اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2019/01/26 إحسان الإحسان - 8 - بين التشدد والاعتدال يقول الأستاذ عبد السلام ياسين، رحمه الله: [وللتقي السبكي إمام عصره شيخ آخر شاذلي. فمن هم هؤلاء العارفون الذين تخضع لهم هامات رفعها العلم وزانتها التقوى وأحاطتها هالة الاحترام؟ هل كان مشايخ التربية أهلا لذلك التقدير العظيم الذي نالوه من خاصة العلماء وأفذاذهم كما نالوه من العامة؟ هل كانوا من الأخيار الصالحين بدرجة يجمع على الشهادة بها كل ملاحظ، أم هي كتب «المناقب» والمذاهب تحابي وتداهن؟]: عبارة "إمام عصره" غير محددة المعنى من الكاتب. وعلى كل حال فلا سبيل للقارئ إلى معرفة معنى الإمامة ومرتبتها؛ ولا يبقى بعد ذلك إلا إحسان الظن العام، والتلقي بالقبول. ونحن هنا لا نريد الطعن في علم السبكي رحمه الله، [ينقل الإمام الشوكاني «خاتمة المحققين» عن المؤرخ الناقد الشديد الذهبي ترجمة واحد من مشايخ المدرسة الشاذلية، أحد أساطينها، ما يلي: «كانت له خلال عجيبة ووقع في النفوس ومشاركة في الفضائل. ورأيت الشيخ تاج الدين الفارقي لما رجع من مصر معظما لوعظه وإشارته. وكان يتكلم بالجامع الأزهر يمزج كلام القوم بآثار عن السلف وفنون من العلم. فكثر أتباعه. وكان عليه سيماء الخير. ويقال إن ثلاثة قصدوا مجلسه فقال أحدهم: لو سلمت من العائلة لتجردت. وقال الآخر: أنا أصلي وأصوم ولا أجد من الصلاح ذرة. فقال الثالث: إن صلاتي ما ترضيني فكيف ترضي ربي. فلما حضروا مجلسه قال في أثناء كلامه: ومن الناس من يقول، فأعاد كلامهم بعينه. ومن جملة من أخذ عنه الشيخ تقي الدين السبكي. وهو صاحب الحكم المشهورة الآن بحكم ابن عطاء الله التي يلهج كثير من متصوفة زماننا بحفظ كلمات منها»]: ما يذكره الكاتب هنا، عشنا منه أحوالا، ونحن بعد مريدون لشيخنا رضي الله عنه. ولقد من الله علينا من واسع فضله، فلم نكن نعتني بذلك، ولا نرفع به رأسا؛ ونحرص على أن لا يُعرف عنا منه شيء بين أقراننا؛ لعلمنا بأن ذلك لا عبرة به عند الله، وإن كان صاحبه صادقا؛ فالله لا ينظر إلا إلى عبودية عبده. فمن شاء أن يكون محل نظر الله، فليكن عبدا في ظاهره وفي باطنه. هذا هو ما نعرفه نحن من الطريق، وهذا هو ما دل عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من جميع المراتب؛ لو كان الناس يعلمون. وأما ما يقوله الكاتب هنا، فهو من سنخ ما يعيش عليه العوام، ويحسبون أنهم معه قد أدركوا الغايات. [هذا الشيخ الذي أشاد به المحدث الناقد الذهبي ونقل شهادته الشوكاني الفقيه الجامع المجتهد هو السيد أحمد المعروف بابن عطاء الله السكندري تلميذ الشيخ أبي العباس المرسي تلميذ الشيخ أبي الحسن الشاذلي مؤسس الطريقة الشاذلية. «وكان المتكلم على لسان الصوفية في زمانه وهو ممن قام على الشيخ تقي الدين ابن تيمية».]: لا يشك أحد في ولاية ابن عطاء الله، رضي الله عنه؛ ولسنا في حاجة إلى شهادة الذهبي ولا الشوكاني. ومتى كانت شهادة الأدنى على الأعلى تصح، حتى نقبل هذه؟!... لكن كلام ابن عطاء الله في التصوف، لا يتجاوز طور السلوك الأول، الخاص بالمريدين. نعني بهذا أنه شيخ حقيقة، ولكن كلامه هو من طور عوام العارفين؛ ولكل مقام مقال، كما لكل مقام رجال. ومع هذا، فإن من سعى إلى شرح الحكم العطائية من أهل زماننا، من الوعاظ ومتصوفة الفقهاء، لم يكادوا يظفرون منها بشيء، لعلوّ عبارتها وسموّ إشارتها بالمقارنة إلى مرتبتهم. فكيف يطمع مع هذا طامع في إدراك ما هو فوق تلك الحكم وفوق شروحها من العلوم!... [كان هذا المربي الكبير مالكي المذهب، تلميذه تقي الدين السبكي شافعي بارز حاز لقب «الشافعي الثاني» من معاصريه، أمامهما الحنبلي الثائر تقي الدين ابن تيمية، خاصماه وجادلاه. فما منع ذلك الخصام شيخ الإسلام الحنبلي من إنصاف خصمه السبكي كما رأينا في الفقرة السابقة. وما منع الذهبي تحزبه الشديد الذي عرف به من إنصاف السبكي وشيخه الشاذلي كما رأينا.]: ابن تيمية والذهبي قاصرا العقل، فهما من هذه الجهة من فسقة العوام (الفسق هنا معنوي، والعوام عوام الفقهاء)؛ وقد سبق أن قلنا في الفصل الذي قبل هذا، إن العوام يعرفون قدر بعض الأولياء، ويُنكرون من هو أعلى منهم في الولاية. وهذا التصرف منهم منطقي، عند النظر إلى ما يعطيه علم المراتب. ومع هذا، فما يُقرّ به ابن تيمية ومن على مذهبه للصوفية، ليس ولايتهم كما يريد أن يُفهمنا الكاتب، وإنما هو فقههم الذي وجدوه أعلى مما لديهم. فما يعرف المحجوبون من الأولياء إلا ظاهرهم وحده، ويعرف الولاية الأولياء. هكذا هو الأمر!... وكل من يجعل هذا الإقرار دليلا على المشاركة في الولاية، ولو بقدر ما؛ فهو مدلس، إن كان يعلم ما يقول؛ أو هو ملبوس عليه، إن كان لا يعلم حقيقة ما يقول. وصاحبنا هنا بين هذا وذاك، إلى أن يشهد عليه شاهد من كلامه أو حاله. [يأتي في زماننا مقلدون امتلأت أردانهم رعونة ونزقا فيتبنون تلك الخصومات ويتشددون ويلعنون فيعيدون إشعال نيران الفتنة بعد أن خمدت، يبعثونها من طي الكتب الراقدة التي كان من حقها أن تخلد إلى الراحة بعد أن أتعب الأمة وأوهاها ما سجلته من صدام تاريخي مؤلم.]: هذا الكلام من الكاتب مغالطة كبيرة، لأن الرعونة والنزق صفتان لابن تيمية نفسه؛ لا من صفات من قام له في زمانه أو يقوم له الآن. ونحن وإن لم يكن مذهبنا الاستشهاد بالرجال على الرجال، إلا أن الكاتب قد اضطرنا إلى الإتيان ببعض النقول في مقابل ما جاء به؛ لأننا نراه يريد منا الإقرار لابن تيمية بشيء من الفضل، ونحن نأبى عليه، لما علّمنا الله من أمره؛ ولكن كلامنا وحده، قد يُطعن فيه، إن لم نعضده بأقوال بعض السابقين من المعاصرين له، ومن غير المعاصرين: [إن من أحوج ما نحتاج إليه بسط صفحة من التسامح والرحمة والاعتدال وضبط النفس.]: قبول ضلالات ابن تيمية، لا يكون قط من الاعتدال ولا من التسامح، بل هو من ارتضاء الضلال والانخراط فيه. وعلى من لا يعلم ما نقول من كلام ابن تيمية، إن كان منصفا، أن يتوقف، ويتجنب الإشادة به والإزراء معا، ليكون صادقا فيما يناسب طوره ومرتبته. وأما نحن فكلامنا عن ابن تيمية نصدر فيه عن علم كشفي، هو أعلى من علم الفقهاء الذين عارضوه؛ وقد رددنا على بعض رسائله في كتابنا "تجريد التوحيد". فمن أراد أن يعلم ذلك، فلينظره، فإنه متاح على الإنترنت، وإن لم يُطبع بعد. [كان الصوفية ولا يزالون، أعني الصادقين لا المنتحلين للاسم والسمعة، أصحاب قلوب حشوها المحبة والرفق والرحمة بالخلق كافة. ولئن اصطدم بهم بعض الفقهاء والمحدثين الذين من شأنهم التعامل مع النصوص بدقة العقل القانوني والتعامل مع الناس بميزان الجرح والتعديل الباني الهادم فإن صدق الفريقين يرجع آخر الأمر إلى الإنصاف، والاعتدال، والاعتراف، والرجوع إلى الحق.]: هذا الكلام جهل محض. الصوفية على ما ذكر الكاتب من صفاتهم، لا يخرجون عن الشريعة التي تأمر بموالاة المحقين، ومعاداة المبطلين وفضحهم. ولقد كان حريا بالكاتب أن يدعو التيميين إلى الاعتدال وهم من يكفّرون المسلمين ويدعون إلى توحيد المجسمين، بدل أن يجعل الأمر مناصفة، وكأن الدين قد أصبح محلا للرأي؛ يقول كلٌّ فيه بما يشاء، وعلى الأطراف الأخرى أن تقبله ضمن الدائرة العامة، التي لن تختلف عما يدعو إليه اليوم الدجاليّون، أصحاب مقولة "السلم العالمي" الخادعة، ودعوى "التسامح" الملغية للحدود بين الحق والباطل. ومع كل ما كنا نظنه من اختلاف بيننا، لم يخطر ببالنا أن يلتقي عبد السلام ياسين مع الدجاليين في التنظير، هكذا!... ولو كان العلماء السابقون الصادقون، على الصفة التي يدعو إليها الكاتب هنا، لاندرس الدين وضاع، قبل أن يصل إلى أقاصي الأرض... لم يُحفظ الدين إلا بالعدول، لا بـ"المعتدلين"!... يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلْفٍ عُدُولُهُ؛ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ.»[10]. والفرق بين العدل والمعتدل، هو أن الأول ملتزم لأحكام الله، لا يحيد عنها؛ وأن الثاني -بحسب ما يراد الآن- هو من يكون في منتصف المسافة مع المخالف. وهذا المبدأ، لا يصح إن كان المخالف على باطل بيّن؛ كما هو الشأن مع ابن تيمية والتيميين، ومع عبدة الشيطان من الدجاليين أجمعين. [مثال هذا الاعتدال والمراجعة نفتقده في زماننا، فلا نجد إلا التعنت والتصلب والرفض لكل حوار. لذا نستعرض تاريخ الرجال من سلفنا الصالحين لنستلهم الرفق كفاء لجهود غيرنا ممن ينفخ في رماد الفتنة ليوري الشرار.]: أولا، ينبغي أن نأخذ مصطلح "الفتنة" بمعناه الشرعي، لا بالمعنى العامي الذي يعتبر الصورة وحدها، والتي تُعتبر فيها مخالفة الأغراض وحدها. فهل البلاد الكافرة -مثلا- التي تعيش في سلم واستقرار، على غير الفتنة في أحوالها؟!... وقد قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193]. فالعوام قد يرون أن مجرد القتال فتنة، في حين هو هنا معاكس لها ودافع، لكن بشروطه. وكأن صاحبنا يميل إلى هذا الرأي، وهو من كان قبل صفحات يدعو إلى الجهاد. ظهر الآن أن الجهاد الذي يدعو إليه الأستاذ سياسي أيديولوجي، غير شرعي؛ وإن رام التشبه فيه بالصحابة، أو رام التلبيس على السامع بذكرهم. وسننظر في النماذج التي سيأتي بها الآن دليلا على مذهب "الاعتدال"، لنتبيّن مدى صوابه... [كثيرا ما قرأنا عبارات «أخذ عنه» أو «تلقى عنه»، فيا عجبا أي شيء يتلقاه أئمة الدين حماة الشريعة من أساتذتهم الصوفية؟]: يعود الكاتب هنا إلى تدليسه، ليُنسي القارئ أن ابن تيمية لم يقبل أقواله الفقهاء الصادقون أنفسهم. ثم لمَ لمْ يأخذ ابن تيمية -كسائر النماذج التي يسوقها الكاتب- عن أحد من صوفية عصره؟... فأقصى ما كان يفعل هو مع معاصريه من الصوفية، أن يشهد لواحد منهم بصواب كلامه، وكأنه لا أعلم بالدين منه!... كيف يخفى قصور ابن تيمية واغتراره على أستاذنا؟!... إن إصراره على فرض ابن تيمية على من يريد الاجتماع على الحق من مختلف أطراف الأمة، لا يصح ولا يشي بخير. ثم إن من يكون من أهل الحق العارفين به، لا يتوسل بالجمع بين المتناقضات التاريخية للدعوة إليه؛ لأنه يدعو إلى الحق المعلوم، لا إلى حق افتراضي يحصله من الجمع بين الأقوال والقسمة على عدد المختلفين (عملية رياضية تدل على فقدان النور). هذه أيديولوجيا لا يُخطئها إلا أعمى البصيرة!... [أفي الأمر أسرار كهنوتية أم أن الأمة أجمعت على ضلال حين اتبعت فقهاء في أغلبهم يتصوفون، واقتدت بصوفية تتلقى عنهم وتأخذ شيئا زائدا عن العلم والفتوى والإرشاد؟ إن في هذا ما يحير من كان خالي الفؤاد من همّ الآخرة وهم الله، ويشل حركته، ويرتد به إلى السلبية والعدمية والشك. ألا يكفي يا فقهاء ما جمعتموه من علوم حتى تلتمسوا من قوم ليس لهم أحيانا سماع ولا رواية ولا أصول مضبوطة محفوظة؟]: يعود الكاتب إلى الصوفية وكأنه يُثبت مذهبهم، وفي الحقيقة هو يتمسح بهم، لعل فقهاء عصره يأتونه ليجدوا عنده -زعما- ما وجد الأولون عندهم. يقول هذا، وكأنه صوفي!... وهذه مغالطة. ثم متى كان التدين، بجمع الأقوال وكثرة تردادها؟... وهل إذا انحرف الإدراك العام لدى الناس، نكون نحن ملزمين بمجاراته؟... أم نصرُّ -في مقابل ذلك- على البقاء على ما دل عليه الوحي وشهد به الوجدان (الوجود)؟!... ألا إن السلبية، هي الخواء من النور؛ ألا وإن العدمية، هي الميل إلى السوء الأصلي الذي للنفس. ألا وإن إرادة الله واليوم الآخر، لا تُلبّى بالانخراط في الجماعات الحركية السياسية. يقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. فمن رجى الله بالسعي إلى لقائه، ومن رجى اليوم الآخر بالعمل في نجاته، ليس له من سبيل إلا اتباع السنة النبوية الخطوة بالخطوة، مع الإكثار من ذكر الله؛ على طريقة الصوفية في هذه الأزمنة. وإن من معاني ذكر الله، نسيان ما سواه؛ نعني أن الذكر والنسيان متلازمان. وإن الإسلاميين بكثرة كلامهم في مخاصمة الحكام وفي الدلالة على العمل الرامي إلى انتزاع الحكم منهم، يذكرون الحكام لا الله. يقول الله (من باب الإشارة): {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24]؛ وهذا المعنى صحيح جدا من جهة علم السلوك. فوالله ما ذكر الله ذاكر (حقيقة)، إلا مع نسيانه لكل ما سواه. يعلم هذا من يعلمه، ويجهله الإسلاميون!... [ماذا تتلقون مما لا تجدونه في كتاب الله وسنة رسوله؟ أثم شيء زاده الصوفية في الدين، أم هو وحي بعد الوحي أم أن الدين الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بحاجة إلى من يكمله؟]: هذه الأسئلة كلها مغالطات، وإن أوردها الكاتب في صورة تقمُّص لما عليه مُخاطَبوه من الجهلة: [أسئلة إنكار وجدال تبقى صماء لا تصيخ لجواب في فم الغاضب لنفسه، وقد يوهمه جهله أنه يغضب لله. أما من كان في قلبه حرقة، وكان من ذوي الأفق الواسع، استكشف رحاب العلم وجوانب الاطلاع، فانتهى مثل الغزالي إلى أن علمه المكتسب ما زاده إلا تخبطا في الدنيا وهوسها بعيدا عن علم الآخرة بعيدا عن معرفة ربه، فذاك يطلب العلم لا يمل، ويتعرض كما تعرض موسى عليه السلام لمن يعلمه علما، يتبعه على ذلك ويطيعه ويصبر معه.]: هذا الكلام يرتد به الكاتب عما يريد أن يدل عليه، وكأنه متردد؛ أو كأنه يعلم أن ما سيُلقي به، من الباطل المتبيَّن؛ أو كأنه يخشى عدوان الجهلة من مُخاطَبيه التيميين. وأما ذكره للغزالي مرة أخرى، وقد أثبت له -بالنظر إلى زماننا- النقص، فلن يُسعفه فيما يريد. فإن كان صاحبنا على بعض تصوف، فليخرج به إلى العالم لينظره الناظرون؛ وإن لم يكن، فلمَ الخروج والتخفي، والتقدم مرة والتأخر أخرى؟!... عند المغاربة مثل عامي معناه: "الراقصة لا تخفي وجهها". وأما قصة موسى مع الخضر، فهي من غير الباب الذي يتكلم فيه صاحبنا، ما دام لم يخرج عن نطاق العوام من الصوفية والعوام من الفقهاء، في الغالب؛ لأن من أراد أن يكون موسويا من الفقهاء، فعليه أن يكون على علم بالأحكام وعلى التزام تام بها؛ ومن أراد أن يكون خضريا من المتصوفة، فعليه أن يكون مع الحق لا مع سواه، في كل أمر وكل حال وكل وقت. [أو كمثل مجتهد القرنين الثاني عشر والثالث عشر الشوكاني الذي يحظى عند السادة السلفية والحنابلة بالقبول التام وتحظى كتبه بالتقدير الكامل. هذا الرجل مثال للاعتدال والإنصاف، نعرض نصوصا له لمن يعرف الحق بالرجال ولا يعرف الرجال بالحق لبعده عن الحق.]: يأتينا الكاتب بشاهد جديد، يقدم له بأوصاف تجعل الناظر يُحجم عن التفحص؛ ويهاب المقام. وهذه عادة صاحبنا مع قرائه في إرهابهم وإرغامهم على التسليم له من البداية... لمَ لمْ يكتف بعرض ما لديه، ويترك القارئ الفهِم يحكم ما يشاء؟... وإن كان لا بد من الكلام، فليكن إعانة للناظر على معرفة الحق، بتفكيك المركّب، وبتوضيح المبهم... [الشوكاني أيضا أخذ وتلقى عن شيخ صوفي، هو أيضا تتلمذ وقعد بين يدي مرب ماهر في طب القلوب. أتدري يا أخي ماذا تلقى؟ إنه تلقى دواء كما تلقى غيره ممن قرأت وممن لم تقرأ. فإن كنت مطمئنا إلى إيمانك وسلامة قلبك أكثر من اطمئنان من سردت عليك من الفحول فلا عليك أن ترضى بحالك وأن تقعد فأنت الطاعم الكاسي.]: تمطيط لا ينفع!... يشير به الكاتب إلى نفسه، ويجعلها نظيرا لكل من ذكر من الشيوخ أهل التصوف. ولا ندري عن أي تصوف يتكلم... فإن كان لمن ذكرهم حظ من تصوف الإيمان وتصوف الإحسان، فإنه لم يبدر منه ما يدل على ذا ولا ذاك، وهو من لم يميّز ضلال ابن تيمية الذي لا ينطلي إلا على من لا نور له!... وددنا لو أن الأستاذ دل الناس على الله حقيقة، أو على الطريق إليه صدقا، لأن ذلك كان سيصب في الإصلاح العام الذي ننشده؛ ولكنه بدل ذلك يدل على أقوال من أناس مضوا، لا جامع بينها إلا عدم الاتساق وانبهام المعاني. فكيف يكون هذا منه عملا معتبرا، نشهد له فيه بالإصابة!... لا ينقص من قدر كلامنا ما يقوله المتعصبون له، الذين ينسبون إليه كل فضل وفضيلة، من غير أن يعلموا شيئا مما نخوض فيه. ليس هكذا يُخدم الدين، ولا هكذا يُساس المسلمون!... [تحدث الشوكاني في كتابه «البدر الطالع» عن شيخه في طريق القوم السيد عبد الوهاب الحسني الموصلي. قال: «وقدم علينا إلى صنعاء في سنة 1234. وكثر اتصاله بي. وهو جامع بين علم الأديان والأبدان، جيد الفهم فصيح اللسان، حسن العبارة، حسن الإشارة».]: أصبح الأمر قاعدة لدى الكاتب: كل فقيه تتلمذ لصوفي (أو متصوف)، لا بد أن يكون معتبر الرأي. وهذا مناف لقاعدة: يُعرف الرجال بالحق، ولا يُعرف الحق بالرجال؛ ما دام الكاتب لم يعرّف الحق ولا دل عليه. فما هذا الاختلاف بين الأقوال والأفعال؟... بين التنظير والتنزيل؟... يظهر جليا أن صاحبنا يعرض ما لديه من معلومات، من دون أن يتكلف لها ناظما يجمعها. وهذا أسلوب من ليس من أهل العلم قطعا. ونستمر... [قال: «وقد تلقيت منه الذكر على الطريقة النقشبندية». يعتبر السادة السلفيون من أهل الحديث وغيرهم ممن يقلدون الاتجاه المتشدد عفا الله عنا وعنهم أن الشوكاني واحد منهم، ويحتفلون بكتبه أيما احتفال. والرجل سليم من الغلو الذي وقع فيه الوهابية الذين فسروا ابن تيمية تفسيرهم الخاص. نجد عند الشوكاني فتوى توصي بالاعتدال والكف عن تكفير المسلمين، أبى إلا أن ينظمها أبياتا ليسهل حفظها وتناقلها وسيرها في الآفاق كما كان أسلافنا رضي الله عنهم يفعلون بالمتون المهمة.]: أولا، ينبغي أن نعلم أن الطرائق الصوفية في التربية، هي بموازاة المذاهب الفقهية المعلومة. ونعني من هذا، أن أغلبها لا يُجاوز مرتبة الإسلام؛ خصوصا في زماننا، حيث قل في الناس أولو الهمم العالية. بل وكما قد نزل بعض المتفقهة عن كمال الإسلام، عندما خاضوا فيما هو فوقه كالوهابية التيميين، فإن كثيرا من المتصوفة قد نزلوا أيضا، عندما تطاولوا على العلوم الخاصة من تلك المرتبة. فهذا تشابه بين المتصوفة والفقهاء، لا يعلمه لا هؤلاء ولا أولئك؛ وهو من عجيب أمر الناس. لهذا فإن إخبار الشوكاني عن نفسه أنه قد تلقى الذكر على الطريقة النقشبندية، لا ينبغي أن يُؤخذ على إطلاقه، إلا إن نُظر في طريقة تربية شيخه من حيث الدلالة: هل هي من تصوف الإسلام، أم من تصوف الإيمان، أم غير ذلك. وقد يكون الشيخ من مرتبة، وطريقته تدل على مرتبة أدنى؛ وهذا مما يجهله كثير ممن يخوض في أمور التربية القلبية؛ لكنه سهل التبيّن من حيث المنطق العقلي. وسنتعرف على الشوكاني الآن، من كلامه؛ وسننظر هل هو حقا من أهل الاعتدال؟ أم إن صاحبنا يأخذنا عنوة إلى حيث يريد، على عادة الديماغوجيين؟... ومن أي مرتبة يتكلم، وعلى أيِّها يدل؟... [قال رحمه الله: نرد إلى الكتـــاب إذا اختلفنــا *** مقـالتنا وليس لذا جحـــــــود]: هذا كلام عام، لا يُختلف عليه من حيث المبدأ، لكنه من جهة العمل يكون هو محل الاختلاف؛ لأن كل صاحب رأي ينطلق من فهمه في القرآن والسنة -وإن كان فهمه سقيما كفهم ابن تيمية نفسه- لعلمه أن لا أحد سيلتفت إلى ما يقول، إن لم يُعلن انحيازه إلى الوحي، ويُعلن التزامه له وحده. وهذا الأمر قد جعل أهل الضلال يتكلفون لأنفسهم فهما يخصهم، حتى يبلغوا من الناس غايتهم؛ بل إن إبليس نفسه، لا يأتي أهل الديانة إلا وهو معتضد بآية أو حديث، لينال منهم مأربه من أقصر الطرق. وهذه في الحقيقة هي كبرى آفات هذه الأمة، وكبرى مصائبها!... ولا يخرج سالما مما ذكرنا، إلا أهل النور، الذين ينظرون بنور الله، فلا يخفى عنهم الفهم الظلماني الذي يكون لضُلّال "علماء" الدين، إن هو عُرض عليهم. يقول الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122]. ولو تنبه الناس إلى أن الاستدلال بالوحي، لا يعني حتما أن المتكلم محق، لكُفوا كثيرا من الإضلال؛ لكن هذا فوق طور العامة من الناس، كما لا يخفى. وليس للعامة إزاء ما نذكر، إلا أن يكونوا في صحبة رباني يُحيطهم بعنايته. وبهذه الطريقة يأمنون على أنفسهم، من غير أن يُشترط عليهم تحصيل العلم أو تحصيل النور. ولو أردنا أن نأتي بأمثلة على ما ندل عليه، مما وقع لأصحابنا وحدهم، لناءت به ضخام المصنفات. ووالله ما نقول هذا، إلا لنُعلن للناس أن المدد النبوي قد زاد في أزمنة الفتنة هذه، حتى على ما عرفه من سبقنا في الطريق. فالحمد لله على فضله الذي لا ينقضي، وعلى عطائه الذي لا ينفد. [مضى خـير القــرون ومن تلته *** ولا قيــــل ولا قــال ولـــود]: القرون الثلاثة الأولى، المشهود لها بالخيرية، لم تسلم من البدع على التمام؛ حتى نقبل من القائل قوله على عمومه. فلقد بدأ القول بالقدر على عهد الصحابة رضي الله عنهم، وظهر "الخروج" والقول بتكفير مرتكب الكبيرة أيضا في زمنهم. وما زالت البدع تظهر بعد ذلك شيئا فشيئا، وتتعاظم... وتناوُل الأمر، كما لو أن الحقب كانت متمايزة على التمام، هو من التبسيط المخل، ومن التنظير الأيديولجي، الذي وقع فيه أهل السنة والجماعة على الخصوص؛ أو هو من بدايات مظاهره على أقل تقدير... ونحن في آخر الزمان، وقُبيل إظلال الخلافة الخاتمة للعالم، نبغي أن نرد الناس إلى صحيح العلم، الذي يتحقق معه وحده، صحيح الإدراك للدين. ولا يكون ذلك إلا بتجاوز المذاهب التي كانت أصلح لزمانها من زماننا زمان العولمة، وببلوغ معين العلم الديني مجردا عن شوائبه الطائفية بعصبيتها وانغلاقها. نحن نعلم أن ما نقوله، يكاد يكون من المحالات، بالنظر إلى ما تمت مراكمته من أمراض عقلية وقلبية جمعية، لدى جميع الأفرقاء؛ ولكننا في الآن ذاته، نعلم أن رحمة الله قريب من هذه الأمة، خصوصا في هذا الزمان الذي نتهيأ فيه لاستقبال الخلافة الخاتمة، التي سيكون الحال فيها أشبه بما كان عليه الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وليس إلا الإطلاق، أو مقاربته إلى ما لم تبلغه كل القرون التي بين القرون الثلاثة وبيننا كلها؛ من جهة الشمول، لا على التعيين. [لهم من حلة الإنصاف حلي *** ولبـس للهدى لهم بـرود]: هذا يدخل ضمن التنظير الأيديولوجي، الذي سيعمل عليه أهل السنة والجماعة، ليستتبعوا أكبر عدد من المسلمين. ولم يكن الأمر يخلو من توجيه سياسي، يوافق هوى الحكام من هذه الدولة أو من تلك. تميل العقول المتأدلجة دائما إلى التنميط، لتتمكن من النظر إلى الأمور نظرة عقلانية ذات منطق ما؛ ومن هذا التنميط، وصف القرون الأولى بالإنصاف. فإن لم يُقيّد المتكلم الإنصاف وينسبه إلى أفراد بعينهم، أو إلى شطر من الجماعة بعينه، أو يحصره في وقت دون وقت، فإنه يكون داخلا في الأيديولوجيا، لا العلم. ولو عدنا إلى أئمة الفقه في زمانهم، لوجدناهم مهملين للفقه السياسي بالمعنى الذي نعلمه اليوم، لغلبة الظن منهم بأن الفقه المعتاد قد غطى كل جوانب الحياة الاجتماعية وقتها؛ ولانشغالهم بالتبويب للفقه على ما نعلمه الآن. والحقيقة هي أنهم في الجانب السياسي كانوا على قصور، للأسباب التي قدّمنا من جهة، ولهيمنة القوة على العلم كما لا يخفى، من جهة أخرى. ورغم أن الأئمة المعتبرين، قد نالهم من بطش الحكام، بسبب اشتمام هؤلاء لمبادئ موقف سياسي، يمكن أن يتبناه العامة بالتقليد؛ إلا أن الأمر قد بقي في حده الأدنى، الذي أضر كثيرا بالفقه ذاته، عند بقائه على خصاص لا يُنكر. [وما قالـوا بتكفـيـر لـقــوم *** لهم بدع على الإسـلام سـود]: لقد سبق أن قلنا إن الابتداع قد بدأ مع زمن الصحابة، وإن لم تكن الفرق كلها قد استكملت بناء معالمها. وهذه التبرئة العامة، لا تكون إلا من الأيديولوجيا، لا من العلم؛ وإن كان الغالب ما ذُكر. وفي الحقيقة إن التكفير ينشأ عن أمرين اثنين: الأول، توهم الإحاطة بالحق في النفس أو في الفرقة والجماعة؛ والثاني، عدم التمكن من الرد على المخالف باعتماد العلم وحده. لهذا، فإن التكفير حيث كان (باستثناء تكفير الكافر كفرا بواحا) لا يكون إلا مع الجهل، ومع العجز. وهو (أي التكفير) احتيال على النفس وعلى الآخرين، في إقصاء الخصم والتخلص منه، بكلفة هي على كل حال بالنظر إلى التكلفة المادية (العنف) أقل بكثير وأسلم في نظر العوام. وكل ما يتقمصه المكفرون من غيرة على الدين مبالغ فيها، ومن حماس زائد، ليس إلا طلاءات نفسية يحجبون بها قصورهم ونقصهم فحسب. ولقد حرج الشرع كثيرا في مسألة التكفير، بحيث لو يكون المكفر على تدين سليم، لا يتمكن من المغامرة بنفسه معه. نعني أن المكفر لو كان يغار على الدين، لغار على تديّنه هو قبل أن يتعداه إلى خارج نفسه. وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا»[11]. فمن يجازف بتكفير أحد، وهو يعلم ما ينتظره إن كان متجنيا؟!... وأما لمَ يقع الكفر على المكفِّر، عند عدم ثبوت كفر المكفَّر؛ فلأن المكفِّر ما بلغ به أمر الاستهانة بكلمة التوحيد لدى خصمه، إلا وهو على خلوّ من حقيقتها. فمن علم هذا، فليكفّر بعدُ ما شاء له أن يكفّر!... وما عمل على نشر التكفير في الأمة من جميع الفرق، إلا الفقهاء أهل الظاهر، عند إرادتهم الانتصار بالدين لمذهبهم أو لدولتهم. فالصغار دائما، هم سبب المصائب والفتن؛ وأما الكبار فإنهم يجمعون بالحق وعلى الحق، ولا يفرقون!... هذا هو الفرق بين الصنفين حيث كانوا!... [وما قالـوا بأن الرفـض كفـر *** وبدعتــه تشق لها الجلود]: ذهب الشوكاني إلى أشد ما ينكره التيميون، وهو الرفض الذي يكون من غلاة الشيعة؛ وأخرجه من الكفر، ليدل على أن الأولين كانوا أوسع صدرا من الذين أتوا من بعدهم. هذا مع أن الاقتتال قد بدأ بين المسلمين، من دون أن يكفر بعضهم بعضا، وإنما لاكتفائهم بالرأي. وقد تنامى التكفير بعد ذلك من غلاة الطرفين، ليؤسسوا للأيديولوجيا من الجانبين، وليتبلور مذهب أهل السنة من جهة، ثم مذهب الشيعة من جهة ثانية. فكأن الشوكاني يقول: إن كان الرفض لا يُكفّر صاحبه، فما بقي ذنب للمسلمين يستحق صاحبه التكفير!... وهذا صحيح على العموم، لا على التخصيص؛ لأن من الذنوب ما يحتقره العبد، وهو عند الله عظيم. يقول الله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]. ولا أقرب إلى ما نذكر هنا، من الكلام في الربوبية وفي النبوة بغير علم. فهو من أعظم الذنوب، والناس لا يكادون يرونها إلا علما مما يجوز القول فيه بالرأي. لذلك ما نفتأ نحن نحذر الناس من علم الكلام، لو أنهم كانوا يعقلون!... [فكيف يقال قد كفـرت أنـــــاس *** يرى لقبــورهم حجـر وعـــــود]: يقصد الشوكاني هنا تكفير التيميين من الوهابية لكل من بنى ضريحا، أو عظم صاحب ضريح. ويأبى هذا التكفير بالقياس إلى عدم القول بكفر الرافضة السابق؛ وهذا كله كلام عام، لا يُعتدّ به من جهة العلم. وحتى من يعمم الحكم بتسوية القبور الوارد بها الشرع، لا ينبغي أن يصل به الأمر إلى تكفير معظمي الأضرحة، لأنه سيكون ذنبا ومخالفة للأمر، ولا يكون كفرا. [فإن قالوا أتى أمر صحيح *** بتسـوية القبـور فلا جحـود]: يشير رحمه الله، إلى استدلال المكفرين بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ بتسوية القبور. يقول علي عليه السلام: "أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟: "أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ""[12]. والتسوية قد اختلف الفقهاء في معناها وفي هيئتها، وهذا ليس محل الخوض فيها. ويحسب للشوكاني أنه قد نأى بنفسه عن التكفير، كما فعل الجاهلون؛ ولكن مع ذلك، فإن السلامة التامة بالنظر إلى الفقهاء المتأخرين، لا تكاد تتحقق إلا لأفراد، عصمهم الله وأيدهم. وأما من يحسن الظن بابن تيمية منهم، فقلما يسلم له دينه. هكذا هو الأمر، وإن كنا نود غير ذلك. [ولكـن ذاك ذنب ليس كفــــــرا *** ولا فسقــا فهـل في ذا ردود؟]: وهذا يوافق ما ذكرنا نحن سابقا، عمن يخالف الأمر بالتسوية؛ ويبقى من يبني الأضرحة لمن تحققت ولايته خارج الأمر بالتسوية من الأصل. وهكذا ينبغي أن تُفهم هذه المسألة، إن توافر الإنصاف!... [وإلا كـــان من يعصـي بذنـب *** كفــورا، إن ذا قـول شــرود]: قاعدة سليمة، لكن المبتدعة لا يعملون بها. فهم يعملون بالقواعد -إن عملوا- بانتقاء وعلى هوى. ومن كانت هذه صفته، فلا يُلتفت إلى رأيه مهما كان. ولا يعلم المساكين أنهم لو عوملوا بمثل ما يُعامِلون غيرهم، فإنهم سيكونون أقرب من سواهم إلى الكفر، ما داموا في أدنى مراتب الدين لا يتعدّونها، وعلى خلط كبير فيما يعتقدون لا يتبيّنونه!... [ولي في ذا كتــاب قمــت فيـه *** مقـاما ليس ينكــره الحســود وقـــد سـارت به الركبان شرقا *** وغربا لم ترد فـيـــــــه ردود]: وفي نهاية هذا النظم، ينبغي أن نؤكد على أن ما أتى به الشوكاني في هذه الأبيات، لا يعدو مرتبة ما ينبغي أن يكون عليه المسلم العامي في نفسه. وأما من ينتسب إلى العلم، فإن هذا لا يكون من مقامه. وهذا يعني أن الفقهاء المعتبرين، لم يكونوا في أزمنة الانحطاط الذي أصاب المجتمعات الإسلامية، إلا من العامة، وعلى ما ينبغي أن تكون العامة عليه من علم وعمل. وهذا الأمر سيزيد من ضعف الأمة في جهة العلم، عندما سيرى من يأتي بعد هؤلاء الفقهاء (العوام) أن تلك مكانة في العلم عالية، وأن ما كانوا عليه لا مزيد عليه، وأن غاية الخير أن يُقلَّدوا في بعض ما كانوا عليه. ولو لم يكن الأمر على هذه الشاكلة في التقهقر، ما بلغ إلى تقليد الكفرة في زماننا، في أوجه عدة من كفرهم. ومع بلوغ الأمر ما بلغ، فإننا لا نكفّر أحدا من المسلمين، ممن كان علمانيا أو يساريا أو ليبراليا، أو غير ذلك... ولكننا نُعلمهم أنهم على خطر فيما يعتقدون، ونرجو لهم أن ينبههم الله من غفلتهم، ليربحوا نفوسهم قبل أن يحل بهم الموت. [كان الشوكاني إماما مستقلا باجتهاده، يؤلف، كما قرأنا، كتابا في الدعوة للاعتدال، ويشجب المذاهب المتشددة ويقول: «فإن صاحب نجد (سعود) وجميع أتباعه يعملون بما تعلموه من محمد بن عبد الوهاب، وكان حنبليا، ثم طلب الحديث بالمدينة المشرفة. فعاد إلى نجد وصار يعمل باجتهادات جماعة من متأخري الحنابلة كابن تيمية وابن القيم وأضرابهما، وهما من أشد الناس على معتقدات الأموات»]: القول عن ابن عبد الوهاب وابن تيمية قبله أنهما حنبليان، لا يصح من كل وجه؛ لأن الإمام أحمد لم يتكلم في العقائد، كما تكلم الآخران؛ بل إننا عندما نذكر "المذهب الحنبلي" فإننا نعني به المذهب الفقهي المعتمد للحديث، ولا نعني مذهبا كلاميا، يزعم ابن تيمية أنه بنى عليه. وأئمة الفقه كما يبدو من كلامهم، لم يكونوا إلا على العقيدة العامة (التوحيد العام)، الذي يكون عليه أهل مرتبتي الإسلام والإيمان. ولم يكونوا يخوضون في العقائد بعقولهم، على غرار ما يفعله المتكلمون؛ بل على العكس من ذلك، كانوا يكرهونه ويمنعون منه؛ وهو الحق الذي يُشكر لهم ويُعرف. وأما ابن تيمية فلم يكن على ورعهم رحمهم الله، ففعل ما يفعله أهل الكلام، وإن كان يزعم أحيانا أنه يرد عليهم ويخالفهم. نعني من هذا، أنه كان يخالفهم، كما يخالف بعضهم بعضا، لا كما كان يخالفهم من بقي على السنة من الأئمة. وبالتالي فإن هذا الكلام من الشوكاني تنقصه الدقة، ويغلب عليه التعميم. والتعميم حيث كان، يسهّل على المبتدعة تمرير بدعهم على من لم يحذق العلم. [إن كان عند ابن تيمية وابن القيم تشدد فقد كان لتشددهما حدود، لم يبلغ بهما التمسك بالأحوط أن يتجاوزا الصحابة رضي الله عنهم، وهم أكثر الناس ورعا وحيطة في الدين ولم يكن الصحابة رضي الله عنهم يقذفون الناس بما يقذف به المكفرون المقلدون، وحاشاهم.]: يبدو أن الكاتب جاهل بحقيقة ابن تيمية، لأن هذا الأخير لم يكتف بمجاوزة الصحابة وحدهم، بل تجاوز النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيما لا مدخل له فيه. وهو قد أسس للتكفير بنفسه، ليعمل به من جاء بعده ممن هو أشد منه عمى، كابن عبد الوهاب. وأما إن كان الكاتب يحتكم في حكمه إلى كلام ابن تيمية نفسه، فإن ذلك يكون منه جهلا بحقيقة الأمر؛ لأن ابن تيمية ما أضل من أضل إلا بتلبيسه في الكلام وتضمينه فيه لما هو من الحق. فهو -مثلا- ما دل على انحراف العقيدة إلا بإظهار حرصه على التوحيد بزعمه؛ من غير أن يعلم من التوحيد الخاص شيئا. ولقد كان يجدر به، وهو على توحيد العوام، أن يسكت عما تكلم فيه؛ لأن التوحيد لا تنفع فيه مقارعة الكلام بالكلام، كما لو كان مجالا عقليا متاحا لكل من هب ودب. من أراد أن ينال حظا من التوحيد الخاص، وأن يفهم من الوحي فوق ما تُدركه العامة، فليس له إلا طريق الترقي وبلوغ مرتبة الإحسان؛ لأنها محل العلم بالتوحيد الخاص، دون سواها من مرتبتي الإسلام والإيمان. وقد ذكرنا هذا كثيرا، لجهل الناس به، وخلطهم فيما لا يتمكن الخلط فيه. ولقد زاد ابن تيمية على بدعة الكلام ضعف النور لديه، فكان أسوأ من الأشعري فيما قال به بما لا يقارن. وبهذا، فإنه يُبين عن جهل كبير، عندما يسفه كلام الأشاعرة وهم أعقل منه من غير شك، وإن كانوا لا يختلفون عنه في المرتبة. ونحن -بحمد الله- قد رفضنا كلامه من قبل أن نعلم وجه الضلال لديه. وقد حدث مع العبد الضعيف قبل أن أنخرط في طريق التصوف، عند بداية شبابي، أن أعارني أحد المنتسبين إلى جماعة إخوانية، كانت تابعة حينها لعصام العطار، كتاب "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان"، فلما ذهبت به إلى البيت، لم أُطق النظر فيه؛ وما كنت أعلم شيئا عن ابن تيمية وضلالاته. فأعدت الكتاب إلى صاحبه من دون أن أقرأ منه شيئا، وعددت ذلك -فيما بعد- من عناية الله بالعبد الفقير. وقد حدث معي الشيء نفسه، وقد خالطت جماعة "الطلائع" تلك مدة شهور، عند بداية توجهي إلى الدين، بعد هجري لعلم الموسيقى الذي كنت قد قطعت فيه شوطا لا يُستهان به، عندما سمعت من أحد كبار القياديين منها، كلاما عن وجوب ترك التعلق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والاكتفاء بالعمل بما جاء به؛ فرفضت بباطني هذا الكلام، وعاهدت نفسي أن لا أعود إلى مجالسة أولئك القوم أبدا؛ وكذلك كان. كل هذا، وأنا لا أعلم أن هذا من مذهب ابن تيمية، ولا أعلم الدليل الشرعي في الرد عليه؛ وإنما انقبض باطني عنه، كما ينقبض عن الكفر من غير فهم. وهذا يُذكّرني بما حدث معي مرة، وقد التقيت أحد معارفي بعد صلاة المغرب؛ وكان الظلام قد بدأ في نشر ستاره، وكنا لا نكاد يميّز أحدنا وجه صاحبه. وكان برفقة الشخص المذكور رجلا حسبته أول الأمر من معارف صاحبي أو من عائلته. ولما صافحت الرجل بعد أن سلمت على صاحبي، شعرت بانقباض شديد، كاد قلبي ينخلع منه داخل صدري، وما عرفت لذلك سببا. ولما سرنا قليلا، أخبرني صاحبي أن الشخص إيطالي، يزعم أنه متزوج بإحدى قريباته (فقد عمت في زماننا بلوى زواج المسلمات بالكافرين)؛ ولما سألته عن دينه، أخبرني أنهم يدلونه على الإسلام، وهو لم يسلم بعد. فعلمت أن انقباضي كان من الكفر الذي لديه، وإن كنت لم أعلمه. فهذا يشبه ما وقع لي مع كتاب ابن تيمية المذكور، من غير أن أُدرك من ذلك شيئا. فلله الحمد دائما وأبدا على توفيقه وتسديده وتبصيره وتعليمه. [ها هو الإمام علي كرم الله وجهه يخرج عليه الخوارج ويكفرونه في قضية التحكيم، ويهددون وحدة الأمة في زمن الفتنة والانشقاق تهديدا خطيرا. ما أهون بدعة تشييد الأضرحة أمام بدعتهم التي تنشق لها الجلود كما تنشق لبدعة الرفض. ومع ذلك فلم يكفرهم رضي الله عنه بل قال عنهم: «من الكفر فروا». وبعث إليهم عبد الله بن عباس رضي الله عنه ليحاورهم بلطف. وعندما رفعوا شعار المروق وقالوا: «لا حكم إلا لله»، أصدر الخليفة الرابع رضي الله عنه أمره الحكيم ووصيته العادلة قائلا: «كلمة حق أريد بها باطل، لا تقتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه». هكذا التمس لهم رضي الله عنه العذر.]: وأين الناس -ومنهم الكاتب وابن تيمية وغيرهما- من هدي الإمام عليّ عليه السلام!... وهل ائتم الكاتب في كلامه عن الدين عموما، وعن الإحسان خصوصا بالإمام علي، حتى نقبل منه هذه الإشادة!... أخشى ما نخشاه، أن يسلك بهذا سبيل التدليس على القارئ، ليحسبه على نهج الإمام يسير... وهيهات!... فالسماء تبقى سماء، والثرى ثرى!... [وشيخ الإسلام ابن تيمية مهما كانت حدته رجل صادق في اقتفائه أثر السلف الصالح. أحيانا يلج في الخصام ويبين أثناء حمية الجدل فيتلقف المقلدة تلك اللحظة العابرة في تفكير الرجل ليتخذوها سندا لتزمتهم وعنفهم. أما في سائر كتاباته فرجوعه إلى السنة الصحيحة وإلى عمل الصحابة يدله على الاعتدال والتريث والتثبيت.]: هذه شهادة زور من الكاتب، في أدنى مراتب الحكم عليها؛ لأن ابن تيمية ليس صادقا بالمعنى العام الذي يُفهم لدى عوام المؤمنين، ناهيك عما يكون عليه الخواص. ولا نقبل هذه الصفة في حقه، إلا إن قبلنا معها صدق الكافر في كفره بخلاف المنافق، وصدق المضل في إضلاله، عند التزامه لسبل الإضلال كما هي، وهكذا... [قال رحمه الله: «ومازال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل (مسائل الخلاف في العقيدة، فكلامه هذا جاء في نقاشه لخلاف الأشاعرة والحنابلة) ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا معصية».]: لا يُقال عن كلام ابن تيمية هذا إلا: صدق وهو كاذب. فالأولون كانوا يختلفون ولا يكفر بعضهم بعضا، لعلمهم -ولو جزئيا- بأن الكلام في العقائد على طريقة المتكلمين بدعة؛ وبالتالي فإن كل ما نتج عن البدعة فهو بدعة. ومع هذا، فإنه ما يلبث أن ينقلب على من سماهم سلفا، كلما حانت له فرصة للنيل منهم. وكلامه عن علي عليه السلام -مثلا- هل بقي معه معنى للسلف، بالمعنى المفهوم لدى المسلمين؟!... وتأكيد شيخ الضلال على "مذهب السلف" من دون اعتبار للسلف حقيقة، هو من أكبر الإضلال؛ لأنه منح كل الضالين من بعده أصلا موهوما يتمسكون به عند المحاججة. وأما معنى "السلف" حقيقة لدى ابن تيمية وأتباعه، فهم الشياطين من الجن والإنس، الذين سبقوهم إلى إفساد الدين على الناس من كل أمة. [وقال: «مع أني دائما ومن جالسني يعلم ذلك مني: إني من أعظم الناس نهيا أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية. إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرا تارة وفاسقا أخرى وعاصيا أخرى. وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية»]: مرة أخرى ابن تيمية يدلس؛ فهو عند ذكره لعدم جواز التكفير، إلا إن قامت الحجة الرسالية، لا يريد بذلك إلا فهمه المعوج للنصوص الشرعية، لا الشريعة كما فهمها عموم الأئمة من الأمة. وقد تابعه أصحابه في تدليسه هذا، وما زالوا يعملون به إلى الآن. فهم على سهولة حكمهم بالكفر على الناس، يجزمون أن ذلك ليس منهم؛ وإنما هو من الشرع وحده. [وكما تحدث الشوكاني في منظومته عن الرافضة، وهم الذين يسبون الصحابة قاتلهم الله، فلم ينسبهم للكفر مع أن بدعتهم من أشد البدع سوادا ولؤما، فإن ابن تيمية سبقه إلى موقف الاعتدال منهم، مع أنه في عامة كتبه صب عليهم وابلا من غضبه فعدوه ناصبيا. والنواصب خذلهم الله هم من يكرهون آل البيت عليهم السلام. قال: «فالرافضة لما كانت تسب الصحابة صار العلماء يأمرون بعقوبة من يسب الصحابة».]: هذا الكلام لا يستحق النظر فيه، لأنه لا ينطلي إلا على أعمى البصيرة. فابن تيمية قد كفّر أهل السنة، فكيف يُزعم أنه لم يُكفّر غيرهم من الرافضة. فإن كان في كلامه اضطراب، فهو يزيد على ضلالته، ولا يشفع له حتى نعده من العلماء. وإن حققنا النظر، فابن تيمية ناصبي، لا نشك في هذا. يكفي في نصبه قوله الذي أوردناه في فقرة سابقة، عن الإمام علي عليه السلام؛ بل هو مؤسس أيديولوجيا النصب ومكملها، بعد أن كانت مجرد رأي لدى المبتدعة الأولين من الأمويين. وقدحه في مكانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بزعم الحرص على التوحيد، هو أكبر من النصب ذاته، لتعلقه بأصل أهل البيت، صلى الله عليه وآله وسلم. وأما محاولة الكاتب الوقوف بين المختلفين في منتصف المسافة، والذي يعُدّه هو اعتدالا، ليس من الدين؛ بل هو من الأيديولوجيا. والأيديولوجيا لدى المتأخرين، لا يكاد يسلم منها أحد؛ بسبب هيمنة الفكر على الناس، إلى الحد الذي لم يعد للدين من وجود معه حقيقة. [أكتب هذا والحملة على الشيعة وثورتهم في إيران شعواء ماحقة. تصدر فتاوي مأجورة مأزورة بتكفير الشيعة كافة، لا يتقي الله في الأمة من يلفقون الأحكام. إن كان في إيران روافض، والرفض منتشر هناك بالتأكيد، فهم عقول ونفوس مريضة بداء الكراهية الوبيل. غاية القاضي أن يعاقبهم كما كان يفعل العلماء. وذلك لا يتأتى إلا لو كانت الأمة موحدة والقضاء إسلاميا والعزة في الأرض لله ولرسوله وللمؤمنين. وإن كان الثوار الإيرانيون سجنوا علماء السنة واضطهدوا السنيين وهمشوهم فالهيجان الثوري كان ولا يزال في كل زمان ومكان يخيل للثوار أنهم قادرون على تبديل الأرض غير الأرض والسماء غير السماء. والواقع المستعصي على الإرادات الثورية يعطي الاتجاه الثوري العنيف إما حكمة ورجوعا إلى الحلول المعقولة إن وجدت في الواقع المقابل تفهما، وإما انحرافا خطيرا إن خيبت التجربة الثورية الآمال ودفع بها اليأس من تطرف إلى تطرف.]: هذا الكلام في مجمله صحيح، لكننا نريد أن نتحفظ على أمرين فيه: الأول، هو أن لدى أهل السنة ضلالات، كما للشيعة ضلالات. فمن باب الإنصاف، كان يجدر بالكاتب الإشارة إلى ضلالات أهل السنة، ولو باقتضاب. وأما إن كان لا يرى لأهل السنة ضلالات، فهذا يعني أنه على الأيديولوجيا السّنيّة، وأنه لا يصلح للكلام في شؤون عموم الأمة، كما يرجو أن يُعرف عنه. والثاني، هو أننا نحن، لا نقول بالثورة في الإسلام. فنحن لا نعلم إلا المصطلحات الشرعية، ولا نقبل إلا بها. والثورة ليست مصطلحا شرعيا، ولا معناها مما هو شرعي دائما. وهذا الخلط بين الفكر اليساري والدين، يشي بأن الأستاذ عبد السلام، لم يتخلص من بقايا اشتراكيته. [حمل إخواننا الشيعة ألمين ممضين منذ قرون، ألم الحزن على فوات الخلافة ممن يعتبرونهم أئمة وارثين شرعيين، قمة الحزن مأساة قتل الحسين رضي الله عنه. ثم ألم الخضوع للحكم الجبري الذي كان الشاه المقبور من أعتى نماذجه. فلما أذن الله بتحرر القطر الإسلامي إيران من داء الحكم الفاسد اشتعل حماس المسلمين في أرجاء الأرض استبشارا. ثم أخذت الأخطاء الجسام تتراكم فانفعل من انفعل، وغضب من غضب، وأفتى من أفتى.]: هذا تحليل فكري، وليس تناولا شرعيا للمسألة، على عادة الكاتب. فالخلافة التي يبكي ضياعها الشيعة إلى اليوم، ليست في حقيقتها كما يعلمها أهل السنة (والكاتب من بينهم)، ولا كما يعلمها الشيعة. فكلتا الفرقتين تأخذ فيها بشطر من الحق وتكمله بشطر باطل. والكلام يشي بأمرين بعد هذا: الأول، أن الكاتب نفسه، لا يعلم الخلافة كما هي في نفسها؛ وهذا يدل على أن أغلب تنظيره لها قاصر. والثاني، أنه متأثر بالثورة الإيرانية الخمينية؛ ويبدو أنه يريد أن يكون بتمثلها خميني العرب. وهو في هذا الميل يجهل أمورا منها: [إننا ونحن نتحدث عن سرطان الرفض في معرض البحث عن مواقف التثبت والاعتدال نعالج مرضا واحدا، هو مرض الهيجان العاطفي الذي فتك بوحدة الأمة ولا يزال يفتك. كفروا الشيعة جميعا لأن من بينهم روافض، وكفروا الصوفية جميعا لأن بعض الزنادقة لبسوا الزي وتحلوا باللقب.]: ينبغي أن نعلم هنا: أنه لم يجرؤ على تكفير الروافض، إلا النواصب؛ ولم يجرؤ على تكفير الصوفية إلا التيميون الوهابية؛ وهؤلاء كلهم يلتقون عند شيخ الضلال ابن تيمية. وهذا كان على الكاتب أن يبيّنه، حتى لا تبقى المعاني غير مضبوطة، ويظن كل واحد ممن يطلع عليها أنها وفق ما يرى. هذا هو التلبيس بعينه!... ولا ينبغي أن يفوتنا هنا، أن نذكر أن الرفض والنصب موقفان سياسيان لا عقيدتان كلاميتان، كما يُظنّ أحيانا؛ وإن كنا لا ننكر دخولهما في الأيديولوجيتين السنية والشيعية، اللتين أُسس لهما بالتنظير الفكري عبر القرون. ونحن -وإن كان كلام الكاتب يبدو غيرة على الروافض والصوفية- نحذر من هذا التدليس، ونشك في أنه ستعقبه ضلالات، يبغي صاحبنا صرف النظر عنها بإبداء اعتداله المزعوم. ألقى صاحبنا من سفينته بالروافض وبالصوفية إلى الحيتان، لعله يظفر بميلٍ من وهابية الزمان؛ خصوصا وهم قد أبانوا عن شدة في المواقف، قد تنفع في مواجهة نظام الحكم هنا. ولكن الوهابية بقوا في معظمهم على توجس من الأستاذ عبد السلام، ولم يتورعوا أن ينسبوه بسبب "تصوفه" في نظرهم إلى الشرك، كما نسبوا غيره!... وقد كانت هذه النتيجة جزاء من الله للكاتب على تلاعبه بالمعايير، ومراهنته على المتناقضات الداخلية في خطابه لعموم المسلمين. وما هكذا يدعو أهل الحق إلى الحق في جميع الأزمنة!... الحق إن عُرف يُعرض فحسب، وليختر كل واحد ما يناسبه بإزائه. يقول الله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]. وكل ما يظنه الإسلاميون من حرص أنفسهم على فلاح الناس، هو من الهوى الذي يبغون ستره بحسن النية؛ وهيهات!... وقد ذُكر أن لقمان لما أوصى ابنه قال له: [يا بني تعلمت سبعة آلاف من الحكمة، فاحفظ منها أربعا، ومر معي إلى الجنة: أحكم سفينتك فإن البحر عميق، وخفف حملك فأن العقبة كؤود، وأكثر الزاد فإن السفر بعيد، وأخلص العمل فإن الناقد بصير.][15]. [في الماضي كانت التكفيرات تتناول الأفراد أو الطوائف والكل داخل الوحدة الإسلامية قبل أن تكرس القطرية الفرقة وتحجرها. أما اليوم فوقع التكفير والطرد من حظيرة الإسلام أبلغ أثرا وأعمق وأبشع لأن تكفير قطعة من جسم الأمة الممزقة بغير حق يزيد التمزيق استفحالا. فإذا كانت هذه القطعة من الأمة ثورة هائجة، وكان تصديها، الرائع بكل ميزان، لقوى الاستكبار العالمي يجد صدى سلبيا من علماء السنة، بل وقوفا ضد الثورة الإسلامية، وتكفيرا لقيادتها، فرعونة الفقيه أو الكاتب الذي يملي ويخط آراءه في كرسيه الآمن، يكفر ويلعن ويستبيح الحرم، جريمة نكراء. إن مستقبل الأمة في خطر داه بما تجنيه أيد غير مسؤولة. وإن المرض العضال الذي لاتزال الأقطار السنية تعاني منه، وهو مرض الحكم الجبري الجائر، لا تزيده الفتاوي الطائشة ضد إيران والشيعة إلا ترسيخا. داء إخواننا الشيعة سرطان الرفض في بعض الأفراد وفي بطون الكتب والأخطاء الفادحة التي لا تخلو منها أية ثورة.]: هذا الكلام أيضا صحيح في عمومه، وجيد من الكاتب أن يشير إلى الفرقتين من الأمة (بعد أن ذكر مصيبة القطرية): الشيعة وأهل السنة؛ لكن كان يجدر به أن يذكر تيار النصب الذي لدى أهل السنة (في مقابل تيار الرفض الذي لدى الشيعة)، والذي يُعد ابن تيمية من أكبر رؤوسه؛ ليكون هو نفسه (الكاتب) معتدلا في أحكامه منصفا في تحليلاته. ولقد خلط الكاتب بين التحليل السياسي الظرفي، والتحليل الشرعي الثابت، عند ذكره للحكم الجبري؛ وكأنه يرى أنه من الممكن تجاوزه أو حذفه من ماضي الأمة ومن حاضرها؛ وهذا يدل على أن صاحبنا على أيديولوجيا في جل ما يقول. وقد نبهنا سابقا، إلى أن الملك، هو حكم شرعي لدى المسلمين، مكمل للخلافة، في الأزمنة التي لا خلافة فيها. وإن العمل بما يتوصل إليه اجتهاد المجتهدين زمن الملك، هو ما ينبغي أن يكون لدى أهل السنة، لو كانوا يبغون نصرة الدين. وهذا يُشبه ما لدى متأخري الشيعة، من ولاية الفقيه، بحسب معتقداتهم. وبما أن أهل السنة، قد أرخوا للحكام حبل رغباتهم، وسخروا لهم الدين يعبّد طريقهم إليها، فإنه كان يجدر بالدارسين -على الأقل ومن باب الإنصاف- الإشارة إلى خيانة الفقهاء لأماناتهم، بدل أن يُحمّل الحكام الوزر وحدهم. [فهل يجوز يا قوم أن نحكم بجرة قلم إرضاء للنزوات أو للحكام بفتاوي بئيسة يلتحم بها الرفض الموروث بالأخطاء الثورية التحاما أبديا ليولد مخلوق بشع وليخلد في ديار السنة حكم الظلمة المارقين؟]: هذه دعوة من الكاتب لأهل السنة بالقيام على حكامهم في ثورة كالتي قام بها الشعب الإيراني. وقد سبق أن قلنا إن بين أهل السنة والشيعة فروقا ينبغي اعتبارها. ولسنا نريد بكلامنا هنا الانحياز إلى الحكام من بلداننا، ضد الشعوب أو ضد الدين، كما قد يفهم المغرضون؛ ولكننا نحرص أولا على فهم الأوامر الشرعية فهما صحيحا، حتى لا يُتلاعب بالجماهير فيُقذفون في نار الفتنة من غير برهان لهم من ربهم، يجزيهم به عند موتهم في سبيل ما يرجون، أو عند خسرانهم لدنياهم. هذا فحسب!... ما أسهل أن يدل المرء على ثورة، وهو مسنود في دعواه بشتى شواهد الظلم القائمة؛ ولكن أين الله من كل هذا؟!... من يستطيع أن يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من هذه الفتن، ليدل على ما فيه الخير المحض وحده؟!... [1] . إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين: 106/2 ، طبعة دار الفكر. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.