اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2024/05/01 الإنسان القرآن (مقدمة في تفسير القرآن الكريــم) .8. الباب الأول: القرآن وحقائقه الفصل السابع: نشوء الملائكة عن الأسماء إن الملائكة مخلوقات نورية، خلقها الله من معاني الأسماء الإلهية، لتكون واسطة بينها وبين مظاهرها العلوية أو السفلية. وهي من جملة الحقائق المتضمّنة على وجه الإجمال في الحقيقة المحمدية. وأول الملائكة، هم الرؤساء، الذين خُلقوا من الحقيقة المحمدية؛ وهم من عالم الجبروت. ويأتي بعدهم الملائكة المهيمون، وهم يُشبهون الحقائق الآدمية المسماة أفرادا. ولا هؤلاء ولا أولئك، يعقلون شيئا غير الله تعالى. وأما في المراتب التي دون هذه، وابتداء من العرش، فستُخلق الملائكة من الأسماء، لتملأ السماء، ثم الأرض. وهذا يعني أن لكل اسم إلهي ملكا رئيسا، على هيئته، يكون تحته عدد من الملائكة مخصوص، يعدون جندا لذلك الاسم وذلك الملك؛ وهم يُسمّون خدم الاسم عند قوم يعتنون بهذا العلم. فما كان من الأملاك ناشئا عن أسماء الجمال، كان مظهره جميلا؛ وما كان عن أسماء الجلال، كان مظهره مرعبا. وهذه الملائكة، هم المدبرون للعالم، وتنشأ عنهم في كل عالم ملائكة بحسب الوظائف المطلوبة منهم. وحتى نعلم رؤساء الملائكة، فلنعد إلى الدعاء الذي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستفتح به صلاته من الليل، وهو: «اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وإسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بيْنَ عِبَادِكَ فِيما كَانُوا فيه يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِما اخْتُلِفَ فيه مِنَ الحَقِّ بإذْنِكَ؛ إنَّكَ تَهْدِي مَن تَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.»[1]. فتبيّن أن رؤساء الملائكة ثلاثة وهم الناشئون عن الروح المحمدي: - أولهم جبريل، وهو الملك الناشئ عن الاسم الحي والعليم، وهو الموكل بالوحي. وكما أن الأسماء متولدة عن الأسماء، فكذلك الملائكة متولدة عن ذلك التولد. ولنأت هنا بنشوء الأسماء عن الأسماء. ولنتأمل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وتِسْعِينَ اسْمًا مِئَةً إلَّا واحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ.»[2]. ومعنى أحصاها: عرفها. ولنعلم أولا أن الأسماء لا حصر لها بما هي أسماء، وإذا كانت الأسماء التي تجلى الله بها في الدنيا لا تُحصر، فكيف بالأسماء التي سيظهر أثرها في الآخرة!... وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن حاله في الآخرة، وعند الشفاعة الكبرى بقوله: «فأحْمَدُ رَبِّي بتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ رَبِّي...»[3]. والتحميد لا يكون إلا بذكر المحامد؛ والمحامد هي الأسماء الحسنى من غير شك... فإن علمنا ما تقدّم، علمنا أن التسعة والتسعين اسما محصورة لحكمة. ولقد سمعنا بعض المنتسبين إلى العلم يشككون في الأسماء المشهورة، بدعوى أنها لم تتضمن كل الأسماء المذكورة في القرآن، أو أن بها أسماء يرون أنها لا تليق بالله تعالى من جهة تعقّلهم، كالاسم "الضار" مثلا؛ فإنهم قالوا إن الله تعالى ينفع ولا يضر، تعالى الله عما يقولون. ولعلنا سنعود إلى تفصيل الكلام في الاسم الضار عندما يحين حينه بإذن الله تعالى. وأما الآن، فلنعد إلى أصل نشوء الأسماء؛ وقد ذكر العلماء، أن الأسماء ألفاظ الأساسُ فيها التوقيف؛ ولكن التوقيف حصر، وهي غير محصورة. وهذا يدل على أن من الأسماء ما يُشتق من الأفعال التي أثبتها الله لنفسه في الوحي، أو يفهم العقل بداهة أنها تعود إلى الله. وذلك كقول الله تعالى (مثلا): {ٱلَّذِی جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فِرَ ٰشًا وَٱلسَّمَاۤءَ بِنَاۤءً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءً فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَ ٰتِ رِزۡقًا لَّكُمۡۖ} [البقرة: 22]؛ فإننا نستخرج من هذه الآيات: جاعل الأرض فراشا، جاعل السماء بناء، منزل الماء من السماء، مخرج الثمرات بالماء، جاعل الثمرات رزقا. وهكذا، يمكن أن نفعل مع كل ما ورد في القرآن أو في السنة من الأفعال الإلهية. وأما شيخنا الأكبر، فيقول: إن كل الأسماء هي أسماء إلهية؛ ونحن على مذهبه. وذلك، لا كما سيفهمه قاصرو العقول مما يُسمّونه قولا بوحدة الوجود؛ فالشيخ الأكبر منزه عن القول بتلك الشناعة، وهو بريء منها براءة تامة. ولكنه -عليه السلام- يشير إلى أن الأسماء إذا تعلقت بمظهر ما، فإنها تُشير أول ما تُشير إلى النسبة الإلهية فيه، قبل النسبة الخَلقيّة (نسبة إلى الخلق)؛ وهذا لأن الله له الأولية على خلقه، وليس للأولية معنى إن لم تكن تحكم على الأسماء بما ذكره الشيخ الأكبر. ومن هذا الوجه، يبين أن الأسماء الإلهية لا حصر لها حقيقة وملاحظة. وإذا كان الأمر هكذا، فهذا يعني أن التسعة والتسعين اسما، تنوب عن جميع الأسماء الأخرى لحكمة ما. والذي يؤكد هذا، هو وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها بأنها: "مائة إلا واحدا". وهذا ليمنع عليه السلام مجاوزتها اعتبارا للحكمة منها، لا حصرا للأسماء بما هي أسماء. ولنُقِرّ أولا قاعدة، سنعمل عليها في تصنيف الأسماء، وهي أنها شعوب وقبائل. وقد أخذنا هذا من قول الله تعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَـٰكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَـٰكُمۡ شُعُوبًا وَقَبَاۤىِٕلَ لِتَعَارَفُوۤا۟ۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرٌ} [الحجرات: 13]. ومعنى {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ} هو: {يا أيها المظاهر الاسمية} التي خُلقت من ذكر وأنثى في العادة وفي الحقائق الازدواجية؛ أنتم مظاهر خلقتم بين الحقيقة الوجودية والصورة العدمية. وجُعلت شعوبا وقبائل، أي فروعا وفروع الفروع، لأجل التناسل الذي دعا إليه الموت والتوارث في الأشخاص؛ والغاية: {لِتَعارَفُوا}: أي ليعرف بعضكم بعضا، بما أنتم مظاهر لما هو بكم ظاهر؛ وليس إلا الأسماء. {إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ}، أي إن أكرم المظاهر، من اتقى أن يظهر بالاسم المخصوص به، بل ينسبه إلى الله صونا للسر الإلهي. ومن هنا أُخذت قاعدة الخمول، وقاعدة التقوى في أعلى مراتبها. {إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرٌ}: أي إن الله يعلم أحوالكم، ويعلم بواعثها؛ وهو خبير بها، لأن ذوقها يقع له، قبل أن يقع عليكم. والعبد مكشوف بين يدي ربه، كشفا تاما، يفوق ما يعلمه العبد من نفسه. ومن علم هذا، أراح نفسه من التستر بين يدي ربه. وما أشرنا إليه في باب الذوق، يدخل في التسابق بين النسب، والنسبة الإلهية هي السابقة على كل حال. وقد بينّا ما ينبه ذوي الأنوار، لما يتحقق لهم به الترقي؛ أما غيرهم، فنكلهم إلى ربهم، يفعل بهم ما يشاء سبحانه. وكما أن المظاهر الآدمية تعود إلى أب واحد هو آدم عليه السلام، وكما أن آباء البشرية من بعده يعودون إلى نوح عليه السلام، وإلى أبنائه: سام وحام ويافث؛ ممن نجا بعد الطوفان، لأن الابن الكافر الذي أُغرق هو يام (كنعان)؛ فكذلك الأسماء الإلهية تعود كلها إلى الاسم الله، وتعود من بعده إلى الرحمن ثم إلى الرب والمـَلِك. ونوح كما آدم، هما مظهران للاسم الله؛ وقد جاءت بعدهما مظاهر كثيرة لهذا الاسم، كما هو معلوم عند أهله. لكن الملائكة عندما تنشأ عن الأسماء، فهي تنشأ بتوجه معنى الاسم من جهة العدم، على الحقيقة الوجودية، فيظهر الملك نورا من نور الحقيقة، متشكلا بصورة عدمية يمتاز بها عن غيره من الملائكة. وذلك التوجه هو ما أخبر الله عنه في قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوۡلُنَا لِشَیۡءٍ إِذَاۤ أَرَدۡنَـٰهُ أَن نَّقُولَ لَهُۥ كُن فَیَكُونُ} [النحل: 40]. فهذا التوجه الذي تظهر به الملائكة عن معنى الأسماء، هو الإرادة الإلهية. والإرادة، قد علمنا أنها من الوجوه السبعة للحقيقة المحمدية العلوية. والفرق بين الملائكة وسائر المخلوقين، هو أن الملائكة تُخلق من النور الأصلي وتتعيّن فيه، وأما سائر المخلوقين فهم مخلوقون من مادة العالم. ولسنا نعني إلا الجن الذين خُلقوا من نار (طاقة)، والإنس وغيرهم من مخلوقات الأرض الذين خُلقوا من تراب. والتراب هو آخر مادة في التسلسل، لأن منه ظهرت الأرض التي جعلها الله مسكنا لخليفته على مملكته، والذي هو الإنسان. وسنعود للكلام عن هذه المسألة، عندما نصل إليها إن شاء الله... وهنا ينبغي أن نفرق بين الاسم الظاهر ومظهره، لأن الأسماء على كثرتها فهي لا تفنى بالمعنى الذي نحن بصدده؛ بخلاف المظاهر التي هي معرّضة للفناء بالموت خصوصا. ووظيفة الملائكة الناشئة عن الأسماء، هي تدبير المظاهر، بما يُبقي على معاني الأسماء. وهذا يجعل مظهر القرآن الذي هو العالم، متجددا باستمرار. ولنعد إلى الأسماء، لنتدبر ما جاء منها في القرآن جماعة. فمن ذلك على الخصوص، قول الله تعالى: {هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِی لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡمَلِكُ ٱلۡقُدُّوسُ ٱلسَّلَـٰمُ ٱلۡمُؤۡمِنُ ٱلۡمُهَیۡمِنُ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡجَبَّارُ ٱلۡمُتَكَبِّرُۚ سُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا یُشۡرِكُونَ} [الحشر: 22]. والاستثناء المفيد للحصر، لا يعني عندنا ما يفهمه الناس من أن الألوهية منتفية من حيث الجنس عن كل ما سوى الله، ولا تثبت إلا لله؛ لأن هذا المعنى عندنا هو شطر المعنى؛ أي هو مطابق لأحد الهوييْن، لا لهما معا؛ ونحن قد قلنا إن الالتباس قد بدأ معهما. وأما المعنى الثاني الذي للنفي، فهو ثبوت المنفي الذي هو الألوهية، من وجه كل إثبات -مما هو مقبول في الأعراف أو مما هو مردود- لله وحده. وبذلك تكون عبارة "لا إله إلا هو" الواردة بعد هو الله، صفة مفسرة للألوهية التي هي أم الصفات الأخريات. فكأن العبارة هي: هو الله الإله؛ لكن بما أن الألوهية التي هي المرتبة، ثبتت للذات، فقد استوى الاسم الدال على المرتبة في اللفظ باسم الذات، فخرج على صورته لفظا ورقما لا معنى. وهذا هو الدليل على عجز اللغة، عن أن تعبّر عن مكنونات الذات، من حيث دلالتها الأصلية. ولهذا، قد نزهنا نحن القرآن منذ البداية عن الدلالة اللغوية، وإن كنا لا نتجاوزها تأسيا بالله الرحمن الرحيم، الذي اعتبر من رحمته بعباده، كل دلالة لغوية دلالة شرعية. فما أعظم الله في نفسه، وما أعظم رحمته!... ولنعد إلى الآية التي انطلقنا منها: والملِك، هو الاسم الحاكم على المخلوقات من جهة ظاهرها؛ فما من أحد منها إلا وهو تحت حكم الملِك، كما أخبر الله بذلك في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءٍ قَدِیرٌ} [آل عمران: 189]، وظهر من الآية أن الاسم الملك، عائد إلى صفة القدرة وأن الاسم القدير من أتباعه، كما هو الاسم القهار من أتباعه. وقد قرن الله ذكر المـُلك بالقهر في قوله تعالى: {یَوۡمَ هُم بَـٰرِزُونَۖ لَا یَخۡفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنۡهُمۡ شَیۡءٌ لِّمَنِ ٱلۡمُلۡكُ ٱلۡیَوۡمَۖ لِلَّهِ ٱلۡوَ ٰحِدِ ٱلۡقَهَّارِ} [غافر: 16]. وهذا يوم القيامة، وعندما تنظر الخلائق إلى ربها. وأما الآن، فإن هذا العلم مخصوص بالأولياء وحدهم. وهذا لا يعني أن الناس سيساوون الأولياء في العلم يوم القيامة، وإنما يدل على أن بعض الحقائق مما هو غيب في حق الغافلين والمحجوبين في الدنيا، سيكون مشهودا لهم في الآخرة. وتبقى الغيوب، التي لا تليق بالعموم مصونة حتى في الآخرة؛ على الأقل في المدى الذي نعلمه الآن. والاسم "الواحد"، من الآية والذي يسبق القهار، صار بهذا المعنى من أتباع الملك؛ ومعنى الواحدية من أقوى معاني الملك. فالملِك تحته شعب من الأسماء، في مقابل شعب "الرب" الذي يُربّي مختلف المظاهر بمختلف الأسماء. واسم الملك كاسم الرب هما من أول الأسماء تعلقا بالمظاهر الإمكانية، مباشرة بعد تعلق الاسم الجامع والاسم الرحمن. ونعني أن دائرتيهما هما من أوسع الدوائر الفرقية، ولا أوسع منهما إلا الدائرة الجمعية. وسيأتي ذكر النسبة التي يعود لها الاسمان: الملك والرب، في محله بإذن الله... ولو أمعنا النظر في الاسمين القدوس والسلام، لوجدناهما من أسماء الذات، أي من القبيلة التي هي أصل الشعوب؛ وإن كان فيهما اعتبار للمخلوقات، من جهة السلب. وهذا لا يعني أنها عندنا من أسماء الكمال كما يتوهم المتوهمون. وحتى الكمال الذي يقصده أهل الله في مجال الأسماء، ليس إلا معنى في مقابلة معنيَيْ الجلال والجمال؛ لا في مقابلة النقص، تعالى الله عن ذلك. والأسماء التي هي عندنا ذاتية، لا بد أن تلحق بالاسميْن "الله" و"الرحمن"، وإن كانت دونهما في المرتبة، كشأن القدوس والسلام. والقدّوس أعلى في التنزيه من السلام، لعدم اشتماله على رائحة المخلوقين؛ فهو قدوس سبحانه لنفسه بنفسه. أما السلام فيُسأل ممّ؟ وهذا فيه إشارة غير مباشرة إلى المخلوقات. وقد ختم الله هذه الآية بقوله تعالى: {سُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا یُشۡرِكُونَ}: فهو يُسبّح (أي يُنزّه) نفسه بنفسه، لعدم قيام أحد بهذا التنزيه إلا هو؛ عما يُشركون: والكلام عن الخلق بصيغة الغائب التي تفيد الجهل والخلط. والمعنى هو أن كل الأسماء التي ذُكرت في الآية، ينبغي أخذ معناها عن الله، لا عن العقل، ولا عن مخلوق نظير. ومعنى أخذ المعنى عن الله، هو أخذه مشافهة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو عن أحد ورثته؛ أو أخذه من جهة الكشف، كما هو شائع عند أهل الله. فإذا عرفنا الفرق بين هذه الأسماء، فلنحفظ أن كل اسم منها، يخلق الله من توجه اسم الذات "الله"، من وجوه اسم المرتبة "الله"، التي ذكرها سبحانه في قوله: {هُوَ ٱللَّهُ ٱلۡخَـٰلِقُ ٱلۡبَارِئُ ٱلۡمُصَوِّرُۖ} [الحشر: 24]، ملكا تطابق صورته معنى ذلك الاسم. فمن الملائكة، ما يغلب عليه الجلال والرهبة، ومنها ما يغلب عليه الأنس والجمال، ومنها ما هو مفزع مرعب، كزبانية جهنم، وهكذا... وإنما خلق الله الملائكة على اختلاف مراتبهم من الأسماء وبحسب مراتبها. فالملائكة الذين هم مخلوقون من الأسماء الذاتية، لا يُطيق مخلوق رؤيتهم، وأغلب من يقع عليهم نظره يموت لساعته. وهذا حال عزرائيل الذي هو دونهم، مع أهل الكفر؛ فما الظن بمن هم فوقه في المرتبة. وقولنا مع أهل الكفر، هو من أجل التفريق بين الحال الذي يموت عليه المؤمن، والحال الذي يموت عليه الكافر. يقول الله تعالى في حال الكافرين عند الموت: {وَلَوۡ تَرَىٰۤ إِذِ ٱلظَّـٰلِمُونَ فِی غَمَرَ ٰتِ ٱلۡمَوۡتِ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ بَاسِطُوۤا۟ أَیۡدِیهِمۡ أَخۡرِجُوۤا۟ أَنفُسَكُمُۖ ٱلۡیَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ غَیۡرَ ٱلۡحَقِّ وَكُنتُمۡ عَنۡ ءَایَـٰتِهِۦ تَسۡتَكۡبِرُونَ} [الأنعام: 93]، وليس إرادتهم الامتناع عن إخراج نفوسهم إلا من هول ما يرون. ويقول سبحانه عن حال المؤمنين عند القبض: {یَـٰۤأَیَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَىِٕنَّةُ . ٱرۡجِعِیۤ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِیَةً مَّرۡضِیَّةً . فَٱدۡخُلِی فِی عِبَـٰدِی . وَٱدۡخُلِی جَنَّتِی} [الفجر: 27-30]. والملائكة الأعلون، مخلوقون من نور أصلي، بخلاف الملائكة الطبيعيين المخلوقين من نور طبيعي. وبهم قوة أقدرهم الله بها على خدمة الاسم الذين هم مخلوقون من معناه، لا يتصورها العقل. لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون؛ وهذا حتى ينفذ تصرف الأسماء الإلهية في المخلوقات. فهم لا اختيار لهم في أفعالهم، وإنما هم أدوات الأسماء الإلهية، في فعل ما يُؤمرون به؛ لذلك فهم غير مكلفين ولا محاسبين محاسبة التكليف. ولكنهم يُحاسبون محاسبة الأدب إذا شاء الله ذلك، ولهم علوم مخصوصة تقوم عليها وظائفهم في العالم. وهم شديدو الخشية لله، وشديدو الانحياز إليه؛ ولولا الخشية التي بهم، كانوا أطبقوا السماء على الأرض من هول ما يرون من معاندة لأوامر الله من أكثر الجن والإنس. فهم بطبعهم لا يفهمون كيف يجترئ عبد مكلف على فعل المعاصي تحت نظر الله. ولولا أن الله يُمسكهم بمدده، لانحلّوا من هول ذلك في نظرهم. وقد ذكرنا في هذا الفصل ارتباط نشوء الملائكة بالأسماء الإلهية، لندل على عدم خلو مكان في العالم منهم. فهم موجودون في السماء، وموجودون في الأرض، وموجودون في المخلوقات يدبرون أجزاءها، ويحفظون تراكيبها، إلى أن يأتي الموت الأصغر المتعلق بذوات المخلوقات، أو يأتي الموت الأكبر الذي هو قيام الساعة وفناء العالم. وكما هم الملائكة مشرفون على الإيجاد، فهم مشرفون على الإفناء، وعلى الإعادة. لهذا، فلا مخلوق هو مستغن عن الملائكة، وهي مرافقة له في كل هيئاته: من هيئته العلمية إلى جسمه الطبيعي، إلى صورة نفسه البرزخية، ثم إلى نشأته الأخروية الثانية. ومن هذا الباب كانت وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهم، خصوصا منهم الحافظين والكاتبين لملازمتهم لنا، كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاِئكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجتَمِعُونَ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ وَصَلاةِ الْعَصرِ؛ ثُمَّ يَعرُْجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُم فَيَسْأَلُهُمْ -وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ-: كَيفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَينَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ!»[5]. وهؤلاء يُشبهون ما يكون عليه العمال في المصانع والشركات فيما يُسمونه "المناوبات". وهذا يدل على أن المخلوقين عليهم من الملائكة في كل وقت من ليل أو نهار، منهم من يحفظ عليهم تراكيبهم ومنها الأبدان؛ ومنهم الكتبة المراقبون والمحصون لأعمالهم. وهؤلاء هم من يكتبون في صحائف المكلفين الحسنات والسيئات. ومادام الملائكة لا يُغادروننا، فإنه قد وجب علينا شرعا أن نكرمهم وألا نؤذيهم. ومن ذلك، ما أوصى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقَلَةِ -البَصَلَ وَالثّومَ وَالْكُرّاثَ- فَلا يَقرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلاِئِكَةَ تَتَأَذّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ.»[6]؛ وقال عليه السلام أيضا: «إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَلا يَبْصُقْ أَمَامَهُ، فَإِنمَا يُنَاجِي اللهَ مَا دامَ فِي مُصَلاّهُ؛ وَلا عَنْ يَمِينِهِ؛ فَإِنَّ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكًا؛ وَليَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ فَيَدفِنُهَا.»[7]؛ وقال عليه السلام: «ثَلاثَةٌ لا تَقْرَبُهُمُ الْمَلائِكَةُ: اَلْجُنُبُ، وَالسَّكْرانُ، وَالْمُتَضَمِّخُ بِالْخَلُوقِ (المتعطر بعطر النساء).»[8]. وعلى كل حال، فليعتبر العبد أن الملائكة لا تفارقه إلا إذا دخل الخلاء زيادة على ما ذُكر، وهو وقت وجيز لا تنحل معه التراكيب، وأما في سائر الأمكنة فهي ملازمة له؛ فليقس على نفسه، وليُكرمها بما تحبه من الأعمال كالذكر، ولينفحها من أطيب الطيب لأنها طاهرة طيبة، لعلها تدعو له عند إحسان معاملته لها، ودعاؤها مستجاب عند ربها. فلا يغفل العبد عن هذا الباب العظيم من الخير... [1] . أخرجه مسلم، عن عائشة عليها السلام. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.