اللهم صل على سيدنا محمد الكامل الأكمل، ومظهر الجمال الأجمل، المكمل لكل كامل على مدى الأزمان، والمتخلق على التمام بأخلاق الرحمن؛ القائل بلسان الشكر: أنا سيد وُلد آدم ولا فخر؛ وعلى آله الطاهرين بالتطهير الرباني، وصحابته المشرفين بالشهود العياني؛ وسلم من أثر شهود نفوسنا صلاتنا عليه تسليما. والحمد لله المنعم المفضل حمدا عميما.
![]() | ![]()
2019/01/22 إحسان الإحسان - 7 - الفقهاء تلامذة الصوفية يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: [وكذلك من أعيان الفقهاء من جميع المذاهب تجد الفقيه بعد استكمال طلبه للعلم أو أثناء الطلب يلتمس وليا مرشدا يصقل قلبه بالإحسان.]: لا شك أن الكلام هنا صحيح؛ لكنه ناشئ عن تصور مغلوط لجل المسلمين، يظنون به أن التقرب من الله يكون بتحصيل العلوم الشرعية على المعهود منها لدى العلماء المتخصصين. ويرون أن الفقه بالأحكام هو أساس هذا التحصيل الذي يأتي من بعده التخصص في الحديث أو في التفسير أو في أصول الدين. وقد جعل الأستاذ التصوف هنا تكميلا لفقه الفقهاء، من دون أن يشير إلى أن تعلم الفقه بالطريقة "الأكاديمية" ليس شرطا في التدين من الأصل، وإنما جاء ذلك بعد تراكم الأقوال على مدى الأعصر، وبعد دخول المناهج العقلية في الغربلة والترجيح. نعني من هذا أن التدين في أصله لا بد أن يكون ميسرا يستطيعه كل أحد، وإلا كان العمل معاكسا لأصل التيسير المنصوص عليه في الوحي. فمن القرآن قول الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، ومن الحديث الشريف قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ. فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ.» [1]. وأما الواجب تعلمه من الفقه، على العباد، فهو ما تقوم به عبادتهم. وأول ما يتعلق به الفقه، الصلاة والمعاملات، ثم يأتي الصوم عند البلوغ. ويتعين فقه الزكاة على من تحقق لديهم النصاب من المال دون غيرهم. ويبقى فقه الحج إلى وقت إرادته، بحسب الاستطاعة. هذا كله من جهة التعين الشخصي؛ وأما من جهة الكفاية، فلا بد من تخصص بعض المسلمين من كل بلد، بجميع فروع الفقه، ليكونوا معلمين لغيرهم وقت اللزوم. غير أن الناس مع إيغالهم في الغفلة، نسوا أن الفقه وسيلة إلى التدين، وجعلوه التدين عينه أو شطره الأعظم. وصار الدين مع هؤلاء معلومات، يجمعها العبد طول عمره، وكأنه ذاهب إلى الآخرة لاجتياز امتحان التخرج. وذِكر الكاتب لعدم استغناء الفقهاء عن التتلمذ للصوفية، من دون تفصيل لمعنى الفقه عند الناس، يجعل الذهن ينصرف منهم إلى تكميل معلومات تتعلق بالإحسان، كما أشار هو رحمه الله. وهذا الالتباس نشأ عند الكاتب والناس من بعده، لعدم علمهم بمرتبة الإيمان، التي ينبغي أن تكون هي المرحلة الثانية من تديّن العبد، إن شمر لسلوك الطريق، وخرج عن زمرة القانعين بالمرتبة الأولى المشتركة. وببقاء معنى الإيمان مجهولا، سيكون الإحسان مجهولا أيضا؛ لأن الإحسان هو إحسانٌ (إتقان وإجادة) للإيمان نفسه. ولقد وقع الجهل بالإيمان، عندما اشتغل أصحاب مرتبة الإسلام به، من كونه معلومات (عقائد) صاغوها صياغة عقلية، ورتبوها ترتيبا خاصا بحسب كل فرقة، وظنوا أن ذلك يغني عن الترقي إلى المرتبة الثانية؛ بل إنهم لم يعلموا معنى الترقي من الأصل. فكان نشوء علم الكلام، إيذانا باكتفاء شطر كبير من الأمة بمرتبة الإسلام، من الناحية الذوقية العملية؛ بل إن إسلامهم ذاته قد شابه ما خاضوا فيه من العقائد بعقولهم، فنزلوا عن كمال مرتبة الإسلام الذي يتحقق في الغالب للعوام دونهم. وهذا من أعجب ما يحصل لعلماء الدين، وهم لا يشعرون؛ بل يستبعدونه ويحيلونه!... وعلى هذا، فمن اشتغل بالعقائد على طريقة المتكلمين لن يعلم الإحسان، وهو لم يؤمن الإيمان التفصيلي (إيمان المرتبة)؟!... لهذا سيبقى كلام الأستاذ عاما، لا ينفع كثيرا. [هذا الإمام السيوطي جامع علوم عصره المتبحر المتفنن الذي نازع معاصريه الزعامة وقارعهم بعناده واعتداده بنفسه يلجأ إلى المشايخ الشاذلية يتخذهم قدوة وأدلة. كتب في «حسن المحاضرة» دعواه، وهو جدير بها رحمه الله: «رزقت التبحر في سبعة علوم التفسير والحديث والفقه والنحو والمعاني والبيان والبديع على طريقة العرب والبلغاء لا على طريقة العجم وأهل الفلسفة. والذي أعتقده أن الذي وصلت إليه من هذه العلوم الستة، سوى الفقه والنقول التي اطلعت عليها منها، لم يصل إليه ولا وقف عليه شخص من الأشخاص. فضلا عمن هو دونهم.]: إيراد الكاتب لهذا الكلام، يدل على أنه ما زال مقيدا بالطريقة الأكاديمية التقليدية؛ وبهذا فإنه يكون جاهلا بالتدين في صورته الأصلية، وإن كان لا يخلو عنه. وهذا أمر يحصل لكثيرين، نعني أنهم يحلون في بعض المقامات من دون أن يعلموها، بسبب الخلط الذي هم عليه؛ بعكس من كانوا على الصورة البسيطة من التدين، التي كان عليها الصحابة، ويكون عليها الأميون. لهذا نحن هنا نتكلم عن الجانب العلمي، وبالصورة التي يُقدَّم فيها إلى الناس، لا بما يكونون عليه من تدين في الجانب العملي. ونعني مرة أخرى، أن المرء قد يكون على تدين سليم جزئيا، وإن كان هذا نادرا؛ ولكنه من جهة العلم لا بد أن يكون على معلومات مفككة ومبعثرة، كما هو شأن مقلدة الفقهاء والمتصوفة. وهذا الخلط والاجتزاء، سيجعلان الوصول إلى كمال التدين، ببلوغ معرفة الحق تعالى، والتي هي غاية الغايات، يشترط في نظر الناظر من هؤلاء، ما ذكره السيوطي من علوم، وما يظن كاتبنا أنه مشروط؛ بخلاف ما هو الأمر عليه عند إتيان العبد لأعمال الإسلام، على شوق إلى الله وصدق في معاملته سبحانه فحسب. وكأن الإنسان -لجهله- لا يعجبه في كثير من الأحيان أن يكون وصوله إلى الحق سهلا ميسرا؛ وقد أخبر الله عن قربه سبحانه، بأكثر مما يتوهم عبده. يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]، ويقول سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186]. وكأن العبد بإبعاده في تصور الطريق إلى الله، يستعيض عن التشريع الإلهي، بما يشرعه لنفسه جزئيا، عندما يعيد صياغة أعمال التقرب بحسب هواه. وقد يكون هذا العمل منه في الغالب، بدافع التنزيه غير الشرعي، فلا يكاد يُشعر به. وما رأينا من يفرق بين الطريقين سوى من تزكى على أيدي كبار شيوخ الصوفية. ولقد رأينا -رأي العين- من الأميين الواصلين، من صار بحرا في العلم من دون أن يشتغل بالعلوم أو يسلك طريقها؛ ورأينا احتياج العلماء في العرف إلى توجيهاته في علومهم، في مشهد قلّ من يصدق به من أهل زماننا. فهذا هو ما نسميه نحن التدين في صورته الأصلية، التي لا يُحتاج فيها إلا إلى الصدق في معاملة الله. وعلى هذا الأصل كان عمل الصحابة رضي الله عنهم، ومن تبعهم بإحسان؛ لا يشك في هذا، إلا من انطمست بصيرته!... [وأما علم الحساب فهو أعسر شيء علي وأبعده عن ذهني. وإذا نظرت في مسألة تتعلق به فكأنما أحاول جبلا أحمله. وقد كملت عندي آلات الاجتهاد»]: نحن نُدرك تأثر السيوطي ببيئته العلمية، ونعرف له مكانته بحمد الله؛ لكن التدين الذي نتكلم عنه أبسط مما يدل عليه بكثير، وأنفع في التقرب إلى الله بما لا يقارن. ثم إن الاجتهاد الذي يعده فقهاء مرتبة الإسلام أعلى درجة في العلم، ليس هو كذلك؛ بل هو أعلى ما يكون عليه الفقيه (بالمعنى الاصطلاحي) وحده. وإنه يقع للمريدين في أول سلوكهم، ما لا يتمكن من بلوغه اجتهاد مجتهد. ولقد حدث للعبد الضعيف عند بداية سلوكي، في الأسابيع الأولى إن لم يكن في الأيام الأولى من ذكر ورد شيخي، وأنا في حوالي العشرين من عمري أو أزيد قليلا، أن صرت أتكلم في معنى الذات الذي يُدرك من وراء الصفات الحقية والخلقية. فظننت أني آخر من يعلم هذا وأن من سبقني بالزمان من المريدين، لا بد وأنهم سيجدون ما ظهر لي من المبادئ الأولى إلى جنب ما هم عليه. وقد كنت -بحمد الله- شديد الاحتقار لنفسي، لا أكاد أطيق أن أنسب إليها شيئا. وفي جلسة مع أخ لي في التربية، وقد آنسني لأبدي له ما عندي، ويبدو أنه كان مترقبا لفعل الذكر فيّ بعكسي أنا، من كان داخلا إلى مجال لا يعرف منه لا ظاهرا ولا باطنا. فلما بدأت أكلمه فيما ظهر لي، وأنا أتخوف أن يخطِّئني أو أن ينهرني وينهاني عما أخوض فيه (والكلام على كل حال فوق طوري حينئذ)، فوجئت به بعد مدة العرض (ولم تكن قصيرة) يقول: لم أفهم شيئا مما قلت. فسكتّ، وغيرنا مجرى الحديث. وأنا أقول الآن بعد ما يقرب من الأربعين سنة بعد الحادثة المذكورة، لو أني أعرض كلامي ذاك على أكبر علماء الأرض، ممن يعرفون بالعلم عند الناس، لما عقله. فكيف -بعد هذا- يعظَّم اجتهاد يكون وارد من واردات مريد مبتدئ أعلى منه!... [ما بال مثل هذا الرجل المعتز بعلمه، المنفرد في عصره بالاطلاع الواسع، المؤلف المرموق، المقرب إلى «خليفة» عصره المتوكل على الله العباسي، المحسود من طرف فقهاء مصر، خاضوا ضده معارك حامية، يذهب إلى المشايخ أهل الطريق يخضع لهم ويتتلمذ؟ ألم يكفه ما في بطون الكتب من علم غزير؟ عبرة لك يا سيدي يا أخي يا حبيبي يا من ترشد الناس لقراءة كتب الصوفية. «تأييد الحقيقة العلية وتشييد الطريقة الشاذلية»، هذا عنوان كتاب السيوطي، وهو مطبوع. فابحث عنه عله يكون آخر ورقات تبحث فيها عن التربية الإحسانية، ولن تجد فيه إلا شهادة رجل صادق خشي كما تخشى أن يكتم شهادته، ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾.]: ليس السيوطي -على جلالة قدره- قدوة يُحتذى؛ فمن كان ناظرا، فلينظر إلى الصحابة رضي الله عنهم، كيف تلقوا العلم من معدنه صلى الله عليه وآله وسلم. هناك يبدو التديّن السليم المقرِّب إلى الله بأيسر الأسباب، قبل أن تمتاز صنوف العلم، وقبل أن يُبوّب الفقه. دائما كنت أشبه التدين لمن يسمع مني برضاع الرضيع من أمه، وأقول: هل يكون للرضيع علم بـ"الأم" ومرتبتها الوجودية منه (الأم بالنظر إلى الرضيع، كالوجود الواجب بالنظر إلى الإمكان؛ من جهة الدلالة، لا من جهة الحقيقة)؟... وهل يكون له علم بالثدي ووظيفته؟... وهل له علم بالحليب ومدى نفعه له؟... فيُجاب: لا. فأقول: كذلك التدين!... ينبغي أن تكون فيه مع إمام رباني، وأن تكون محتاجا مضطرا، لتأخذ منه بطريق الاستمداد، ما لا تعلم ترتيبه ولا صنفه ولا مدى نفعه في البداية. وكما أن الرضيع سيعلم ما كان عليه أمره عند تحقُّق نموه وكبره؛ فكذلك المتدين، سيعلم ما كان عليه عند مشارفته على النهاية. وأما الفقهاء الكسبيون (المشتغلون بعلوم الكسب)، هم في علومهم، كمن يطلب من الرضيع أن يتعلم كل ما سألنا عنه سابقا، ويزيد عليه بالتركيب الكيميائي للحليب، حتى يكون مؤهلا لالتقام ثدي أمه، وقبل أن يرتشف الرشفة الأولى. فقد يموت المسكين جوعا وظمأ قبل أن يتحقق له شيء من ذلك كله!... فلينظر المرء إلى مدى ابتعاد الناس عن السنة في التلقي؛ ولينظر كم تعسر التدين مع هذا الفهم السقيم!... فلو أخذنا توجيه الكاتب إلى قراءة الكتاب الفلاني، وإلى التشبه بفلان في تحصيل العلوم، ونظرنا في المقابل إلى الأمي الذي لا يُحسن ذلك من أصله، فإننا سنحكم على الأمي بعدم إمكان تحقيق أدنى مرتبة من القرب لديه. وهذا، بخلاف شمولية الدين لكل أصناف الناس، ومن غير تقسيم!... ولننظر إلى الصحابة المرضيين الذين كانوا جلهم أميين، وكيف أنهم صاروا من أعلم علماء الأمة؛ ولنسأل: ألسنا أمام نهجين في التعليم الديني متباينيْن؟... ألسنا قد ابتعدنا عن السنة في التعليم وفي التعلّم؟... ألم نخرج بالدين من دائرة ربانيته، حيث الأمر فيه بين الكاف والنون، إلى طريق أهل الفكر، حيث يُطلب من المرء تعلم عدة علوم إجرائية، من أجل بلوغ أهلية طلب علم من العلوم، ينبني في غالبه على الظن والتخمين!... [تتلمذ خلق لا يكادون يحصون من الفقهاء في كل العصور للمشايخ من رجال الطريق. وتحدثوا عن مشايخهم، وقارنوا بين الفقهاء والصوفية وفاضلوا. استمع معي إلى حكم محدث بارز يقارن ويقوم، محدث تتلمذ للمشايخ الشاذلية كما تتلمذ السيوطي. إنه ابن حجر الهيثمي. قال: «فمستنبطو الفروع هم خيار سلف الأمة وعلماؤهم وعدولهم وأهل الفقه والمعرفة فيهم. فهم قوم غذوا بالتقوى وربوا بالهدى. أفنوا أعمارهم في استنباطها وتحقيقها بعد أن ميزوا صحيح الأحاديث من سقيمها وناسخها من منسوخها. فأصلوا أصولها ومهدوا فروعها. فجزاهم الله عن المسلمين خيرا وأحسن جزاءهم، كما جعلهم ورثة أنبيائه وحفاظ شرعه، ألحقنا الله بهم وجعلنا من تابعيهم بإحسان».]: ابن حجر الهيتمي من كبار الفقهاء أهل النور!... فقد كانت تُقرأ علينا بعض أقواله، وكنا نجد لها نورا وبرهانا قلّما يكون للفقهاء؛ لكنه يدل على ما عرف هو من طريقه، ويظن أنه لا بد من السير فيه على خطواته. وهو معذور في هذا، لأنه صادق؛ والصادق لا يخبر إلا عن ذوقه. لكن الطريق في صورته الأصلية، وكما أوضحنا في الفقرة السابقة، أيسر من هذا وأوسع، من غير شك. والسؤال الآن هو: إن كنا قبلنا من الكاتب جمعه بين الغزالي وابن تيمية استثناء في هذا الكتاب، فكيف يجمع الآن بين ابن تيمية وابن حجر الهيتمي، وهو من يقول عن ابن تيمية: [وإياك أن تصغي إلى ما في كتب ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وغيرهما، ممن اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله! وكيف تجاوز هؤلاء الملحدون الحدود، وتعدوا الرسوم، وخرقوا سياج الشريعة والحقيقة، فظنوا بذلك أنهم على هدى من ربهم، وليسوا كذلك!] [2]؟... فهل غاب عن صاحبنا هذا التباعد بين الرجلين؟... أم إنه يريد الجمع بين ما لا يجتمع، لغرض من الأغراض؟... ومع كل هذا، فإننا نقول: كل ما نقله الأستاذ عن ابن حجر هو كلام عام لا يعول عليه. [ويكتب عن العارفين الصوفية: «العارفون بالله الذين وفقهم الله لأفضل الأعمال، وحفظهم من سائر المخالفات في كل الأحوال. ثم كشف لهم الغطاء فعبدوه كأنهم يرونه، واشتغلوا بمحبته عما سواه. وأطلعهم على عجائب ملكه، وغرائب حكمه، وقربهم من حضرة قدسه، وأجلسهم على بساط أنسه، وملأ قلوبهم بصفات جماله وجلاله، وجعلها مطالع أنواره، ومعادن أسراره، وخزائن معارفه، وكنوز لطائفه. وأحيى بهم الدين، ونفع بهم المريدين، وأغاث بهم العباد، وأصلح بهم البلاد».]: كل ما قاله ابن حجر عن العارفين، هو ينطبق على المريدين من طور النهاية فحسب؛ ويبقى العارفون من أهل التحقق مجهولين له وللكاتب من بعده. سمعت الكاتب مرة يقول، في إحدى حلقات برنامج "مراجعات" على قناة "الحوار" الفضائية، وبعد أن لقبه المحاور بـ"الشيخ": "إن الشيخ أمره عظيم، وما أنا إلا أستاذ؛ هذه كانت مهنتي، وأنا أحب أن ألقب بها" (أو ما في معناه). فأكبرت في الأستاذ عبد السلام صدقه، وعدم قبوله بلباس الثوب الزور. ولكن مع هذا، فأتباعه يعاملونه وكأنه ما قال ذلك ولا فاه به؛ وهم لا يعلمون أنهم في الحقيقة بذلك يكذبونه!... فكيف يُعظَّم الشخص ويُكذّب في الآن عينه!... لا نظن هذا يُستساغ إلا من قِبل عقلنا العربي المعتل!... [ثم يتحدث عن الفقهاء ليعقد المقارنة فيقول: «علماء الظاهر الذين عرفوا رسوم العلوم الكسبية، وعويصات الوقائع الفعلية والقولية، وغرائب البراهين العقلية والنقلية، حتى حفظوا سياج الشرع من أن يلم به طارق، أو يخرقه مبتدع مارق. فالأولون (أي العارفون) أفضل، وإن كان للآخرين (الفقهاء حماة الشريعة) فضل عظيم، بل ربما كانوا أفضل من حيثية لا مطلقا».]: كلام الهيتمي هنا صحيح ودقيق، لا يصدر إلا عن فقيه مثله. والحيثية التي يكون الفقهاء فيها أفضل من العارفين من غير الفقهاء (الجامعين)، هي اصطفاء الله لهم، ليكونوا نوابا عن الرسالة في الأمة. فهم حفاظ الشريعة وحراسها حقيقة، ومن دونهم يندثر الدين ويفسق الناس أو يكفرون. لكن هذا ما يكون عليه الأمر مع الفقهاء من أمثال الهيتمي نفسه، لا مع فقهاء زماننا، الذين صاروا أبخل من رجال البنوك، وأجهل من سفهاء الناس، وألأم من الشياطين، وأجود بالدين من التاجر بالبضاعة الفاسدة، وأشد طلبا للدنيا من الكافر الذي لا يؤمن بآخرة!... هيهات، هيهات!... [الشهادة القولية الصادرة عن الفحول من علماء الأمة وأئمتها لها وزنها. والعبرة بالشهادة الفعلية أقوى وأبلغ. انقياد الفقهاء للمشايخ المربين، وانصياعهم لأمرهم، وتلقيهم بالتسليم والموافقة لتوجيهاتهم، ثم تعظيمهم لهم ومحبتهم إياهم واعترافهم بفضلهم تقرأ هذا في أثباتهم وفهارسهم، وفي كتب التاريخ والطبقات. فهل هي ظاهرة تدل على صبيانية رجال الإسلام أم هناك مادة نورانية لا تؤخذ من الكتب بل من قلوب أهل الصفاء والوفاء؟]: يريد الكاتب أن يجعل لشهادة الشهداء محلا في استدلاله، لا يناسب إلا من كان أجنبيا عن الدين، أو تلقاه ممن عُسِّر عليه حتى صار يمشي على صراط معوج بدل الصراط المستقيم. وأما أهل الله، فليسوا في حاجة إلى شهادة أحد من المخلوقين؛ لأن الله هو من يشهد لهم كما شهدوا له. يقول الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18]؛ فشهادة الله للولي تدخل ضمن شهادة الله لنفسه أنه لا إله إلا هو. هم يعلمون هذا، ويعلمون كيف تكون هذه الشهادة، ويعلمون دلالتها لدى أهلها، لا عند غيرهم؛ أما الفقهاء، فلا يعلمون إلا الوجه الظاهر للكلام. وتكون شهادة الله للولي في نفسه أولا، ثم يَشهد له عند من شاء أن يُطلعه على خصوصية ذلك الولي، ثم يشهد له بإظهار فعله (فعل الله) من مظهره متى شاء سبحانه، وبإنفاذ إرادته (إرادة الله) عند إرادته.... فهل بعد شهادة الله يحتاج الولي أن يشهد له فقيه، وإن كان من مرتبة الهيتمي رضي الله عنه، أو ممن هو معظَّم في عين كاتبنا من سواه؟!... [إن من لا حرقة في نفسه إلى معرفة الله لا يبحث، وإن بحث فلمجرد الاطلاع وإرضاء الفضول.]: ونحن نقول: من كانت صفته الفضول وحب الاطلاع، لا يعد باحثا من الأصل؛ ولا يكون مؤهلا للسير في الطريق إلى الحق. وحتى من وجد شوقا إلى معرفة الحق وأصابته حرقته، فلن يبلغ حال من اصطفاهم الله واجتباهم ابتداء. وإنما الناس يقيسون بفكرهم، لذلك يعظمون من يقاسي شدائد الحيرة، على من تأتيه المنح وهو مستلق في بيته. ولو تنبهوا، لعلموا أن هذا الصنف من المقربين أقرب إلى حال الأنبياء عليهم السلام من غيرهم. ولكنه الفقه ومنطقه مرة أخرى... [باحث عن الحق صارم ترك لنا بمجموع تاريخه وثروة فكره وثمين مؤلفاته شهادة بليغة كانت لأجيال المسلمين منذ تسعة قرون معينا لا ينضب من الفهم والاقتداء والانتقاد والأخذ والرد أيضا. إنه حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه، الجبل الراسخ الذي لا يسع المفكر ولا العالم ولا الفقيه ولا الصوفي ولا السياسي ولا الباحث عن أسرار النفس البشرية ولا المؤرخ للفكر الإسلامي والإنساني أن يمروا به مر الكرام. بعضهم يقرأ نقدا لهذه الفكرة أو تلك النظرة من نظرات الغزالي وفكره فيسد عليه النقد الهدام بأنقاضه منافذ التمييز. إن أخطأ الغزالي في جزئية فالبشر معدن الخطأ. ويكون ماذا إن انتقده فلان أو علان؟ أنت ماذا جنت يداك، ماذا فعلت بحياتك يا من يلهو بقراءة جدل الرجال؟]: أبو حامد حجة رضي الله عنه، لكن على المفكرين، لا على غيرهم من أهل التعليم الإلهي. وقد كان حريا بالكاتب، لو أنه كان يعلم قدر الغزالي، أن لا يجمع بينه وبين ابن تيمية في كتاب واحد؛ لأن معاملة العالم ميتا، كمعاملته حيا سواء بسواء. وهذا الخلط الذي لدى الكاتب، يجعل الناظر يشك في أمره: فإما هو جاهل بما يخوض فيه، وإما هو مغرض. والأمران معا، كنا نود أن ننزه الأستاذ عبد السلام عنهما؛ لو وجدنا ذريعة إلى ذلك... [أبو حامد بحث واستقصى، ثم اضطر آخر الأمر لرجل يعلمه دينه. فماذا قال أبو حامد، وما يفيدني أنا ما شهد به أبو حامد في قضيتي مع ربي؟]: أبو حامد رجع عن طريق الفقهاء بعد أن بلغ مداه، فكان أولى بالفقهاء أن يعتبروا به، لا أن يُدعى العوام إلى اقتفاء أثره؛ ولكن صاحبنا أخذته العادة بعيدا حتى عن القياس العقلي السليم. [كتاب «المنقذ من الضلال» كتاب عظيم الفائدة على صغر حجمه. لخص فيه حجة الإسلام مسيرته وحيرته وأخطاءه وسلوكه. قال: «ثم إني لما فرغت من هذه العلوم (العلوم النقلية والعقلية في عصره قتلها دراسة ونقاشا) أقبلت بهمتي على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقتهم لا تتم إلا بعلم وعمل. وكان حاصل علمهم قطع عقبات النفس، والتنزه عن أخلاقها المذمومة، وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل إلى تخلية القلب عن غير الله، وتحليته بذكر الله. (…) فلم أزل أفكر فيه مدة، وأنا بعد على مقام الاختيار أصمم العزم على الخروج من بغداد، ومفارقة تلك الأحوال يوما (الأحوال التي كان فيها هي منصبه المرموق مدرسا في «النظامية» أكبر «جامعة» في بغداد وسمعته كفقيه تشد لفتواه الرحال). قال: وأحل العزم يوما، وأقدم فيه رجلا وأؤخر عنه أخرى. لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة إلا وتحمل عليها جند الشهوة حملة فتفترسها عشية. فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي: الرحيل! فلم يبق من العمر إلا القليل! وبين يديك السفر الطويل! وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل. فإن لم تستعد الآن للآخرة فمتى تستعد؟ وإن لم تقطع الآن هذه العلائق فمتى تقطع؟ فعند ذلك تنبعث الداعية، وينجزم العزم على الهروب والفرار. ثم يعود الشيطان ويقول: هذه حالة عارضة، إياك أن تطاوعها، فإنها سريعة الزوال. فإذا أعرضت عنها وتركت هذا الجاه العريض والشأن المنظوم الخالي عن التكدير والتنغيص، والأمن الصافي عن منازعة الخصوم، ربما التفتت إليه نفسك، ولا يتيسر لك المعاودة».]: هذه المنازعة المعنوية، حال كل طالب لسلوك الطريق إلى الله؛ ولا تصح الإرادة للمريد إلا بعد حسم أمره والجزم بالخروج في الهجرة القلبية إلى الله، التي قد يصل فيها إلى مبتغاه وقد يعاجله الموت قبل ذلك. وقد قال الله تعالى (من باب الإشارة): {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 100]. ولو علم الناس ما في هذه الآية من البشائر، لخرجوا مهاجرين وإن لم يعلموا شيئا مما يتعلق بذلك؛ بل ليكونوا عاملين بالأمر الإلهي فحسب. وهذه المسألة تدخل ضمن باب من العلم مجهول، هو باب العمل بظاهر ما جُهلت حقيقته. وهو من أنفع أبواب العلم على الإطلاق، لأنه لا أحد يخرج في عمله عن الجهل على التمام؛ وإن كان أعلم علماء الزمان. وهذا الباب أيضا يكون الأميون أبرز أهله، لتحقق علمهم بحالهم لهم، من دون العلماء الذين لم يفنوا عن شهود علمهم. [ومرض الرجل مرضا شديدا، انعكس الصراع النفسي المحتدم في جوفه على جسمه فأرداه، كذلك الهمم العالية تنوء بحملها الأجسام. ويئس الأطباء فلم يبق ملجأ إلا الله الرؤوف الرحيم. وبرأ أبو حامد من أمراض جسمه ومن تردده، فأوصى لعياله، ثم غادر بغداد متخففا يبحث عن رجل من لحم ودم يدله على الله بعد أن أعياه البحث عن الحق في بطون الكتب، وزحمه هم الآخرة وهم الله.]: البدن يظهر عليه ما يلم بالقلب من أحوال، وهذا معلوم لجميع الناس، على تفاوت فيما بينهم. غير أن ما سام الغزالي من ذلك، لا يكون إلا للخواص من العباد. وذلك لأن الله إذا أذن لعبد في التوجه إليه، أوحشه من جميع خلقه، فخالف بذلك كل معتاده؛ فيتوقف القلب بين الطريقين عندئذ، لأنه ما فارق الحال الأول بعد، ولا التحق بالثاني. فيظهر ذلك على البدن انقباضا عن الأكل ومألوف الشغل، حتى يُخيل إلى الناظر أن من كانت تلك حاله، سيموت عن قريب. وهذا يشبه في الظاهر، ما تعطيه علة الكآبة من انقباض عن أسباب الحياة؛ لكنه ليس كآبة، بل هو خلخلة من الله لعبده بعد أن كان غافلا، يريد أن يجتذبه بها إليه سبحانه. وهذه نعمة عظيمة، على ما فيها من مشقة تكاد تذهب بالنفس. هذه الحال، يسميها الدارسون "أزمة روحية"؛ لأنهم في هذا المجال أعاجم... [لقي شيخا مربيا فصحبه وشاوره وائتمر بأمره. ويتحدث عن «المتبوع المقدم» (كأنه ينظر إلى قول موسى للخضر عليهما السلام: هل أتبعك) فيقول: «فمن كان لله كان الله له. حتى إنه في الوقت الذي صدقت فيه رغبتي لسلوك هذه الطريق شاورت متبوعا مقدما من الصوفية في المواظبة على تلاوة القرآن. فمنعني وقال: السبيل أن تقطع علائقك من الدنيا بالكلية، بحيث لا يلتفت قلبك إلى أهل وولد ومال ووطن وعلم وولاية. بل تصير إلى حالة يستوي عندك وجودها وعدمها، ثم تخلو بنفسك في زاوية، تقتصر من العبادة على الفرائض والرواتب، وتجلس فارغ القلب، مجموع الهم، مقبلا بذكرك على الله تعالى. وذلك في أول الأمر بأن تواظب باللسان على ذكر الله تعالى، فلا تزال تقول الله الله، مع حضور القلب وإدراكه، إلى أن تنتهي إلى حالة لو تركت تحريك اللسان لرأيت كأن الكلمة جارية على لسانك، لكثرة اعتياده. ثم تصير مواظبا عليه إلى أن ينمحي أثر اللسان، فتصادف نفسك وقلبك مواظبين على الذكر من غير حركة اللسان. ثم تواظب إلى أن لا يبقى في قلبك إلا معنى اللفظ، ولا يخطر ببالك حروف اللفظ وهيآت الكلمة، بل يبقى المعنى المجرد حاضرا في قلبك على اللزوم والدوام».]: هذه شروط دخول الطريق، وعلى هذه الكيفية يكون الذكر؛ غير أن الناس ليسوا كلهم أبا حامد. فهذا الشيخ قد دل الغزالي على ما به النفع مباشرة، لأنه وجده تقيا نقيا فهِما حاذقا؛ أما غيره فقد يحتاجون من الشيخ عمليات أخرى قبل هذه، ليجعلهم يصلون إلى الأهلية المطلوبة. وهذا يختلف باختلاف الأشخاص واستعداداتهم، فإن لكل نفس طريقا مخصوصا في الحقيقة. وحتى يعلم المرء مقدار تصديق الغزالي، فليعرض أمر الاستئذان في قراءة القرآن على أجهل الناس من العامة أو من القراء، ولينظر كيف سيتهمونه سريعا في عقيدته، ويجعلونه من أهل الشرك المتيقَّن. هذا هو الفرق بين الأولين والآخرين، وهو ما جعل الأحوال تختلف من أولئك إلى هؤلاء، وكأن القوم ليسوا من أمة واحدة!... [كيف يقبل العقل أن يمنع مؤمن مؤمنا من قراءة القرآن والمواظبة على التلاوة؟ أم كيف نفهم قَبول حجة الإسلام عالم بغداد توجيها من هذا القبيل؟ أم كيف نعقل بادئ الأمر أن يسأل أمثال أبي حامد هذه المسألة: هل أواظب على التلاوة؟]: صدق الكاتب في إيراد هذه الأسئلة؛ فمنها يعلم القارئ مدى أهليته لسلوك الطريق إلى الله. فإن لم يكن المرء كالغزالي في تسليمه، فلا يعد في العرف مريدا، وإنما هو متبرك فحسب. وهذه المسألة مما يصعب قبوله على الفقهاء، الذين يعلمون الدين مجردا عن التزكية. علماء الدين، لمن أراد معرفة حقيقتهم، هم كمن يحفظ قانون السير حفظا تاما، ويجتهدون في دراسة مختلف الوضعيات منه دراسة دقيقة؛ ولكنهم لم يسوقوا مركبة مرة واحدة في حياتهم!... هكذا هو الأمر!... [إن إسلاس القياد لولي مرشد يدلك على الطريق شرط في السلوك. وما كان لولي أن يأمر إلا بحق. وما منعه من المواظبة على التلاوة إلا بغية أن يهيئه بتصفية القلب بالذكر، حين يعم قلبه الإيمان ويعقل قلبه القرآن، لمرحلة تكون فيها المواظبة على التلاوة عبادة كاملة. وهاك الدليل. روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله، إني أقرأ القرآن فلا أجد قلبي يعقل عليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قلبك حشي الإيمان، وإن الإيمان يعطى العبد قبل القرآن». ثم إن الذكر بالاسم المفرد أنكره ابن تيمية رحمه الله وأجمع الصوفية إجماعا على أن الذكر به من أعظم الذكر. فلا جدال.]: دلال الكاتب لجواز منع المريد من تلاوة القرآن، مع اعتبار مكانة المريد الذي هو أبو حامد واعتبار مكانة الشيخ الذي يُقال إنه كان أميا، لا يسوغ بما ذُكر؛ لأن الحديث الذي أتى به الكاتب، لا يدل على الانقطاع عن قراءة القرآن لسبب من الأسباب، وإنما يرتب عقْل القرآن مع ذوق الإيمان في قلب المؤمن فحسب. وأما القول الفصل في المسألة، فهو: [ثم إن العبرة عندنا هنا في انصياع عالم فقيه من أعلام الملة لشيخ «متبوع مقدم»، يطيعه فيما يأمر بلا نقاش. السؤال الدائم: لماذا يضطر الفقهاء الصادقون لصحبة المشايخ؟ والجواب الدائم أنها الولاية التي لا تكسب بالدراسة والاطلاع، بل بنور يقذفه الله جل وعلا في قلوب أصفيائه، فيأتي من شاء الله له خيرا يقتبس من ذلك النور. والنفوس الصغيرة لا تقبل أن تعترف بمزية عليها لأحد، إنما يعترف بفضل أولي الفضل من كان أهلا لفضل الله الذي يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.]: هذا كلام جيد، لكنه عام؛ لأن المتبوع ينبغي أن يكون على بينة من أمره لا على ظن. وكم من واحد يشم رائحة بعض المعاني، فيظن أنه قد وصل، وأنه بإمكانه أن يتشيخ؛ وتكون نفسه حية، فينخرط بذلك في سلك الفراعنة، وهو لا يدري. نعني من هذا، أن العبد لا يتشيخ حتى تكون نفسه قد ماتت. وعلامة موتها، أن لا يبقى له حظ في العالم وفي الناس. وهذا ينجر عنه أن لا يكون حريصا على استتباع أحد، فإن تبعه من أراد الانتفاع، يكون ذلك بشروط الشيخ لا بشروط التابع. وهذا عكس ما نراه في زماننا، من تذلل كذبة الشيوخ للعوام والفسقة وأهل السلطان، من أجل أخذ أموالهم والاستظلال بظل من له ظل منهم مزعوم. كل هذا مما يليق بالشيخ الكامل الواصل، وأما من يكون دونه في المرتبة، فإن حكمه حكم الفقهاء من مرتبة الإسلام، وإن كان يدل على الإيمان؛ والفرق هو في مجال الفقه وحده. فالفقيه من مرتبة الإسلام يعلّم الناس ما به قوام الأعمال البدنية، وفقيه مرتبة الإيمان يدل على ما تصح به الأعمال من جهة القلب. ولا ينبغي أن يزعم فقيها الإسلام والإيمان أنهما يدلان على الله، إن كانا يريدان السلامة لنفسيهما. [ويمضي أبو حامد يطبق الإرشادات إلى أن فتح الله له كما يفتح الفتاح العليم لأحبابه. كتب رحمه الله في «المنقذ من الضلال»: «ثم دخلت الشام وأقمت بها قريبا من سنتين، لا شغل لي إلا العزلة والخلوة والرياضة والمجاهدة، اشتغالا بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق وتصفية القلب بذكر الله تعالى كما حصلته من علم الصوفية. فكنت أعتكف مدة في مسجد دمشق، أصعد منارة المسجد طول النهار، وأغلق بابها على نفسي (...)، ودمت على ذلك مقدار عشر سنين. وانكشفت لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها. والقدر الذي أذكره ينتفع به».]: إن تجربة الغزالي، لا تعمّم؛ وإنما يؤخذ منها المشترك وما يتعلق بعلم المسألة فحسب. وهذا يعني أنه ينبغي أن نعلم أن الترقي يكون بالأسباب الآتية: [ويؤدي الرجل بأمانة وصدق وبساطة شهادته أمام الله تعالى ليقرأها من بعده الصادقون. ما كان يبالي أن يعترض معترض أو يسخر ساخر. ما حاول أن يعلل ويفلسف ويعقلن تنازلا عند من يشققون الكلام. بل أفضى بذات قلبه إلينا في كلمات مباشرة ساذجة سذاجة الحق وبساطته. فمن أزرى بعقل كبير مثل عقل أبي حامد، أو اتهم سكرات القلوب المعروفة عند المجانين والمجاذيب، فما عليه إلا أن يتخطى شهادة الرجل ويطوي هذا الكتاب ويرتبه في الرف. وقد انتهى الأمر وما يغني الحديث. والسلام.]: هذا كلام حق، وقول صدق. والأستاذ عبد السلام، لم يكن ليُصدّق الغزالي لولا صدق لديه. وهذا لا يتنافى مع ما ذكرناه عنه في فصول سبقت، من اعتماده للاحتيال في العرض، أو من كلام غير مكتمل النضج في المسائل. فهذا شيء، وذاك آخر. وما كل صادق يُقبل منه كل ما يقول، لأن الصادق قد يُخبر في المسألة بما يظنه علما، وهو غير ذلك. فنحن نصدقه في مثل هذه الحال، ولا نأخذ عنه. وقد يكون تلبيس الصادق في كلامه ناشئا عن تلاعب النفس به، من وراء القلب؛ فنصدّقه هنا أيضا، ولا نأخذ عنه. وإن كان مستعدا للسماع منا، علمناه من أين يأتيه التلبيس، فسلم من شر نفسه وشكرنا. الأمر بسيط: هو إرادة حق ووجود له. وكل ما يعتبره العوام في هذا المضمار من حرمة للشيخ، أو من عهد له، وغير ذلك من الأصنام المعنوية، فهو لا يُعتبر عند الله إلا بشروطه؛ أو لنقل هو يُعتبر بعد اعتبار الحق. وكل من قدّم ما كان ينبغي أن يؤخر، أو أخر ما كان ينبغي أن يُقدّم في الاعتبار، فهو ممكور به، ينبغي أن يُجتنب ويُهمل؛ وإن كان في الظاهر أو في العرف والعادة من الكبراء المعظمين. طريق الحق، بهذه البساطة وبهذا الوضوح والحسم؛ لذلك لا يقوى عليه في الغالب إلا الصديقون. والصديقون كالصبيان؛ لا يعلمون طرق الاحتيال والمخادعة، ولا يقبلونها إذا هم علموا بها. [يؤدي الغزالي شهادة مجملة لأن ما انكشف له لا يمكن «استقصاؤه وإحصاؤه» فيستمر قائلا: «إني علمت يقينا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق. بل لو جمع عقل العقلاء وحكمة الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئا من سيرهم وأخلاقهم ويبدلوه بما هو خير منه لم يجدوا إلى ذلك سبيلا. فإن جميع حركاتهم وسكناتهم، في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به».]: لا شك أن الغزالي صادق فيما يشهد به؛ لكنه لم يعلم حال الورثة الذين هم فوق الصوفية منزلة. وهذا هو الغالب على العوام أيضا، من حيث المبدأ. نعني أن العوام، قد يميّزون صغار الأولياء ويعظمونهم، هذا إن كانوا على سلامة في إسلامهم، لا كما هم عوام زماننا المتشبهون بالكفار في شؤونهم. والعوام من أهل التصديق، لا يكادون يشعرون بكبار الأولياء، لبعدهم عنهم في المكانة، إلا إن كانوا موفَّقين. بل إن من الكبار، من يتهمه العوام بالفسق والضلال، بسبب جهلهم بمعاييره في العلم، والتي تخرج في الغالب عن إدراك جهابذة العلماء، فضلا عن غيرهم من العامة. لهذا ومع ما ذكرنا، فالعامة لا يشكّون في أنهم على حق، في معاداة خواص الخواص وفي مخالفتهم. هذا أمر ثابت، سببه جدار العزة المنيع المضروب حول الأولياء من هذا الصنف، رضي الله عنهم. ولله حكم في كل صنف من هذه الأصناف كلها، وعلم خاص لا يعلمه إلا هو سبحانه، ومن شاء الله أن يُعلّمه بعض ذلك. [نعم يا ولي الله، ما وراء نور النبوة نور يستضاء به، ولا فوق النموذج الأول نموذج يعلو. رحم الله زمر الصالحين من الصوفية والمحدثين والعلماء العاملين. أووا إلى الزوايا والمدارس والعزلة والصمت والمجاهدة والسهر والعبادة والذكر. وبقي عليهم أمر عظيم لم يتخلوا عنه استغناء عنه، إذ لا يعوضه في مراتب الإحسان شيء. بقي عليهم الجهاد في الأرض ليحكم دين الله الأرض. عاشوا، الأحباء، في عهود كان قدر الله فيها على الأمة أن يحكم النظام العاض والجبري. وفي حاضر الأمة ومستقبلها لن نلتفت إن شاء الله إلى ما تحت الصحابة رضي الله عنهم الذين جمعوا أطراف الإحسان وأقطار المجد الدنيوي والأخروي من كل جانب. كانت فاعليتهم في ميادين الجهاد ضمان بقاء الدين واستمراره حتى اغترف الصوفية من ينبوع كان للصحابة رضي الله عنهم فضل تلقيه وصيانته والذود عنه والجِلاد من دونه بالمال والسيف، وفضل نشره وتبليغ دعوته، وفضل قتال الكفر حتى باد الكفر، وفضل نصرة الحق حتى ظهر الحق. أهل الكمال حقا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذو النورين وعلي الإمام، ثم أهل بدر وبيعة العقبة وبيعة الرضوان وسائر مشاهد الإسلام.]: بعد الشهادة للغزالي بعلو القدم -رضي الله عنه- والشهادة للأولياء من كل زمان بالصلاح والنقاء والنور؛ ها هو الكاتب يستدرك على الجميع، ولا يُثبت الكمال إلا للصحابة رضي الله عنهم. يريد بذلك التأسيس للعمل الحركي، لا تحكيم العلم كما سنرى. ولنبيّنَ بعض المغالطات هنا نقول: [يؤتي الله عز وجل فضله من يشاء كما يشاء. وقد آتى سادتنا الصوفية خيرا كثيرا. لكن أساليب العزلة وتربية الصمت والمجاهدة المنفردة في زماننا نكوص وبيت المقدس محتل، والأمة نهب مقسم، وجودها المعنوي مهدد، ورسالتها منكرة في عقر دارها.]: هذا الكلام عامي، لأنه لا أحد يجهله من جهة عمومه؛ ولكن العلم بأحكامه اليوم، هو ما يكون من شأن العلماء وحدهم. ومما ينبغي أن يُماز: [لسنا ممن يكيل للغزالي اتهامات كما يفعل فلاسفة الجامعات من بني جلدتنا. قضى الله وما شاء فعل، والتكليف علينا وحده هو المعتبر. تكليف الشرع أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونجاهد في الله حق جهاده حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.]: ومن هو عبد السلام ياسين إلى جنب الغزالي، حتى يهدد بكيل الاتهامات له؟!... لأن معنى الكلام ليس تنزيها للغزالي كما قد يُفهم، وإنما هو تهديد!... خصوصا وأنه قد ألمح في موضع آخر، إلى كون الغزالي قد أخطأ في مسائل، من دون أن يذكر مواضع الخطأ وما يقابلها من صواب في نظره. والتهديد ليس موجها إلى الغزالي، وقد سبق الكاتبَ إلى اللحوق بالبرزخ؛ وإنما المقصود الصوفية، الذين هم على طريقة الغزالي. وكان ينبغي عليه توقير مكانة الغزالي، وتوقير أهل مرتبة الإيمان الذين يعملون بما دلهم عليه من أعمال شرعية بدنية وقلبية. هذا حتى يبقى العمل الإسلامي متكاملا في الأمة، بدل أن يدخل كل أهل مرتبة في صراع مع أهل المرتبتين الأخريين. فهذا لا يقبله عقل، ولا يسوّغه شرع. [مطلب شريف ومطمح منيف أن تحدث نفسك بأن تلحق بالصالحين وتكون من أولياء الله. ثم أن تصارع نوازع النفس والهوى ونزغات الشيطان وتتجرد للعمل وتشمر وتهجر كل ما سوى الله عز وجل. تلك طريق سلكها ذوو الهمم الرفيعة من الرجال أمثال أبي حامد، تعطرت بأنفاسهم الأزمان.]: كان على الكاتب أن يتجاوز الإمام الغزالي، وهو من يعرّض به في كل مرة!... أم لعله يريد أن يبلغ به الكمال!... وأي كمال؟... وهو يجهل الكمال بمعناه المشروع... رضي الله عن أبي حامد، ومعذرة إليه حيث هو، عما يقوله أبناء بلدنا في حقه!... كان على الكاتب، وهو المقدام، أن يتقدم وحده الصفوف، ويعلن عن مكنونه دون أن يتمسح بذيل أحد!... [لم يكن الدين غريبا في أزمنتهم، بل كانوا ساكنين تحت مطارق الأقدار الإلهية التي حكمت بأن يعيش المسلمون في ظل ملك عاض وجبري إلى أن يرفع الله جل جلاله تلك الحوبة التاريخية.]: إن انقلاب الحكم من النبوة إلى الخلافة ثم إلى الملك بنوعيه، قدر محتوم؛ لا يرفعه رافع ولا يمنعه مانع. وكأن الكاتب هنا يريد أن يعلن انتهاء نظام الملك!... وهذا تعجل منه، وقد توفاه الله تحت نظام الملك. فهذا من تكذيب القدر للكاتب، وإن كان معنى كلامه سيبقى مؤجلا، إلى حين يأذن الله بعودة الخلافة الخاتمة. وسنرى مع كاتبنا، مدى إدراكه لما يتعلق بالخلافة من شؤون، فيما يأتي إن شاء الله... [الآن عاد الدين غريبا كما بدأ، فطوبى لغرباء أزمنتنا إن شمروا للالتحاق بركب الأخيار على متن الجادة الجهادية التي سلكها الصحابة في غربة الإسلام الأولى، حتى نصروا الدين وأقاموا للإسلام دولة وصرحا شامخا. تلك الجادة أوسع وأبعد منالا وأوفر نورانية لأنها جمعت بين الجهاد لتحقيق مطالب الأمة وبين المجاهدة لتحقيق المطلب الإحساني الفردي.]: يدعو الكاتب هنا، إلى العمل على إقامة الخلافة؛ ما دامت أحوال زماننا تطابق أحوال زمن الصحابة المرضيين. لكنه ينسى، أن الصحابة كانوا تحت قيادة النبوة التي هي أعلى مراتب الربانية مطلقا. فمن حيي منهم حيي عن بينة، ومن مات منهم مات عن بيّنة. أليس فيهم (في بدر) قد نزل قول الله تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42]. نتجاوز بمعنى الآية نحن سبب نزولها، إلى ما يعم كل شؤونهم رضي الله عنهم. فمن يكون قائد المسلمين (لأن الأمر منوط بأمة لا ببلد مخصوص) عند إرادة العودة إلى الخلافة الآن من كاتبنا؟... أيكون هو، وقد انتقل من دون أن يظفر من ذلك بشبهة؟!... أم يكون أحد أتباعه، وهم أدنى منه في المرتبة بما لا يقارن؟!... [في ظروف الغزالي وحدوده بالزمان والمكان والمطلب تجرد الغزالي لطلب «علم الآخرة» بعد تحصيل علوم الفقه وبعد جدال الفلاسفة ونيل الأوطار الدنيوية. «وتزيا بزي الصالحين، وقصر الأمل، ووقف الأوقات على هداية الخلق ودعائهم إلى ما يعنيهم من أمر الآخرة وتبغيض الدنيا والاشتغال بها على السالكين والاستعداد للرحيل إلى الدار الباقية والانقياد لكل من يتوسم فيه أو يشم منه رائحة المعرفة أو التيقظ بشيء من أنوار المشاهدة».]: يتكلم الكاتب عن الغزالي، وكأن الناس في زماننا جلهم على حاله، رضي الله عنه. وأين الناس من هذا كله؟!... إن كنا سابقا ذكرنا عن الصحابة أن جلهم كانوا مؤمنين، فإن أهل زماننا جلهم على إسلام مخلوط. فكيف يتجاوز الكاتب هذا الفرق الجوهري، وكأننا صحابة، أو كأنهم نحن؛ حاشاهم!... وهل التوجه إلى الآخرة بصدق موجود عند أفراد "جماعة العدل والإحسان" أو غيرها من الجماعات؟... ماذا يبقى لهم من الآخرة، عندما نخالفهم في عملهم السياسي الدنيوي؟... ولماذا لا يطيقون ذلك من أحد؟... أصار الأمر دعوى باللسان وتزكيةً للنفوس الأمارة بالسوء؟... كأن صاحبنا يريد بكلامه التنكب عن طريق الغزالي من الأساس... عن طريق الآخرة؛ ليدل على خلافة تكون من وراء الدنيا... ليس لها من الخلافة إلا الاسم!... أي انتكاس هذا!... [إعراض عن الدنيا وإقبال على الله عز وجل وانقياد لأهل الخير. «وتفكر في العاقبة وما يجدي وما ينفع في الآخرة. فابتدأ بصحبة الفارمدي، وأخذ منه استفتاح الطريقة، وامتثل ما كان يشير به عليه من القيام بوظائف العبادات والإمعان في النوافل واستدامة الأذكار والجد والاجتهاد طلبا للنجاة، إلى أن جاز تلك العقبات».]: إن الغزالي كان مدركا لسمو ما يقصد، وكانت بدايته صادقة عند إعراضه عن الدنيا بالكلية. فهل يعود إليها -فرضا- (وحاشاه) حتى يرضى عنه صاحبنا؟!... أم إن الكاتب يوهمنا أنه قد تجاوز من العقبات ما عجز عن تجاوزه الغزالي!... مرة كان رجال يتداولون ذم الدنيا في محضر السيدة (الرجل من حيث المقام) رابعة العدوية رضي الله عنها؛ فقالت لهم: "كذبتم!... لو زهدتم فيها حقا، ما ذكرتموها!". ومعيارها علمي صحيح، يشهد له الذوق؛ رضي الله عنها وعن مثيلاتها. إن الخلط في التنظير الفكري، لا يعني إلا أن المنَظِّر لا خبر له عن الطريق إلى الله (الدين)، على الصورة التي شُرع عليها. وهذا أمر عظيم، ينبغي أن يجعل العبد يعود على نفسه ليراجعها ويتفقدها، وليعلم مواطن انحرافها وزيغها عن السبيل، قبل الفوات. [من عظماء الإسلام كثير لجأوا مثل الغزالي، قبله وبعده، إلى مربين يساعدونهم على جواز العقبات. لا تكاد تحصي الأمثلة للعلماء الذين ارتموا في أحضان العارفين تعج بذكرهم كتب التاريخ وطبقات المذاهب.]: تعج بذكرهم الكتب، ولا يكادون يوجدون بيننا الآن. لو أن أبا حامد وحده، وُجد في زماننا، لقام مقام الأمة كلها بعلمه وجهاده الحق، رضي الله عنه. فلمَ إيهام الكاتب بأنه يختار اليوم، ما هو أفضل مما كان عليه الغزالي وأقرانه؟... أين التمييز بين المراتب يا من تقيسون أنفسكم على الغزالي؟... لم يكن الغزالي، وهو الخبير بدسائس النفس، لِيَخفَى عنه أمر جهاد مدخول، وأمر عمل سياسي مشبوه!... [من أجلهم سلطان العلماء شيخ الإسلام والمسلمين إمام عصره بلا مدافعة، الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر الذي كان في عصره ملاذ الأمة وحاميها من الحكام الظلمة. إنه عز الدين بن عبد السلام الصائل بعلمه في المجالس، الصائل بشجاعته في الحق، يهجم بكلمة الزجر والتأنيب على دواوين الحكام. مواقفه تشرف كل منتسب للعلم في كل زمان.]: العز بن عبد السلام كان إمام الفقه من مرتبة الإسلام من مصر وفي زمنه (هذا ما تعطيه شهادته)، ولا ينبغي أن يُفهم أنه كان إماما للدين، كما نكرر مرارا. فهذا الخلط في التعبير، قد جلب على الأمة أضرارا ما زلنا نعاني منها؛ بل لقد تفاقمت مع مرور الزمان، حتى بُتر الدين عند جل المسلمين، وعاد مرتبة لا ترقي فيها، ولا رجاء من ورائها إلا دخول الجنة؛ بينما هو في أصله، جُعل ليوصل إلى معرفة الله بالقصد الأول. وصَوْلات العز بن عبد السلام مع السلاطين قد بدأت في دمشق مع السلطان الأشرف موسى، وانتهت في مصر ببيع المماليك الأتراك في المزاد. وهو -رحمه الله- كان قائما بالشريعة، لا يخالفها في كبيرة ولا في صغيرة؛ لا في خفاء ولا في علن. ومن فقهه رضي الله عنه، أنه رغم إسقاطه لكل معاملات المماليك بسبب رِقّهم، فإنه ما خرج عليهم ولا دعا إلى خروج. فهل راعى هذا الأصل كاتبنا، كما ينبغي؟ أم إنه حاد عنه؟... وما كان حكم العز يا ترى في مثل عمل كاتبنا، من تأسيس حركة داخل الأمة، تعمل بما تراه من دون أن تعود إلى من هو أعلم منها بأمور "الدين"، وتعارض ملك البلاد مع أن المعارضة ليست من الدين. ونحن نقول بعدم جواز المعارضة السياسية في الإسلام، مع الإبقاء على النصيحة الواجبة التي بها يُؤمر بالمعروف ويُنهى عن المنكر وتقوم الحجة. فـ«الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ» [7]. وما نرى المشتبهات عند الإسلاميين، إلا قيامهم على الحكام، يزعمون بذلك إقامة الخلافة!... [كان رحمه الله أعبد الخلق وأتقاهم.]: هذا الكلام فيه تحكم واضح، ولا يُقبل من أحد إلا على سبيل المبالغة؛ لأن أعبد الخلق في زمانه وأتقاهم يكون القطب، من جهة كونه واسطة وجودية بين الله وجميع عباده. وهذه المرتبة هي بالأصالة لنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، حتى لا يسبق الاعتراض إلى أحد ممن يقرأون كلامنا؛ ومن فضل الله على هذه الأمة، أن جعل في كل زمان واحدا منها يحل فيها، تشريفا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعظيما. ولقد قلنا إن القطب يكون أعبد الخلق، لأنه يجمع حقائقهم كلها في ذاته الشريفة. فكل عبادة يعبد بها مخلوق من المخلوقات ربه، يكون عابدا هو بها بالأصالة من مرتبة جمعيته. وهذا، لا يكون إلا له في زمانه. [حكى عنه ابن دقيق العيد، أحد الأكابر علما وتقى، أنه: «لبس خرقة التصوف من الشيخ شهاب الدين السهروردي وأخذ عنه». وذكر أيضا أنه: «كان يقرأ بين يديه رسالة القشيري فحضره مرة الشيخ أبو العباس المرسي لما قدم من الإسكندرية إلى القاهرة، فقال له الشيخ عز الدين: تكلم عن هذا الفصل. فأخذ المرسي يتكلم والشيخ عز الدين يزحف في الحلقة ويقول: اسمعوا هذا الكلام الذي هو حديث العهد بربه». قال السبكي: «وقد كانت للشيخ عز الدين اليد الطولى في التصوف، وتصانيفه قاضية بذلك».]: لم يكن ابن دقيق العيد من أتقى الناس، وإن كان من الفقهاء الذين بلغوا مرتبة قاضي القضاة في زمانهم؛ لأنه لو كان تقيا، لم يُسئ الظن بالشيخ الأكبر رضي الله عنه، ويطعن فيه؛ وقد كان له متسع بالتوقف فيما لا يعلم. وهذا النقل من الكاتب، يدل على موقفه من الشيخ الأكبر، وإن كان يزعم في جلساته الخاصة عكسه. فقد سمعت من أقرب الناس إليه، أنه كان يقول عن نفسه نحن بجانب الشيخ الأكبر لا شيء. وعلى كل حال، فكلام ابن دقيق العيد يدل على صدق العز بن عبد السلام في علمه وفي عمله، بحسب مرتبته فحسب. وأما تتلمذ الفقهاء للصوفية، فلا يدل على شيء وهم يُنكرون على أئمته؛ لأن كثيرا مما يعُده أهل التصوف تصوفا، أو مما يعده الفقهاء كذلك، هو تصوف عام كما ذكرنا سابقا، لا يليق إلا بالمريدين، ولا يُشرف عليه في الغالب إلا عوام العارفين. ويبدو من خلال ما تقدم، أن الكاتب لا يعلم من التصوف إلا عامه؛ وكأن له تحفظا على أعلاه لم يُعلنه، ويبقى فيه متسترا بتقليد مَن ارتضى ممن سبقوه. فإن كان هذا، فإن تحفظه (إن لم نقل إنكاره) لن يكون إلا من باب: "من جهل شيئا عاداه"؛ وسيكون انتسابه إلى التصوف دعوى من غير بيّنة. [قال عز الدين سلطان العلماء: «أما تفضيل العارفين بالله على العارفين بأحكام الشرع فقول الأستاذ (القشيري) وأبي حامد (الغزالي) فيه متفق. ولا يشك عاقل أن العارفين بما يجب لله من أوصاف الجلال ونعوت الكمال وبما يستحيل عليه من العيب والنقصان أفضل من العارفين بالأحكام. بل العارفون بالله أفضل من أهل الفروع والأصول. لأن العلم يشرف بشرف المعلوم وبثمراته. فالعلم بالله وصفاته أشرف من العلم بكل معلوم من جهة أن متعلقه أشرف المعلومات وأكملها، ولأن ثماره أفضل الثمرات».]: هذا الكلام يدل على ما أشرنا إليه في الفقرة السابقة، بخصوص العز وبخصوص الكاتب؛ وهو حري بالاعتبار. وينبغي هنا أن تُعتبر نتيجة العمل بالقاعدة المذكورة [شرف العلم يكون بحسب شرف المعلوم]، عند النظر بها إلى المتكلمين وعلماء أصول الدين؛ حيث سيُجعلون أعلى من الفقهاء والمحدثين والمفسرين، وهذا ليس صوابا؛ لأن الكلام في الأسماء والصفات (وربما الذات) هو بدعة في الدين، لا يمكن أن يكون مرتكبها أعلى من غيره، وهو قد فسد عليه إسلامه بسوء فعله. ولا نعني هنا بفساد الإسلام الكفر، عياذا بالله؛ وإنما نعني أن إتقان مرتبة الإسلام الذي هو شرط من أجل الترقي إلى الإيمان، قد فاتهم وضاع عليهم. [هل كان فطاحلة علمائنا بهاليل مجانين حتى يزحفوا في الحلقة إعجابا بكلام العارفين وهم كانت ترتعد خوفا منهم فرائص الجبارين في الأرض؟ أم أنهم لم يجدوا في كتب الرقائق والوعظ ما يروي الغلة حتى ينقادوا للمشايخ ويتتلمذوا بأدب؟]: يستدل الكاتب مرة أخرى لفضل الصوفية (المتصوفة في الحقيقة) من كلام الفقهاء المعتبرين، لا ليدل الناس عليهم كما يتبادر إلى الذهن؛ وإنما ليتقوى بذلك على التأسيس لنظريته، عندما سيظهر بصفة الصوفي المجاهد، الجامع لأطراف الخير والصلاح. وهيهات!... [هذه نصيحة من أحد كبار فقهائنا عسى أن يقرأها من يوصون بـ «التصوف السني» الذي تحتويه بطون الكتب التي تكفي قراءتها والتضلع منها. قال القسطلاني صاحب المؤلفات المشهورة: «وإن كان مرادك أن تصير بقراءتها (أي كتب القوم) صوفيا محققا فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو قرأت من هذه الكتب عدد رمل عالج في مدة عمر نوح لم تصر صوفيا حتى يلج الجمل في سم الخياط. إنما التصوف الدؤوب في الطاعات، وترك المخالفات، وفطم النفس عن المألوفات، وعدم التطلع إلى ما في أيدي الناس من الأموال المباحات فضلا عن الشبهات، وترك التوسل بالخلق، والاعتماد على الله في كل الحالات».]: الكلام القسطلاني صحيح، ولكنه لا يدل إلا على أدنى التصوف كسابقه؛ وهو ما يناسب مرتبة الإيمان فحسب. [يفتي القسطلاني بحرمة قراءة الكتب المشتملة على العبارات الغامضة والشطحات.]: هذه العبارة تدل على ما ذكرناه سابقا عن الكاتب، من أنه يتوقف في أعلى التصوف؛ وهذا أمر يجعله يقينا متصوفا لا صوفيا. والإفتاء بحرمة قراءة الكتب المشتملة على العبارات الغامضة من القسطلاني صحيح، لكن بشرط أن يكون القارئ لها من العوام أو من المريدين المبتدئين؛ لا مطلقا. ذلك لأن ما غمض عن قوم، لقصور لديهم، هو هداية لقوم آخرين يقودهم نورهم إليها، ليزدادوا هدى ونورا. ولعل الكاتب بتكراره للتفريق بين التصوف العام والتصوف الخاص -مع تفضيله الجلي للعام منه وحده- يرمي إلى اجتلاب العامة إليه؛ لأن الحركات السياسية لا تقوم إلا على العوام، من غير شك. فهم من يُساقون في المواجهات التي تكون بينهم وبين أعوان السلطان من رجال السلطة والأمن في زماننا؛ وهم من يُقدّمون قربانا من أجل نيل المكتسبات... غفر الله لنا وللكاتب، وأعاد أمتنا إلى الحق الذي لا يخالطه باطل. [وينصح بعدم تضييع الوقت في طلب علم القوم، لأن العلم بلا عمل بطالة. وكانت سعادته بلقاء الشيخ شهاب الدين السهروردي، وهو ابن أخ الشيخ أبي النجيب السهروردي الأشهر، لبس منه خرقة التصوف.]: إن النصيحة تكون بحسب مرتبة الناصح، ومرتبة المنصوح؛ فإن أُخذت على عمومها، فهي تعني أنها من عامي (قد يكون الصوفي عاميا بالنظر إلى مَن فوقه) لعوام الناس. [وكان تقي الدين بن دقيق العيد شيخا إماما زاهدا محدثا حافظا ورعا فقيها بلغ درجة الاجتهاد المطلق. قال السبكي: «ولم ندرك أحدا من مشايخنا يختلف في أن ابن دقيق العيد هو العالم المبعوث على رأس السبعمائة المشار إليه في الحديث المصطفوي النبوي صلى الله عليه وسلم، وأنه أستاذ زمانه علما ودينا». هذا الإمام الأوحد في قرنه سلك طريق القوم على يد الشيخ الصالح كمال الدين بن عبد الظاهر الهاشمي. وكانت له كرامات كثيرة.]: كل هذا الكلام لا يُقبل إلا من باب حسن الظن، لأنه مبني على شهادات رجال في رجال آخرين. والأَوْلى في هذا المجال، تقييم الرجال بحسب كلامهم في مختلف العلوم. فالعلم هو ما يشهد للرجل، بشرط أن يكون المتكلم عالما لا حامل علم. وكل هؤلاء الذين أتانا الكاتب بهم -على رفعة قدرهم رحمهم الله- ليسوا إلا من عوام الطريق. وهذا ظاهر منهم -ومن الكاتب بعدهم- بميلهم إلى الظاهر علما وعملا، دون الباطن. ولسنا نعني بكلامنا هنا استحباب ترك الظاهر، كما يشتهي أن يفهم المغرضون؛ ولكن نعني إضافة البُعد الباطني، لكل ظاهر من علم ومن عمل. هذا فحسب!... [نختم حديثنا عن الفقهاء الصوفية، وقد اقتصرنا على الأشهرين من الشافعية، بذكر التقي السبكي أحد أعلام الأمة الذي كان يدعى بالشافعي الثاني، وناهيك بالتشبيه.]: ليلاحظ القارئ أنه يقارن فقيها إلى فقيه، وكأنه يتكلم داخل دائرة الفقه؛ في حين أنه وعد بمقارنة بين الصوفية والفقهاء. [تصدى التقي السبكي، والد مؤلف الطبقات، لمسائل شيخ الإسلام ابن تيمية وعارضه في اجتهاداته الشاذة عن الإجماع في موضوع زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وفي قضية الطلاق المعلق وغيرها. كانت اضطرابات ابن تيمية رحمه الله وسجنه وما لحقه ولحق أصحابه من أذى نتيجة لما يسمى «مسائل» ابن تيمية. وهي بضع وستون مسألة في أصول الدين وقضايا الفقه خالف فيها علماء عصره. لم يكن الفارس الحنبلي في زمانه وتفرده بآرائه وحِدَّته المرجع المطلق كما هو الشأن في هذه الأزمان التي فتحت فيها أبواب الخزائن لتنشر كتبه من دون كتب خصومه.]: يُرجع الكاتب مخالفة العلماء لابن تيمية، إلى كون المعاصرين له كانوا على تقليد، وهو كان "مجتهدا"، وإن لم يصرّح لخوفه من رفض شطر من الناس لما يقول. وهو يفسر انتشار المذهب التيمي لدى المتأخرين، بانتشار كتب ابن تيمية؛ وكأنها عِلم كُتب له الذيوع بعد طول انحسار، لسبب معتبر. وهو (المذهب التيمي) في الحقيقة ضلال وابتداع في الدين، بما لم يكن يقره العلماء السابقون واللاحقون من جهة العلم، لا لسبب آخر. وإن كان مذهب ابن تيمية قد انتشر في زماننا، فلِبُعد الناس عن نور النبوة، ولاتِّباعهم آراءهم وآراء أشباههم في الدين؛ فأصبحوا من جهة الصفة مشابهين لابن تيمية، مستعدين للقبول عنه. ذلك، لأنه لا بد من مناسبة بين كل تابع وكل متبوع، ليصح الاتباع والاقتداء. وهذا من الأسرار الإلهية التي تبطن خلف المظاهر الفعلية كلها. ويبدو من الكلام الذي نحن بصدده، أن صاحبنا ليس بعيدا عن قناعات ابن تيمية كثيرا، إن لم يكن يقول هذا توددا إلى التيميين، فيكون مداهنا لهم. وبين صدر الفقرة وعجزها، لا يدري القارئ، هل الكاتب مع السبكي في معارضته لابن تيمية، أم مع ابن تيمية فيكون قوله ضد السبكي!... وهذا من الالتباس المكتنف لآراء الأستاذ عبد السلام ياسين، في جل ما يكتب ويقول. [يقول الحافظ الذهبي الناقد اللاذع عن شيخه التقي السبكي في كتابه «المعجم المختصر» كما نقل عنه عبد الوهاب السبكي في الطبقات: «القاضي الإمام العلامة الفقيه المحدث الحافظ فخر العلماء تقي الدين أبو الحسن (...) وكان صادقا ثبتا خيرا دينا متواضعا حسن السمت من أوعية العلم. يدري الفقه ويقرره، وعلم الحديث ويحرره، والأصول ويقررها والعربية ويحققها (...) وقد بقي في زمانه الملحوظ إليه بالتحقيق». شهادة إنصاف.]: الذهبي لا تُقبل شهادته هنا، لأنه تيمي. والمبتدع لا يكون حجة على السني قط!... وأما مصطلح "التحقيق" فينبغي فيه إدراك مخالفة معناه لدى الفقهاء لمعناه لدى الصوفية. فهو عند الفقهاء يعني التحري والضبط والتثبت فحسب، وعند الصوفية يعني القيام بالحق في أمر مخصوص، أو في عموم ما يُنسب إلى الولي من شؤون. نقول هذا، لأن من الناس من يتتبع اللفظ ولا علم له بالمعنى، الذي يتغير بحسب السياق؛ فيبقون على التباس مستمر. ومن الكتاب من لا يعلم ما ذكرنا، فيكون استعماله للفظ من الالتباس الذي هو عليه نفسه. وأما من كان يعلم الفرق في المعنى ومع ذلك يستعمل اللفظ من أجل اللبس على غيره، فإنه يكون حتما شيطانا من الشياطين عندئذ... [كان «ملحوظ زمانه» هذا ومحققه كلفا بالصالحين ومعاشرتهم، كثير العبادة والذكر، مستجاب الدعوة، ظاهر الكرامات. «وكان كثير التعظيم للصوفية والمحبة لهم. ويقول: طريق الصوفي إذا صحت هي طريق الرشاد التي كان السلف عليها».]: كلام منقول، لا يفيد شيئا؛ إلا أن يبيّن أن الكبار -من كل مرتبة- يفرضون على المبتدعة الإقرار بمكانتهم فرضا. [يعظمه الذهبي ويقول: «ما صعد هذا المنبر بعد ابن عبد السلام أعظم منه». قال عبد الوهاب السبكي: «وصح من طرق شتى عن الشيخ تقي الدين ابن تيمية أنه كان لا يعظم أحدا من أهل العصر كتعظيمه له، وأنه كان كثير الثناء على تصنيفه في الرد عليه». رحمهم الله جميعا وإيانا وعفا، إنه العفو الغفور.]: ينبغي أن نذكر في آخر هذا الفصل، أن جل الفقهاء الذين استشهد الكاتب بأقوالهم، هم من أهل مرتبة الإسلام. وحتى إن كان لبعضهم قدم في مرتبة الإيمان، فإن كلامه لم يكن منها ولا فيها؛ وإن صحب بعض صوفية عصره. وقد كنا نود أن يأتي الكاتب بفقهاء صوفية، كأبي القاسم الجنيد والشعراني رضي الله عنهما... فهم أولى من يتكلم فيما هو من شأن الفقه والتصوف معا، لو كان الدارسون منصفين. لكن الملاحظ أن الفقيه إن تصوف أو كان وارثا، يُغفل فقهه وكأنه فيه أقل من غيره. وهذا ظلم بيّن، وانحراف عن سبيل العلماء. وأفضل نموذج منكر المرتبة بين الفقهاء، هو الشيخ الأكبر ابن العربي عليه السلام؛ لم نر أحدا من الفقهاء يتكلم في فقهه، بعيدا عن كلامه في أعلى التوحيد الذي يسارعون إليه يعارضونه بتوحيدهم العام، فلا يعملون إلا على فضح أنفسهم وهم لا يشعرون. إن فقه الشيخ الأكبر، فوق المذاهب الفقهية المعروفة، لأنه من الفقه المحمدي المطلق. وأنى للفقهاء من أهل التقييد والتقليد، أن يُطيقوا المطلق!... ولسنا نعني هنا بالإطلاق نقض الأحكام، عياذا بالله؛ بل نعني أخذ الحكم الفقهي من مرتبة الحقائق. وهذا المأخذ ليس لأحد بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والورثة قدم فيه، وإن كان من أهل الاجتهاد المعظّمين عند مقلِّدة الفقهاء والعوام من المسلمين. [1] . أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه. |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل عبد من الصالحين.
إن الكلام في التصوف قد تشعب حتى كاد يخرج عن الضبط في نظر الناظرين. وإن تحديد موقع التصوف من الدين، كان ولا زال موضع خلاف بين المسلمين. والميل إلى طرف دون آخر متأرجح بحسب خصوصية كل مرحلة من مراحل عمر الأمة الإسلامية. لكننا نرى أنه حان الوقت، وبعد أن أصاب الأمة ما أصاب، أن نقول: إن التصوف إسلام. ونعني أنه تحقيق للإسلام!
قد يرى البعض أن هذا تعسف باعتبار أن الكلمة مبهمة وغير ذات أصل شرعي؛ أو هي دخيلة إن اعتبرنا نسبتها إلى الأديان الكـتابية والوثنية على السواء...
وقد يرى البعض الآخر في ذلك مبالغة وتضخيما، إذا رجع إلى مدلول الكلمة وإلى تجليات التصوف المنصبغة بصبغة كل زمن زمن...
وقد يقول قائل: كان في إمكانكم تجاوز لفظ " التصوف " تسهيلا للتواصل والتلاقي، إن كان المراد مجرد عرض للإسلام أو إعادة تناول لمختلف جوانبه...
لكن، نقول: حفاظا على الأدب مع قوم بذلوا في الله مهجهم، سبقونا، ورجاء في اللحوق بهم، نحافظ على اللفظ؛ ومن أجل التنبيه إلى منهج التصوف في التربية، التي ليست إلا التزكية الشرعية، نقول: إن التصوف..إسلام!
لم ينفع بعضَ المسلمين مجرد انتساب للإسلام واعتبار لظاهره على حساب الباطن. ولم يجد إنكار بعض الفقهاء له وقد كذبتهم الأيام. وهاهي الأمة تكاد تنسلخ عن الدين في عمومها..
وها هي الأزمة نعيشها في تديننا، لا يتمكن أحد من إنكارها.. وها هي تداعيات الأزمة تكتنفنا من كل جانب..
ومن جهة أخرى ، لم يعد يجدي من ينتسب إلى التصوف الانزواء الذي كان مباحا أو مستحبا في عهود مضت، وواجب الوقت بلا شك، هو إقامة الدين ظاهرا إلى باطن، بعد أن ولى زمن حماة الشريعة من الفقهاء الورعين أصحاب النور، المجتهدين المجددين .
ولم يعد يكفي الكلام عن الطريقة التربوية الاجتهادية الخاصة بكل شيخ، إلا مع التنبيه إلى الطريق المحمدي الجامع الشامل، حتى تسقط الحواجز الوهمية التي صارت حجبا في زماننا، تمنع من إدراك صحيح للدين.
لذلك ولغيره، نرى أنه من الواجب في زمن العولمة المبشرة بجمع شمل الأمة الكلام عن التصوف بالمعنى المرادف لتحقيق الإسلام، بشموليته واستيعابه كل مذاهب المسلمين.
ونأمل من الله عز وجل، أن يكون هذا الموقع من أسباب ذلك، راجين منه سبحانه وتعالى السداد والقبول، فإنه أهل كل جود وفضل.