظاهر؛ كل واحد منها، يريد أن يكون المتحكم فيه. وقد يطول اللجاج، أو قد يغلب أحد الاسميْن الاسم الآخر، فعندئذ يصير الحكم إلى الغالب من الاسميْن. وهذه الوضعية لها حالات، ومدخل في النتيجة النهائية، وهذا يكون في حقيقته من تبديل المشيئة. وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى في قوله سبحانه: {مَا كَانَ لِیَ مِنۡ عِلۡمِۭ بِٱلۡمَلَإِ ٱلۡأَعۡلَىٰۤ إِذۡ یَخۡتَصِمُونَ} [ص: 69]؛ والملأ الأعلى هم رؤساء الملائكة الذين يتنزل الأمر منهم إلى ملائكة السماوات والأرض. وما اختصام الملائكة، إلا من اختصام الأسماء، فلا يبعد بالعبد فهمه عن هذا الأصل. وقد ذكر اختصامَ الملائكة أيضا، النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث قاتل المائة، إذ يقول عليه السلام: «(...) فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلائِكَةُ الْعَذابِ (...)»[3] . وملائكة الرحمة هي المظاهر النورية لأسماء الجمال، كما أن ملائكة العذاب، هي المظاهر النورية لأسماء الجلال... - {ذُو مِرَّةٍ فَٱسۡتَوَىٰ}: المرة هي الحكمة، لذلك كانت نتيجتها الاستواء الذي هو الاعتدال؛ وسيأتي الكلام عن اعتداله صلى الله عليه وآله وسلم في موضعه بإذن ربنا تعالى. والحكمة، هي ما ذكرنا بعضه سابقا، لندل على كيفية أخذ الحكم بالعمل في المظهر، بما يأمر به الاسم الرئيس. والاستواء الذي يظهر على المظهر، هو ما يُمكن أن نقول عنه إنه حكم المشيئة. وهذا، لأن المشيئة لها الحكم الأعلى في كل الأسماء، في كل المظاهر، وفي كل وقت. وهي تحكم في الاسم الله، من جهة غيبه، فلذلك يأخذ حكمها من دون توان، ومنه ينزل بحسب الترتيب إلى أن يصل إلى محله. وربما يأتي ذكر المشيئة في موضع آخر يتسع لها بأكثر مما يتسع هذا... - {وَهُوَ بِٱلۡأُفُقِ ٱلۡأَعۡلَىٰ}: الأفق الأعلى، هو مستوى الحقيقة المحمدية؛ إذ لا أعلى منه من جهة التعيّن؛ أما ما هو خارج التعيّن، فلا كلام عليه. وقد فصّلنا القول في هذا المستوى في الفصول السابقة، بما يعين على الخروج فيه من الالتباس الموروث، والذي طبع القرون السابقة -ما بعد الثلاثة الأولى- كلها. "وهو" حيث كانت هذه اللفظة، كما هو الشأن هنا، تدل على غيب الذات من الوجهيْن: الحق والخلق. وتعليم القرآن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، من كونه أصل الخلق هناك، كان من الحق الذي يقوم به هذا المخلوق الأول؛ أي من أول مظهر للاسم "القيّوم". لكن القرآن هناك، كان أصل القرآن المعلوم للناس الآن، وبعد كل المراحل التي مرّ بها الخلق، من عوالم الجبروت والملكوت والمـُلك، وانتهاء في عالم المـُلك إلى ذروة الزمان وغرة الدهر والأوان، عند إذن الله تعالى بظهور الشخص المحمدي الشريف، سلطان الوجود والسبب في كل موجود. وسيظهر تجلي القرآن بما هو الكتاب المعلوم -إن شاء الله- بالتدريج وبحسب توالي الفصول... - {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ}: أي هو. ونحن نرى أن معنى الدنو والتدلي، ينطبق على الحق في المستوى الأعلى، وعلى الخلق أيضا هناك. وعلى هذا، فإن دنو الحق وتدلّيه، هو تنزله سبحانه في التجلي من المستوى الأعلى إلى أن ظهر في أتم المظاهر في عالم السفل، والذي هو الشخص المحمدي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وأما دنو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، من الحق في حال عروجه الشريف، فهو خرقه للعوالم صعودا، إلى بلوغه المستوى الأول الذي منه تدلّى. ولا يعلم هذا الدنو والتدلي إلا من فتح الله عليه في معرفة حقيقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ليعلم منه حقيقة القرآن الجامع بين حقائق الحق وحقائق الخلق، التي هي حقيقة سر الذات. ولو فتحنا باب الكلام في سر الذات بما هو سر الذات، لا بما هو حقيقة الحق ولا حقيقة الخلق؛ أي ما هو وراء الاسم الضمير "هو"، لانقلب هذا الكتاب في نظر الناظر إليه عمى. وبما أننا نريد هداية الخلق لا ضلالهم، فإننا سنسير بالقدر الذي ينفعهم في الغالب؛ ولكن هذا لا يمنع من الدلالة على أن سر الذات هو ما تجلّى للناس في الصورة[4] المحمدية في عالم السفل. ولنكتف في الدلالة على هذا المعنى الأقدس، بذكر قول الله تعالى: {وَإِن تَدۡعُوهُمۡ إِلَى ٱلۡهُدَىٰ لَا یَسۡمَعُوا۟ۖ وَتَرَىٰهُمۡ یَنظُرُونَ إِلَیۡكَ وَهُمۡ لَا یُبۡصِرُونَ} [الأعراف: 198]؛ وهذا في حق الغالبية ممن نظر إلى الصورة الشريفة إما عيانا كالصحابة، وإما إيمانا كسائر من جاؤوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومعنى الآية من الأعراف، هو أن الهُدى هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، وأن الدعوة إليه هي ما فعله صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوته القرآن، وما فعله كل مبلغ عنه عليه السلام؛ وأن عدم سمع من لم يأذن الله لهم بالسمع، هو ما أدى إلى أن ينظروا إليه ولا يبصرونه؛ وهذا، لأن روح الإبصار السمع (الفهم). والضلال الذي يُفهم بمنطق المخالفة من الآية الكريمة، هو الضلال الأكبر الذاتي، والذي لم يسلم منه شطر الصحابة الأكبر، وشطر الأمة الأكبر. وهذا الضلال الأكبر، هو أصل الضلال الأصغر بالمقارنة إليه لكونه فرعا عنه، وإن كان هذا الذي سميناه نحن الأصغر، هو الأكبر بالاصطلاح الفقهي؛ أي الضلال الذي كان عليه الكفار من مشركي قريش ومن أهل الكتاب، وشتان ما بين المعنييْن!... وعلى هذا، فمن لم يعرف حقيقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه لا يُدرك معنى دنو الحق وتدلّيه، وإن كان مؤمنا. ولعل هذا المعنى سيتضح للناس مع تقدمنا في الكتاب بإذن الله... - {فَكَانَ قَابَ قَوۡسَیۡنِ أَوۡ أَدۡنَىٰ}: القوسان هما قوس الحق وقوس الخلق، ومظهراهما التفصيليان هما السماوات والأرض، وقابُهما هو الجامع بينهما في العالم السفلي، كما كان جامعا لهما في العالم الأعلى؛ وليس إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا الجمع، يقتضي العلم بالمجموع من النفس؛ ونعني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان يعلم الحق ويعلم الخلق، إجمالا وتفصيلا، من نفسه الشريفة؛ وهذا هو العلم، لا غيره. ونقصد إلى أن تلاقح الأفكار الذي يظنه الناس في زماننا علما، ليس كذلك؛ وإنما هو ظن، يتراوح ما بين القوة والضعف، بحسب الحال. وأما العلم من حيث هو، فلا يكون إلا ذاتيا، من الاسم "العليم". لهذا، لم يوجد في العالم، من هو أعلم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وسنرى كيف كان العلم يحصل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في فصول قادمة بإذن الله، وسنرى أيضا من أين كان يأتي الاعتراض عليه صلى الله عليه وآله وسلم، كما في قوله تعالى: {قُل لَّاۤ أَمۡلِكُ لِنَفۡسِی نَفۡعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاۤءَ ٱللَّهُۚ وَلَوۡ كُنتُ أَعۡلَمُ ٱلۡغَیۡبَ لَٱسۡتَكۡثَرۡتُ مِنَ ٱلۡخَیۡرِ وَمَا مَسَّنِیَ ٱلسُّوۤءُۚ إِنۡ أَنَا۠ إِلَّا نَذِیرٌ وَبَشِیرٌ لِّقَوۡمٍ یُؤۡمِنُونَ} [الأعراف: 188]، ونعرف منه كيف ضل قوم بالقرآن، كما سبق أن أخبرنا. وما نشبه القرآن إلا بالبحر الهائج الذي ترفع أمواجه راكبه، وتنزل به -إن لم يحفظه الله- إلى أعماقها، فتطويه ويهلك مع الهالكين. نسأل الله الثبات على الحق بفضله، ونعوذ به من الضلال بعد الهدى، إنه نعم مولانا، فنعم المولى ونعم النصير... - {فَأَوۡحَىٰۤ إِلَىٰ عَبۡدِهِۦ مَاۤ أَوۡحَىٰ}: وفي هذا الجمع، أوحى الله إلى عبده ما أوحى؛ والأسلوب يدل على الإسرار، بحيث لا يعلم أحد من العباد، ما أوحى الله إلى عبده الأخص. وهذا الإخبار من الله، لا يُقابَل إلا بالتسليم، ما دام خارجا عن إدراك كل العباد الآخرين. ومن لم يُدرك الخصوصية النبوية، فما أدرك شيئا من الدين!... وإن نحن عدنا إلى كبار الصحابة المرضيّين، لوجدناهم مقيمين على هذا الأصل، لا يتزحزحون. فهم ما كان بينهم وبين إقرار الشيء، إلا أن يسمعوه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لا أن يفقهوا ما سمعوا، كما صار المتأخرون يفعلون، ويزعمون بعد ذلك أنهم على إيمان، هيهات!... وتكفينا في هذا المعنى، كلمة سيدنا أبي بكر عليه السلام، حين أُخبر بحادثة الإسراء والعروج: "لَئِنْ كانَ قَالَ ذَلِكَ، لَقَدْ صَدَقَ!"[5] . ووالله لو بقي المسلمون من أولهم إلى آخرهم، يستكنهون هذه الكلمة، ما بلغوا معشار عشرها!... فلله در قائلها، من صديق ومن صِدّيق!... ومن شاء أن ينال العلم الحق، كما ناله الأفذاذ من هذه الأمة الشريفة، فليعتمد تصديق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من دون عودة إلى نفسه (عقله)؛ حتى يكون حاله مع القرآن والسنة كالمجنون. ولقد كان ينبغي لعلماء الدين أن يدلوا على هذا الباب في منهجية أخذ العلم، بدل الإغراق في إثبات الوسطاء من علماء الأزمنة. وهذا، ليس حطا منا من قدر علماء الأمة، وإنما هو إعادة للأمور إلى نصابها. وما رأينا من دعا إلى هذا الأدب إلا أهل الله، فليت المسلمين يعودون إليه... - {مَا كَذَبَ ٱلۡفُؤَادُ مَا رَأَىٰۤ}: الفؤاد القلب، لكن من جهة الباطن؛ أي من الجهة التي تلي الروح، لا من الجهة التي تلي البدن؛ وهذا يعني أن فؤاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قد شاهد الحق. وقد وردت قراءة {مَا كَذَبَ}، بالتخفيف وبالتشديد معا. ومعنى أنه لم يكذّبه، هو أنه عرفه أنه هو، وصدّق بما رأى؛ وأنه عندما أخبر، لم يُخالف إخباره ما رأى. وأما معنى التخفيف، فهو أن فؤاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قد أخبر كما رأى، من دون زيادة ولا نقصان؛ وهذا تابع لتنزهه عليه السلام عن الهوى، وتابع لكونه عليه السلام على أكمل استعداد عقلي وأتمه. وليت شعري، كيف يضل الناس عن هذا المعنى، وينصرفون إلى اتباع أقوال القاصرين من الناس، وإلى الإعجاب بها، وهي لا تخلو من سوء ولا من شرك. ولولا أننا نفر من التنقيص من الناس، لذكرنا مفسرين ممن هم معظمون لدى العامة، كيف يقعون في الشرك، عند وقوعهم تحت تحكّم عقولهم، أو عند اتباعهم لعقول القاصرين من أضرابهم. وقد يقع تكذيب رؤية الفؤاد، من غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ممن تفجأهم المشاهدة، فيتوقفون زمنا لعدم إلفهم وتدخّل عقولهم؛ هذا، مع أن الحق لا يُشبهه شيء، حتى يخاف العبد على نفسه التلبيس. لكن التلبيس إن وقع، فإنه يقع بفعل إبليس، ومن حضرة أخرى؛ وهذا يقع لكثير من المتصوّفة أصحاب الأهواء. أما أهل الله المجرّدون بالتزكية منها، فإنهم بمجرد أن يلوح لهم الحق للمرة الأولى يعرفونه، فيكونون على قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المعرفة. لكن التوقف، ولو لزمن ما، ضروري لأهل الحق، من باب التمحيص والتثبّت. ولقد وقع ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، عندما فاجأه الوحي، حين عرض أمره على السيدة خديجة عليها السلام، ثم على ورقة بن نوفل. وسنعود إلى تفصيل هذا، عند كلامنا على كيفية نزول الوحي. أما إن قيل: وكيف يصدّق المشاهدون للحق أنه هو، مع أنهم لم يُشاهدوه قبلا؟ قلنا، لأن الحق لا يشتبه على أحد، ولأنه معلوم للأرواح بداهة، من حيث هي مظاهر للروح الأكبر (روح القدس). ومن هذه المناسبة، كان جبريل عليه السلام، وهو المظهر المـَلَكِيّ للروح، المكلّف بإنزال الوحي على قلوب الأنبياء عليهم السلام، وعلى قلوب الورثة بالتبع. ولولا هذه المعرفة الأصلية التي للأرواح بالحق، ما صح لأحد من الخلق أن يدّعي ذلك!... فإن كان العارفون ممن ذكرنا، يقع لهم هذا؛ فما وقع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أعلى وأعلى، من كونه العبد المراد بتلك المكانة وحده، على وجه الأصالة. وهذا يعني، أن أرواح الأنبياء وأرواح الأولياء، تحصل لها مشاهدة الحق، لا من نفسها هي، وإنما عندما يتجوهر الروح الجزئي، ويعود إلى أصله من الروح المحمدي. ونعني من هذا الكلام -علم من علم وجهل من جهل- أن العبد لا يعلم الحق ولا يُشاهده، إلا إن صار من حيث المكانة محمدا صلى الله عليه وآله وسلم. ولقد عبّر العلماء بالله من هذه الأمة عن هذا المعنى، بمختلف التعابير؛ فمنهم من صرّح، رضي الله عنهم، ومنهم من ألغز... وأما الرؤية التي تكون من الفؤاد، فهي رؤية البصيرة؛ وقد تتحد البصيرة بالبصر، فتتحد الرؤية، فيصير البصر الترابي رائيا لما رأته البصيرة. وهذا هو ما يليق بالمعنى الخاص في التوحيد، ما دام البقاء على التفريق بين مشهود البصيرة ومشهود البصر، مُفضيا إلى القول بالاثنينية على أقل تقدير. والتوحيد، كما أسلفنا مرارا، هو الانتهاء في الأمور المتكثّرة، إلى واحد. غير أن ما نذكر هنا، لا يُبلغ بحسب ما تُدرك العقول من اللغة، وإنما هو من التحقق بالحقيقة المحمدية. فمن لا قدم له في هذا التحقق، فهو بعيد عنه، وإن شابهت العبارة العبارة. وأهل الله عندما يسمعون الحقائق من الناطقين بها، يعلمون هل الناطق من أهل التحقُّق، أم هو من الكاذبين!... (يُتبع...) [1] . لقد تكلمنا عن تخريج الحديث في الصفحة 66، فلن نعيده هنا؛ ولكن ننبه إلى أن النظر في الحديث من مراتب الدين الدنيا، لا يُسعف أصحابه، وبالتالي فإن كل من ردّ الحديث لمخالفته عقيدته، فإنه يكون مخطئا. والمعنى عندنا صحيح، وأصح صورة له، هي ما نذكره في هذا الموضع من هذا الفصل من الكتاب. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.